سليمان سمير غانم
الحوار المتمدن-العدد: 3702 - 2012 / 4 / 19 - 20:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
التجسد في الديانة الهندوسية و المسيحية هو أسطورة الإله الانسان. يقصد بالتجسد ظهور أحد الألهة بشكل بشري عند الشعوب التي تعتقد بوجود ألهة متعددة, أي أن يأخذ الله الموجود بشكل غير مادي شكلا ماديا, و خاصة شكل الجسد البشري , فيظهر بمظهر انسان بلحم ودم , وبالوقت نفسه كونه إلها فهو إله انسان .
هذه الفكرة نشأت بوضوح كجزء من الديانة الهندوسية, التي يؤمن أتباعها بأن الاله (فشنو) المظهر الأخرللاله لبرهمان, باعتبار برهمان : أي الله في الهندوسية واحد ذو ثلاث مظاهر : براهما , وشنو , شيفا. و قد ظهر في الهند في عدة فترات زمنية بشكل انسان متجسد , كان أخرها بشكل (كريشنا) النبي الذي جاء الى الهند حوالي خمسمائة سنة قبل ميلاد المسيح بن مريم و حتى اليوم ينظر إليه الهندوس على أنه إله متجسد.
إن فكرة تجسد إله في شكل إنسان أخذت العمق الأبعد و الأوضح في الديانة المسيحية, فنراه عبر قصة المسيح الذي تجسد كاله مخلص للبشر, صلب و مات, ثم قام من موته و صعد الى السماء. ان السؤال الأكبر الذي يفرض نفسه لتحليل قصة الاله المتجسد و الذي يجب أن يطرح هو طبيعة الجو أو الوسط الاجتماعي والفكري الذي عاشت فيه المسيحية في بداياتها. خصوصا عندما نعرف أن الكنيسة تعتبر المسيح بن مريم في الحقيقة إله, أو ابن الله الذي هو واحد في جوهره مع الله, تجسد وتأنس و ظهر بلباس بشري لتخليص بني البشر و نجاة الانسان , فعيسى في نظر الكنيسة إله انسان. و لتحليل الظاهرة بشكل منطقي و بالمرور على الثقافة اليونانية, نرى أن هذه الثقافة كانت مسيطرة في المنطقة زمن انتشار المسيحية, فنرى أغلب الأدبيات المسيحية من الأناجيل, الرسائل, النصوص المسيحية المقدسة كانت قد دونت أول ما دونت باللغة اليونانية. أيضا نلاحظ أن انتشار الدعوة المسيحية كان قد تم زمنيا في العصر الروماني وفي زمن متأخر بدعم من أباطرة الرومان أنفسهم في القرن الرابع الميلادي كقسطنطين الأول المتنصر و الامبراطور تيودوسيوس الأول.
إن الاعتقاد بتجسد الألهة كان موجودا في الشرق الأدنى القديم في الفترة اليونانية, و لدينا أمثلة كثيرة عن نظرة الشعب اليوناني و تقديسه للفلاسفة كفيثاغورث, أمفيدوكلس, أو للملوك كتقديس الاسكندر الأكبر على أنهم في الحقيقة ألهة أو أبناء ألهة متجسدين. و لوضوح الروؤية نرى في العهد الروماني ما قبل المسيحية أن كلمة مخلص كانت قد أطلقت على الكثير من أباطرة الرومان كأغسطس و يوليوس قيصر ونيرون. و بشكل أوضح يوليوس قيصر الذي كان يلقب ( بمظهر الله) وابن أريز و الالهة أفروديت.
من المواضيع المهمة والتي تلقي الضوء على فكرة التجسد في اللاهوت المسيحي الذي تأثر بطقوس الثقافة الرومانية هي اختلاف معنى كلمة ابن الله في اللغة الأرامية أو العبرية لغة الشرق في تلك الفترة التي عاش فيها المسيح عن مفهوم اللفظة في اللغة اليونانية القديمة التي دونت بها الأناجيل الأربعة و الرسائل النصرانية الأساسية في العقيدة المسيحية. ففي حين تعني اللفظة بلغة المسيح الأرامية و اللغة العبرية أكثر من معنى مجازي يدل على صاحبها كشخص بار , متق, محبوب من الله , اجتباه الله , اصطفاه لنفسه, و بين ما تحمله هذه اللفظة في اللغة اليونانية من معنى حرفي أي الابن المولود فعلا من الله, أو المنبثق منه, و بالتالي يكون من جوهر و طبيعة الله نفسه, حيث أن الثقافة الوثنية اليونانية كانت مليئة بالاعتقاد بألهة لهم أولاد ولدوا منهم على نحو حقيقي و هذا واضح في الأساطير اليونانية.
