|
الأنفال نص ديني مقدس أم سُلَّم للجريمة ؟ مع آلام ذكراها
صادق إطيمش
الحوار المتمدن-العدد: 3701 - 2012 / 4 / 17 - 21:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الأنفال نص ديني مقدس أم سُلَّم للجريمة ؟ مع آلام ذكراها قبل عدة سنين تقدم سجين محكوم عليه بالسجن لمدة عشرين سنة في احدى المدن الرومانية إلى المدعي العام في تلك المدينة بشكوى قضائية ضد الله . وقد برر حيثية الدعوى هذه بما يلي : كنت قد تعاقدت مع الله في طفولتي أثناء طقوس التعميد بأن يحفظني الله من كل سوء يعترضني في حياتي . والآن وقد دفعني مسار حياتي إلى إرتكاب الجريمة التي هي شيئ سيئ بلا جدال ، فإن ذلك يعني ان الله هذا لم ينفذ بنود العهد الذي سبق وإن إتفقنا عليه ، وهذا يعني قضائياً ألإخلال بالعهد المتفق عليه ضمن عقد التعميد مما يستوجب إحالة المُخل بالعهد إلى القضاء والإقتصاص منه بسبب ذلك . المدعي العام ادرج الدعوى في سجلاته ولم يعترض على حيثياتها . إلا انه بعد فترة وجيزة اعاد الدعوى إلى المشتكي رافضاً إتخاذ الإجراءات القانونية للإستمرار بها معللاً ذلك بأن المُشتكى عليه ليس لديه عنوان بريدي ثابت . المفردة الإلهية التي تناولها الخطاب الديني المسيحي هنا في إجراءات التعميد، وظفها كأسلوب للترغيب في الدخول للدين الذي إمتازت به الأديان الإبراهيمية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام باعتبارها ادياناً لا يلعب الخيار الشخصي في الإنضمام إليها اي دور يذكر . فاليهودي يصبح بالوراثة يهودياً إن ولدته ام يهودية والمسيحي يصبح مسيحياً في سنة ولادته الأولى على الأغلب حينما يتم تعميده في هذا العمر ، والمسلم يصبح بالوراثة مسلماً أيضاً لانه وُلد من صلب اب مسلم . وفي هذه الأديان الإبراهيمية الثلاثة يلجأ الخطاب الديني إلى توظيف المفردة الإلهية الواردة في النص المقدس لتحويل الإنتماء الجبري إلى إنضمام طوعي مشوب بالثواب والعقاب . الله الذي لا عنوان بريدي له ما أسهل ما يجده الطغاة ، لا ليعبدوه كما يطلب منهم ذلك بل ليوظفوه في تبرير ما يريدون ان يُصبغوا عليه صبغة الدين ، لأنهم يعلمون جيداً إن العقل البشري مهما ضمُر ومهما تحدد في طاقته الإستيعابية لا يمكنه ان ينظر إلى ما يُخطِط له وينفذه الطغاة إلا بعين لا ترى غير الجريمة امامها بكل بشاعتها وبكل ما تعكسه من بدائية الفكر المُخَطِطِ والمُنَفِذ لها . إلا ان المشكلة لا تكمن هنا بالطاغية الساعي لتثبيت اركان إستبداده بكل ما لديه من قوة وبأس ومال ، مستعملاً كل قوانين الأرض في سبيل ذلك ، بل انها تكمن في مَن يسعى لتقنين هذه الجريمة بقوانين السماء وربطها بتعاليم الإله التي يوحون بأنهم لم يستلموها من غيره ، فيسعون بذلك إلى تحويل دين السماء إلى دين الفقهاء . أرغب التأكيد هنا بما لا يقبل الشك والجدل بأن التعرض للخطاب الديني الذي يروجه بعض الفقهاء ، وخاصة فقهاء الحاكم ، ومناقشته من على منبر الدين نفسه ، لا يجب ان يُفسَر من قبل البعض ، وكما تعودنا على ذلك في مناسبات عديدة ، على انه يمس جوهر الدين وتعاليمَه . إن محور نقاشنا الآن يدور حول الخطاب