ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1090 - 2005 / 1 / 26 - 11:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"إن الأمم الصغيرة تبدع صورة عن نفسها,
بينما تبدع الأمم الكبيرة صورة عن المثال,
وهو خلاف عصي من البداية حتى النهاية"
يفترض إدراك صورة الخصم معرفة مكوناتها التاريخية والثقافية, وبدون ذلك يكون من الصعب مواجهتها وتحديها وتذليلها. إذ يساهم هذا الإدراك أيضا على تقويم الأنا من خلال كشف معالم القوة والضعف الفعلية في الصورة الذاتية. هنا تكمن القيمة النظرية والعملية لإدراك صورة اليهودي واليهودية في الصراع العربي – اليهودي المعاصر. والمهمة المطروحة أمامي لا تقوم في تخيل صورة اليهودي, بل في رسم صورة سياسية ثقافية عن اليهودية, لها حدودها التاريخية ضمن المواجهة المعاصرة بيننا وبينهم. والمطلق في هذه الصورة هو نقد الواقع وضرورة تذليله بما يخدم الحق والحقيقة.
فالصراع العربي – اليهودي المعاصر يتغلغل في كل مسام وجودنا, ومن خلاله تتحدد أيضا ملامح الحلول الكبرى للصراع بين رؤيتين متباينتين وثقافتين متعارضتين عن الحياة والمثال. وهو صراع له تاريخ عريق في الصورة والمعنى.
تبدع الأمم والثقافات صورة مثلى عن نفسها, بوصفها مثالا ملهما لحاضرها ومستقبلها. وقد بلور كل من العرب واليهود عن أنفسهما "صورة مثلى". غير أن اليهود جعلوا منها صورة ذاتية, بينما جعل العرب منها صورة عن المثال. من هنا تضادهما, الذي حددته المكونات الجوهرية لهذا الاختلاف. وهي نتيجة تصنع ما يمكن دعوته بالأمم الصغيرة والأمم الكبيرة, أو الأمم المغلقة والأمم المنفتحة, أو الأمم العنصرية والأمم الثقافية. فالأمم الصغيرة تصنع صورة عن نفسها فقط, بينما الأمم الكبيرة تبدع صورة عن المثال. ذلك يعني إن تناقض الصورة اليهودية والصورة العربية نابع من تناقض المكونات الجوهرية لكل منهما. فقد صنع اليهود لأنفسهم صورة ذاتية قوامها ثالوث الإله القومي والشعب المختار والقوة الغضبية, بينما أبدع العرب صورة المثال قوامها ثالوث الله المطلق والأمة الوسط والقوة العاقلة.
الصورة اليهودية – ثالوث الإله القومي والشعب المختار والقوة الغضبية
الصورة الذاتية اليهودية هي الحصيلة المتحجرة لبقاء اليهود ضمن قيود ومعايير الاثنية (العنصرية) الخالصة. وذلك لاستمرار اليهود واليهودية في مرحلة ما قبل التاريخ الثقافي. فالمعيار الحقيقي لتجاوز الأمم لكيانها الاثني يفترض تحررها الداخلي عبر ارتقاء نظراتها عن الملك (الوجود الطبيعي) والملكوت (الوجود الماوراطبيعي) إلى مستوى الرؤية الأخلاقية المتسامية, أي عبر ارتقاء تصوراتها وقيمها وأحكامها عن الوجود الطبيعي والماوراطبيعي إلى مصاف الفكرة الأخلاقية العامة (الإنسانية الجامعة). فهو ارتقاء يجعل من الممكن انتقال الشعوب والأقوام من مضيق الاثنية البدائية إلى رحاب الإنسانية الثقافية, والذي يتحدد بكيفية حلهم لإشكالية الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان والجماعة (الإنسانية), وكذلك بكيفية وضع هذا الحل في "رؤية كونية".
إن بقاء الرؤية اليهودية ضمن معايير وقيود العرقية (العنصرية) جعل ويجعل "رؤيتها الكونية" أسيرة الافتقاد الدائم للبعد الإنساني – الأخلاقي. وإذا كانت صورة الأمم والثقافات عن ذاتها والآخرين هي التعميم المجرد عن تجاربها التاريخية, فان بقاء اليهودية ضمن معايير العرقية قيّد رؤيتها للطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان والجماعة البشرية ضمن حدود ضيقة. لذا لم يكن (التكوين) اليهودي, الذي جعلت التوراة منه منطلق رؤيتها عن الآخرين أيضا, سوى الكتلة العنصرية المتراكمة من عناصر عقدة النفس بحيث جعلت من الإله مطية لهواها. فالإله اليهودي هو جزء من الآلهة الوثنية لا قدسية فيه, وعادة ما يبرز من بين أظلاف التيوس والماعز وصوف الكباش وقرون الثيران وشحم الخراف, كما هو جلي في سفر (اللاويين). وفيه نرى فيه ملامح الذبح والسلخ الدائمين ونشم منه رائحة الشي والحرق, باعتبارها الإثارة المغرية للروح اليهودي في التعامل مع كل ما هو حي. وهي إثارة يحددها الادعاء الكبير للإله القومي, الذي ما هو في افضل الأحوال سوى شيطان أمرد. وهو اله لا يربي في الإنسان بعدا إنسانيا, بسبب خضوعه لنزوات عبدته. لذا نراه في سفر (التكوين) يحزن ويتأسف ويرغي ويزبد في رغبته لمحو الإنسان عن وجه الأرض! بينما لا معنى لتأسف الإله على خلق مخلوقاته, لأن ذلك فعل يتناقض مع الحكمة العقلية والوجود الطبيعي والأخلاق الرفيعة للوجود نفسه. إذ ليس تأسف الإله اليهودي سوى هوى اليهود أنفسهم وسدنتهم. وليس مصادفة أن نسمع الآن من "علماء اليهود" المعاصرين صيغا شبيهة لتأسف الإله اليهودي, كما هو الحال بالنسبة لتصريح "الرئيس الروحي" لحزب شاس عن أن إلاههم يأسف لان خلق العرب! وهو تصريح سخيف بحد ذاته, لان الإله اليهودي لا يخلق إلا يهودا. وهو تصريح يشبه قول أحد حمقى العرب من انه لا يفهم حكمة الله في خلقه اليهود والذباب! مع أن لكل منهما "حكمة" دون شك! إلا أن استغراب "أحد العرب" هو "اجتهاده" الشخصي, بينما "اجتهاد" "الرئيس الروحي" هو "فتوى" معبرة عن إجماع التقاليد اليهودية على الزيف والضلال. والمسالة هنا لا تقوم في انه لا قيمة لحكم وتأسف ورغبات الإله اليهودي (القومي) تجاه الآخرين, بل ولمناقضة هذه الرغبة الهمجية المعطيات والحقائق الكبرى للتاريخ المادي والمعنوي الإنساني. إذ لم يتجرأ أي من الأدباء العظام والمفكرين الكبار والمؤرخين المشهورين والشعراء الفحول (من غير العرب واليهود) على صياغة فكرة سيئة بحق العرب, كما لم يصغ أي منهم فكرة حسنة عن اليهود.
