|
القضاء الدولي والقضاء الوطني: علاقة تكامل أم تعارض؟
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3710 - 2012 / 4 / 27 - 18:21
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
ــــــــــــ • ورقة عمل قدمت الى اجتماع المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العراقيين- عمان 14-15 نيسان(ابريل) 2012. • باحث ومفكر ، أستاذ مادة اللاعنف في جامعة أونور – بيروت في تموز (يوليو) 2002 بدأ العمل بنظام المحكمة الجنائية الدولية، بعد مصادقة 60 دولة، مثلما جرى اعلان ذلك في نيويورك في مقر الامم المتحدة. والمحكمة التي تأسست في روما في العام 1998، ستتخذ من لاهاي مقرا" لها. وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية International Criminal Court (ICC) أول هيئة قضائية دولية، تحظى بولاية عالمية وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع بحق الانسانية وجرائم إبادة الجنس البشري. فلأول مرة في التاريخ يتم تكليف هيئة قضائية دولية دائمة لحماية حقوق الإنسان، بما توفره من إقرار الدول الموقعة عليها وبالتالي المجتمع الدولي: مبدأ العدالة الشاملة وعدم الافلات من العقاب عن تلك الجرائم الخطيرة بحق الضمير الإنساني على المستوى الدولي. إن وجود قضاء جنائي دولي مستقل ومحايد يمارس اختصاصاته على جميع الاشخاص دون تمييز لتحقيق العدالة الدولية أمر في غاية الاهمية في تطور الفقه والقضاء الدوليين على الصعيدين النظري والعملي. لكن وجود مثل هذا القضاء لا ينفي ولا يلغي مسؤولية القضاء الوطني بل يعني التعاون بينه وبين القضاء الدولي، خصوصاً بشأن الجرائم التي ورد ذكرها، بالتوقيع والمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بما يتطلب تعزيز كفاءة القضاء الوطني من جهة، وتفعيل وتنشيط فكرة السيادة القضائية بأبعادها الدولية من جهة أخرى، ليس كنقيض للسيادة القضائية الوطنية، بل كحقل واحد للعدالة. ويمكن القول أن العلاقة بين النظام القضائي الدولي والنظام القضائي الوطني" هي علاقة تعاون وتكامل " وليس علاقة تنافر او تعارض. وهي الدعوة التي يمكن توجيهها إلى الانظمة القضائية العربية للتعاون مع الانظمة القضائية الدولية المنبثقة من نظام محكمة روما والتسريع بالتوقيع والمصادقة، وهو ما يقتضي الأمر مواءمة وتكييف التشريعات الوطنية مع التشريعات الدولية، خصوصا عندما تنضم الدولة أو تصبح طرفاً في اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية. واذا كان الاعتبار الأكاديمي هو أحد أسباب بحث هذا الموضوع فإن الاعتبار الإنساني والحقوقي يحتلّ مكان الصدارة، سواءً ما له علاقة بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، أو تأثيرات الحروب وأعمال العدوان التي حفلت بها الساحة الدولية وبخاصة بعد احداث 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية وما يتبعها من عمليات غزو أفغانستان واحتلال العراق وانعكاسات ذلك على مجمل نظام العلاقات الدولية، فضلاً عن تأثيراته على النظام القضائي الدولي، ولاسيما بعد ما حصل من أعمال مشينة في سجن أبو غريب في العراق وسجن غوانتنامو في كوبا وكذلك في السجون السرية الطائرة