أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - التأويل















المزيد.....



التأويل


أحمد صبحى منصور

الحوار المتمدن-العدد: 1089 - 2005 / 1 / 25 - 11:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


فهم النصوص القرآنية فى الفكر الاسلامى من بدايته الى نصر حامد ابو زيد
اولا: معنى التأويل وموقعه بين الاسلام والمسلمين
ثانيا: التأويل بين الشيعة والصوفية .
ثالثا : التأويل بين المعتزلة واهل السنة
رابعا: التأويل فى الفقة السنى
خامسا: التأويل المعاصر بين السلفية ونصر حامد ابو زيد


برزت قضية التأويل فى الفكر الاسلامى فى المجتمع الثقافى المعاصراثر تسلل قضية الدكتور نصر حامد ابو زيد من اروقة الجامعة الى الشارع السياسى والثقافى ، ثم اصبح التأويل قضية ثقافية عامة بعد تحول قضية حامد ابو زيد الى قضية شأن عام داخل مصر وخارجها ، وكان طبيعيا ان يتساءل الكثيرون عن معنى التأويل او معنى فهم النص ، والعلاقة بين التأويل والاسلام والمسلمين ، وتاريخ التأويل لدى المسلمين والفرق الاسلامية .
وكان ذلك دافعا لكتابة هذه الورقة البحثية السريعة ، حتى اضع النقاط على الحروف فى قضية علمية تراثية وهى التأويل ـ وقد شاءت الظروف السياسية ان تتحول الى شأن عام يختلف بصدده السياسيون والمثقفون وغير المتخصصين .وقد قدمتها فى أوج المعركة بين الدكتور نصر حامد أبوزيد وخصومه السلفيين فى التسعينيات فى ندوة فى جمعية النداء الجديد التى أنشاها الدكتورسعيد النجار- رحمه الله تعالى - لنشر الفكر الليبرالى فى مصر. ونشرت الجمعية ملخصا لهذه الورقة البحثية. ثم تم نشرها بالكامل فى المجلة الفصلية:" الانسان والتطور" التى يديرها ويملكها الدكتور يحيى الرخاوى.ومذ اسابيع تناولتها بالاضافة والتنقيح لأضع كل النقاط على كل الحوف محترما حرية الآخرين فى الاختلاف معى ومتسامحا مع الماعز التى لا تجيد الا القفز والنطاح.
والله تعالى المستعان .
أحمد صبحى منصور:يناير 2005

اولا:- معنى التأويل وموقعه بين الاسلام والمسلمين

أ – معنى التأويل فى القرآن :

1 – كالعادة تواجهنا مشكلة المصطلحات ، وهى المشكلة الاساسية للمسلمين والفكر الاسلامى ، فللقرآن الكريم مصطلحاته ، وللتراث مصطلحاته . ومن الظلم للقرآن ان نفهمه بغير مصطلحاته او ان نفهمه بمصطلحات التراث ، والتأويل هو المسئول عن هذه المشكلة ، وهذا ما توضحه هذه الدراسة.
والطريف ان مصطلح التأويل نفسه له مفهوم فى القرآن يخالف المفهوم الواقعى الذى سار عليه الفكر البشرى للمسلمين.
2 - فالتأويل فى المصطلحات القرآنية والسياق القرآنى يعنى التحقيق والتجسيد .
ونعطى لذلك امثلة قرآنية :
فالنبى يوسف عليه السلام رأى فى المنام ان احد عشر كوكبا والشمس والقمر يخرون له ساجدين . وهذا الحلم تحقق فيما بعد فى هذه القصة حين اصبح عزيز مصر وجاءه ابواه واخوته الاحد عشر وخروا له سجدا ، وحينئذ تذكر يوسف الحلم القديم ، يقول تعالى فى سورة يوسف ( وخروا له سجدا وقال يا ابت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا : يوسف 100)اى ان تأويل رؤيا يوسف هو تحقيقها عمليا وتجسيدها فعليا فى الدنيا أمام عيني يوسف حين جعل الله تعالى رؤيا يوسف حقا.
وكان من معجزات يوسف قدرته على التأويل بالمفهوم القرآنى ، اى قدرته على الاخبار بالمعنى الحقيقى للاحلام وكيف ستتحقق عمليا على ارض الواقع . ولان هذه المعجزة تقع فى نطاق العلم ببعض الغيب الذى اختص به الله تعالى هذا النبىالعظيم فقد تكرر فى سورة يوسف مدحه بتلك الخصوصية ( وكذلك مكنا ليوسف فى الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث ) ( ربى قد اتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الاحاديث ) : يوسف 21، 101 }. ولان التأويل بهذا المعنى يقع ضمن الغيب الذى اعطى الله تعالى العلم به لبعض الانبياء وليس لهم جميعا ، فان ملك مصر حين رأى الحلم المشهور عن السبع بقرات السمان والسبع سنابل وسأل الملأ والحاشية فأنهم عجزوا عن التفسير الحقيقى للحلم ، يقول تعالى ( قالوا اضغاث احلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين ) : يوسف 44 }.فان التأويل هنا جاء من عند يوسف اخبارا بالمستقبل , وتحقق التأويل وتجسد واقعا حيا بالفعل . ونفس الحكاية فى قصة يوسف عليه السلام مع صاحبيه فى السجن وقد رأى كلا منهما رؤية مختلفة ، وقام يوسف بتأويلها أو تفسيرها تفسيرا تحقق فيما بعد وتجسد واقعا حيا . وحرص يوسف عليه السلام قبل ان يخبرهما بالتأويل ان يقول لهما ( لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان يأتيكما ، ذلكما مما علمنى ربى : يوسف 27 ) .
اذن فالتأويل هنا هو علم بالغيب واخبار بالمستقبل المجهول ، وهو يخبر بما سيتجسد عمليا وواقعيا ولا يكون الا لبعض الانبياء لأن الله تعالى يقول ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احدا, الا من ارتضى من رسول: الجن 26)، ( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء ) ال عمران 179}.
وخاتم النبيين ـ عليه وعليهم السلام ـ لم يكن يعلم الغيب ، و قد اكد القرآن على ذلك فى اكثر من عشرين آية قرآنية , وتراهم قد افتروا عليه بعد موته بالكثير من الخرافات التى تقتحم غيب الله جل و علا. ذلك أن الحديث فى الغيب خارج النصوص القرآنية ليس الا وقوعا فى الخرافة حين يتكلم من لا يعلم الغيب فيما لا يدرك ولا يعقل.
3 – وما سبق كان عن التأويل فى غيوب الدنيا المستقبلية وشهدنا امثلة منها فى قصة يوسف . وبقى ان نتحدث عن التأويل فى غيب الآخرة وما سيحدث فيها من بعث وثواب وعقاب. ان من الطبيعى ان ما سيحدث حينئذ سيكون مختلفا عن ادراكات البشرلأن ادراك البشر مستمد من خبراتهم فى تلك الحياة الدنيا, وحتى خيال البشر لا يستطيع ان يتحرر من اسر العالم المادى المدرك بالحواس والمسيطر عليها. وعالم الميتافيزيقا ـ او البرزخ والعالم الآخرـ لا يعرف الأنسان بعض حقائقه الا بما جاء عنها فى القرآن الحكيم وحده , لذا كان الايمان بالغيب محصورا بما جاء فى الكتاب الذى لاريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب .." البقرة 2 ,3". و المؤمن الحق هو الذى يؤمن بالقرآن وحده حديثا " الأعراف 185, المرسلات 50 الجاثية 6". وبالتالى يؤمن ان محمدا خاتم النبيين ـ عليهم جميعا السلام ـ لا يعلم الغيب و ليس له أن يتحدث فيه : " قل ان أدرى أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى أمدا. عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى من رسول . " الجن25 ـ26". وعليه فاذا كان الغيب خارج النصوص القرآنية مجهولا بالنسبة لنا وليس لأحد أن يتحدث فيه حتى خاتم النبيين فانه من واجب المسلم الحريص على دينه وعقيدته ومستقبله يوم الدين أن يبرىء النبى محمدا من تلك الأكاذيب وأن يدفع عنه تلك الأباطيل التى الصقها به أعداؤه بعد قرون من موته عليه السلام." اقرأ : الأنعام112 الى 117"الفرقان 30 ،31 ".
ان الحديث فى الغيب غير المذكور فى القرآن انما هو حديث بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . انه حديث الدجل والخرافات التى سرعان ما تصبح مقدسة ومرهوبة الجانب طالما رواها وأسندها الأفاقون الى الله تعالى أو الى رسله الأكرمين , حيث تصبح بمرور الزمن وغيبة النقد العلمى جزءا من الدين , بل يتم التضحية بحقائق الدين دفاعا عن تلك الخرافات ويتم التعمية على الحق القرآنى بدعاوى شتى ومصطلحات متنوعة منها التأويل بالمفهوم التراثى المخالف للتأويل بمعناه القرآنى.
وكتب الأحاديث و السنن مليئة بخرافات غيبية يضحك منها الحزين .
نعود الى غيب الآخرة وهوما لا تستطيع لغة البشر ان تصفه كما هو على الحقيقة ، وهذا يشكل مشكلة فى الحديث عنه ، وقد تغلب القرآن الكريم على هذه المشكلة وهو يخاطب البشر بأن اعتمد على الاسلوب المجازى ليقرب الصورة للعقل البشرى وفق مدركاته القاصرة ، ووصف هذا الاسلوب بأنه( المتشابهات ) والتشابه يعنى وجود بعض الاتفاقات والاختلافات لكن مع تقريب التصور العام للعقل البشرى, أو هو الأدراك المبهم لما يستحيل للعقل البشرى ان يخضعه للبحث والتجريب. لذلك فالسياق اللغوى القرآنى فى الحديث عن الاخرة واحوالها يقع ضمن المتشابهات لانه غيب لم ندركه بعد وان كنا نستطيع التخيل والتفكير فيه .
وعموما فان الخطاب القرآنى يتنوع بين آيات محكمة واضحة الدلالة باسلوب علمى تقريرى قاطع ، ويأتى هذا خصوصا فى آيات التشريع . ثم هناك الاسلوب الأدبى التصويرى والمجازى, خصوصا الذى يصف لنا الغيوب التى لم نشهدها بعد وهى تخرج عن نطاق خبراتنا ومدركاتنا الحسية ، وهى الايات المتشابهة .
وهذه الايات المتشابهة فى الحديث عن احوال الاخرة سنرى تحقيقها عمليا وتجسيدها واقعيا فى يوم القيامة حين نتحول الى خلق آخر فى عالم آخر وبامكانات تناسب ذلك العالم الآخر. انه اليوم الذى نترك فيه هذا الجسد البشرى الفانى وحواسه التى تحجب عنا رؤية الآء الله تعالى حتى فى هذا العالم المادى فكيف بما سنراه عند الموت وعند البعث وعند الحساب. يقول ربى جل وعلا فى ذلك " لقد كنت فى غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ."ق 22"" اقرا الآيات السابقة و اللاحقة لها أكرمك الله تعالى.
ولكن حتى يأتى هذا اليوم فان الذى يعلم تأويلها او كيفية وقوعها هو الله عز وجل وحده ، والذين يؤمنون بالله تعالى وكتبه يؤمنون بكل ما جاء فى القرآن الكريم من آيات محكمة ومتشابهة لانها كلها من عند ربنا .
وذلك الذى قلناه هو المقصود بقوله تعالى ( هو الذى انزل عليك الكتاب ، منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات ، فاما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله . والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا : آل عمران 7)
واذن فتأويل الايات المتشابهة الخاصة باليوم الاخر مثلا لا يعلمه الا الله تعالى علاًم الغيوب لأنه وحده هو الذى يعلم من الآن كيف ستتحقق واقعا حيا يوم الدين . ومن الطبيعى ان يتحرق بعض البشر لهفة لمعرفة ما سيحدث فعلا يوم القيامة ، او التجسيد الواقعى لآيات القرآن الكريم عن الاخرة ، او بمعنى اخر يتوقون لمعرفة تأويل او تحقيق ما سيحدث فى القيامة . ولكنهم لن يروا ذلك ولن يشهدوا ذلك التأويل او التحقق الا يوم القيامة ذاته ,وسيكون ذلك مفاجأة قوية وقاسية لهم , يقول تعالى فى ذلك:
( هل ينظرون الا تأويله؟ يوم يأتى تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاء ت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا او نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل ؟ قد خسروا انفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون : الاعراف 53) أى أن كل الافتراءات التى نسبوها ظلما وعدوانا لله تعالى ورسوله ستنتهى الى ضلال وسيدفعون ثمنه.
وهكذا فالتأويل فى مفهوم القرآن ومصطلحاته هو التحقق والتجسد خصوصا فى غيب المستقبل الدنيوى وغيوب الاخرة .
ويشمل التأويل ايضا التطبيق البشرى للتشريعات الالهية حين يكون هذا التطبيق البشرى للشرع كاملا ومتقنا ، يقول تعالى ( يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولى الامر منكم ، فان تنازعتم فى شىء فردوه الى الله و الرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ، ذلك خير واحسن تأويلا : النساء 59 ) واحسن تاويلا تعنى احسن تطبيقا وتجسيدا للأوامر الالهية .