هذه "الفتوى اليهودية" وأمثالها الكثيرة المعاصرة عن العرب لها تاريخ خاص في "المثال" اليهودي, كما هو جلي في موقفهم من الشعوب والأمم الكبرى. أننا نعثر في التوراة على رغبة الإله اليهودي في أن "يجعل من كنعان(أهل فلسطين الأصليين) ملعونا وعبدا", بينما تصبح بابل المكان الذي تبلبلت فيه السن الشعوب والأمم, وتصبح مصر وأهلها, أي من أنقذ اليهود, حسب أساطير التوراة نفسها, من المجاعة والموت, تهمة وشتيمة. في حين يتحول (الخروج) وأحكامه كما وضعت على لسان موسى إلى "سفر" عن مشاركة "الملاك" إياه في طرد الكنعانيين والاموريين والحثيين والغرزيين والحوبيين واليبوسيين. بحيث طالب إلههم موسى في (العدد) بالانتقام لبني إسرائيل من المديانيين بقتل ذكورهم وسبي نسائهم وأطفالهم وسرقة مواشيهم وحرق مدنهم, كما لو أن قيمة (العدد) تتمثل في تعداد من ينبغي طرده وقتله. بينما تمثل "قوانين" و"تعاليم" (التثنية) في تعاملها مع "الأعداء" هراوة عنصرية دموية الظاهر والباطن. في حين لا نعثر في التوراة كلها على مديح أو ثناء لأي شعب من الشعوب التي أرست أسس الحضارة الإنسانية. على العكس أنها تكتظ بالشتائم القبيحة والأحكام المبتذلة والكراهية الوسخة, التي تكشف عن طبيعة النفس الغضبية اليهودية وإلهها. تلك النفس التي جعلت اليهودي وإلهه في مستوى واحد.
وفي تطابق الإله اليهودي مع اليهودية تكمن مصادر فكرة "الشعب المختار". فالإله اليهودي يهودي, واختياره منه إليه, أي انه اله اثني كشعبه. ومن ثم فهو خال من أي بعد إنساني شامل, ومن أي تجريد قادر على تحرير اليهود من يهوديتهم. وذلك هو سبب تحجر فكرة "الشعب المختار", التي لا تعني ثقافيا سوى تميزهم عن الآخرين بالعجز عن تجاوز العرقية (العنصرية). في حين أدى تحجرها بفعل تداخل الإله العرقي مع العرقية العنصرية إلى بناء عقيدة تفتقد بالضرورة إلى عناصر الجمعية الإنسانية. ومن ذلك تكونت سلسلة إنتاج وإعادة إنتاج الانغلاق الذاتي لليهود وعدم قدرتهم على تذليل هوى الصورة الذاتية وتجاوزها إلى ميدان إبداع صورة المثال. لهذا لا تعرف اليهودية الفضيلة المجردة ولا القيم المجردة ولا الإله المجرد. أي أنها ليست قادرة على الارتقاء إلى مصاف السمو المطلق. مما اغلق عليها إمكانية التحرر الذاتي من إسار العرقية البدائية, وأبقى عليها ضمن حسيتها المباشرة في التعامل مع النفس والآخرين. بهذا المعنى يمكن القول, بان المغزى التاريخي "لاختيارهم" هو جعلهم عبرة لما لا ينبغي للأقوام والشعوب والأمم أن تكون عليه.
وجدت هذه النفسية انعكاسها في "العهد القديم", الذي لم يكن هو الآخر سوى "صك الغفران" المزيف الذي ابتاعه اليهود لأنفسهم من اله لا يمثل الحق المتسامي. مما أدى إلى بلورة تقاليد اليهودية عن "الاصطفاء", التي جسدها اليهود في كيانهم بهيئة أمة لا كالأمم, وتاريخ لا كالتواريخ. وهو تميز حددته تقاليد العقيدة المتحجرة في كيفية حلها لعلاقة الطبيعي بالماوراطبيعي في الإنسان والجماعة (البشرية). فالنموذج الأعلى لليهودية تجسد في اله لا حق فيه. لهذا عجزت اليهودية عن إبداع صورة للمثال الإنساني الشامل. مما افرغ تاريخها من وحدة القيم والفضائل المتسامية.