في اليونان أيضا كان الملوك والفلاسفة دوما ينسبون أنفسهم إلى الاله هرقل أو الاله اسكليبيوس إله الطب. و لقد صارعت الكنيسة كثيرا في بداياتها للتخلص من تأثيرات الفكر اليوناني. فمثلا في اليونان أله الناس فيثاغورث و اعتبروه تجسد للإله هرمس الذي يملك سهولة إعادة سلسلة من التجسدات الجديدة, أيضا ادعى تلاميذ فيثاغورث بعد موته أن أستاذهم كان الإله أبوللو و هذا ما نقله عنهم أرسطو نفسه في كتاباته.
في اليونان نفسها أله الاغريق الفيلسوف أمفيدوكلس و رددوا قوله بينهم (أيها الناس اني أتجول الأن بينكم كاله خالد و لست بعد الأن انسانا بشرا) ولقد إستجاب له الناس و صاروا يعبدونه و يصلون له كإله.
في الثقافة اليونانية أيضا كانت قصة أو أسطورة ولادة أفلاطون من دون أب شيئا خارقا للطبيعة بنظر الأغريق, هذا ما جاء في كتاب السير اليوناني للمؤرخ الكلاسيكي بلوتارك, و الذي يذكر في كتابه ( الحيوات) أو القوات المحيية, سلاسل أنساب و قصص ولادات خارقة للطبيعة تمت لحكام بارزين أو لمؤسسي المدن في الأساطير الاغريقية, أحد أولئك كان الاسكندر الأكبر, الذي كان حسب كتاب بلوتارك سليلا لهرقل من ناحية والده فيليب, أما من ناحية والدته أولمبياس كان سليلا لأبطال طروادة الأسطوريين, النص يقول بأن الحمل كان قد تم نتيجة مضاجعة أحد الألهة الذي اتخذ شكل ثعبان لوالدة الاسكندر وأن أحد الكهنة من وسطاء الوحي كشف أن ذلك الثعبان لم يكن إلا الإله زيوس. اذا ان فكرة تأليه انسان على قيد الحياة كان تطورا جديدا في اليونان القديمة تماما وربما لعب الزمن الهلينستي هذا الدور لما فيه من اختلاط بين المعتقدات و الثقافات الشرقية مع الثقافات و المعتقدات اليونانية تفاعلت و اختمرت زمنيا للخروج بهذا الشكل الذي تجسد في قصة الاسكندر الانسان و الاله في حياته و مماته.
لقد كانت مميزات الألهة اليونانية قبل الاسكندر هي1. البقاء و عدم الفناء.2.عدم القابلية للفساد أي التفسخ والانحلال الجسمي
.3.الأصل و المنشأ الالهي. أما بعد الاسكندر فنرى أن المفهوم قد تغير تماما. حيث نرى تأليه أشخاص في حياتهم و بعد موتهم و فنائهم. نرى ذلك بوضوح في قصة عدد من قواد الاسكندر الذي ألهوا أنفسهم من بعده و عبدوا في ممالكهم كبطليموس و أرسينويس الذي نودي بهما ألهة مخلصة في بلاد اليونان بعد وفاة الاسكندر.
في الزمن الروماني أيضا كما في الزمن الإغريقي حيث كان ملوك اليونان ممثلين للرب زيوس, أو الإله أبوللو. فنرى قياصرة الرومان يحملون لقب(المخلص) ولقد أطلق هذا اللقب على الأباطرة أغسطس , قيصر , نيرون.
أما الامبراطور كلوديوس قيصر الذي كان معاصرا لعيسى المسيح فبالرغم من رفضه أن ينصب نفسه الها, الا أن رعاياه البريطانيين كانوا يعبدون كاله.