في أوروبا والسجون العائمة، التي أظهرت مدى الاستخفاف بحقوق الانسان وبنظام العدالة الدولية من جانب الولايات المتحدة! إن جعل ولاية هذا القضاء دائمة سيعطيها فرصة الملاحقة عن الجرائم وانزال العقاب بمرتكبيها، علماً بأن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم. ولذلك ليس عبثا" ان تصف السيدة ماري روبنسون المقررة السابقة في (المفوضية العليا لحقوق الانسان) انشاء نظام المحكمة الجنائية الدولية بعد تصديق 60 دولة عليه بأنه "حدث تاريخي" وهو ما دعا اليه السيد كوفي انان الأمين العام السابق للامم المتحدة إلى اعتبار ذلك " خطوة عملاقة نحو تحقيق شمولية القانون والسياسة". ومع أن العديد من الدول الكبرى بما فيها بعض أعضاء مجلس الامن الدولي الدائمين، عارضوا انشاء نظام المحكمة الجنائية الدولية أو تحفظوا عليه أو لم يصادقوا حين وقعّوا، الاّ أن انشاء المحكمة ودخولها حيز التنفيذ رغم المعارضات الشديدة، يعتبر بحد ذاته أحد التطورات المهمة في بداية هذا القرن وإحدى تحدياته الكبرى. لقد سعت الولايات المتحدة إلى معارضة تأسيس محكمة دولية جنائية دائمة الاّ انها فشلت في ثني المجتمع الدولي على المضي في هذا الطريق. فاضطرت إلى التوقيع في اللحظات الاخيرة قبيل اغلاق باب التوقيع في يوم 31/12/2000 لكنها بعد ذلك إمتنعت عن التصديق، وأعلنت أن من غير المطروح أن يتم صرف "دولار واحد" من موازنة الامم المتحدة لتمويل المحكمة. وقد عبّر السفير الأمريكي لشؤون جرائم الحرب السيد ريتشارد بروسبر عن معارضته الشديدة تلك أمام لجنة من الكونغرس وذلك حين قال " ان الولايات المتحدة لا يمكنها ان تدعم محكمة لا تملك الضمانات الضرورية لمنع تسييس العدالة". ثم قامت الولايات المتحدة بخطوة غريبة، حين أعلنت انسحابها من معاهدة روما في رد فعل غاضب يعكس حراجة الموقف الامريكي (12 نيسان/ابريل 2002) خصوصا" وان دول الاتحاد الاوروبي كانت داعمة لتأسيس محكمة روما. وتعتقد واشنطن إن من الافضل في كل الحالات اعتماد الهيئات القضائية الوطنية لمحاكمة جرائم الحرب ومساعدتها ان اقتضت الضرورة للقيام بمهماتها، وإنْ لم يتسن ذلك فمحاكمة مثل محاكمات يوغسلافيا ورواندا تصبح ممكنة وولايتها محدودة وزمنها مرتبط بحدث محدد وبقرار محدد. ورغم الاعتقاد الذي ساد لدى بعض الاوساط الدبلوماسية باحتمال تغيير أمريكا لموقفها إثر حملتها ضد " الارهاب الدولي" بعد أحداث ايلول (سبتمبر) الاجرامية في العام 2001، خصوصا" وان الولايات المتحدة تعكّزت على مسألة محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الارهاب الدولي، خصوصاً بعد صدور القرار 1368 من مجلس الامن الدولي بتاريخ 12 ايلول (سبتمبر) والقرار 1373، الذي يعتبر من اخطر القرارات في تاريخ المنظمة الدولية في 28 من الشهر نفسه والقرار 1390 في 16 كانون الثاني (يناير) 2002، الاّ أن مثل هذا الاعتقاد لم يكن صائباً وبدّد الانتظار بشانه عدم تصديق الولايات المتحدة على المعاهدة وتصريح بروسبر الذي قال:" ان تلك الاحداث "المقصود بها الاعمال الارهابية التي راح ضحيتها نحو 3 الاف شخص في الولايات المتحدة" لم تغيّر وجهة نظرنا" والأنكى من ذلك ان الولايات المتحدة بعد