لقد جعلت فكرة "الشعب المختار" فقد جعلت منه شعبا محتارا, ولكن لا بمعايير الحيرة المعرفية, بل بتقاليد التيه الدائم. حتى الأسطورة التوراتية لم يكن بإمكانها التخلص من ثقل الجسد في تعاملها مع "التيه اليهودي" في سيناء. إذ ليست سيناء في الواقع سوى الصحراء التي لا يمكن للنفس اليهودية أن تذللها ما لم تذلل مكونات اليهودية العنصرية (الإله القومي والاصطفاء المزيف والنفس الغضبية). بل حتى النموذج الموسوي نفسه ما هو إلا نموذج المكان اليهودي الذي لا زمان فيه. فالخلاص اليهودي ليس مبنيا على أساس تطهير النفس, باعتباره تجسيدا للتاريخ الحق والعدل المجرد, بل على أساس تطهير المكان من "الآخرين". وهو تقليد ميز اليهودية بروح الغضب. فحيثما يكون اليهودي يكون الغضب القوة المحركة للعلاقات. وهو السبب الذي يفسر تعرضهم المتكرر "للتطهير الخارجي" من سرجون (721 ق.م.) إلى تيتوس (70 م.) مرورا بنبوخذنصر (587 ق. م.). وانتهاء بالانتقامات الشعبية والحكومية المتكررة في جميع البلدان التي عاشوا فيها(باستثناء العالم الإسلامي). وليس الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين سوى الصيغة السافرة لتقاليد النفس الغضبية في تعاملها مع النفس والآخرين (العرب الفلسطينيين). وليس مصادفة أيضا أن يرتكب الإسرائيليون مجزرة قانا في الجنوب اللبناني تحت عنوان "عناقيد الغضب". ومن الناحية التاريخية والروحية لم يكن وصف النصرانية بدين المحبة اعتباطا. فقد كانت المحبة المفرطة, بوصفها العقيدة المركزية للمسيح رد الفعل المباشر على الكراهية المفرطة المميزة للنفس الغضبية اليهودية. وهو "غلو" ميز الاثنين, ولكن شتان ما بين غلو المحبة وغلو الكراهية. وهي حقيقة سجلها القران في إحدى آياته القائلة, بان اشد الناس كراهية للإسلام وحقدا عليه هم اليهود والذين كفروا. بينما اعتبر النصارى ارأف قلوبا وأميل في محبتهم للمسلمين.
إن تميز اليهود بسيادة النفس الغضبية بينهم هو نتيجة لافتقادهم معنى الحق المتسامي والفضيلة المجردة. وذلك ما جعل منهم قوما "مغضوبا عليهم". وليس مصادفة أن تبدأ السورة في القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) كإشارة إلى أن الإسلام هو دين الرحمة. وليس مصادفة أيضا أن تحتوي (فاتحة) القران على طلب الاهتداء بالصراط المستقيم (الحق) باعتباره نعمة مناقضة "للمغضوب عليهم". إذ ليس المغضوب عليه سوى ذاك الذي يفتقد لفكرة الحق ومثالها المتسامي باعتباره قبلة مطلبه ومساعيه. ويؤدي فقدان فكرة الحق المتسامي إلى سيادة النفس الغضبية التي لا تصنع عدلا ولا اعتدالا ولا تستفيد من حكمة. وهي نفس تؤدي بالضرورة إلى تشتيت الروح والجسد. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى تاريخ الشتات اليهودي باعتباره تاريخ النفس الغضبية. وليس تاريخ المغضوب عليهم سوى تاريخ اليهودية نفسها, أي أن الغيتو التاريخي لليهود هو النتاج الملازم لانغلاقهم العرقي الديني.
إن افتقاد اليهودية لتاريخ حقيقي جعل من انغلاقها وشتاتها وجهين للصورة الذاتية التي بلورها "العهد القديم" عن اليهودية واليهود. فافتقاد "العهد القديم" للفضيلة المجردة جعل موقفه من النفس والآخرين أمرا لا يبنى بالضرورة على أسس الحق والحقيقة. إذ ليست الحقيقة في "العهد القديم" سوى كذب اليهود عن أنفسهم, وما عدا ذلك فليس سوى سرقة لتراث الآخرين, ابتداء من أساطير الخلق والطوفان وانتهاء "بنشيد الأنشاد". وقد بلور ذلك في اليهودية شخصية الطفيلي الذي لا يتورع عن فعل كل شئ من اجل بلوغ غايته. مما وضع اليهودي واليهودية في صدام دائم مع الآخرين. فهو الشعب الوحيد الذي أثار عند كل من احتك به من الاقوام والشعوب والأمم شعور الاشمئزاز أو النقد اللاذع. وهي علاقة خلقت نفسية الغيتو اليهودية, باعتبارها استظهارا لروح الانغلاق اليهودي نفسه. فتقاليد الغيتو اليهودية لم تنبع من تقاليد الشتات, على العكس إن تقاليد الشتات كانت وليدة تقاليد الغيتو التي بلورها "العهد القديم" في شخصية اليهودي واليهودية. وهو ما يفسر بقاء اليهودية (كدين وعرق) منغلقة على ذاتها, أي غير مستعدة وغير مقبولة في نفس الوقت للانفتاح على الآخرين والاندماج الثقافي بهم.