اذا كان الجو اليوناني المتهلين الأكثر تأثيرا في فكرة وجود اله متجسد بشكل البشر, هذا كله كان أحد النتائج الطبيعية للفكر الميثولوجي اليوناني الذي دون بداية مع الشاعر هوميروس كمرويات شفهية أقرب الى اللغة الشعرية و الذي تبلور الى أعمال أدبية يونانية خالدة كالألياذة و الأوديسة عماد الأدبيات و الأساطير اليونانية, فمثلا نجد في ملحمة الأوديسة العبارات التالية ( ويل لك: اذا هبط اله من السماء. نعم, و الهلة يأتون من بعيد بشكل غرباء, و يلبسون كل نوع من الأشكال, و يزورون المدن).
في بداية التبشير بالدعوة المسيحية و انتشار العقيدة الجديدة نقرأ الكثير من رواسب الفكر الهليني في التعاطي مع الشخصيات و الظواهر, نقرأ مثلا في سفر الأعمال الاصحاح رقم 14 أن أهالي مدينة ليكأنية اعتبروا بولس و برنابا اللذان كانا يبشران بالمسيح و يعلمان الديانة المسيحية في المدينة بأنهما الهين متجسدين, فأطلقوا على برنابا لقب زيوس, بينما لقبوا بولس بهرمس.
في القرن الثاني الميلادي كتب لوشيان السمسياطي العديد من الوثائق التي تتحدث عن وجود مدعي نبوة و ألوهة في الوسط الثقافي الروماني في فلسطين. أيضا في بدايات القرن الثالث كتب الفيلسوف اليوناني فيلوستراتوس كتاب (حياة أبولينوس) و موضوع الكتاب كان يتحدث عن الفيلسوف الفيثاغورثي أبوللونيوس التيانوي الذي حاز اعجاب الناس في زمنه و بسبب زهده و تقشفه و معجزاته التي أظهرها عده بعضهم الها و من الجدير بالذكر أن نفس الفيلسوف كان قد اطلع على فكر الهندوس خلال زيارته للهند. فيما بعد نجد أن أقرب كتاب أو فكر مشابه لقصة المسيح في الثقافة الهيلنستية هو الفكر الموجود في كتاب حياة أبوللونيوس و خصوصا عندما نعلم أنه تضمن الكلام عن اله متجسد بشخص أبوللونيوس و يتصف بعدة صفات تشبه صفات المسيح كما تعرضها الأناجيل ألا و هي 1.ولادته الاعجازية من دون أب. 2.الهية أصله .3.صفاته فوق الطبيعة .4. اختفاؤه بعد موته .5. قيامه حيا من بين الأموات.
في الفكر الميثولوجي أيضا للعهد القديم نرى أن لفظة ابن الله أطلقت على رجالات بني اسرائيل ك الملك داؤود, أو ابنه الملك سليمان, وأيضا استخدمت اللفظة لتشمل المنتمين لبني اسرائيل بوصفهم أبناء الله.
في نفس الفكر الديني للعهد القديم أطلق على البررة من بني اسرائيل أبناء الله و شاعت فكرة خروج مسيح مخلص من نسل الملك داؤود يكون ابنا لله, و هذه الفكرة موثقة في مزامير داؤود (اني أخبر من جهة قضاء الرب, قال لي أنت ابني, أنا اليوم ولدتك) مزمور 2 فقرة 7.
هذا المزمور أصبح فيما بعد من دعائم الكنيسة في فكرة اثبات أن المسيح هو ابن الرب, الذي دعم أيضا مع المزمور الأخر من مزامير داؤود والذي يقول فيه (أنت ابني, أنا اليوم ولدتك) مزمور 100 من الفقرة 3.