ان الله تعالى يقسم على أن " أنما توعدون لصادق . وان الدين لواقع ." الذاريات . 5 ,6.".
ودين الله تعالى له جانبان : أيمان قلبى بالغيوب التى لا نراها وانما حكى عنها القرآن وتشمل الايمان بالله تعالى وحده لا اله الا هو, وملائكته وكتبه ورسله , لا نفرق بين أحد من رسله , والايمان باليوم الآخر الحقيقى الذى جاء فى القرآن ـ وليس الذى افتراه أعداء الله تعالى ـ والذى يقوم على العدل المطلق والنعيم المطلق للفائزين أو العذاب المطلق للخاسرين. الجانب الآخر من دين الله تعالى هو التكاليف الشرعية من عبادات وعمل للصالحات يقوم بها المخلصون لربهم ابتغاء مرضاته جل وعلا دون تقديس لبشر أو حجر, ويضل عنها المتدينون تدينا فاسدا يجعلهم يقدسون مع الله تعالى البشر والحجر, كما يضل عنها المنكرون لها والمتهاونون بها و اللاهون عنها ,و الله تعالى يقسم بان وعده بالجنة صادق للمتقين ووعده بالنار صادق أيضا للكافرين المعتدين." انما توعدون لصادق" وسيتحقق كل ذلك واقعا يوم القيامة أو يوم الدين " وان الدين لواقع .".وهذا التحقق للدين الحق هو التأويل طبقا لمصطلحات القرآن الحكيم. فالتأويل فى القرآن هو التحقق والتجسد والتطبيق.
أما فى تراث المسلمين فهو شىء آخر وشأن آخر.



(ب) التأويل فى التراث

1- تحدث رب العزة عن اولئك الذين فى قلوبهم زيغ الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاءالفتنة وابتغاء تأويله .
والفتنة فى مفهوم القرأن الكريم حين تتعلق بتعامل رب العزة مع البشرفانها تعنى الاختبار."ونبلوكم بالشر والخير فتنة. الأنبياء 35". والفتنة فى تعامل البشر مع بعضهم البعض تعنى الاكراه فى الدين والقمع الفكرى والاضطهاد للمخالفين فى الرأى والعقيدة ، أقرأ فى ذلك قوله تعالى عن المشركين المعتدين وضحاياهم المؤمنين: ".. والفتنة أكبر من القتل , ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا" البقرة. ." "217" ."ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم" .النحل "110". ولهذا كان المقصد التشريعى من الجهاد فى الاسلام هو منع الفتنة فى الدين أى منع الاضطهاد الفكرى والعقيدى ليكون الدين علاقة خاصة وخالصة بين الله تعالى والبشر وليكون للبشر تمام الحرية فى الاختيار لتتحقق مسئوليتهم الكاملة عن هذا الاختيار الدينى يوم الدين او يوم القيامة. أو بالتعبير القرآنى :" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله: الأنفال 39".
وقد عرفنا ان التأويل يعنى التحقيق والتطبيق ، والمعنى المقصود ان الذين فى قلوبهم زيغ يقيمون لانفسهم مفاهيم مختلفة على اساس ذلك الزيغ ويتلاعبون بالايات بقصد اكراه الاخرين فى الدين وتطبيق ذلك الاكراه عمليا انطلاقا من مفاهيم اخترعوها وجعلوا لها قدسية . وذلك بأختصار مجمل التاريخ الفكرى للمسلمين فى العصور الوسطى ، زيغ عن القرآن الكريم ، وقمع للفكر المخالف ، والتفصيل لذلك يحتاج الى مجلدا ضخما ، ولكن سنعطى فكرة سريعة موجزة :-

2- فالمفهوم الواقعى للتأويل عند المسلمين هو محاولة تطويع النصوص القرآنية للغرض والهوى سواء كانت تلك النصوص متعلقة بالتشريعات او بالغيبيات الخاصة باليوم الاخر وصفات الله تعالى المقدسة والمخلوقات التى لا نراها كالملائكة والجن والشياطين . وحين تصل احدى الفرق الفكرية الى مجال النفوذ السياسى فانها لا تتورع عن اضطهاد مخالفيها فى الرأى واقامة محاكم تفتيش لهم . حدث ذلك فى الفترات التى سيطر فيها اهل السنة أوالشيعة أوالصوفية أوالمعتزلة وحتى الخوارج .
وقد بدأ الخلاف بين المسلمين مبكرا وتركز حول الخلافة والحكم ، وبدأ الانقسام سياسيا بين المسلمين منذ بيعة السقيفة وخلافة ابو بكر ، ثم تحول الخلاف السياسى الى احزاب سياسية وحرب اهلية ، ثم تحولت الاحزاب السياسية الى تدعيم آرائها بالدين ، ولان القرآن يخالف ذلك الواقع الدامى فقد احتاجوا جميعا الى تطويع النصوص القرأنية لكى تخدم اغراضهم السياسية ، وذلك هو المعنى الواقعى للتأويل ، ولم يكتفوا بتأويل او تطويع النصوص القرآنية فأستحدثوا نصوصا اخرى نسبوها باسناد مزيف الى النبى او لآل بيته او للصحابة ، كى يجعلوا لفكرهم الدينى والسياسى مرجعية مقدسة . وبهذا اختلط الدين المقدس بالفكر البشرى غير المعصوم ، وضاعت الحواجز بين الدين الالهى المعصوم وبين الفكر البشرى الذى يحركه الهوى والمصلحة والطموحات السياسية والاجتماعية.
وهذا ما نعانى منه فى عصرنا الحديث حيث يسيطرالفكر السلفى الحنبلى متقمصا دين الاسلام ، وقد كان فى العصور الوسطى اشد انواع الفكر جمودا وتخلفا وتعصبا ودموية فبعثته الوهابية من مرقده ليمثل الاسلام فى عصرنا الراهن ـ عصر الديمقراطية وحقوق الانسان. وحين جعلته ممثلا للاسلام نفسه اصبح الاختلاف معه نوعا من الخروج عن الدين ، مع انه ليس الا مجرد فكربشرى يعبر عن اصحابه وليس عن دين الله تعالى . وهناك افكاراخرى لمسلمين آخرين كانت اكثر حيوية وتطورا وارقى عقلية ، ولكنه النفوذ السياسى الذى يجعل نوعا من الفكر يسود ويقمع الافكار الاخرى ويحاول اجبار الاخرين على اقتناع ذلك الفكر على اساس انه الاسلام . وذلك ما اجملتة الاية السابعة من سورة آل عمران عن الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة – والفتنة تعنى الاضطهاد والقمع فى لغة القرآن الحكيم – وابتغاء تأويله –والتأويل يعنى التطبيق .
وتطبيق الفكر السلفى نراه مسطرا بدماء الضحايا فى عصرنا من مصر الى الجزائر وافغانستان وما بين هذا وذاك. وهو فى نهاية الامر استرجاع لما ساد فى العصور الوسطى ، عصر التعصب والتطرف.
وندخل بذلك على نماذج التأويل لدى اشهر الفرق الاسلامية .

ثانيا : التأويل بين الشيعة والصوفية

1- الشيعة هم اقدم الفرق الاسلامية ، ويرجع استمرارها فى الوجود حتى الان الى عاملين الاول: انهم نجحوا فى تحويل فكرهم الدينى الى دين كامل عن طريق التأويل او تطويع النصوص ، وهم اشهر القائلين بالتأويل بالمصطلح التراثى ، ولهم فى التأويل مناهج وفلسفات . الثانى : انهم تعرضوا لكثير من الاضطهاد وعاشوا كثيرا فى خندق المقاومة . والتجربة الانسانية تؤكد ان اضطهاد الفكر هو السبيل الوحيد لكى ينتشرذلك الفكر ويسود طالما يواجة العنف بديلا عن النقاش . وقد كان للحكومات السنية فى العصور الوسطى الفضل فى نشر الفكر الشيعى وعقائدة بسبب الاضطهاد الدينى الذى اوقعوه بالشيعة ، وهو درس ينبغى ان يتعلم منه عصرنا الراهن . وقد خرج الشيعة من هذه التجربة التاريخية المريرة بشيئين ، اقامة بعض الدول الشيعية ، ثم التفنن فى التقية وفى التأويل .
- ومع كل الاختلافات داخل الشيعة الا انهم يتفقون حول مبدأ اساسى، هو التولى والتبرى . اى موالاة على بن ابى طالب وذريته والتبرؤمن خصومه السياسيين ، كأبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية وام المؤمنين عائشة . ويختلفون فى مقدار التولى والتبرى فمنهم من يصل بموالاة على الى تقديسه وتأليهه , ومنهم من يصل بالبراءة من ابى بكر وعمر الى درجة تكفيرهما. ولكن يظل الاجماع الشيعى قائما حول عصمة ( على ) وذريتة وان تكون فيهم الامامة بالنص والتعيين ، وان يكون ذلك جميعا جزءا من الدين الشيعى. ولكى يكون جزءا من الدين لجأوا الى التأويل بمعنى تطويع النصوص القرآنية ثم اختراع احاديث تخدم عقائدهم .
نعطى نماذج سريعة للتأويل الشيعى :

- فهم يرون ان قوله تعالى ( يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين : التوبة 119 ) مقصود به على بن ابى طالب وذريته .مع ان كلمة الصادقين جاءت عامة ، وقد يرد عليهم السنة بقولهم :ما المانع ان تشمل ابا بكر وعمر ؟ وما المانع ان تشمل كل مشهور بالصدق الى قيام الساعة؟.
على أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا , فالآية الكريمة السابقة يفسرها قوله تعالى:" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا: النساء 69.".
ليس فى الاسلام اعتقاد فى شخص وانما هو الاعتقاد فى الوحى الذى يصير به شخص ما نبيا من الانبياء ويصير به ذلك النبى صادقا لأنه يحمل الصدق أو الوحى الألهى الصادق. ونحن كمؤمنين نؤمن بذلك الصدق الذى جاء به اولئك الانبياء الصادقون. واذا نجح ايماننا فى أن يجعلنا متقين طيلة حياتنا الدنيا فاننا يوم القيامة سنكون مع اولئك الصادقين, هذا معنى قوله تعالى " والذى جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون: الزمر33." اذن قوله تعالى لنا " وكونوا مع الصادقين." يعنى أن نكون مع الأنبياء ايمانا بكل الكتب التى نزلت عليهم بدون تفرقة او تفضيل بينهم , وبهذا الايمان الخالص بالله تعالى اذا اقترن به عمل صالح وطاعة حقيقية كنت معهم يوم القيامة.
وهم يرون ان على بن ابى طالب وزوجته وابناء ه هم المقصودون بقوله تعالى ( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجز اهل البيت ويطهركم تطهيرا : الاحزاب 33) وبسبب الدعاية الشيعية اعتقد كثيرون ان ذرية على هم آل البيت ، مع ان الايات تتحدث عن نساء النبى ، والمصطلح القرآنى -آل البيت- يكون مقصودا به الزوجة سواء كانت زوجة ابراهيم ( قالوا اتعجبين من امر الله ، رحمة الله وبركاته عليكم اهل البيت : هود 73) او كانت امرآة العزيز فى مصر ( وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه: يوسف 23) والعجيب ان الاية التى حرف الشيعة معناها قاطعة الدلالة فى أن المقصود بها نساء النبى يقول تعالى ( يا نساء النبى لستن كأحد من النساء ) ثم يقول لهن ( وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى واقمن الصلاة واتين الزكاة واطعن الله ورسوله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا )
والشيعة يرون ان عليا بن ابى طالب وزوجته هما المقصودان بقوله تعالى ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا : الانسان 8) مع عمومية الآية لأن السياق قبلها يتحدث عن نعيم الأبرار فى الجنة لأنهم كانوا يوفون بالنذر ويخشون يوم الحساب ويطعمون المحتاج من أحب أنواع الطعام لديهم . اذن هى آية عامة وتسري على كل من يتصف بهذه الصفات النبيلة.
والشيعة فى تأويلاتهم يؤيدونها بقصص واحاديث للتأكيد على عصمة على والائمة من ذريته ولكى يتحول فى النهاية ذلك الفكر الى دين ثم الى دين ودولة ، وذلك ما حدث فعلا فعلا فى الماضى والحاضر.