احتفالية الامم المتحدة بدخول معاهدة روما للمحكمة الجنائية الدولية حيّز التنفيذ، بتصديق 60 دولة عليها (نيسان- ابريل)2002، أقدمت على خطوة انفعالية بسحب توقيعها من المعاهدة في محاولة أضعاف دور المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن سعت في البداية لعدم انشائها ثم وقعت عليها، لكي تساهم في وضع قيود وعراقيل في نظامها الاساسي تمنع انسحاب صلاحياتها واختصاصاتها على الحاضر ووضع سبع سنوات لدخولها حيز التنفيذ وغيرها ثم عادت واعلنت سحب توقيعها. ورغم مرور نحو 14 عاماً على انشاء نظام المحكمة، فان روسيا هي الاخرى لم تصدّق عليها، في حين أن الصين لم توقّع عليها أصلاً. ويعود أحد الأسباب لهذه المواقف هو الانتهاكات الصارخة التي حدثت في الشيشيان وكذلك في التيبت، إضافة إلى سجل حقوق الانسان في كلا البلدين. واذا كان هذا موقف أعضاء دائمين في مجلس الامن فان الاتحاد الاوروبي كان قد عبّر عن ترحيبه ببدء العد العكسي للعمل بنظام المحكمة، ودعت إسبانيا في وقت سابق باسم رئاسة الاتحاد الدول الباقية إلى الانضمام سريعا إلى معاهدة روما لكي تحظى المحكمة الجنائية الدولية بأسرع ما يمكن من دعم عالمي، مؤكدة على "الدعم غير المشروط من الجميع"، لان المحكمة ستكون أداة فعالة في مكافحة الافلات من الجرائم وهو ما رحب به الرئيس السابق الفرنسي جاك شيراك ايضا. ولعل الملفت للنظر أيضاً أن اسرائيل هي من الدول التي عارضت انشاء المحكمة ولكنها اضطّرت هي الاخرى للتوقيع عليها عشية اغلاق باب التوقيع ولم تصادق عليها، خصوصا" في ظل الدعوات الدولية التي تصاعدت لمحاكمة شارون واعتباره "مجرم حرب"، ليس لأعمال ارتكبت في الماضي بما فيها صبرا وشاتيلا، بل نظرا" للجرائم المستمرة بحق السكان المدنيين العزّل في جنين ونابلس ورام الله وغزة والعديد من المناطق الفلسطينية المحتلة، بما فيها محاصرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وعدد من المقاومين الفلسطينيين في كنيسة المهد، فضلا" عن تدمير البنية التحتية وهدم المنازل والقتل العشوائي بما في ذلك للاسرى والإصرار على بناء جدار الفصل العنصري وبالضد من اتفاقيات جنيف عام 1949 وبخاصة الاتفاقية الرابعة وملحقها البروتوكول الاول لعام 1977 حول "حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة"، وحتى بعد صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية يقضي بعدم شرعية بناء الجدار، فإن اسرائيل لم تكترث لأي رأي قانوني دولي كما أنها لا تحترم قواعد القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة او قراراتها، ناهيكم عن الجرائم المرتكبة خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان العام 2006 وحصار غزة والعدوان عليها في الحرب المفتوحة ضدها 2008-2009. واذا كان موقف اسرائيل مفهوماً فلماذا لم تصدّق أي من الدول العربية باستثناء الاردن وجيبوتي وجزر القمر على نظام المحكمة الجنائية الدولية، اذْ ما تزال 8 دول عربية خارج نظام التوقيع؟ أليس في الامر ثمة غرابة وربما التباس وعدم قدرة على تفهم طبيعة الصراع الدولي وبالتالي ايجاد مواقف متوازنة، منسجمة مع التطور الدولي من جهة ومن جهة اخرى حماية مصالح دولنا وشعوبنا؟ والاستعداد للتعاطي مع المتغيرات والمستجدات وتوظيفها بشكل مناسب خدمة للمصالح العربية والاسلامية العليا. وتظل هذه المسألة تثير تساؤلات كبيرة حول جدية الحديث عن العدالة الدولية بالنسبة للعديد من البلدان العربية، وهو الأمر الذي أعيد طرح ما بعد العدوان على غزة!! غزة : ومعيار العدالة! أعادتنا غزة مرة أخرى لاستعادة المواقف من الحروب التي تصنع في العقول وفي العقول يصنع السلام حسب دستور اليونسكو، والحروب والسياسات هي تعبير عن صراع المصالح. ولم تستطع السياسات الدولية والقوات المسلحة والجيوش والارادات الخيّرة على مرّ التاريخ من وقف المجازر والبشاعات واعمال القسوة التي شهدتها البشرية بما فيها حروب الابادة، ولذلك ظل التفكير باقامة نظام قضائي دولي يؤمن محاكمة مرتكبي الجرائم على نحو قانوني أمر في غاية الاهمية. ولعل هذا السؤال الكبير يُطرح بوجه فقهاء القانون الدولي منذ غروشيوس: هل هناك قانون دولي، وكيف يمكن وجود بناء قانوني ونصوص مقررة للجرائم وعقوبات محددة دون امكانية فرض الجزاء، اذ لا وجود لجهة محددة مثل القوانين الوطنية بامكانها فرض الجزاء وانزال العقوبة بمن يخرق قواعد القانون الدولي، وتحقيق العدالة الدولية دون مراعاة للتوازن والمصالح الدولية. وازداد الامر أهمية بعد المجازر والبشاعات التي حدثت في البوسنة والهرسك في جمهورية يوغسلافيا السابقة ورواندا وغيرها، ولذلك أُنشئت محكمتان لهذا الغرض اسهمتا على حد تعبير الخبير الدولي فؤاد عبد المنعم رياض القاضي بالمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة في ارساء سوابق قضائية تشكل أساسا" لقضاء جنائي دولي دائم. تعتبر محكمة نورنمبرغ التي تأسست لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين اول مشروع لمحكمة دولية جنائية ترى النور، فحتى ذلك الحين كان هناك بضعة اقتراحات او مشاريع لانشاء محكمة جنائية دولية، ففي العام 1474 تأسست محكمة جنائية دولية من قضاة ينتمون إلى بلدان وقطاعات مختلفة من الالزاس والنمسا والمانيا وسويسرا لمحاكمة بيتر دوهاغينباخPete De Hagenbach بتهمة ارتكابه جرائم قتل واغتصاب وغيرها مما اعتبر انتهاكا لـ " قوانين الله والانسان" وذلك خلال احتلاله لمدينة بريزاخ Breisach ثم نامت الفكرة رغم فظاعات الحروب والجرائم التي ارتكبت فيها، حتى استيقظت في الـ 150 سنة الماضية. وقبل نورنمبرغ بحوالي 70 عاما هناك بضعة اقتراحات لانشاء محكمة جنائية دولية لكن الفكرة لم تجد طريقها إلى النجاح. وفي عام 1815 أقرّ الحلفاء إبعاد نابليون لانه ارتكب جريمة العدوان. وبعد الحرب العالمية الاولى وانعقاد مؤتمر فرساي للسلام 1919 حوكم بعض الاشخاص (عدد قليل) في المحاكم الوطنية بتهم قيل انها اعتبرت من جرائم الحرب او الجرائم ضد الانسانية. وتجنّب الحلفاء انشاء محكمة دولية لهذا الغرض كما لم ينجح مؤتمر فرساي في تبنّي الفكرة. وحددت معاهدة فرساي (المادة 227) المسؤولية الجنائية للقيصر الالماني، بينما ذهبت المادتان (228 و 229) إلى تحديد المسؤولية الفردية عن الذين ارتكبوا جرائم حرب من الالمان. وقد شكّل الحلفاء " لجنة المسؤوليات" للنظر في قدسية خرق المعاهدات