الصورة العربية – ثالوث الله المطلق والأمة الوسط والنفس العاقلة
لا يختلف تكون الصورة الذاتية للكيان العربي عن غيره لدى الأمم الأخرى, بمعنى تبلور تلك الصورة في مجرى حلها لإشكالية وعلاقة الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان والجماعة. وإذا كانت تجارب العرب ما قبل الإسلام تصب في إطار الصيرورة التاريخية للاثنية العربية, فان اكتمالها الثقافي ارتبط بالعقيدة الكبرى التي دفعها الإسلام إلى ميدان فعلهم التاريخي. عندئذ ظهر العرب بوصفهم أمة دينية وسياسية, ارتقت في مجرى تطور الخلافة إلى أمة ثقافية. وارتبط هذا الارتقاء بمبادئ الرؤية العقائدية الكبرى التي قدمها الإسلام في نظامه التوحيدي. فقد جعلت التوحيدية الإسلامية الله مصدر الوجود والفعل وغايتهما, واعتبرته مبتدأ ومنتهى كل شيء.
وحددت هذه الرؤية جوهرية الله في الفعل (الفردي والجماعي), أو جوهرية الواحد. فلا دعوة إلا إليه. وأدى ذلك إلى الترادف بين الله والحق, انطلاقا من أن واحدية الله تتضمن في ذاتها واحدية الحق. فالله "هو الحق" ومصدر الحكمة الشاملة في الوجود. ومن ثم , فان الجماعة والأمة هما النموذج الأمثل لحكمته في الوجود الاجتماعي والروحي للإنسان.
إن تحول الجماعة والأمة إلى النموذج الأمثل للوجود الاجتماعي والروحي للإنسان هو التجلي العملي للتوحيد,لأنه يفترض في وجودهما(الجماعة والأمة) تجانس الرؤية التوحيدية في المسلم والمؤمن. فالجماعة هي جماعة المسلمين, والأمة هي أمة المؤمنين. وفي وحدتهما تتجلى معقولية المبادئ الإسلامية الكبرى وأركانه الإيمانية (من صلاة وزكاة وصوم وحج). وهذه بدورها ليست إلا الحدود الدنيا للكلّ الديني - الدنيوي للجماعة والأمة. فالحدود تشكل هنا, إن أمكن القول, الهيكل اللامرئي لروح الاعتدال, لأنها نفسها صارت معالم الجماعة في تمثيلها لحقيقة الواحد. فالجماعة هي الكل الواحد على مثال الواحد الحق.
وقدم الإسلام في مبادئه الأولى الواحد الحق على انه المثال الأعلى للمحاكاة الممكنة في "طريق الاستقامة". وربط هذه الإمكانية بالجماعة من خلال مطابقته حقيقة الجماعة والأمة مع الحق, والحق مع الاعتدال. فإذا كان التوحيد هو مبدأ الوحدة الاجتماعية (في الجماعة) والروحية (في الأمة), فإن توليفها أدى بالضرورة إلى صياغة مبدأ "الأمة الوسط", باعتباره النموذج العملي للروح الاجتماعي- الأخلاقي - الوحداني. لهذا خاطب أتباعه قائلا "كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس". فهو لم يحدد وسطيتها بمعايير المكان والزمان والعرقية أو ما شابه ذلك, بل بحدود الاعتدال الأخلاقي. من هنا دعوة القران لان تكون هذه الأمة أمة الخير, الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر. وهي دعوة مبنية لا على أساس أفضليتها كما هي, بل على أساس أفضلية "الأمة الوسط", باعتبارها فضيلة. وأدى ذلك إلى وضع أسس التآلف الكبير للثقافة الإسلامية في مبدئها القائل, بان الجماعة تحفظ اعتدال الأمة, كما يبدع اعتدال الجماعة واحديتها الاجتماعية - الروحية بوصفها أمة.
إن وحدة الجماعة والاعتدال, باعتبارهما المكون الجوهري للواحدية الإسلامية أدت إلى إبداع ممثولها في واحدية الإسلام الثقافية. وذلك لان بناء الجماعة بالاعتدال المعقول أسّس لاحقا لفكرة الأصول وأسلوبها المناسب في وحدة المعقول والمنقول, باعتبارها الصيغة النظرية الشاملة لتجليات الاعتدال(كالرواية والدراية في الحديث, والاجتهاد والإجماع في الفقه). وبهذا تكونت إمكانية تحول الأمة إلى الكل المتنوع في تجارب الاعتدال الحق. وأدى ذلك إلى إبداع قيمة السّنة, باعتبارها الصيغة العملية للاعتدال (كالدين والدنيا في السياسة, والعادات والعبادات في الشريعة). أما توليفهما الدائم (النظري والعملي) فقد شق لنفسه الطريق إلى ثنائيات الثقافة الإسلامية.
فقد نشأت الثقافة الإسلامية نفسها على مثال وحيها القرآني, باعتبارها تمثيلا للصراط المستقيم. فالصراط المستقيم وسط, والوسط اعتدال, والاعتدال عدل, والعدل حق, والحق هو النظام الأمثل. بصيغة أخرى, لقد تغلغل إدراك الاعتدال باعتباره النسبة الضرورية والمعقولة لوجود الجماعة والأمة في علاقتها بنفسها (المستوى الطبيعي) وعلاقتها بالله (الماوراطبيعي). وشق ذلك لنفسه الطريق في العبادات (الروح) والعادات (الجسد). ففي العبادات انطلقت الثقافة من الفكرة القرآنية القائلة, بان الله يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر. وحاولت أن تعطي لعلاقة الظاهر بالباطن, والروح بالجسد نسبتها الضرورية في الصلاة والصوم والحج والزكاة.