2ـ والتصوف هو الابن الشرعى او غير الشرعى للتشيع .
ويتفق الصوفية مع الشيعة فى تقديس على وذريته وان اختلفوا فى بعض الشكليات ، فالشيعة يجعلونهم ائمة مقدسين ، والصوفية يجعلونهم اولياء معصومين ، الا ان الاختلاف الاساسى بين الفريقين يكمن فى ان الصوفية لا يلعنون بقية الكبار من الصحابة كما يفعل الشيعة ، كما أن الصوفية تخففوا من الطموح السياسى ومتاعبه ، واكتفوا بدولة الباطن الوهمية والخرافات المقدسة التى جعلوها حكرا عليهم ، وتمتعوا بتقديس العوام والنذور والموالد والولائم ، وبدأ التصوف منذ القرن الثالث ، ثم انتشر وازدهر وسيطر وتحكم خصوصا فى العصرين المملوكى والعثمانى ، وظل الامر كذلك الى ان جائت الحركة السلفية الراهنة بالتدين الحنبلى المنافس اللدود للصوفية تحت اسم الوهابية فغلب على الساحة بريالات النفط ونفوذه .
وكالتشيع استطاع التصوف ان يحول الافكار الدينية – المخالفة للاسلام – الى دين يحمل لافتة الاسلام ، وذلك عن طريق التأويل وعن طريقة التلاحم العضوى بالطبقات الاجتماعية من خلال الطرق الصوفية ، واخيرا عن طريق تسويغ الانحلال الخلقى وتشريعه فى اطار التسامح الصوفى . وقد كان التصوف فى العصر المملوكى ميدان بحثنا فى رسالة الدكتوراه ، وهى اخطر رسالة علمية عرفتها جامعة الأزهر في تاريخها الطويل وعلمها الهزيل.
والتأويل الصوفى حرص على تجنب الصدام مع السلطان واصحاب النفوذ لذلك كان يسير احيانا مع الرمز ويحتج احيانا( بالوجد ) اى تأجج عاطفة الصوفى بحيث تغلب مشاعره فينطق { بما يحسبه الناس}كفرا ، ، ولكنه عندهم معذور لان ( الحال) قد غلبه فخرج عن السياق.
وتسرب الي عقائد المسلمين من التأويل الصوفى ان الصوفية وحدهم هم المقصودون بقوله تعالى ( الا ان اولياء الله تعالى لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون : يونس 62) مع ان الاية الكريمة تصف اولياء الله بالايمان والتقوى اللتين هما صفات عامة مطلوب من الناس جميعا التحلى بهما, وهما صفات عرضية تزيد وتنقص وليست صفات لازمة ، وهما صفات غيبية لا يعلم حقيقة الاتصاف بها الا الله تعالى الذى يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور . ومع ذلك نجح التأويل الصوفى فى اقناعنا بأن الصوفية وحدهم هم اولياء الله ، ثم تطرف فجعل للاولياءالصوفية صفات الله تعالى من العلم بالغيب والتصريف فى خلق الله والتحكم فى الدنيا والاخرة عن طريق كراماتهم المزعومة.

واستلزمت الكرامات الصوفية تأويلا اخر انصب على فهم خاطىء لبعض القصص القرآنى مثل قصة العبد الصالح مع موسى ، والذى يؤكد السياق القرآنى انه نبى حيث لا يعلم بعض الغيب الا بعض الانبياء وحيث لا يتلقى الوحى المباشر من الله تعالى الا الانبياء . وتلك ملامح النبوة فى ذلك العبد الصالح فى قصته مع موسى وتعليمه اياه . ولكن التأويل الصوفى جعل ذلك النبى الصالح شخصا صوفيا اسمه الخضر ، وأعلى مكانته فوق النبى موسى حيث كان يتعلم منه النبى موسى لتتأكد العقيدة الصوفية التى تقول ان الولى الصوفى افضل من النبى , وفقا لمقالة شيخهم الأكبر ابن عربى :
مقام النبوة فى برزخ فوق الرسول ودون الولى
ثم جاءت الاقاصيص الصوفية لتجعل للخضر حياة الوهية خالدة متجددة ، ولتجعله على قمة المملكة الصوفية الكهنوتية ، من الاقطاب والابدال والأوتاد واصحاب النوبة غيرهم.

ثالثا: التأويل بين المعتزلة واهل السنة

1ـ المعتزلة هم ارقى فئة فى الطوائف الاسلامية ، اذ كان تعويلهم الاساسى على العقل وان ادى تطرفهم العقلى الى الوقوع فى المزالق. كما ادى اضطهادهم لخصومهم فى عصرهم الذهبى الى وصمة عار. وتسبب اعتمادهم على العقل فوق النقل الى جعلهم مجرد مذهب مؤقت فى تاريخ المسلمين الفكرى , اى انهم لم يتحولوا الى دين كشأن الشيعة والصوفية والسنة .
لم يحاول المعتزلة اصطناع مرجعية دينية مزيفة لهم ، كما فعل الصوفية عن طريق العلم اللدنى ، اوكما فعل الشيعة بالوحى المزعوم للأئمة وعلمهم اللدنى ، أوكما فعل السنة بإختراع الاحاديث ونسبتها الى النبى فيما يعرف بالسنة, او الى الله نعالى فيما يعرف بالحديث القدسى .
ولذلك ظل جهد المعتزلة مجرد اجتهاد عقلى يقبل الخطأ والصواب ويحتاج الى الاقناع والاقتناع فى مجتمع النخبة من المثقفين. اما المذاهب الصوفية والشيعية والسنية فقد تحولت الى عقائد وطقوس وعبادات تتطلب الايمان والتصديق والخضوع والتسليم , وليس امام الانسان الا ان يؤمن بها او يكفر بها ، كشأن نصوص القرآن ذاته . وبالتالى فأن أئمة هذه المذاهب السنية والشيعية والصوفيةا واعلامها تحولوا الى ذوات مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، بايجاز تحولوا الى آلهة فى التدين الواقعى بينما الدين الرسمى المعلن ـ وهو الاسلام ـ يؤكد على أنه لااله الا الله .وطبقا لذلك التدين الواقعى يرتجف المسلم السنى خوفا اذا انتقد احدهم البخارى مع ان البخارى بشر يخطىء ويصيب ، كما يرتعب المسلم الصوفى اذا تعرض الغزالى للانتقاد، ويهتز المسلم الشيعى غضبا اذا هوجم الامام جعفر الصادق . وهذا لان تلك المذاهب الفكرية تحولت فى عقائد اصحابها المسلمين الى اديان من خلال المرجعيةالدينية الزائفة التى اضيفت اليهم . الا اننا اذا انتقدنا واصل بن عطاء او الجاحظ او النظام او العلاًف ، وهم ائمة المعتزلة ومن ارقى العقليات الاسلامية فلن تتحرك شعرة من اى رأس مسلم لان فكرهم الاسلامى ظل فكرا اسلاميا ، ولم يتحول الى دين مزور مثل باقى الافكار لدى باقى المسلمين .

ومن المفارقات المؤلمة ان ارقى ثقافة اسلامية ابتدعها العقل المسلم تجدها فى اقوال المعتزلة بينما تجد افكارا غاية فى الضحالة والانحطاط منسوبة كذبا للنبى عليه السلام تشوه سيرته وتاريخه وتطعن فى الاسلام والقرآن ومع ذلك تحظى بالتقديس وتتداولها الالسن بالخضوع والتسليم دون اى تدبر فى معناها ، لانه طالما ادعوا ان النبى قد قالها فان العقل ينسحب خانعا مستسلما مؤمنا عاجزا عن التعقل مع أن التعقل فريضة اسلامية. او بالأحرى كانت ثم غابت .
كما تجد اغلب الفكر المعتزلى مسجونا فى المؤلفات بعيدا عن الاشتباك مع واقع المجتمع لانه ظل فكر النخبة ، عاش وقتا فى حياة اصحابه ثم انسحب معهم الى اعماق التاريخ والتراث ، بينما ظل الفكر الاخر يحيا فى فى المساجد وعلى المنابر وفى القلوب والعقول لدى من اعتنقه وآمن به لانه تعدى دائرة الفكر الى الدخول فى مجال التدين الواقعى واكتسب ملامح الدين حين نسبوه الى الوحى الالهى عن طريق النبى والائمة المقدسين اى الذين جعلوهم مقدسين .
وهذا هو الفارق بين تأويل المعتزلة وتأويل غيرهم من اصحاب الفكر الذى صار دينا ، فتأويل المعتزلة تأويل عقلى ، بينما التأويل الاخر يحتاج الى مرجعية دينية تسنده وتدفع عنه احتمال النقاش وتقيه شر الأنتقاد. وطالما خرج من دائرة الفكر البشرى وارتفع الى سدة الوحى اللآهى فان مناقشته هى على الأقل بلبلة للعقائد حيث لا تصمد تلك الروايات المفتراة الى أمام أى نقد عقلى ، وحيث تهتز تلك العقائد " وتتبلبل " حين تتعرض لأى ريح ناقدة ، لذلك يجرى دائما حمايتها داخل" صوبات" محوطة بالتهديد والوعيد لكى تقيها شر النقاش اذ لا يمكن أن تصمد بنفسها ويقتنع بها أى مجتمع الا بالقوة وغسيل المخ ومصادرة الأفكار الأخرى. ولذلك يقترن شيوع هذه المذاهب وسيطرتها على مجتمع ما باستنادها الى قوة تقوم باضطهاد وارهاب المخالفين لها وفرضها عليهم بالقوة على أساس أنها الدين الاسلامى الواجب اتباعه ، متناسين القيمة الاسلامية العليا وهى انه لا اكراه فى الدين.أى لا اكراه فى الاسلام نفسه فكيف بفكر بشرى يناقض الاسلام ؟.

2- وبعد هذا الفارق بين المعتزلة وغيرهم نعطى لمحة عن تأويل المعتزلة .

فقد انصب تأويلهم اساسا على الايات القرآنية التى تتحدث عن ذات الله تعالى وصفاته وافعاله والمشيئة والقضاء والقدر . وفى تأويلهم للايات القرآنية حاولوا تنزية صفات الله تعالى من الاتصاف بصفات المخلوقات فاذا كان الله تعالى يقول ( يد الله فوق ايديهم : الفتح 10 ) قالوا ان تأويل اليد هنا يعنى القوة وان قوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى : طه 5) لا يعنى الجلوس على العرش وانما يعنى الهيمنة والسيطرة وتمام التحكم فى الملكوت . وفى الايات التى تتحدث عن القضاء والقدر والمشيئة اولوها فى ضوء حرية البشر فى الفعل وفى الترك وان الانسان مخير وليس مسيرا .
وكان المعتزله اقرب الى الفهم الصحيح لهذه الايات لولا بعض الاخطاء .
واخطاء المعتزله يمكن ارجاعها كلها الى سبب اساسى ، هو انهم دخلوا على القرآن الكريم بمصطلحات عصرهم وبأدوات الفكر الاغريقى ، ومن خلال هذه المصطلحات والادوات لم يتيسر لهم الفهم الواعى للقرآن فآخذوا من الايات ما يناسب رأيهم المسبق وما لا يوافق رأيهم قاموا بتطويعه وتأويله ، واكدوا ذلك الدليل المنقول المؤول بدليل عقلى منطقى ...
ونضرب امثلة للتوضيح .
فالمعتزلة اجهدوا انفسهم للاستدلال على وجود الله عز وجل وسط مجتمع يؤمن بالله سواء كان الناس مسلمين او اهل كتاب ، هذا مع ان القرآن الكريم لم يحاول مطلقا ان اثبات وجود الله تعالى ، بل جاء بأدلة عقلية تثبت انه لا اله الا الله ، واقرأ مثلا قوله تعالى ( لو كان فيهما الهة الا الله لفسدتا : الانبياء 22) وقوله تعالى ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من اله ، اذا لذهب كل اله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض : المؤمنون 91)
ولانهم جعلوا الفكراليونانى مرجعية عقلية معتمدة لديهم فقد اخذوا عنه ايضا وصف الله تعالى بأنه( قديم ) وهو وصف لا يتفق وتنزيه الله تعالى ، لان وصف القديم يعنى وجود من هو اقدم منه ، وطالما كانوا يحتكمون للعقل فان الله تعالى هو الاحق بالحديث عن ذاته وصفاته . وقد وصف تعالى ذاته فى القرآن بانه ( الاول ) وهذا الوصف هو الأولى عقلا لأن الأول لا يسبقه غيره فى الوجود، لذا كان الأولى بالمعتزلة ان يتبعوا القرآن لا اليونان فى الحديث عن صفات الله تعالى .
وحتى فى تأويلهم فى الايات التى يفيد ظاهرها التشابة بين الله تعالى ومخلوقاته مثل ( الرحمن على العرش استوى ) فانهم أغفلوا المنهج القرآنى بسبب اتباعهم للمنهج الفلسفى اليونانى .فالمنهج القرآنى هو ان تفهم القرآن الكريم بالقرآن ، فالله تعالى هو كما وصف ذاته ( ليس كمثله شىء: الشورى 11) ـ وهى آية محكمة فى هذا السياق ـ اذا فكل اية فى القرآن الكريم يفيد ظاهرها تشابها بين الله ومخلوقاته لابد ان يكون ذلك على سبيل المجاز وليس الحقيقة .
واللغة العربية التى نزل بها القرآن فيها الاسلوب التقريرى الحقيقى القاطع وفيها الاسلوب المجازى الذى يحتوى على الاستعارة والكناية والتشبية . وكما يستعمل القرآن الاسلوب التقريرى القاطع المحدد فى آيات التشريع مثلا فانه يتبع الاسلوب المجازى التصويرى فى الحديث عن الغيبيات التى تخرج عن نطاق الخبرة البشرية ، ولكن بعد ان يقرر بأسلوب قاطع الحقيقة الكلية فى آية محكمة، ومنها هنا فيما يخص ذات الله تعالى أنه جل وعلا ليس كمثله شيء، وكل ماعداه أشياء هو تعالى الذى شيأها أى جعلها أشياء ونحن من ضمن هذه الأشياء.
والباحث المسلم الملتزم بالمنهج القرآنى يبدأ بالتعرف على الآية المحكمة فى سياق موضوعه ثم يفهم من خلالها الآيات المتشابهات التى تفصل الموضوع وتقربه للناس فى أسلوب يناسب مداركهم .على سبيل المثال فان الله تعالىأكد انه ليس مثله شىء من كل المخلوقات ، وأكد ان صفات الخلق من التوالد والأب والابن والزوجية لا تسرى عليه فهو تعالى الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فى ضوء هذا الاحكام القاطع نفهم أن ما يأتى من وصف لله تعالى ليس الا طريقة للتفهيم تستعمل اسلوب المجاز.
أكثر من ذلك فالقرآن يفسر نفسه بنفسه ، يقول تعالى : " ولا يأتونك بمثل الا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " الفرقان 33" ولهذا فان الآيات المتشابهات يأتى أحيانها فى سياقها ما يوضح المراد بحيث يكتفى الباحث المسلم بتتبع السياق او تدبره . وعلى سبيل المثال لو قرأ المعتزلة الآيات التالية مباشرة لقوله تعالى ( الرحمن على العرش استوى ) لوجدوا الآيات التالية تحدد المعنى المقصود بالاستواء على العرش وهو تمام التحكم فى الملكوت ،يقول تعالى يشرح الاستواء على العرش ( له ما فى السماوات وما فى الارض وما بينهما وما تحت الثرى ، وان تجهر بالقول فانه يعلم السر واخفى ، الله لا اله الا هو له الاسماء الحسنى ) :طه 5 ،6"
لمدة قرون اختلف الحنابلة والمعتزلة وغيرهم حول معنى الاستواء ، ولا يزال هذا الاختلاف قائما حتى الآن اذ تتمسك الوهابية بتأويلها الذى لا يليق بجلال الله تعالى والذى يشى بتشابهه مع البشر. كما ان المعتزلة اضاعوا جهدهم سدى فى فرض تأويلهم الأغريقى على القرآن دون تدبر القرآن وحده وذاته.