الدولية وارتكاب جرائم حرب امام قضاء جنائي دولي، وذلك لتحديد المسؤولية عن شن الحرب والعقوبات التي يمكن تطبيقها فيمن تسببوا فيها، وبالفعل فان هذه اللجنة انبثقت عن مؤتمر السلام الذي انعقد في باريس عام 1919 التي نص تقريرها على ضرورة انشاء محكمة دولية لمحاكمة مرتكبي بعض الجرائم. ورفضت عصبة الامم اقتراح بارون دي كامب بإنشاء محكمة جنائية دولية، وكان التبرير ان المشروع سابق لأوانه، ورفضت مشاريع اخرى، قبل قيام الامم المتحدة. وقد استجابت المانيا (المهزومة) إلى طلب " الحلفاء" للمباشرة بمحاكمة المتهمين بإرتكاب جرائم بموجب قوانينها الوطنية وتقدم الحلفاء بقائمة تضم 45 اسما" من بين895 متهما" بالقائمة التي اعدتها اللجنة التي تأسست عام 1919 وذلك بعد توقيع الهدنة بين المانيا والحلفاء في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1919 وبدأت محاكمات ليبزك في 23 ايار (مايو) 1921. ورغم انشاء لجان لوضع مشاريع لمحكمة عدل دولية دائمة الا ان عصبة الامم توصلت فيما بعد الاّ انه لا يوجد قانون دولي جنائي تعترف به الامم ويمكن للمحكمة ان تطبّقه وقررت عدم اتخاذ قرار بذلك. ولكن بحلول العام 1923 باءت بالفشل محاولات تطبيق العدالة ومعاقبة المرتكبين لجرائم حرب وجرائم ابادة وجرائم ضد الانسانية بسبب هيمنة التعامل السياسي على العامل الحقوقي والانساني والاكاديمي فالقيصر الذي هرب إلى هولندا طلب اللجوء السياسي في حين اعتبرت فرنسا ان ما قام به جريمة دولية تستحق الجزاء. وحتى ميثاق الامم المتحدة لم يتضمن فكرة انشاء محكمة دولية جنائية، وحددت مهمة محكمة العدل الدولية بالفصل في النزاعات، فضلا عن تقديم مشورة او فتوى بصدد عدد من القضايا المختلف عليها او تفسير لبعض النصوص والمعاهدات. وخلال فترة الحرب العالمية الثانية انعقد في لندن مؤتمر دولي عام 1943 تقرر فيه انشاء محكمة دولية لمحاكمة مجرمي الحرب، واقرّ مشروع اتفاقية في العام 1944 يقضي بانشاء قضاء دولي، يعتمد على قواعد القانون الدولي الجنائية الاتفاقية او العرفية الدولية وكذلك مبادئ القانون الدولي المقبولة لدى " الشعوب المستخدمة" ومبادئ القانون الجنائي الدولي اضافة إلى الاحكام القضائية بشأن قانون الحرب وكان هذا المؤتمر امتداداً لمؤتمر دولي سبقه انعقد في العام 1937 بناء على دعوة من الجمعية العمومية لعصبة الامم. ومنذ العام 1946 وحتى العام 1989 لم تفلح الجهود التي بذلتها الامم المتحدة من تأسيس محكمة جنائية دولية، لكن هذه الجهود اثمرت من العام 1990 حين قامت لجنة خبراء غير حكومية باعداد النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية الدائمة. وفاقت فيما بعد لجنة القانون الدولي طبيعة المحكمة واختصاصاتها والاجراءات التي يمكن اعتمادها. وقررت لجنة القانون الدولي منذ 22 تموز (يوليو) 1994 تقديم توصية إلى الجمعية العامة للامم المتحدة بعقد مؤتمر دولي لدراسة مشروع النظام الاساسي وابرام اتفاقية بذلك. وفي العام 1996 قررت الجمعية العامة للامم المتحدة عقد مؤتمر في ايطاليا خلال العام 1998 وانعقد المؤتمر بالفعل في روما في شهر تموز (يوليو). وكان لضغط الرأي العام الدولي دوراً في ذلك نظرا" لفظاعات