ذلك يعني أن الإسلام أشرك الجسد الفردي والجماعي في حركة متناسقة ودائمة وحّد فيها الروح والجسد, والزمان والمكان, وخلق من ذلك كلا واحدا مجسدا لنسب المثل العليا في الله الواحد, والجماعة الواحدة, والروح الواحد, والجسد الواحد. أي كل ما يبدع الوحدة في الجماعة وتنوعها في الأفراد. وبالتالي ليس الانتماء الحقيقي للوحدة (الإسلامية) سوى البحث الدائم عن النسب المتنوعة للنظام الأمثل. مما أدى إلى أن تبدع الثقافة الإسلامية مرجعياتها الخاصة, التي أثمرت سيادة روح النسب والنظام, والثنائيات الكبرى التي ساهمت في خلق آلية الاعتدال (العدل) والانضباط (النظام). ففي أسلوب المعرفة أبدعت ثنائية (أو وحدة) المنقول والمعقول, والرواية والدراية. وفي نمط الحياة وحدة الديني والدنيوي. وفي نمط التعامل مع "وحي الثقافة" ووحدة التفسير والتأويل, والظاهر والباطن. وفي القانون وحدة الأصول والفروع, والاجتهاد والإجماع. وطبقّت ذلك على كل تجليات الحياة المادية والروحية. وشكلت هذه الثنائيات – المرجعية, إلى جانب عشرات غيرها مثل الظاهر - الباطن, والطريقة – الحقيقة, والحكمة – الشريعة, والفلسفة والدين, والمنطق والبيان, العناصر الجوهرية للروح الثقافي الإسلامي.
وترتب على الحل الإسلامي لإشكالية الطبيعي والماوراطبيعي في مختلف جوانب ومستويات الوجود الاجتماعي للفرد والجماعة والدولة, والملكوت (الماوراطبيعي) الديني والقيم الأخلاقية تحول الثنائيات المرجعية الإسلامية إلى عناصر جوهرية مبدعة للروح الثقافي. ومن المعلوم انه ليس كل مرجعية أو نظام للمرجعيات قادر على إبداع روح ثقافي خالص. لان الروح الثقافي الخالص هو فقط ذاك الذي يقدر على تجاوز العرقية ومتحجرات الأشباح الإنسانية (من دم ولون وارض) إلى ميدان العقائد المتسامية.
فقد تبلورت الثنويات المرجعية الإسلامية تاريخيا, كأجزاء مكونة لنظام توحيدي. وصنع هذا النظام واحدية ثقافية أبدعت اعتدالا في العقائد والأفعال والرؤية والمواقف من خلال نظام المرجعيات نفسه. وأدى ذلك بدوره إلى تفعيل التنوع ضمن الوحدة. وصب هذا التنوع بفعل الثنويات المرجعية المتكافئة من حيث أوزانها الداخلية, في اتجاه تأسيس معقولية البحث عن نسب فضلى, وبالتالي عن نظام امثل.
إن بلوغ الثقافة إدراك جوهرية النسب المعقولة للنظام الأمثل يؤدي إلى تسامي إدراكها وتنوع إبداعها في توحيد الوسيلة والغاية, والعلم والعمل تجاه النفس والآخرين. مما يؤدي بالضرورة إلى صيرورة الروح الثقافي المبدع, الذي يصنع على مثاله نماذج واقعية وواجبة للامة في رؤيتها عن نفسها وعن الآخرين.
ففي نموذجها الواجب هي "الأمة الوسط". وتجلى هذا الوسط واقعيا باعتباره سعيا للاعتدال. وإذا كانت الأمة الوسط تحتوي في مظهرها الأول على محاولة تذليل تطرف الصراع الأهوج بين اليهودية والنصرانية, ففي باطنها تحتوي على تذليل الغلوّ تجاه النفس والله, أي تجاه الطبيعي والماوراطبيعي في الفرد والجماعة.
فقد سعت الرؤية الإسلامية في مبدئها عن الأمة إلى توحيد الجميع باسم المبدأ الأعلى, معتبرة تضاد اليهودية والنصرانية انحرافا عن الحق. فالله هو الله, والأنبياء رسله لا هم يهود كما تقول اليهود ولا هم نصارى كما تقول النصارى. ومن ثم فلا أفضلية لأحد على آخر أيا كان (من دين أو جنس) إلا بالتقوى. وهو مبدأ وضعه القرآن في البداية ضمن توحيده العملي (الديني والدنيوي). حيث نظر إلى تجارب الأنبياء نظرته إلى تجليات متنوعة للإرادة الإلهية في نقل مسار البشرية إلى الصراط المستقيم, أي إلى الصلاح والخير بوصفهما كفتي الوحدانية. وهي رؤية حددت توحيدية الإسلام الصارمة في تمثلها وتمثيلها لهذا الصراط. إذ لم ينظر إلى "خاتمته" سوى نظرته إلى طريق الحق في تذليل الأنا الدينية الضيقة.
فالإسلام هو ليس اسما, بل هو فعل الانتماء إلى الله الواحد. لهذا اعتبر الإسلام أنبياء الماضي وعقلاءه وحكماءه أنبياءه وعقلاءه وحكماءه. وجعل من خير الماضي وصلاحه خيره وصلاحه. ووجد ذلك تعبيره المكثف في الحديث القائل بان خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام. فالإسلام بهذا المعنى هو كيان قادر على تمثل الفضيلة وصهرها في نظامه الخاص. مما فسح المجال أمام إمكانية اشتراك اتباعه لقوانين "الروح الموحد" و"الشراكة العامة". وجعل ذلك من إبداعاته في كافة الميادين إرثا مشتركا للجميع. وأدى هذا بالضرورة إلى اضمحلال روح الاستكبار فيه. لان اشتراك الشعوب والأقوام في بناء الروح الموحد هو اشتراك طوعي متكامل لم يتحدد بمؤسسة خارجية (دينية كانت أو دنيوية). لذا تحولت الشخصيات الكبرى للثقافة الإسلامية إلى رموز لشعوبها ولعالم الإسلام جميعا. وهي حصيلة نابعة من أن الإسلام قضى على روح الاستكبار الداخلي. فما إسلام بقومي أو اثني أو إقليمي. والتنوع فيه هو تنوع اجتهاداته. فهو لا يقمع القومي, بل يخضعه لروح العقيدة الوحدانية. من هنا يستحيل أن تظهر فيه نظريات قومية أو استعلائية أو عنصرية أو فاشية أو ما شابه ذلك. لقد أدى ذلك إلى انفتاح الثقافة داخليا على نفسها, وخارجيا على الآخرين. وأملى تسامحها العميق وتمثلها المنظومي لإبداعات الأمم أيا كانت بما يستجيب لمرجعياتها الكبرى.