في نفس الفترة الزمنية كان الفكر الغنوصي أيضا منتشرا بشكل كبير في الشرق و الغنوصية كمعنى هي طريقة لتعلم أسرار الدين عن طريق الاشراق الروحي و الاستعداد النفسي لتلقي الطقس أو السر الديني الذي يشير الى أحد الأرباب بطريقة رمزية و سرية ضمن المجموعة التي تتبع الطقس. و بما أن المدرسة الأفلاطونية الحديثة في الاسكندرية وغيرها كانت في عز قوتها و فكرها في تلك الفترة خصوصا فكرة أفلاطون في الفيض الالهي, أي أن الأشياء تفيض عن الاله, وأن الخلاص والنجاة الأبدية يتم منحها عبر الدخول في تماثل و اندماج روحي صوفي (باطني) باله هبط الى الدنيا ثم صعد منها الى السماء ثانية. فليس من المستبعد أن يكون هذا الفكر قد قاد الى أن المسيح بن مريم هو أكمل الفيوضات التي خرجت عن الله في ذلك الزمن, وأن الجو الثقافي و الروحي كان مستعدا لتقبل مثل هذه الأفكار و لذلك نرى الوسط المسيحي تقبل فكرة وجود أو خلق المسيح من دون أب بالمعنى المادي و تم اعتباره ابن الله من قبل معتنقي العقيدة الأوائل. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو من الذي أثر في الأخر المسيحية أم الحركات الأخرى؟ و الاحتمال الثاني هو الأقرب للمنطق. يقول أستاذ العهد القديم أ.د. نورك ( ان تأثير شخصية عيسى , بلور عناصر كانت موجودة من قبل ) و هنا الأسئلة التي تبقى معلقة و بحاجة الى الكثير من التقصي والبحث و السؤال الأهم هل كان المسيح ابن مريم يهوديا موحدا ولكن وجوده في الوسط الثقافي الهيليني أدخل فكرة الاله المتجسد الى ديانته؟ أم أن الفكرة كانت أصيلة في عقيدته لأننا لم نر أي نص عن لسان المسيح يدعي فيه أنه الإله, حتى تلاميذه المقربين لاتوجد أقوال منسوبة له تشير بوضوح الى أن المسيح ادعى الربوبية. لكن من ناحية أخرى فكرة فكرة التجسد وجدت حتى في زمن أجداده من الأنبياء ففي العهد القديم نعلم أن الثلاثة الذين زاروا ابراهيم الخليل في الخيمة ليبشروه بقدرته على إنجاب ولد كانوا و بحسب العهد الجديد كانوا هم الله نفسه متجسدا بثلاثة أشخاص. وهنا لا بد من التدقيق في الفكرة, لأنه حتى لو كانت الفكرة موجودة في زمن ابراهيم لا نستطيع إغفال الدور الذي لعبه الرسول بولس اليهودي المتأثر بالفكر اليوناني في تاريخ الدعوة المسيحة ولا نستطيع انكار دوره في التبشير و في كتابة الرسائل و الأناجيل باللغة اليونانية .
ان اللافت في الموضوع من كل ما تقدم هي ملاحظة أن أباء الكنيسة عملوا كل ما بوسعهم في القرون الميلادية الأولى لتخليص الكتاب المقدس من الأساطير و محاربة الفكر اليوناني الوثني, لكنهم في نفس الوقت جعلوا عماد كتابهم الجديد الانجيل أسطورة خارقة للطبيعة و لقوانين الطبيعة المادية و هي قصة اله متجسد و طفل ولد من دون أب !! لذلك نستطيع القول أن من يقومون في أغلب الأحيان بمحاربة فكر ديني محدد أو أسطورة محددة لا يقومون بذلك من أجل العقلانية أو احقاق الحق بل من أجل ترسيخ أسطورتهم و جعلها الوحيدة المتحكمة أو القادرة على التحكم في الجماعات البشرية مع تدمير باقي الأساطير و ذلك من أجل التفرد بالسيطرة على المجتمع وادارته بشكل مطلق عبر الأسطورة الجديدة التي تشد الناس الى مركز واحد له مصلحة في التحكم و السيطرة كما هو الحال الواقع في كافة الأديان بصورة عامة. هنا لابد من القول أن الخطر و السلبية في هذا المجال لا يكمن فقط في الفكر بل في أن تكون أسطورة غيبية و خارجة عن قوانين العلم المادي هي الحاملة للتاريخ بكل ما فيها من لا عقلانية و لا منطق, الأمر الذي بدروه سينعكس بنتائج سلبية على واقع المجتمع الذي تحكمه القوانين العلمية و المنطقية و هو ماظهر جليا في محاكمة غاليليوالايطالي من قبل الكنيسة الكاثوليكية في محكمة جسدت رمزيا الصراع بين الفكر الغيبي الأسطوري و الواقع العلمي المادي و كيف كانت الغلبة بعد قرون للعلم و للعقل فقط و باعتراف الكنيسة نفسها في روما.
#سليمان_سمير_غانم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