وأكد الله تعالى أن الجنة فى الاخرة لا يمكن ان نعلم عنها شيئا ( فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة أعين : السجدة 17) وهى آية محكمة فى سياقها، ولذلك تخضع لها كل الآيات التى تتحدث عن نعيم الجنة بلغة مجازية وبطريقة تقرب المعنى المراد الى المستمع العربى وقت نزول القرآن والى أى قارىء للذكر الحكيم .
فى اسلوب المجاز يقول تعالى عن نعيم الجنة مستعملا اسلوب التشبيه المجازى :" مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهارمن ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل الثمرات : محمد 15" هنا يضرب رب العزة مثلا بالتشبيه لتقريب المعنى المراد، وليس لتقرير حقيقة نعيم الجنة الذى يعلو على أفهامنا وعقولنا.
وظيفة اسلوب التشبيه هو تقريب المعنى وليس الاتيان به على حقيقته، فعندما تقول :" هذه الفتاة كالقمر" فانك تؤكد ليس فقط على جمالها الذى يشبه جمال القمر ولكنك تؤكد ايضا انه لا يمكن ان تكون الفتاة هى عينها ذلك الكوكب القمرى التابع للارض، والا كانت حالتلك العقلية فى مشكلة حقيقية. تقع فى نفس المشكلة اذا توهمت ان الماء واللبن والخمر والعسل فى الآية الكريمة عن أنهار الجنة هى نفس ما نعرفه فى حياتنا الأرضية ، خصوصا وأن الآية الكريمة لم تكتف فقط بالبدء بالتمثيل " مثل الجنة " وانما أضافت خصائص لتلك الأشياء لا نعرفها فى كوكبنا الأرضى ،فماؤنا يأسن واللبن لدينا يتغير طعمه والخمر عند من يعرفها ـ ولست منهم بحمد الله تعالى ـ ليست حلوة الطعم بحيث تكون لذة للشاربين ، والعسل عندنا لا يمكن أن يأتى فى بدايته مصفى نقيا.
ولنفترض اننا نستطيع ان نتحادث مع جنين فى بطن أمه وكل ما يعرفه من الطعام هو ما يأتيه من غذاء عبرالحبل السرى مخلوطا بالدم وغيره. لو وصفنا له طعامنا لاضطررنا أن نشبهه له بالدم حتى يستطيع أن يتخيل مالا يستطيع ادراكه.
ولماذا نذهب بعيدا؟؟
ان كل ما نعرفه ونتذوقه لاتستطيع لغتنا البشرية التعبير عنه أووصفه بدقة فى اسلوب تقريرى محكم جامع مانع. نعرف الفرق بين طعم الاسمك واللحوم ونستطيع ونحن مغمضوا الأعين أن نفرق بين طعم اللوبيا والبازلاء وأن نتعرف على الفوارق الدقيقة فى الطعم بين أجزاء اللحوم والدواجن ، لكن لا نستطيع أن نعبر بدقة عن الطعم الذى نحس به. لا يستطيع بشر أن يصف بدقة نشوته الجنسية او شعوره بالسرور حين يستمتع بلوحة مرسومة أو بلحن موسيقى يطير به الى عنان السماء. أفذاذ الأدباء يلجأون لأساليب المجاز – فى كل اللغات لدرء هذا النقص . افتح أى قاموس ستجد الكلمة الواحدة لها العديد من المعانى لأن لدى البشرالفاظا قليلة لا تستطيع أن تعبرعن كل الأحاسيس والمعانى التى تتوالد وتتغير فى داخل النفس البشرية.
اذا عرفنا هذا عن حياتنا الدنيا فى هذا العالم وكيف لا تستطيغ لغاتنا البشرية أن تعبر عما نحسه وندركه ونتعامل معه فكيف بها فيما لاتعرف ؟ وكيف اذا جاءها وحى علوى يحادثها عن تلك العوالم الغيبية والمستقبلية بتلك الغة البشرية القاصرة العاجزة؟ هنا يكون للمجاز دوره . ولهذا فانك تجد المجاز فى كل لغات العالم ليستر هذا العجز الانسانى ويعالج هذا القصور اللسانى.
والخلاصة ان المعتزلة دخلوا على القرآن الكريم بثقافتهم اليونانية وكان اولى بهم ان يفهموا القرآن بمصطلحات القرآن نفسه ولو فعلوا ذلك لاراحوا المسلمين وانفسهم من شر كبير .
4- الخصومة بين المعتزلة والفقهاء الحنابلة وموقع التأويل فى هذه الخصومة .

وبسبب الانتماء الفكرى للفلسفة الاغريقية - او بتعبير عصرنا الى الثقافة الغربية - فقد اشتعلت الخصومة الفكرية بين المعتزلة والفقهاء واصحاب ما يسمى بعلم الحديث الذين يمثلون الثقافة المحلية ويتعصبون لها ، او الذين عرفوا فيما بعد بالحنابلة او السلفية .
وبدأت معركة بين الطرفين فى موضوع خلق القرآن الكريم الذى اضطهد بسببه احمد ابن حنبل منذ اواخر خلافة الخليفة المأمون سنة 218 هــ
كان الخليفة المأمون متأثرا بالفكر الاغريقى ، وهو الذى انشأ دار الحكمة وشجع الترجمة عن اليونانية . ولذلك اصبح للمعتزلة شأن كبير فى عهده ، واستثمر المعتزلة هذا النفوذ فى ارغام خصومهم الفقهاء واصحاب الحديث على قبول وجهة نظرهم فى خلق القرآن واضطر كثير منهم للاذعان ، وصمم على الرفض احمد ابن حنبل ومحمد ابن نوح فأذاقتهما السلطة العباسية العذاب ، الى ان تولى المتوكل الخلافة واضطرته الظروف السياسية الى التقرب للشارع وقد وقع تحت سيطرة الفقهاء وائمة المساجد وتحالف مع اصحاب الحديث والفقهاء ليستعين بهم ضد مراكز القوى السابقة من العصبيات العربية والقواد الفرس .
والجدير بالذكر ان المتوكل قد ألغى تجنيد العرب والفرس ، واعتمد على شراء المماليك الاتراك بدلا عنهم ، وكان لابد لهذا الانقلاب الخطير الذى قام به من قوة شعبية ودينية تؤيده . ووجدها فى فقهاء الشوارع ، وعن طريق هذا التحالف بينه وبين الفقهاء علا نفوذ المذهب السنى ، واستطاع الفقهاء الحنابلة اضطهاد المخالفين لهم فى الرأى والدين والمذهب ، لذا شهد عهد المتوكل وما تلاه اضطهادا للنصارى واليهود والفلاسفة والشيعة والصوفية وبالطبع ردوا الصاع صاعين للمعتزلة .والعادة أن السياسة اذا تدخلت فى الفكر أفسدته وأفسدت أصحابه .
ونعود الى مشكلة التأويل ونزاع الحنابلة الفقهاء المحدثين مع المعتزلة فى خلق القرآن .
فالمعتزلة بثقافتهم اليونانية استرجعوا نفس القضية القديمة حول الانجيل ، وهل هو قديم مثل الذات الالهية او حادث مخلوق كالبشر ، وهى قضية خلافية فى الفكر المسيحى المشرقى منذ القرن الثالث الميلادى ، ولكن استرجعها المعتزلة فى القرن الثالث الهجرى وداروا بها حول القرآن ، واعتمدوا وجهة النظر العقلانية اليونانية التى ترى ان الكتاب السماوى مخلوق ، واستخدموا نفوذهم السياسى فى ارغام الاخرين على اعتناق فكرهم . وكانت حجتهم فى هذا الرأى هى قوله تعالى ( انا جعلناه قرآنا عربيا : الزخرف 3) اى ان القرآن مجعول اى مخلوق ، وذلك قياسا على قوله تعالى عن خلق آدم وحواء ( وجعل منها زوجها ) اذا فالقرآن مخلوق مثل آدم وحواء . بينما رأى احمد بن حنبل ان القرآن الكريم صفة من صفات الله تعالى اى بتعبيرهم ازلى ولا يكون مخلوقا .
وفى حوار جرى بين الخليفة المتوكل واحمد بن حنبل قال له ابن حنبل ( القرآن كلام الله غير مخلوق لان الله تعالى يقول : "ألا له الخلق والأمر" فجعل فرقا بين الخلق والامر والامر ليس مخلوقا ، لان المخلوق لا يخلق مخلوقا ) أى يرى ابن حنبل أن القرآن باعتباره أوامر الهية علوية تناقض مفهوم الخلق أى المخلوقات.
هى قضية لا ينتهى فيها الجدال لان كل فريق دخل الي القرآن بوجهة نظر مسبقة وبغير ان يفهم مصطلحات القرآن ومستويات الخطاب القرآنى فى الحديث عن القرآن قبل ان يكون قرآنا وحين التنزيل ، وبعد ان اصبح قرآنا مقروءا باللسان العربى . وهو موضوع شرحه يطول ولكن نعطى عنه اشارة سريعة .
فالمعتزلة استشهدوا بقوله تعالى ( انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) وركزوا على هذه الاية لتدعيم وجهة نظرهم بأن القرآن مجعول اى مخلوق ، وتناسوا ان يقرأوا ما بعد الاية وهى قوله تعالى ( وانه فى ام الكتاب لدينا لعلى حكيم : الزخرف 4) فالقرآن الكريم كلام الله تعالى واوامره ونواهية وبلسان الهى لا نعرفه ، وذلك حين كان فى ام الكتاب ، عند الله تعالى ، وبعدها نزل هذا الكتاب الالهى وحمله جبريل فى لغة اخرى ومستوى اخر ، ونقله دفعة واحدة بصفته الكتاب الى قلب خاتم النبيين، وهذا ما حدث ليلة القدر، ثم كانت معانى الكتاب المختزنة فى قلب النبى تنطق ـ فيما بعد وحسب الحوادث ـ قرآنا عربيا فى لسان عربى مبين جعله الله تعالى ميسرا للذكر حتى نتعقله ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر: القمر 17 ) ، ( فأنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا : مريم 97 ) وبغض النظر عن اللسان العربى الذى ينطق به القرآن والذى ننطق به القرآن ، وبغض النظر عن كون هذا اللسان وذلك النطق مخلوقا فان المعانى الاهية ، وهى نفس المعانى والاوامر الالهية فى ام الكتاب وفى اللوح المحفوظ ، وهى نفس المعانى والاوامر والنواهى التى يمكن بها ترجمة القرآن الكريم ,والتى بتطبيقها يمكن النجاة ويكون الفلاح يوم القيامة .
ومن هنا نفهم ان القضية ليست ان القرآن مخلوق او ليس بمخلوق ، وانما قضية اوامر الهية نزلت من غيب السماوات وتم تيسيرها لكى نفهمها ونعقلها ونطبقها ، والقضية الاساسية هى الطاعة لهذه الاوامر وليس البحث فى ما هيتها فى عالم الملكوت الغيبى الخارج عن ادراكنا. فنحن مسئولون عن الطاعة والتطبيق ، وليس عن فهم ماهية القرآن قبل ان يكون قرآنا وكيف نزل وهل هو بصوت او بغيره الى اخر من انشغل به اسلافنا وانهكوا به عقولهم وحياتهم وتخلفوا به عن العالمين – ولا يزال بعضنا على آثارهم يهرعون مختلفين ومتخلفين. !!.
5 ـ موضوعات التأويل بين المعتزلة والسنة:

الأهم مما سبق: ان الخلاف الاساسى فى التأويل بين المعتزلة وبين اهل السنة تركز فى موضوعات التأويل ، والمسموح او الممنوع من تأويله .
وعلى حسب الاصول التراثية فان فى القرآن سمعيات اى غيبيات وعقائد مطلوب الايمان بها مثل ذات الله تعالى وصفاته واليوم الاخر وما قيل فيه وعوالم الجن والملائكة والشياطين ، ثم فى القرآن الكريم "فروع " بعد تلك الاصول الاعتقادية وهى تشمل التشريعات.
وقد اختلف الموقف بين المعتزلة واهل السنة فى التأويل فى هذه الموضوعات .
فالمعتزلة انصب تأويلهم على السمعيات خصوصا فيما تعلق منها بذات الله وصفاته وكان غرضهم نبيلا ، وهو تنزيه الله تعالى مما قد يفهم منه اتصاف الله تعالى بصفات مخلوقاته ، ولذلك فهموا ان الاية تتحدث بالمجاز والتشيبة والاستعارة حين قال (يد الله فوق ايديهم ) فهنا تعنى القدرة والقوة ، وحين قال ( تجرى بأعيينا : القمر 14) –عن سفينة نوح – اى تسير بقدرتنا ورعايتنا ، وحين يقول عن موسى ( ولتصنع على عينى : طه 29) اى رعايتى .
ولم يدخل المعتزلة فى خطيئة تأويل الفروع اى التشريعات رحمهم الله تعالى وغفر لهم. اذ كانوا على صواب فى ذلك فالتشريعات القرآنية جاءت باسلوب تقريرى قاطع وحاسم ومستقيم لا يدع مجالا للاختلاف أو التأويل.
اما اهل السنة فقد وقفوا على النقيض ، اذ انهم رفضوا التأويل الذى ينبغى فعله فى السمعيات وفى الذات والصفات بينما استعملوا التأويل فى الممنوع وهو التشريع الواضح المحكم .

أهل السنة رفضوا الاعتراف بالاسلوب المجازى فى قوله تعالى ( يد الله فوق ايديهم ) واعتبروا ان لله تعالى يدا على الحقيقة ، واعتبروا ان لله تعالى عينا واعتبروا ان الله تعالى جلس على العرش كما يجلس البشر ، وبذلك الغوا الفوارق بين الخالق والمخلوق واسندوا لله تعالى ما لا يليق بذاته العلية من صفات البشر .
بل اكثر من ذلك فقد اوقعوا انفسهم فى تناقض معيب , فالله تعالى جعل الموت مصير كل نفس فقال( كل نفس ذائقة الموت : آل عمران 185، والانبياء 35 ) والاسلوب هنا تقريرى حقيقى ، ولكن الله تعالى يحدث عن ذاته بالاسلوب المجازى فيقول ( ويحذركم الله نفسه : آل عمران 8, 30 ) ويقول ( كتب على نفسه الرحمة : الانعام 12) فاذا رفضنا اسلوب المجاز هنا كما يقول اهل السنة واعتقدنا ان لله تعالى نفسا فهل يعنى ذلك ان ينطبق عليه جل وعلا قوله تعالى ( كل نفس ذائقة الموت ) ؟
الواضح ان النفس هنا يكون معناها مجازيا يعنى الذات الالهية فى اطار قوله تعالى ( ليس كمثله شىء ) اى ان كل ما يخطر على بالك ليس مثل الله سبحانه وتعالى ، وان كل ما يأتى فى القرآن الكريم عن الله تعالى هو تقريب للصورة العقلية كى نفهم بعض الخطاب ، وهذا التقريب للصورة لابد ان يعتمد على المجاز والاستعارة والكناية والتشبية والتمثيل واقرأ مثلا قوله تعالى ( الله نور السموات والارض ،مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، المصباح فى زجاجة ، الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة ، لا شرقية ولا غربية ، يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار : النور 35) وتأمل كيف تكثف التعبير المجازى فى الاية ليعطى العقل الانسانى مجالا رحبا أوسع ليتفكر فى آلاء الله تعالى وعظمته.
ان فى القرآن الكريم المزيد من التدبر فيما يخص صفات الخالق جل وعلا واختلافها عن صفاتنا نحن البشر.
و نكتفى هنا ببعض الأمثلة:
ـ كلمة الحى تأتى وصفا للمخلوقات, فى الحديث عن اخراج الحى من الميت والميت من الحى. والسياق هنا واضح على ان حياة المخلوقات هنا وقتية و مرتبطة بالموت. ولكن حين تأتى كلمة الحى وصفا لله تعالى تقترن بتوضيح آخر ينفى صفة الموت عن الله جل وعلا." وتوكل على الحى الذى لايموت "."الفرقان58".
وفى سورة "قل هو الله أحد" تجد كلمة "احد" هنا وصفا لله تعالى وحده, و يتناقض المعنى لنفس الكلمة حين تأتى وصفا للناس فى نفس السورة"ولم يكن له كفوا أحد"
ـ وفى اللغة العربية هناك درجات للتعريف اقواها المتكلم ـ انا و نحن ـ .,ثم يليها المخاطب { ـ انت و انتم ـ }ثم يكون الغائب اقلها في التعريف ـ {هوو هى ..الخ }. المراد هنا انه يجوز ان يوصف شخص ما بأنه غائب ، وتلك العادة حين يتحدث الناس عن شخص فى غيبته. ولكن هل يصح أن يوصف الله تعالى بالغياب ؟
فى عقيدة الأسلام لا يصح وصف الله تعالى بالغياب لأنه القائم على كل نفس بما كسبت وهو القيوم على كل شيىء. وهنا يأتى استعمال "هو" فى الحديث عن رب العزة بما يناقض معنى الغيبة وبما يؤكد معنى الحضوركقوله تعالى" وهو معكم اينما كنتم: المجادلة 7". اذن هى نفس الكلمة ولكن بمعنى مناقض لمعناها المألوف حين تستعمل فى الحديث عن الله تعالى . والسبب دائما هو فى قصور لغة البشر عن التعبير عما يليق بجلال الله تعالى وقصورها عن التعبير عن عالم الملكوت وعالم الغيب الذى لم يعرفه البشر بعد وليست لهم به خبرة تنعكس على استعمالهم اللغوى.
كان على المعتزلة و اهل السنة معا ان يفهموا القرآن بالقرآن, وهو التدبر أو تلك الفريضة المنسية والتى تعنى ان تسيرـ مخلصا طالبا للهداية ـ دبر الآية القرآنية او خلفها تتبع معناها وتتعقله فى كل القرآن. وهو المنهج العلمى الموضوعى المأمور به فى القرآن وقدغفل عنه السابقون من السنة والمعتزلة وغيرهم.

ولم يكتف اهل السنة بخطيئة رفض الاسلوب المجازى فى القرآن الكريم وهو الواجب اتباعه، وانما اضافوا اليها خطيئة كبرىأخرى وهو استعمال التأويل فى الممنوع ، وهو تحريف معانى النصوص القرآنية التشريعية الواضحة الساطعة التى لا تحتاج الى تأويل. ولانها لا تحتاج فى وضوحها الى تأويل ، اذ لا اجتهاد مع وجود نص – كما يقولون – فأنهم استعملوا لافتات اخرى غير التأويل اى حرفوا تشريع القرآن تحت عناوين بريئة أو تبدو بريئة.
وندخل بعد ذلك على تأويل اهل السنة بمعنى تحريفهم لتشريع القرآن الذى اسندوه للنبى وجعلوا له مرجعية زائفة ومصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان .

رابعا التأويل فى الفقة السنىفى لمحة سريعة موجزة

أ – تأويل مصطلح اهل السنة
1 – كلمة السنة من مصطلحات القرآن الكريم ، وتعنى الشرع الالهى الذى ينزل على الانبياء ، والذى يطبقه الانبياء على انفسهم ، والذى يطبقه المؤمنون ، كما تعنى ايضا المنهاج الالهى فى التعامل مع المشركين .
ومصطلح السنه بمعنى الشرع جاء فى قوله تعالى ( ما كان على النبى من حرج فيما فرض الله له سنة الله فى الذين خلوا من قبل ، وكان امر الله قدرا مقدورا : الاحزاب 38) فجاءت فى الاية ثلاثة مصطلحات بمعنى واحد ومنسوبة لله تعالى وهى "فرض الله " "وسنة الله " ، " امر الله " وكلها تعنى شرع الله ، فبالنسبة لهذا المعنى تنسب لله تعالى لانه صاحب الامر والشرع
والنبى هو اول الناس تطبيقا لهذا الشرع ، وهو القدوة الحسنة فى التطبيق ، ولذلك يقول تعالى ( لقد كان لكم فى رسول الله اسوة حسنة : الاحزاب 21) فلم يقل سنة حسنة لان السنة لا تنسب الا لله تعالى صاحب الشرع ، وانما قال اسوة حسنة اى قدوة حسنة فى تطبيق سنة الله او شرع الله .
ومن المفيد ان نذكر ان مصطلح السنة فى القرآن هو نفس المصطلح فى اللغة العربية ، فنحن نقول "سن قانونا "اى اصدر تشريعا . والتشريع حين يسن أو يصدر فالواجب طاعته ، وهكذا فالشرع الالهى هو السنة الالهية .
ومن المفيد ايضا ان نذكر ان مصطلح السنة بهذا المفهوم يعترف به اهل السنة جزئيا حين يقولون عن الصلاة ، والزكاة والحج وسائر الفرائض انها سنة عملية ، ولكن ليس مقبولا ان يقولوا السنةالقولية عن احاديث مفتراه نسبوها زورا الى النبى ، وهذه النسبة للنبى هى التى حولت الفكر الدينى لاهل السنة الى دين كامل اضفى التقديس على ائمة هذا الفكر مثل البخارى والشافعى وابن تيمية وابن القيم ، واصبح الاعتراض على اولئك الائمة واسفارهم {المقدسة } خروجا على الدين الذى ليس هو دين الاسلام بالطبع الذى نزل قبل اولئك الائمة ، ولكن الدين الجديد الذى ابتكره اولئك الائمة واصبحت له قدسية بالتأويل. وهنا ندخل على مظاهر التأويل لدى الفكر السنى .

بــ ) - التأويل فى مدار التشريعات الاسلامية :

1 –تدور التشريعات فى القرآن الكريم حول ثلاث درجات : الفرض المكتوب او الاوامر ، ثم النواهى أو المحرمات ، ثم ما بينهما وهو المباح ، ومنهج القرآن فى التشريعات فى هذه الدرجات ان يحدد الفروض والمحرمات ثم يترك المباح مفتوحا ، واذا كان هناك تشريع سابق يحرم شيئا وجاء القرآن بتحليله مجددا يأتى ذلك فى القرآن فى سياق الحلال الجديد كقوله تعالى ( احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم : البقرة 187) .
وجاء الفقة السنى بتأويل وتعديل للمدار التشريعى ، اذ اضاف اليه درجتين فى التشريع انتزعهما من المباح الحلال هما المكروه والمندوب او المسنون . فالمكروه هومباح ينبغى تركه أو درجة اقل من الحرام, والمندوب او المسنون هو مباح ينبغى فعله وان لم يكن واجبا لأنه اقل من الفرض الواجب .
2 – وترتب على هذا التأويل والتعديل للمدار التشريعى الاسلامى القرآنى نتيجتان
* الاولى:-
اضافة مصطلحات جديدة تخالف القرآن وهى المكروه والمندوب ، وعلى سبيل المثال فإن المكروه فى مصطلحات القرآن ليس مباحا اقل درجة من الحرام كما يقولون بل هو اشد انواع الحرام تجريما قال تعالى (وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان : الحجرات 7) وبعد ان جاء تحريم السرقة والقتل والكفر وسائر الكبائر فى سورة الاسراء قال تعالى عنها ( كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها : الاسراء 38 )
* الثانية :-
هى التضييق من دائرة الحلال المباح وتحويل المباح الحلال الى مكروه لا ينبغى العمل به ، وهذا يعنى التدخل فى تشريع الله تعالى من حيث الدرجة ومن حيث التفصيلات.