كل ذلك يكشف عن أن تعمق الرؤية التاريخية عن الأمم ارتبط مع تراكم العناصر الثقافية المنظومة بالوحدانية الإسلامية. إذ لا تعني الوحدانية الإسلامية تاريخيا واجتماعيا سوى وحدة النوع الإنساني ومثالها في الواحد(الله). أنها كالحقيقة واحدة بذاتها متنوعة بالصور والتجليات. والتنوع فضيلة في حال سعيه إلى الخير العام. وهي فكرة سبق وان بلورها القرآن في آيته "انا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. أن أكرمكم عند الله اتقاكم". أي أن للتعددية منطقها الطبيعي والتاريخي باعتبارها واقعا, ومنطقها الماوراطبيعي والمثالي باعتبارها واجبا. وهذان المنطقان يعكسان مستويين من الإدراك لماهية الأمم, أحدهما ديني(الأمة الدينية) وآخر دنيوي(الأمة الحضارية).
أسفرت منظومة المرجعيات الكبرى في الثقافة الإسلامية عن رؤيتين إلى نفسها والآخرين متناسقتين لا استعلاء فيهما ولا استكبار. تجلتا على أسمى وجه في إقرارهما بتنوع الرؤية الثقافية إلى الآخرين. وقد حددت هذه الرؤية الانعتاق الحضاري للثقافة الإسلامية. فهي لم تقر بتنوع الحضارات فحسب, بل وأرست مواقفها من هذا التنوع على أساس تمايزهن بالفضائل. فعندما حاولت المطابقة, على سبيل المثال, بين حضارة الأمة وخصلة من خصالها, مثل الفلسفة لليونان والعمارة للروم والسياسة للفرس والبيان للعرب والصناعة للصين والحرب للترك والعقل والشعوذة للهند, فأنها لم تسع في الواقع إلا لإظهار التمايز في الفضائل, وليس إلى إنكار ما لهذه الحضارة أو تلك من فضائل أخرى. إنها حاولت إظهار فضائل الأمم من خلال تأكيد تنوعها, وبالتالي قيمتها بالنسبة للتاريخ الإنساني ككل. لهذا أكد أبو حيان التوحيدي على أن "لكل أمة فضائل ورذائل, ولكل قوم محاسن ومساوئ, ولكل منها في صناعتها كمال وتقصير". وهي صيغة تعكس قبول الثقافة الإسلامية لإمكانية تعدد الأنواع وتنوع اجتهاداتها الثقافية في ظل انتمائها للكل الإسلامي, أي إمكانية توليف "مميزات" وفضائل الأمم من فصاحة وبيان وأدب وسياسة وغيرها في كيانها الثقافي. وهي تعددية وانفتاح يتساويان مع إدراك جوهرية وقيمة الفضائل. لهذا لم تضع الثقافة الإسلامية نفسها وشعوبها فوق الآخرين ولا تحتهم, بل طالبت نفسها والآخرين بادراك وتجسيد القيم العقلانية – الأخلاقية للتكافؤ والمساواة.
وعليه, فان انتقال العرب في تطورهم التاريخي من أمة عرقية إلى أمة ثقافية كان نتيجة لازمة للكيفية الإسلامية التي عالجوا بها إشكالية وعلاقة الطبيعي والماوراطبيعي في الإنسان والجماعة, مما أدى إلى تكامل مكوناتهم الجوهرية في وحدة الإله المطلق والأمة الوسط والنفس الناطقة (العاقلة).
***
هذا التضاد الشامل بين ثقافتين ورؤيتين عن الحياة والمثال, هو الذي بلور تاريخيا وواقعيا شخصية اليهودية واليهودي, والإسلام والعروبة. فقد أدى استمرار اليهود في اليهودية إلى صيرورة أمة عرقية (عنصرية) ذات نفس غضبية, مثالها البطش (الجور) وسلوكها الاستحواذ والغلو, بينما أدت صيرورة العرب في الإسلام إلى تكوين أمة ثقافية مثالها الحق وسلوكها العدل والاعتدال. وهو خلاف منظومي حدد ويحدد واقع وآفاق وجودهما التاريخي.
كان مثال البطش وما يزال الصفة المميزة لليهودية بسبب سيادة نفسية الغيتو (الانعزال والانغلاق) التي لازمت تاريخ اليهود. فعدم القدرة والاستعداد على الانفتاح الحقيقي والاندماج الثقافي بالأمم وحضاراتها أدى إلى إنتاج وإعادة إنتاج نفسية الترقب الخائف وشعور الاتهام العدائي تجاه الآخرين. وهي نفسية تحاصر وتحصر تأويل اليهودي لأقوال وأفعال الآخرين بمعايير الترقب السلبي والاتهام الباطني. مما أدى إلى تكوين عناصر الحقد والغلّ, التي تتفجر مع كل إمكانية لتجسيدها. وفي حالة صعوبة أو استحالة تجسيدها العملي, فأنها عادة ما تتخذ صيغة الاستهزاء والسخرية بمقدسات الآخرين وقيمهم. وليس مصادفة أن تنتشر "آداب السخرية" الرخيصة بين "الكتاب والصحفيين والمثقفين" اليهود. ولعل مثال روسيا السوفيتية والحالية دليل واضح على ذلك. فاليهود يشكلون النسبة الغالبة بين "المهرجين" و"الساخرين" المعاصرين في روسيا.