الحرب والجرائم بحق الانسانية وجرائم الابادة الجماعية ناهيكم عن جرائم الحرب ذاتها، حيث تم وضع نظام خاص لمحاكمة مجرمي الحرب والمتهمين بارتكاب تلك الجرائم وهو ما دعا لتشكيل محكمة نورنمبرغ وطوكيو، خصوصا" بعد تشكيل لجنة الامم المتحدة لجرائم الحرب عام 1943(UNWCC) من 17 دولة. وكانت الحكومات تتذرع برفضها فكرة محكمة جنائية دولية بمتطلبات السيادة وعدم التدخل بالشؤون الداخلية خصوصاً الحساسية البالغة ازاء بعض المظاهر التي " تمس" شؤونها القضائية، حتى تم بفعل طائفة من التطورات القانونية والسياسية، اضافة إلى دور مؤسسات المجتمع المدني وبعد سلسلة مجازر في البوسنة والهرسك ورواندا تشكيل محكمتين خاصتين بهما، ومضاعفة الجهود لتسريع وتعميم فكرة محكمة دولية، حيث رأت النور في روما عام 1998. في الفترة بين العام 1919 وانعقاد مؤتمر فرساي والعام 1993 و1994 وانشاء المحكمة الخاصة في رواندا انشئت 5 لجان تحقيق دولية خاصة واربع محاكم جنائية دولية خاصة وانعقدت 3 محاكمات وطنية مفوضة دوليا عقب الحربين العالميتين الاولى والثانية. ولم تكن تلك التحقيقات والمحاكم والمحاكمات ترتقي إلى مهمة تحقيق العدالة المنشودة، وانما كانت تنعقد استجابة لتطييب خواطر الراي العام وترضية له خصوصا للاحداث المأسوية التي كانت تهزّه من الاعماق وللانتهاكات والجرائم التي كانت ترتكب ضده. وأفلحت ضغوط الرأي العام والمجتمع الدولي في السابق من انشاء هيئات تحقيق ومحاكم دولية خاصة لبعض النزاعات الدولية طلبا للعدالة. اما النزاعات والحروب الاهلية والمحلية، فعلى رغم بشاعتها، فانها لم تجذب سوى القليل من اهتمام القوى العظمى التي كانت ملزمة بانشاء مثل هذه الهيئات. وتعتبر محكمة يوغسلافيا رواندا اولى المحاكم التي اختصت بالنظر في جرائم الابادة الجماعية والجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب التي ارتكبت في نزاع مسلح غير دولي، الا انها لم تحقق النجاح المنتظر الا بحدود ضيقة. ويمكن هنا تعداد لجان التحقيق الدولية لاعطاء صورة عن تطور نظام المحكمة الجنائية الدولية.
1- لجنة تحديد مسؤوليات مبتدئي الحرب وتنفيذ العقوبات (المعروفة باسم لجنة 1919). 2- لجنة الامم المتحدة لجرائم الحرب (1943). 3- لجنة الشرق الاقصى (1946) 4- لجنة الخبراء المعنية بيوغسلافيا (1992) 5- لجنة الخبراء المستقلة بخصوص رواندا 1994. 6- ويمكن اعتبار لجنة التحقيق الدولية باغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري احدى هذه اللجان وما تزال تثير نقاشات كثيرة بين الفرقاء بخصوص حياديتها وعدم تسييسها بما فيها تقرير القاضي ميليس وتقرير القاضي برامرتس، ولكنها في الوقت نفسه لجنة تحقيق مهمة لكشف الحقيقة، وطريقاً للعدالة.
كما يمكن اضافة " لجنة الحقيقة" المشكلة بين حكومة السلفادور وجبهة فارابوندو مارتي (جبهة التحرير الوطني السلفادورية) إلى لجان التحقيق. فهي اول لجنة تشكلت بين حكومة ومعارضة بناء على اتفاقية خاصة لانهاء النزاع الداخلي والحرب الاهلية. ولكن الامين العام السابق للامم المتحدة الدكتور بطرس غالي هو الذي حدد الاعضاء الثلاثة لهذه اللجنة مما يمكن اعتباره اقرب إلى لجان التحقيق الدولية الخاصة.