جــ) التأويل فى قواعد التشريع الجامعة المانعة والمؤكدة :

1 – هناك قواعد تشريعية جامعه مانعه ، اى تجمع المحرمات داخل سور محدد وتمنع اخراج احد منه او اضافة احد اليه ، مثل المحرمات فى الزواج ، وقد ذكرها القرآن بالتفصيل ثم بعدها قال ( واحل لكم ما وراء ذالكم ان تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين : النساء 24 ) اى فالنساء داخل ذلك السور الجامع المانع كلهن محرمات ، والنساء خارج هذا السور الجامع المانع كلهن حلال للزواج ، وجاء التأويل السنى ليخرق هذا السور بأن اضاف اليه بالقياس قاعدتين فقهيتين جعلهما احاديث منسوبة للنبى وهى ( يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ) ، ( لا تنكح المرأة على عمتها او خالتها ) ، وعلى ذلك فإذا اراد رجل ان يتزوج خالته من الرضاعة فإن ذلك حلال فى تشريع القرآن الكريم وحرام فى تشريع أهل السنة ، ونفس الحال اذا اراد ان يتزوج على امرأته عمتها او خالتها يقول تعالى ذلك حلال ويقول الفقهاء من اهل السنة ذلك حرام .
وهناك مثال اخر هو المحرمات فى الطعام التى تكررت كثيرا فى القرآن الكريم " البقرة 173" ، " المائدة 3" ، " الانعام 145" ، " النمل 115" وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما يقدم للأوثان . وبرغم تحذير القرآن الكريم من اضافة اى محرمات جديدة للطعام ( المائدة 87، يونس 59:60 ، النحل 116: 117، التحريم 1) الا ان اهل السنة اضافوا تحريم الكثير من الحلال ، وتمتلىء بذلك كتب الفقة .

2 – وهناك قواعد تشريعية قرآنية مؤكدة باسلوب القصر والحصر مثل قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التى حرم الله الا بالحق ( الاسراء 33، الانعام 151 ) (والذين لا يدعون مع الله الها اخر ولا يقتلون النفس التى حرم الله الا بالحق الفرقان 68) اى فلا يجوز القتل فى الاسلام الا بالتشريع القرآنى الحق وهو طبقا للنصوص القرآنية يأتى فى صورة القصاص ، سواء كان ذلك فى الجرائم ( البقرة 178) او فى الحروب ( البقرة 194) وجاء الفكر السنى فألغى هذه القاعدة التشريعية المحكمة الملزمة فأضاف قتل المرتد والزنديق وتارك الصلاة ورجم الزانى ، ثم توسع فى القتل ليجعل من حق الامام ان يقتل ثلث الرعية فى سبيل اصلاح الثلثين ..!!

3 – وهناك قواعد تشريعية قرآنية جاء تأكيدها فى القرآن الكريم بكل اساليب التأكيد مثل الامر بالوصية للوارث وغير الوارث فى قوله تعالى ( كتب عليكم اذا حضر احدكم الموت ان ترك خيرا الوصية للوالدين والاقربين بالمعروف حقا على المتقين : البقرة 180 ) فالتأكيد فى الوصية جاء بصيغ مختلفة شديدة الدلالة مثل "كتب عليكم " ، " إن ترك خيرا " ، " بالمعروف" ، " حقا "،" على المتقين" ، ثم جاءت الايات بعد ذلك تضع قواعد الوصية. وفى سورة النساء نزل الامر بالوصية ليطبق قبل توقيع الميراث (من بعد وصية يوصى بها او دين : النساء 11، 12) ومع ان الوالدين لهما حق فى الميراث وحق ايضا فى الوصية ، ومع ان قواعدالميراث والوصية هى حدود الله التى يحرم التعدى عليها ( النساء 13:14) الا ان الفقة السنى الغى الوصية للوارث طبقا لقاعدة فقهية جعلها حديثا نبويا يقول ( لا وصية لوارث ) وافتروا أن هذه الكذبة المخالفة للقرآن قد " نسخت الآيات المخالفة لها..
ان تشريع الوصية والحث عليها جاء تحقيقا للعدالة الاسلامية. فأنصبة الميراث محددة بالنصف والربع والسدس والثلث والثمن ولا يجوز تعديلها. وتطبيقها وحدها قد يحمل ظلما بين الورثة. قد يكون فيهم من يستحق الزيادة فى حصته لظروف خاصة به تستوجب ذلك، هنا تأتنى الوصية لتعالج الأمر تحت عين المجتمع ورقابته ووفقا لمسئولية المتوفى أمام الله تعالى فى توزيع الوصية حسبما جاء فى آيات الوصية ، بالوصية مثلا يمكن لك أن تعطى ابنتك نصيبا مساويا لابنك طالما كانت تستحق ويطمئن ضميرك والمجتمع لذلك.

4- وترتب على هذا التأويل السنى لتشريعات القرآن الكريم المحكمة والملزمة نتيجتان متلازمتان :-
* الاولى :-
اضافة معانى مخالفة لمصطلحات القرآن الكريم فالنسخ فى القرآن الكريم وفى اللغة العربية يعنى الاثبات والكتابة والتدوين ، ولكنهم جعلوا النسخ عندهم يعنى الحذف والالغاء والتبديل .
*الثانية :-
جعلوا فتاويهم الفقهية واحاديثهم المنسوبة زورا الى النبى تلغى قواعد القرآن الكريم التشريعية وتبطلها ، وبالتالى جعلوها فوق القرآن الكريم الذى هو كلام رب العالمين.

د: اهمال قواعد التشريع ومقاصده العظمى:

عموما فالاحكام في التشريعات القرآنية هي اوامر تدور في اطار قواعد تشريعية ،وهذه القواعد التشريعية لها مقاصد او اهداف ،او غايات عامة .
يبدأ التشريع القرآنى بالأوامر مقترنة بقواعدها ، وقد تأتى المقاصد فى خلال الآية نفسها أو فى خلال السياق أو تأتى منفصلة. ولسنا فى مجال التفصيل لذلك حتى لايفلت منا موضوع التأويل. ولكن اعطاء امثلة يعين على الفهم:-
نبدأ بمقاصد التشريع القرآنى وهى نوعان : النوع الأول ويتمثل فى مصطلح التقوى أى خشية الله تعالى أو بتعبيرنا المعاصر الضمير الحى الذى لا يكتفى بالتأنيب على الخطأ والعزم على عدم العودة اليه ، ولكن قبل ذلك يمنع الانسان من الوقوع فى الخطأ " الأعراف 201 " آل عمران133-136 ". والتقوى تجمع فى ثناياها الايمان الصحيح بالله تعالى واليوم الآخر مع المداومة على عمل الصالحات أى العبادات والمعاملات.ولذلك لا يدخل الجنة الا المتقون. فالايمان وحده لايكفى ، والعمل الصالح وحده لايكفى. هذه هى التقوى كقيمة عليا فى الاسلام ومنهجه الخلقى والعقيدى والتشريعى .
فى المجال التشريعى تأتى التقوى فى سياق التشريعات نفسها وتاتى أحيانا منفصلة عنها باعتبارها قيما عليا فى حد ذاتها، فالأمر بالتقوى تكرر للنبى نفسه والمؤمنين وكان أحيانا يأتى فى مطلع السور"النساءـ الأحزاب ـ الحج ". وتأتىالتقوى فى سياق التشريع لتؤكد على ضرورة ربط التطبيق البشرى للتشريع الالهى باحياء الضمير والسمو بالنفس وتزكيتها وحسن العلاقة المباشرة بيى الانسان وربه الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، واذا كان يعلم ان الله تعالى يراه فلا بد له من أن يخشى الله تعالى ويسعى فى مرضاته جل وعلا. حتى لو كان بمأمن من السلطة البشرية والمراقبة البوليسية. من أجل هذا الدور السامى للتقوى فى التشريع القرآنى تجد الأمر بالتقوى يرصع آيات التشريع فيها جميعا. ونعطى مثالا واحدا: يقول تعالى فى تشريع الطلاق مؤكدا على حفظ حقوق المرأة" واذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أوسرحوهن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا. ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ، ولا تتخذوا آيات الله هزوا، واذكروا نعمة الله عليكم وما انزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شىء عليم "البقرة 231 " . الآية هنا انقست الى قسمين : الأول فى الأمر التشريعى وهو تخيير الزوج ـ الذى طلق زوجته وبلغت العدة وهى فى بيته ـ بين أن يحتفظ بالزوجة ويمسكها بشرط معاملتها بالمعروف ، وبين أن يتحول الطلاق ـ وهو فى التشريع القرآنى مجرد مهلة للمراجعة وليس انفصالا نهائيا ـ الى انفصال نهائى بأن يطلق سراحها ولكن أيضا بالمعروف ودون اضرار. وحتى لا يضمر الزوج ان يعيدها الى عصمته بقصد اذلالها يحذر التشريع القرآنى من ذلك ويجعله اعتداءا. وبعد مجىء التشريع بالأمر والنهى جاء القسم الثانى من الآية بالمقصد التشريعى مباشرة يشمل الانذار والوعظ والتحذير والتنبيه ومراعاة التقوى. نلمح هنا بسرعة الى التناقض بين تشريع الطلاق فى القرآن وتشريعه فى الفقه السنى ، وقد كتبنا فى ذلك من قبل. ونلمح أيضا الى أن فحوى الآية السابقة قد جاء مفصلا أيضا فى افتتاحية سورة الطلاق حفظا لحقوق المرأة ولكن التأويل السلفى أضاع تشريع القرآن وحقوق المرأة وحقوق الانسان.
وبعد التقوى المقصد التشريع الأعظم تأتى المقاصد التشريعية الأخرى من حفظ تماسك الأسرة ورعايتها، والتخفيف ورفع الحرج والتسهيل ، والعفة الجنسية.
كل تشريعات الأسرة فى القرآن تهدف الى حفظها وتماسكها كمقصد اسمى لتلك التشريعات ، ولكم العادة السيئة للفقه السلفى أن يركز على الأوامر ويترك القواعد والمقاصد. ففى موضوع الأسرة مثلا تأتى القاعدة التشريعية تؤكد على " وعاشروهن بالمعروف ، فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا.""النساء19" وتحت هذه القاعدة ياتى التعامل مع الزوجة التى تريد النشوز أى هدم بيتها مع تمتعها بكل الحقوق وقيام الزوج بالقوامة عليها ـ ومصطلح القوامة فى القرآن يعنى الرعاية والحفظ وتحمل مسئولية الزوجة والقيام بمتطلباتها بالمعروف ـ هنا يكون من وسائل حفظ البيت والأسرة تأديب الزوجة الناشز بالوعظ ثم بالهجر ثم بالضرب. وياتى التحذير من اساءة التطبيق فى هذا التشريع بظلم الزوجة المطيعة " النساء34"
وأيضا لسنا فى مجال التفصيل هنا وهو يحتاج الى بحث مستقل متكامل، ولكن حتى لا يفلت منا موضوع التأويل نقرر أن الفقه السلفى قد تجاهل القاعدة والمقصد التشريعى فى هذا الخصوص وركز فقط على "ضرب الزوجة".
فى موضوع العفة والاحصان الخلقى جاءت "الأوامر " التشريعية بغض النظر المحرم للرجال والنساء معا وعدم الأقتراب من مقدمات الزنا والحشمة فى زى النساء " النور30 -31 الاسراء 32". ركز الفقه السلفى على هذه الأوامر الى درجة التطرف فتحول الخمار الذى يغطى الصدر دون الوجه والشعر الى نقاب يعبىء المراة ويعلبها فى غلاف اسود كئيب ، وهو مزايدة محرمة على حق الله تعالى فى التشريع، وتضييع لشهادة المرأة ودورها فى المجتمع المسلم وتحريم لكشف وجهها وهو حلال فى الاسلام، وأيضا ليس هذا مجاله ولكن نؤكد هنا ان هذا التطرف بفرض النقاب أضاع المقصد الأسمى من أوامر العفة والاحصان. فالمعروف أن النقاب من اهم عوامل انتشار الانحلال الخلقى حيث تتخفى فيه المرأة وتفعل ما تشاء دون أن يتعرف عليها احد. واسألوا أهل الفكر السلفى ان كنتم لا تعلمون.
المقصد التشريعى بالتيسير ورفع الحرج اضاعه الفقه السلفى الحنبلى بتشدده وتزمته .
حتى العبادات : هى مجرد أوامرواجب علينا اداءها لبلوغ الهدف الأسمى وهو التقوى" البقرة - 183 -196 -197 ـ21"أو هى مجرد وسائل للتقوى نستطيع بها الابتعاد عن الفحشاء والمنكر" العنكبوت45" وهذا هو المعنى الحقيقى لاقامة الصلاة وايتاء الزكاة أى التزكى والسمو الخلقى بالتقوى. كل ذلك أضاعه التأويل السلفى حين جعل الصلاة والزكاة والحج أهدافا بذاتها، فاذا أديت الصلاة فلا عليك ان عصيت وستقوم صلاتك بمسح ذنوبك " ودى نقرة ودى نقرة " كما يقول المثل الشعبى المصرى، واذا تبرعت لبناء مسجد ولو كمفحص قطاة تمتعت بقصر فى الجنة. واذا أديت الحج رجعت منه عاريا.. آسف ... رجعت منع كيوم ولدتك الست ماما يابابا..وأكثر من ذلك ستدخل الجنة ـ غصب عنك ـ لأنك من امة محمد مهما فعلت. يكفيك أن تقول الشهادتين ثم تعيث فى الأرض فسادا. المهم أن التأويل السلفى حول العبادات الى تدين سطحى وحول الأخلاق الى مستنقع من النفاق والكذب والتدجيل. ونحن مشهورون بين الأمم بكل ما يشين بسبب ذلك .