وليست تقاليد الاستهزاء والسخرية المبتذلة المميزة لليهود سوى الوجه الملطف لنفسية الاستحواذ التي وجدت نموذجها الكلاسيكي في التقاليد الربوية. أي كل ما جعل من اليهودي والربوي, واليهودية والربا شيئا واحدا في ذاكرة ووعي الأمم جميعا. إذ يقترن وجود اليهودي بالربا. إي الاعتياش من جهد الآخرين بأرذل الطرق وأسهلها وأكثرها تدميرا وتخريبا. وهي نفسية طبعت وجود اليهودي وتعامله مع ثروات الآخرين المادية والفكرية والروحية. إذ ليس هناك شعراء فحول أو كتاب عظام أو فلاسفة حقيقيون بين اليهود. بينما نلاحظ قدرتهم المثيرة في مجال سرقة المال وجمعه وتوظيفه. وليس "الإبداع الروحي" في اليهودية نفسها سوى السرقة الحاذقة لإبداع الآخرين من خلال توظيفه العملي ابتداء من التوراة وانتهاء بالفنون المعاصرة. لذا لا نعثر عندهم على موسيقيين عظام بل على عازفين محترفين, ولا على رسامين كبار بل على أصحاب موضة, ولا على مخرجين سينمائيين يعتد بهم, بل على ممثلين. وهي نتائج لسيادة نفسية الاستحواذ التي تجعل من الحصول على مردود مادي المهمة الأولى في "الإبداع اليهودي". أي أن مهمة اليهودي هي استغلال الإبداع والروح المبدع للآخرين من اجل توظيفه لخدمة المال والشهرة, باعتبار ذلك أسلوبا للحصول على المال والاستحواذ عليه. وهي حصيلة نابعة عن عجز اليهود واليهودية وعدم استعدادهم للخروج من مأزق التحجر الاثني الذي اقفل عليهم إمكانية الارتقاء إلى مصاف الرؤية الثقافية عن النفس والآخرين.
وأدى بقاء اليهود واليهودية ضمن حيز الاثنية المتحجرة (قوميا ونفسيا) إلى استفحال تقاليد الغلوّ. فاليهودية هي التجلي التاريخي النموذجي للغلو الظاهري والباطني. إذ لا نعثر في التوراة على دعوة للعدل والاعتدال. على العكس أنها مليئة بالغلوّ في المواقف والقيم والأحكام. فتطرفها الباطني ينبع من ثالوث الإله القومي وفكرة الشعب المختار والنفس الغضبية, أي كل ما يؤدي إلى إنتاج عناصر التقوقع الذاتي. أما انعكاسه الظاهري فيتجلى عادة في سلوك العداء والانتقام.
فحيثما يحل اليهود واليهودية تظهر "المسالة اليهودية" و"عداء السامية". وليس ذلك اعتباطا أو مصادفة, بقدر ما هو ملازم لروح الانغلاق اليهودي والترقب المتخوف النابع من الشك الدائم بالآخرين وسوء الظن بهم. فالخوف هو الحليف الدائم لليهودي. انه يمقت فكرة الواجب ويتمسك بالخوف, باعتباره القوة الوحيدة التي يثق بها وعروة اليقين التي تثير في أعماقه شعور الجمعية. وهو شعور بهيمي يعيد إنتاج النفس الغضبية, ويجعل من العدوانية أسلوبا "للدفاع عن النفس". وليست العداء في الواقع سوى الوجه الظاهر للخوف الباطن. وهذا أيضا أحد أسباب فشل الشيوعية في روسيا والمعسكر الاشتراكي الأوربي. فقد أدت الكثافة الكبيرة لليهود في الحركات الاشتراكية والشيوعية واحتلال المناصب الحساسة في الدولة, كما هو الحال على سبيل المثال في روسيا السوفيتية, إلى توسع وترسخ وتعمق عناصر العداء والكره في الفكرة والممارسة الشيوعيتين. إذ تحولت الشيوعية من فكرة إنسانية إلى ممارسة عدوانية في كثير من جوانبها, وتراجعت فيها مبادئ الأممية والانفتاح والحرية أمام سلوك القومية الحكومية الضيقة والانغلاق والقهر والإجبار. وسادت فيها عناصر الهجوم والمواجهة مع الآخر, بحيث استحال اغلب تراث الماضي إلى عدو دائم. فنحن لا نعثر في القاموس السياسي والدعائي الشيوعي على كلمة كثيرة التردد ككلمة العدو (مثل عدو الشعب, وعدو الدولة, وعدو السوفييت, وعدو الحزب, وعدو البروليتاريا, وعدو الشيوعية, وعدو الاشتراكية, وعدو الإنسانية…الخ) واحتلت نفسية التأويل المتحزب والبحث عن مكونات العداء لأقوال وأفعال كل شخص أو جهة لا تتوافق آراؤها مع ما هو سائد في الأيديولوجية الرسمية. فنتج عن ذلك واقعيا إفراغ الفكرة الشيوعية نفسها من قيم الانفتاح والإنسانية والتحرر, وتحولها إلى نقيضها, أي أنها أصبحت أيضا أيديولوجيا "الأقليات" القومية والدينية المشبعة بنفسية الثأر والانتقام. ونفس الشيء يمكن قوله عن سيطرة اليهود واليهودية في "الديمقراطيات" المعاصرة. فهي تعاني من ثقل النفس الغضبية اليهودية, التي شحنت الديمقراطية بعناصر الكراهية. لذا من الصعب العثور على ديمقراطية "غربية" بدون "عدو" دائم كالشيوعية فيما مضى والإسلام حاليا. إضافة إلى اعتبارها كل من يعارضها عدوا متهما أو مجرما! وهو سلوك يتناقض مع فكرة الديمقراطية نفسها, لان الديمقراطية تفترض كحد أدنى الإقرار بشرعية التنوع والاختلاف. ولعل تجربة "روسيا الديمقراطية" المعاصرة, وبالأخص في ميدان الدعاية والإعلام الخاضعين للسيطرة اليهودية – الصهيونية دليل ساطع على ذلك. حيث تميز تاريخ هذه "الديمقراطية" بمراحل متواصلة من البحث عن الأعداء بدءا بالشيوعية ثم مرورا بالتاريخ السوفيتي ثم التيار الوطني ثم القومي الروسي ثم النصراني وأخيرا الإسلامي.