أما المحاكم الدولية الخاصة التي تشكلت منذ العام 1919 فهي : 1- المحكمة العسكرية لمحاكمة مجري الحرب على الساحة الاوروبية (1945).(محكمة نورنمبرغ) 2- المحكمة العسكرية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في الشرق الاقصى (1946).(محكمة طوكيو). 3- المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة (1993) 4- المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (1994)
اما المحاكمات الدولية التي انعقدت في الفترة المذكورة فهي:
1- محاكمات لايبزك (21-1923) وقد تمت بناء على طلب دول الحلفاء عند هزيمة المانيا واستنادا إلى معاهدة فرساي 1919. 2- محاكمات مجرمي الحرب في اوروبا من جانب الحلفاء (الدول الاربع الكبرى) 46-1955 بموجب قانون مجلس الرقابة رقم 10 Control Council Law. 3- المحاكمات العسكرية لمجرمي الحرب في الشرق الاقصى التي اجرتها دول الحلفاء بناء على توجيهات لجنة الشرق الاقصى 46-1951 .
وهنا لا بد من الاشارة بالدور الذي لعبه منتدى المنظمات غير الحكومية بما فيها منظمات عربية في إنضاج ظروف قبول فكرة المحكمة، حيث تحوّلت تلك الفكرة إلى واقع مع نهاية العقد الاخير من القرن الماضي، ففي روما 15 يونيو (حزيران) و17 تموز (يوليو) عام 1998 تم اصدار قرار يدعو إلى انشاء "المحكمة الجنائية الدولية " International Criminal Court ومنذ ذلك التاريخ عرفت المحكمة باسم " معاهدة روما" بعد سنوات من الاجتماعات التحضيرية حيث تمخّض المؤتمر الدبلوماسي "The UN Diplomatic Conference " في 17 تموز (يوليو) 1998 عن انشاء " المحكمة الجنائية الدولية" لتصبح امرا" واقعا بعد ان كانت حلما" بعيد المنال. ويبقي البحث عن العدالة واعتماد السبل الكفيلة للوصول اليها هو الهاجس الاساسي للانسانية ولوضع حد للجرائم التي ترتكب ضدها. شارك في المؤتمر 160 دولة وحضرته 31 منظمة دولية و238 منظمة غير حكومية بصفة مراقبين. وقد صوّت لصالح انشاء المحكمة الجنائية الدولية 120 دولة، في حين امتنعت عن التصويت 21 دولة وعارضته 7 دول بينها الولايات المتحدة واسرائيل. وقد بررت الولايات المتحدة خشيتها في انشاء المحكمة خوفا" من أن تصبح المحكمة " أداة سياسية" ضد تصرفات جنودها الموجودين في مناطق كثيرة من العالم حسب ما ذهب اليه مندوبها وهي بذلك تتحسس الخطر على مصالحها الاستراتيجية سلفا". أما مندوب اسرائيل فقد برر رفض حكومته انشاء المحكمة بانه لا يمكنها القبول بأن ينظر إلى الاستيطان في المناطق المحتلة على أنه من كبريات الجرائم الدولية التي يقع اختصاصها ضمن اختصاصات " المحكمة الجنائية الدولية" الامر الذي يعني انها دولة خارج نطاق الشرعية الدولية وبالضد من قواعد القانون الدولي، خصوصا وان سياساتها العنصرية والاستيطانية والاجلائية تشكل جريمة ضد الانسانية. وقد وقفت المجموعة العربية في الاجتماعات التحضيرية في روما موقفا موحدا ومتشددا ازاء ترحيل السكان وازاء موضوع الاستيطان. وبخصوص تعريف جرائم الحرب فقد ورد نص صريح يقول: ان الاستيطان في الاراضي المحتلة من قبل دولة الاحتلال يعد تغييرا ديموغرافيا في طبيعة الاراضي المحتلة ومن ثم يعتبر جريمة حرب في مفهوم اتفاقية جنيف الرابعة. فإسرائيل تسعى لتحويل الشعب العربي الفلسطيني إلى " أقلية عددية وسياسية " وتؤسس لنظريات تقوم على الاستعلاء العنصري و" التفرد" وادعاء الافضليات " والحقوق الالهية والتاريخية " مشيدة نوعا" جديدا" من أنواع الابرثايد " الفصل العنصري" يتفوق على نظام جنوب افريقيا العنصري ايام سيادة الاقلية البيضاء واما فرنسا التي أيدت قيام المحكمة الجنائية الدولية، فانها تحفظت على المادة 124 وذلك بضغط من العسكريين لكي يتم الافلات من مثول العسكريين الفرنسيين امام القضاء الدولي قبل مرور 7 سنوات على الشروع بعمل المحكمة وقد كان موقف الرئيس شيراك بُعيد اعلان الامم المتحدة عن تصديق 60 دولة مرحبا بالمعاهدة وبقيام نظام المحكمة الجنائية الدولية وبضمان عدم افلات الجرائم المنفّرة للضمير الانساني من العقاب.