أما علاقتنا بالآخرين فقد حولها الفقه السلفى من السلام الى العنف والارهاب والعدوان لنه ركز على الأمر وأهمل القاعدة والمقصد التشريعى.
فالامر بالقتال "قاتلوا " "جاهدوا " "انفروا "له قاعدة تشريعية وهوان يكون للدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله او بتعبير القرآن (في سبيل الله )،ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين ،كي يختار كل انسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش في سلام وامان حتي يكون مسئولاعن اختياره الحر يوم القيامة بدون اكراه فى الدين حتى لا تكون لأى بشر حجة امام الله تعالى يوم الدين.
ونعطى امثلة سريعة:-
يقول تعالي (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين :البقرة195) فالامر هنا (قاتلوا)والقاعدة التشريعية هي (في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين )وتتكرر القاعدة التشريعية في قوله تعالي (فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم :البقرة 194)اما المقصد او الغاية التشريعية فهي في قوله تعالي (وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين لله :البقرة 193)أي ان منع الفتنة هي الهدف الاساسي من التشريع بالقتال . والفتنة في المصطلح القرآني هي الاكراه في الدين أوالاضطهاد في الدين ،وهذا ماكان يفعله المشركون في مكة ضد المسلمين يقول تعالي (والفتنة اكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم ان استطاعوا :البقرة 217). وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة او الاضطهاد الديني يكون الدين كله لله تعالي يحكم فيه وحده يوم القيامة دون ان يغتصب احدهم سلطة الله في محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في الرأي، وذلك معني قوله تعالي (وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله : الانفال 39 ).
الذى حدث ان فقهاء السنة ركزوا فقط على الأمر بالجهاد والقتال" قاتلوا" واهملوا القاعدة التشريعية للقتال او المسوغ الوحيد لاباحته وهو ان يكون القتال دفاعيا فقط . وترتب على هذا أن أصبح القتال ليس فى سبيل الله تعالى لاقرار الحرية الدينية ومنع الاكراه فى الدين ، وليس لمجرد الدفاع الشرعى عن النفس ، بل أصبح لتشريع العدوان على الغير وجعله ليس فقط مباحا بل واجبا شرعيا باعتباره جهادا اسلاميا.
ومن الانصاف للفقهاء السلفيين ان نذكر بقية الصورة : لقد عاشوا فى العصورالوسطى التى كانت تتفاخر بالأحتلال والهجوم على الغير وتلك ملامح العصور الوسطى والعالم الى عهد قريب، ولم يكن العرب فى جاهليتهم بمعزل عن هذه الثقافة بل كانت لهم غاراتهم التى لاتنقطع وحيث كان تشريع السلب والنهب والبغى هو التدين الثابت. ولأن الاسلام فى معناه السلمى وقيمه العليا تأبى ذلك فانه كان منتظرا أن يكون جملة اعتراضية فى تلك العصور وكان لا بد أن يعود العرب الى ما ألفوه ولكن مع تغيير هائل وشائن ، هو استخدام اسم الاسلام ذاته فى الاعتداء على الغير الذى لم يعتد عليهم. وهذا ما فعلته قريش بعد موت النبى محمد فى اعتداءاتها التى حملت تعبير الفتوحات الاسلامية زورا وبهتانا. ثم قام المؤرخون بتسجيل سيرة النبى بعد موته بقرون – وبأثر رجعى - ووضعوا فيها كل ملامح عصرهم من قتال هجومى واغتيال سياسى وارهابى وانحراف خلقى. ثم قامت الأحاديث بنسبة تللك الصورة عبر الاسناد المزيف للنبى ثم جعلوه دينا سموه السنة وزعموا انها جاءت وحيا من الله تعالى. واصبح على الفقهاءـ وهم انفسهم فى الأغلب علماء حديث أيضا ـ ان ينشئوا تشريعا جديدا يخالف القرآن ويتصالح مع ثوابت العصر ، فقاموا بهذه المهمة ليس تحت لافتة التأويل وانما تحت مسميات ومصطلحات أخرى منها " الفقه" و"النسخ" و"السنة" الخ.
ولأن هذا ينافى التقوى وهى لب الاسلام والمقصد الأعظم لتشريعاته فانه جرى أيضا اهمال الاشارة الى التقوى او الخشية من الله تعالى .
وقد أشرنا الى ارتباط التشريعات القرآنية الدائم بالتقوى حيث يكون المسلم رقيبا على نفسه قبل أن يكون المجتمع او السلطة أو الضبطية القضائية رقيبا عليه. ومع هذا الاقتران بين التشريعات القرآنية والتقوى الاسلامية الا اننا لا نجد اشارة لها فى الفقه السلفى فى عصر الازدهار الفكرى، لا فى فقه العبادات أو المعاملات. وبحذف هذا الجانب الباطنى - او الروحى بالتعبير السائد – ركز الفقه السلفى فى ازدهاره الفكرى على التدين السطحى المظهرى وتجميع كل تفصيلاته الممكنة والمتصورة وفق المنهج الصورى السريانى فى الاستقصاء للحكم الفقهى. ثم انحدر الفقه السلفى فى عصوره المتأخرة والمتخلفة الىالدخول على التصورات السخيفة المستحيلة الحدوث والتى امتلأت بها كتب الفقه فى العصر العثمانى: مثل " ما حكم من حمل على ظهره قربة فساء ، هل ينقض وضوؤه أم لا؟... من جاع فى الصحراء ولم يجد الا جسد نبى من الأنبياء ، هل يجوز له الأكل منه؟ ...ماحكم من زنى بأمه فى نهار رمضان فى جوف الكعبة ؟ وماذا عليه من الأثم ؟؟ ....وما حكم من كان لقضيبه فرعان وزنى بامراة فى قبلها ودبرها فهل يقع عليه حد واحد أم حدان؟؟
كل ذلك لا زلت اتذكره من الفقه التراثى الذى كان مقررا علينا فى الأزهر الشرف جدا جدا وكان يخدش حياءنا حينئذ، ثم ظل مقررا على الجيل الذى اتى بعدنا بعد توسع الأزهرفى كل القرى المصرية دون اصلاح لمناهجه وفكره. ودخل فى الأزهر افواج من المراهقين فى تعليمه الآعدادى منهن فتيات قاصرات فى براءة الطفولة وحياء العذارى ونقاء الفطرة كان عليهن دراسة هذا الفقه القذر المتخلف, ولم يتم حذف سطوره الا بعد مقالات لى كوفئت عليها بالتكفير فى اوائل التسعينيات. ونمسك القلم عن المزيد حتى لا نخرج عن موضوعنا.

– على ان المحصلة النهائية لتأويل القواعد التشريعية القرآنية امتدت لتشمل : -
* عدم الاكتفاء بالقرآن الكريم مصدرا وحيدا للتشريع الاسلامى ، فأضافوا اليه مصادر اخرى له ابتدعوها مثل الاحاديث والاجماع والقياس والمصالح المرسلة وبعضها كان ستارا للتأويل او الغاء النص القرآنى مثل سد الذرائع الذى استطاعوا به تحريم وجوه
كثيرة من الحلال .
** كثرة وسهولة انتاج الكثير من المصطلحات الفقهية ، وبعضها كان من مصطلحات القرآن ولكن حرفوا معناها مثل الحدود التى تعنى فى القرآن الكريم الشرع والحق فجعلوها تعنى العقوبة, وقاموا بتحوير بعض المصطلحات القرآنية لتكون نقيض معناها القرآنى ، مثل النسخ ـ وقد أشرنا اليه ـ والتعزير الذى يعنى فى القرآن التقديس والمؤازرة والتأييد فجعلوه فى الفقة يعنى الاهانة والعقوبة.
*** كثرة وسهولة الوضع فى الاحاديث ، وكثرة وسهولة استعمال كلمة( يسن) فى تشريع الفقهاء ، هذا عند الفقهاء من مدرسة الاحاديث .
ويقابلها لدى الفقهاء من مدرسة الرأى من الاحناف اختراع فقة الحيل اى اخترعوا حيلا شرعية يمكن بها تجاوز التشريعات القرآنية ، فإذا اقسم رجل على ان ينام بزوجته فى نهار رمضان قالو له ( سافر بها ) فإذا سافر بها اصبح يجوز له ان يفطر ومن ثم يحق له ان ينام معها فى نهار رمضان ، وتخصصت كتب كثيرة فى فقة الحيل وافانينه .
كل ذلك تأويل وتعطيل لشرع الله تعالى ، وبدأهذا بالأساسيات وانتهى الى التفصيلات ، وعن طريق ذلك التأويل قام الفقهاء السنيون بتطويع النصوص القرآنية لتوافق هواهم. لم يستعملوا لافتة التأويل وإنما قاموا بالتأويل الفعلى والتحريف لتشريع القرآن الكريم تحت مصطلحات اخرى .

خامسا :- التأويل المعاصر بين السلفية ونصر حامد ابو زيد

1- ان السياسة هى السبب فى ظهور التأويل لدى المسلمين، اذ حاولت كل فرقة ان تدعم وجهة نظرها السياسية بالتأويل اى بتطويع نصوص القرآن واختراع نصوص مقدسة ينسبونها لله تعالى او للنبى ، وذلك لكى يحصل على مشروعية دينية ، ثم اصبح ذلك عادة سيئة لدى الطوائف غير السياسية مثل الصوفية والفقهاء ، وهذا هو مجمل تاريخ المسلمين وتاريخ الفكر الدينى لديهم طيلة العصور الوسطى .
ثم قامت فى مصر الدولة الحديثة فى عهد محمد على وبدأت فيها استنارة دينية بلغت ذروتها فى فكر الأمام محمد عبده الذى اتجه للقرآن اساسا واحتكم اليه فى مشاكل الفكر الدينى للمسلمين ، وحاول ان يضع ايدولوجية مستنيرة للدولة المصرية المدنية، ولكن من سوء الحظ أن ضاع جهد محمد عبده التنويرى. اضاعه تلميذه السلفى رشيد رضا، وقد كان رشيد رضا عميلا للدولة السعودية، وقد ادرك عاهلها عبد العزيز آل سعود انه لا استمرار لدولته السعودية الثالثة بدون الاعتماد على مصر كى تكون عمقا استراتيجيا له وليستعين بمصر ضد خصومه الشيعة داخل دولته وحولها . ولكى تصبح مصر عمقا له لابد ان يتحول تدينها الاسلامى وفكرها الدينى من التصوف السنى والاعتدال الى السلفية الحنبلية الوهابية السنية ، ونجح رشيد رضا فى نشر الفكر السلفى الوهابى من خلال الجمعية الشرعية وأنشأ عن طريق اعوانه جمعيات سلفية اخرى فكرية وحركية ثم كان الاب الشرعى لحركة الاخوان المسلمين السنية .
ثم جاء عصر النفط –ضمن عوامل سياسية اخرى- فأتيح للفكر السفلى ان يتسيد ، وان يقدم نفسه على انه الممثل الشرعى للاسلام ذاته .
ومن الطبيعى ان توجد مقاومة مضادة حمل لواءها الفكر العلمانى الذى يحاول جناح منه عدم اقصاء الاسلام جملة وتفصيلا حتى لا يترك الساحة للسلفيين الوهابيين. لذا قام هذا الجناح بانتاج فكر اسلامى يواجه الفكرالسلفى ، ومن الطبيعى ايضا ان تتسع المواجهة السياسية والفكرية بين الفريقين السلفيين والعلمانيين ، وترتب على ذلك استقطاب حاد بين الاتجاهيين ، وذلك الاستقطاب الحاد ادى الى تهميش اتجاهات فكرية دينية اخرى على الساحة ، مثل الاتجاه التنويرى القرآنى الذى بدأه الامام محمد عبده والاتجاه الصوفى ـ الذى يتميز بالسلم وان كان مثقلا بالخرافة والجهل ـ والاتجاة الجنينى للفكر الشيعى داخل مصر . كما ادى ذلك الاستقطاب الى وقوع الاتجاهين المتصارعين فى التطرف الفكرى معا . وانعكس هذا على موقفهما من التأويل .
2-وندخل بذلك على الفرق بين تأويل د. نصر حامد ابو زيد ممثل الاتجاه العلمانى وتأويل السلفيين .
فالسلفيون يرفضون التأويل فى الاصول شأن السابقين من اهل السنة ، وان تطرف الوهابيون وانكروا تماما وجود المجاز فى القرآن .
وبهذه المناسبة حدثت هذه القصةالتى كان المجتمع الآزهرى يتداولها فى الثمانينيات: الشيخ عبد العزيز بن بازالمفتى الوهابي المشهوراستضاف بعض الاساتذة المصريين المعارين للمملكة السعودية ، واستعرض امامهم سطوته الوهابية واكد لهم انه ليس فى القرآن مجاز وان كل لفظ فى القرآن على حقيقتة ، والمعروف ان الشيخ ابن بازكان ضرير البصر ، فتصدى له استاذ مصرى هو" الدكتور الحوفى"الاستاذ المشهور وقتها فى كلية دار العلوم – وكان معارا للسعودية وحضر هذا اللقاء ولم تكن منزلته تسمح له بالسكوت على الجهل الذى يسمعه متحصنا بقوة الريال.أندفع الدكتور الحوفى وقال له: اذا يا فضيلة الشيخ فأنت من اهل النار لان الله تعالى يقول " ومن كان فى هذه اعمى فهو فى الاخرة اعمى واضل سبيلا ) وسكت الشيخ ابن باز ثم قال اخيرا ( لقد افحمتنى ويلغى عقدك) !!
والجدير بالذكر ان مصطلح " اعمى " جاء فى القرآن بمعناه الحقيقى فى سياق التشريع الذى يأتىبأسلوب محدد واضح، كقوله تعالى ( ليس على الاعمى حرج : النور 61 ، الفتح 17) ويأتى نفس المصطلح فى سياق الدعوة بالاسلوب المجازى ليعنى الضلال والعمى القلبى ، كقوله تعالى ( صم بكم عمى فهم لا يعقلون : البقرة 171 )