وتحول العداء للإسلام والمسلمين الآن إلى حلقة جوهرية في سلسلة المخطط الدعائي "الديمقراطي", الذي يعمل من اجل جعل العنصرية الصهيونية "عونا" للروس في تصديهم "للخطر الإسلامي". وهو "عون" يسئ للشخصية الروسية, لأنه يسعى للإيقاع بروسيا في شباك المخطط الاستعماري الصهيوني (المؤقت) لفلسطين. وليس هذا "العون" سوى الوجه الدعائي المزيف لحقيقة الروح الانتقامي اليهودي الذي لا يتورع عن استغلال كل وسيلة تخدم غاياته الضيقة. إن العنصر الانتقامي في اليهودية هو الوجه المكمل لروح العداء الراسخ فيها.
ويشكل "تكامل" الأوجه المشار إليها في الشخصية اليهودية مصدر بطشها (أو قوتها البهيمية). إذ ليست الأوجه المتكاملة للشخصية اليهودية في الانغلاق والاستحواذ والغلوّ سوى الأوجه العملية للإله القومي (المغلق) و"الشعب المختار" ( بالاستحواذ) والنفس الغضبية (المغالية, المتطرفة). وهو تكامل يعبر عن تطابق الصورة والمعنى بين اليهود واليهودية. وهنا بالذات يكمن مصدر قوتهم المادية وهشاشتهم المعنوية. فاليهود واليهودية كيانات خارج التاريخ الفعلي, أي انهما يعيشان ويفعلان وينموان ضمن حيز الانتماء التام لما قبل التاريخ الثقافي. إذ لم يتجاوزا مرحلة الاثنية – الدينية (الأسطورية). وليست اليهودية المعاصرة سوى البقايا المتحجرة "للعهد القديم".
***
أما العرب فقد تجاوزوا في وجودهم التاريخي المراحل الأساسية الكبرى لتطور العرقية إلى الأمة الثقافية مرورا بالأمة الدينية والسياسية. وتمثلوا في صيرورتهم التاريخية والثقافية "الكلّ السامي" من كنعانيين وآشوريين وبابليين وفينيقيين وكثير غيرهم بعد أن صهروا في بوتقة الإسلام الثقافي. أي انهم تمثلوا ومثلوا الكتلة الحضارية التي أبدعت القانون والقيم المتسامية. إن اختلال تناسب القوى الحالية لغير صالح العرب ليس سوى لحظة عابرة. فالقوة اليهودية الصهيونية المعاصرة تشبه قوة الديناصور, التي هي "ضمانة" انقراضه. بينما يشكل ضعف العرب المعاصر أحد مصادر القلق الروحي الذي يحفزهم لاستعادة وحدة المصادر الضرورية لقوتهم, لاستعادة حلقات تكاملهم الوجودي والمثالي, والتصّير في أمة كاملة هي الأمة الثقافية, التي قطعت في مجرى تطورها مراحل العرقية والدينية والسياسية والاقتصادية. وهي مراحل قطعها العرب في الخلافة, مما جعل منهم أمة عالمية رائدة. وبانقطاعها (السياسي والاقتصادي) تدهورت إلى ما هي عليه الآن. وفي مجرى القرن العشرين استطاع العرب استعادة أجزاء هذه المراحل بصورة متباينة (السياسية والدينية والاقتصادية). إلا أنها مراحل ليست متكاملة في حلقات سلسلة متوحدة. في حين يفترض تكاملها إعادة ترتيب وحدتها على أسس الإسلام الثقافي والسياسة القومية والتكامل الاقتصادي. فهي المكونات الضرورية لتكاملها في أمة ثقافية في العالم المعاصر. حينذاك ستنهار اليهودية الصهيونية. وهو انهيار ينقذ اليهود أنفسهم من "التيه الإسرائيلي", الذي لم يعد شتاتا جسديا (جغرافيا) بل وشتاتا روحيا رغم التجمع الحالي في فلسطين المحتلة. فهو تجمع لا يمكنه التخلص من عناصر الانغلاق والاستحواذ والغلوّ, التي لا يمكن تذليلها إلا عبر الانتقال من الأمة العرقية إلى الأمة الثقافية. ومن ثم فان العرب (بعد تكاملهم في أمة من جديد) هم الملجأ الأخير لليهود أنفسهم من اجل إرساء أسس ولادتهم الجديدة بهيئة أمة عبرانية عبر تخطي "عقدة السامية" والعداء لها. أي أن الحل الحقيقي بالنسبة لليهود كامن في استعادة الأمة العربية لكيانها الثقافي المتكامل, باعتباره أيضا وسيلة قطع الحبل السري بين اليهود واليهودية, بإرجاعهم إلى عبرانيتهم ودمجها في "سامية ثقافية" متحررة من عقد "العهد القديم" ونموذجها الصهيوني المعاصر
*** *** ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