على الرغم من جميع ما ذكرناه من اختصاصات للقضاء الدولي، لكنه ليس بديلاً عن القضاء الوطني، ولو توفّر قضاء وطني يصون العدالة ويحقق شروط محاكمات عادلة وينسجم مع شرعة حقوق الانسان الدولية ويحمي حق المتهم في الدفاع عن نفسه ويضمن الإجراءات السليمة، لما كانت الحاجة إلى قضاء دولي أصلاً، أو يصبح اللجوء إليه لاستكمال وتعميق إجراءات القضاء الوطني. وبهذا المعنى فثمت تكامل وتعاون وتواصل أساسه معايير العدالة الدولية، وليس التعارض أو التنافر أو التناقض بين القضاء الوطني والقضاء الدولي.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد قيادة الحزب الشيوعي
-
50 مادة في الدستور العراقي تحتاج الى إصدار قانوني
-
مواطنة -إسرائيل-
-
عن ثقافة التغيير
-
رسالة الى الحزب الشيوعي السوداني
-
نعمة النفط أو نقمته في الميزان الراهن
-
السياسة والطائفة
-
حقوق الإنسان والمواقف السياسية
-
الأحزاب العراقية بلا قانون
-
3 تريليونات دولار خسرتها أمريكا في العراق
-
لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية
-
الشيوعيون والوحدة العربية
-
الحرب العراقية – الإيرانية عبثية ، خدمت القوى الإمبريالية وا
...
-
الميثاق الاجتماعي العربي: تنازع شرعيتين
-
الحزب الشيوعي وتشكيل الجبهة
-
معارضة الحصار
-
في بشتاشان
-
كلمة تحية بمناسبة تكريم الدكتور سليم الحص
-
كلمة الدكتور شعبان في تكريم الاستاذ عزالدين الأصبحي
-
الأكراد في النجف
المزيد.....
-
الجنائية الدولية تطالب الدول الأعضاء بالتعاون لاعتقال نتنياه
...
-
رايتس ووتش: تواطؤ أميركي بجريمة حرب إسرائيلية في لبنان
-
الشتاء يهدد خيام النازحين في غزة بالغرق بمياه الصرف الصحي
-
اعتقالات واسعة بالضفة وكتيبة طولكرم تهاجم تجمعات لقوات الاحت
...
-
المحكمة الدولية: على الدول التعاون بشأن مذكرتي اعتقال نتنياه
...
-
الأمم المتحدة: نصف عناصر الجماعات المسلحة في هايتي أطفال
-
اليونيسف: نسبة غير مسبوقة... نحو نصف أعضاء الجماعات المسلحة
...
-
في اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة وتزامناً مع انطلاق
...
-
آليات الاحتلال تطلق النار العشوائي على خيام النازحين في مواص
...
-
الأونروا: نصف مليون شخص في غزة معرضون لخطر الفيضانات
المزيد.....
-
التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من
...
/ هيثم الفقى
-
محاضرات في الترجمة القانونية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة
...
/ سعيد زيوش
-
قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية
...
/ محمد أوبالاك
-
الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات
...
/ محمد أوبالاك
-
أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف
...
/ نجم الدين فارس
-
قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه
/ القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ اكرم زاده الكوردي
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ أكرم زاده الكوردي
-
حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما
...
/ اكرم زاده الكوردي
المزيد.....
|