وهذا التطرف السلفى فى رفض المجاز فى القرآن يؤكده تطرف سلفى اخر فى رفض كل مالا يتفق مع مقولات ابن تيمية فى الحياة العصرية ومنجزاتها ومكتشفاتها وآرائها، كان منها رفض ابن باز لكروية الارض ودورانها حول الشمس وهبوط الانسان على القمر.
وهذا التطرف السلفى يواجهه تطرف اخر فى التأويل العلمانى الذى ظهر مع مؤلفات د. نصر ابو زيد اذ قال بالتأويل فى الاصول والفروع معا ، حيث قال بتأويل السمعييات الغيبية فى حديثة عن العرش والجن كما قال بتأويل التشريعات القرآنية حين ربطها وقصرها على مواقع النزول وجعلها مقصورة فى التطبيق على عواملها الاجتماعية التى صاحبت نزول القرآن, ومن هذا المنطلق دعى الى مساواة المرأة بالرجل فى الميراث ، كما خاض فى موضوع خلق القرآن ليس على اسس مذهب الاعتزال ولكن ليصل به الىالقول بأن القرآن منتج ثقافى تأثر بعصره وذلك يعنى فى مفهوم خصومه انكار القرآن والتهوين من الاعتماد على تشريعه حيث يرتبط بظروف نزوله وثقافة عصره .
الا ان هذا التطرف الفكرى لدى نصر ابو زيد نجا من خطيئة كبرى وقع فيها الفكر السلفى والسنى اذ ان نصر ابو زيد لم يجعل لهذا الفكر مرجعية دينية ، وانما قال انه اجتهاد بشرى يقبل الخطأ والصواب ، اى سار على طريق المعتزلة والفلاسفة المسلمين العظام من الهذيل والعلاف الى ابن رشد ، ولكن عرفنا ان تطرف التأويل لدى السنيين والسلفيين حمل زورا مرجعية دينية ، اى تجعل المخالفين لهم مخالفين للاسلام .

3- وكما رددنا على تأويل السابقين فإننا نلمح بإختصار الى الرد على التأويل الذى قال به نصر ابو زيد ، فالصحيح ان للفكر الدينى وغير الدينى عند المسلمين وغيرهم جذورا اجتماعية ، وسياسية ونفسية ، لانه فكر ارضى بشرى يتأثر بالظروف الزمنية والمكانية والشخصية لاصحابه ولكن لا ينطبق ذلك على الكتاب السماوى الذى نزل من السماء لأصلاح اهل الارض، وليس للتأثر بأهل الارض .
صحيح ان الوحى الالهى يتشابك مع حادثة ارضية ويقوم بالتعليق عليها ، وهذا ما يعرف بأسباب النزول ، ولكن السياق القرآنى فى هذه المواضع يقوم بتحويل الحادثة المرتبطة بالزمان والمكان والاشخاص الى حالة بشرية عامة ويجعلها عظة تدور فوق الزمان والمكان ، اى يخلصها من اسر الواقعة التاريخية ويحررها من ذلك الارتباط الزمانى والمكانى لتكون صالحة للتطبيق والعظة فى كل زمان ومكان ، وهذا هو منهج القرآن الكريم فى القصص عموما وفى التعليق على الاحداث التى جرت فى عهد النبىمحمد و غيره من الأنبياء ـ عليهم السلام. القصص القرآنى لا تجد فيه ذكرا للأسماء والاشخاص او الزمان او المكان ، كى تتحول القصة من التاريخ المحدد الى التشريع والعظة وبذلك يظل النص القرآنى والتشريع القرآنى سارى المفعول فى كل زمان ومكان . وهذا ما فصلناه فى كتابنا " البحث فى مصادر التاريخ الدين " والذى قررته على طلبتى فى الأزهر سنة 1984.
وصحيح ان التشريعات القرآنية جاء بعضها مرتبطا بظروفه الزمنية والمكانية وذلك فى التشريعات الخاصة بالنبى وزوجاته وتعاملاته مع اصحابه، ولكن التشريعات العامة جاءت فى سياق يؤكد سريانها فوق الزمان والمكان وفى اطار قواعد تشريعية ملزمة ، وجاء فى سياقها الاستثناءات الخاصة بها ، والمقاصد التشريعية التى تطبق من خلالها.
فالتشريع القرآنىله مقاصد عامة وهى ( القسط ، والتخفيف ورفع الحرج ) وله قواعد عامة ملزمة فى القتل والقتال ( القصاص ، ورد الاعتداء ) وهذه القواعد تدور فى اطار المقاصد العامة السابقة كما ان هذه القواعد تدور فى اطارها الاحكام التفصيلية وذلك موضوع شرحة يطول .
ولكن المهم ان الذى يتصدى لفهم التشريع القرآنى عليه قبل ذلك ان يتعرف على مصطلحات القرآن نفسه من داخل القرآن ، وان ينظر من خلالها للتراث وليس العكس لان الذى يحدث هو ان يدخل الباحثون- قديما وحديثا – على القرآن بمفاهيم التراث وبأحكام مسبقة ، ثم يأخذون من القرآن ما يوافق هواهم اى بالتأويل ولديهم تلك المقولة التراثية القائلة ان القرآن (حمًال اوجة) وهى مقوله منسوبة للأمام على بن ابى طالب, ولم تكن الثقافة السائدة فى عصر "على" تحتمل هذا المنطق ، خصوصا وان ثقافة الصحابة القرآنية تجعلهم يحجمون عن اتهام القرآن بأنه "حمًال اوجة " لان الله تعالى يؤكد على ان القرآن كتاب مبين وانه كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " وانه لا عوج فيه" وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

ولكن المشكلة لدى نصر ابو زيد ليست انه لم يتفهم مصطلحات القرآن فقط بل انه ايضا لم يتفهم تاريخ المسلمين وهو الارضية التى نبتت فيها فكر المسلمين واختلافاتهم وبذلك تركز بحثة على السطح الخارجى للاراء, وكان اولى به وهو يؤمن بالظروف الاجتماعية والتاريخية للنصوص ان يتعمق فى دراسة الواقع التاريخى والاجتماعى ، ولكنه لم يفعل . وقد قمنا عنه بهذه المهمة فى كتبنا ، وخرجنا بالاعتقاد التام فى ان القرآن فوق التأثر التاريخى وان فكر المسلمين هو النتاج الحقيقى لظروف المسلمين التاريخية وقد اوضحنا هذا فى دراستنا الاولى فى الدكتوراة عن " اثر التصوف فى مصر العصر المملوكى " واكثر من عشرين مؤلفا منشورا ومن خلال هذه المؤلفات المنشورة وغير المنشورة اوضحنا الفجوة الهائلة بين الاسلام والمسلمين وبين الاسلام وفكر المسلمين الدينى .
وبهذه المناسبة فإن كتاب د. نصر ابو زيد عن الشافعى يقرر فيه ان فلسفة الشافعى قد بناها على الصراع والعداء الذى قام بين الشافعى والدولة الاموية ,والمؤلف يفترض ان الشافعى قاوم الدولة الاموية وعانى من سطوتها والمؤلف لا يدرك ان الشافعى ولد بعد انهيار الدولة الاموية بثمانية عشر عاما ، اذ ولد الشافعى سنة 150 هــ وتوفى سنة 204هــ خلال الدولة العباسية فكيف تصارع مع الامويين وتأثر فى فلسفته الوسطية بهذا الصراع.
ومع هذا فأن للدكتور نصر ابو زيد وغيره تمام الحرية فى البحث وفى الرأى وقد دافعت عن حريته فى البحث بأكثر من عشرمقالات وبكتاب عن الحسبة يؤكد ان الحسبة ليس لها اصل فى الاسلام .

وتبقى عدة محددات لنتذكرها

الدين شىء والفكر الدينى شىء اخر ، الدين اوامر ونواهى ومعتقدات ، والتمسك بها او الابتعاد عنها مسئولية شخصية والحساب عليها لله تعالى وحده يوم القيامة . وهذا الدين ينزل كتابا سماويا ليس له مؤلف من البشر ولكنه وحى الهى يقوم النبى بتبليغه وخاتم النبيين جاء بالقرآن محفوظا الى قيام الساعة.
العادة ان تقوم الفجوة بين الدين السماوى وما يفعله الناس ويقوم الشيوخ بتغطية هذه الفجوة بالتأويل وباختراع نصوص بشرية ينسبونها للنبى او لله تعالى ، ويجعلون لها قدسية ومرجعية زائفة وبذلك يتحول الفكر الدينى الى دين .وهذا ما فعله الشيعة والسنة والصوفية وغيرهم . ولكن تبقى الحقيقة الثابتة فى ان الدين هو كلام الله فى الكتب السماوية واخرها القرآن المنزه عن التحريف ، ويبقى الواقع التاريخى والانسانى فى ان كلام البشر هو كلام انسانى له مؤلفون من الائمة ، يقبل النقاش والخطأ والصواب ، وان اولئك الائمة لا يملكون شيئا يوم القيامة, وان الله تعالى صاحب الدين سيحاسبهم كما يحاسب سائر الناس, اى انهم انهم ليسوا اصحاب دين وانما هم اصحاب مذاهب فكرية بشرية .
ان اخطر ما نقع فيه هو ان نخلط بين الدين الالهى والفكر البشرى ونجعل لفكر البشر قدسية ونجعل لأصحابه عصمة وتأليها ، وايضا من اخطر ما نقع فيه هو ان نصدق تلك المرجعية المزيفة وهى ان ذلك الفكر قد قاله النبى فى تلك الاحاديث سواء ما كان منها سنيا اوشيعيا او صوفيا ، ان الخطورة هنا تقع على الاسلام ، اذ يحمل أوزار المسلمين ويصبح محصورا فى زمان بعينه وثقافة بعينها , ومن ثم لا يكون صالحا لكل زمان ومكان.
ان الاسلام يحتاج الى من يعانى فى سبيل اظهارحقائقه وقيمه العليا ويحتاج الى من يدافع عنه ضد أولئك الذين يشوهون صورته ومبادئه. وأفظع خطيئة يقعون فى حضيضها هى سعيهم لاقامة دولة سلفية على أساس هذا الآفتراء الذى يشين الاسلام العظيم ، ليضيفوا خطيئة أخرى الى خطاياهم.
ان تطبيق التشريع السلفى ليس فقط حكما ما أنزل الله تعالى به من سلطان ، بل هواعلان حرب على الله تعالى ورسوله لابد وأن يقابل بالعقاب الآلهى. وانظر حولك لترى هذا العقاب يحل بالمسلمين وحدهم مع ثرائهم وتاريخهم وكثرتهم.
ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم..!!!
د. أحمد صبحى منصور



#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المسكوت عنه من سيرة عمر
- التسامح الاسلامى بين مصر وأمريكا
- حريات لا يحميها القانون المصرى :
- نداء الى على سالم : لماذا لا ترشح نفسك لرئاسة الجمهورية المص ...
- القرآن وكفى مصدرا للتشريع
- اكذوبة الرجم فى الحديث
- رسالة الى شيخ الازهر


المزيد.....




- 82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
- 1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
- أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
- غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في ...
- بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد صبحى منصور - التأويل