الديني الإسلامي ، خاصة ذلك الخطاب الذي يسعى لتحقيق مقولة " الإسلام دين ودولة " فيبني على هذا الأساس الدولة الثيوقراطية القمعية او يجعل من توظيف الدين اساساً لمنطلقات الدولة التي تدعي العلمانية إلا انها تسعى إلى تسييس الإسلام او اسلمة السياسة . هناك الكثير من الآراء الفقهية ووجهات النظر المنطلقة من الثوابت الإسلامية المتعلقة بتأويل وتفسير النص الديني قرآناً كان ذلك النص او سنة ، هذا إذا ما ركزنا على هذين المصدرين الأساسيين للشريعة الإسلامية دون النظر إلى ما تأتي به المصادر الأخرى الغير متفق عليها جميعاً تمام الإتفاق كالقياس والإجماع وغيرها . وبقدر إختلاف هذه الآراء في التفسير والتأويل ينسحب هذا الإختلاف على نوع النص إن كان محكماً او متشابهاً في النص القرآني او كان صحيحاً او موضوعاً في السنة النبوية. موضوع حديثنا اليوم يتعلق بواحد من النصوص القرآنية التي وظفها الخطاب الديني لأغراض سياسية بلورت فكر وتوجه الإسلام السياسي لدى دكتاتورية البعث الساقط . بالضبط كما يجري توظيف النص الديني اليوم في فكر وتوجه الإسلام السياسي على الساحة السياسية العراقية الآنية . يحاول خطاب الإسلام السياسي بكل أنواعه الطائفية ، إذ ان الإسلام السياسي هو طائفي دوماً ، ان يجعل من النص القرآني إحدى آلياته المباشرة التي يمارس من خلالها التاثير على المجتمع . وفي أغلب مجتمعاتنا الإسلامية يجري هذا التأثير من خلال توفر عوامل عديدة أهمها : 1. إحترام النص القرآني وارتباط الغالبية من أفراد المجتمع إرتباطاً روحياً وعاطفياً به. 2. غياب الثقافة العامة كسبب مباشر لنظام القمع الدكتاتوري الذي عاشه المجتمع العراقي ، يضاف إلى ذلك تفشي الأمية بشكل كبير بين أفراد المجتمع في المجتمعات الإسلامية الأخرى. 3. غياب الثقافة الدينية العميقة وانتشار الفهم الديني السطحي . 4. عدم السماح بوجود البدائل الثقافية الساعية لنشر الوعي الثقافي من خلال المناهج التعليمية الموَجَهة والنشاطات الفنية والأدبية والعلمية الهادفة والتي تسعى لتنوير المجتمع . 5. وأخيراً عدم وجود الحركات الإصلاحية التي بدأها بعض المصلحين الإسلاميين الذين جرى إهمالهم من قبل هذا الخطاب . وبسبب هذه المعطيات التي تعيشها معظم المجتمعات الإسلامية يسعى خطاب الإسلام السياسي إلى التحكم بتفسير وتأويل وشرح النصوص القرآنية حسب ما يمليه عليه توجهه السياسي محاولاً بذلك تصوير هذه التفسيرات والتأويلات وكانها الحقيقة المطلقة التي يؤمن بها هذا الخطاب ، رافضاً أية وجهة نظر أخرى ، خاصة تلك التي تُبعد هذا الخطاب عما يُخطَط له من أهداف سياسية . هناك كثير من الأمثلة على هذا التصرف والتي لا يمكننا التطرق إليها بإسهاب هنا . إلا ان موضوعنا لهذا اليوم المتعلق بالنص القرآني في مفردة الأنفال يمكن ان يشكل مثالاً واضحاً لنا على مثل هذا التعامل مع النص الذي يعتبره المسلمون نصاً إلهياً مقدساً. مفردة الأنفال في مدلولها الخطابي اللغوي الديني ، هل لها مدلول إجتماعي نفسي أيضاً؟ عالم الإجتماع العراقي الدكتور علي الوردي يجيب بنعم على هذا السؤال من خلال شرحه لمعنى واهمية الغزو والغنيمة الناتجة عنه لدى البدوي الصحراوي ، وذلك في كتابه القيم حول مجتمع البداوة . فهل سعت دكتاتورية البعث لتحقيق هذا الغرض ، أي الغزو من اجل الغنيمة ، في إطلاقها إسم السورة الثامنة من القرآن الكريم على حملة قمع إجرامية ضد شعب بأكمله ؟ وهل كان الدكتاتور بحاجة إلى أن يَغنم ؟ وماذا كان يريد ان يغنم من شعب لا يملك غير كرامته التي هب يدافع عنها عبر نضاله الطويل وتضحياته الجسيمة بسببها ، كونه أكبر شعب على وجه الأرض لا دولة له تضم أوصال ارضه التي قطعتها سياسة المنتصر في الحرب بين قوى الإستغلال العالمي بكل اشكالها وطروحاتها ؟ لا ... لم يكن ذلك هدف المخَطِط والمنفذ لجرائم الأنفال في كوردستان العراق . فخيرات العراق التي إستولى عليها هو وعائلته ورهطه جعلته في غنى عما يمكن ان يسلبه من شعب فقير مكافح . وحتى لو اراد ان يغنم الأرض فكان بإمكانه ذلك ، دون إستعمال السلاح الكيمياوي ، فهو صاحب الجيش الذي لم تستطع قوى التحرر الكوردية ان تقف بوجهه طويلاً دون إنسحابها إلى المناطق الجبلية التي تحصنت بها . لقد بحثتُ طويلاً مفتشاً عن السبب الأساسي لتوظيف هذه المفردة القرآنية في حرب الإبادة هذه . فوجدت أن مفردة الأنفال لم تُذكر في القرآن الكريم إلا مرتين وفي نفس الآية الأولى من السورة الثامنة التي عرَّفَت المفردة هذه . وحين التقصي عن سر هذا التوظيف بشكل اعمق تبين لي بأن سبب توظيف هذه المفردة القرآنية من قِبَل الدكتاتور الساقط يخفي وراءه هدف تبرير الجريمة التي خطط لها . إذ انه كان يعلم بحجم هذه الجريمة وما ستجره على الشعب الكوردي من ويلات ومآسي وتدمير قد لا يستطيع الكثيرون من التعامل معها إذا لم يصحبها تبرير ديني يضفي على هذه الجريمة طابع الإيمان والسعي لتنفيذ رغبة إلهية . وهنا يأتي دور فقهاء السلاطين ليفسروا لهذا السلطان بأن الوقوف بوجه الحاكم والثورة عليه هو خروج على طاعة ولي الأمر الذي جاءت به الآية القرآنية رقم 59 من سورة النساء والتي تقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً لم يكترث الحاكم هذا بوجود الفقه المقابل الذي يوجب القيام على الحاكم الظالم والخروج عليه كما أفتى بذلك ألإمام ابو حنيفة ، بل أنه إعتمد في التخطيط والتنفيذ لجريمته هذه على الفقه الذي إعتبر ثورة الشعب الكوردي للدفاع عن حقوقه المغتَصَبة ، خروجاً على التعاليم الدينية وبالتالي فإنه من الواجب عليه كحاكم على هذا الشعب بإجمعه ، إذ لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى ، هذه التقوى التي خرج عنها الشعب الكوردي فحق عليه نص الآية 60 من سورة الأنفال والتي تنص على : وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ فسورة الأنفال وظفها الطاغية بتأويله لمفهوم النص القرآني الذي أباح له أرتكاب هذه الجريمة ، وما قام به الحاكم يقع ضمن تنفيذ الإرادة الإلهية التي وجدها هذا الحاكم وفقهاؤه في تفسيرهم للنص القرآني . ولكن هل يكفي ذلك لشحذ همم مقاتليه الذين قد يخرج من بينهم البعض ليشير إلى إسلام الشعب الكوردي والتردد في توجيه السلاح إليه إستناداً إلى ما تعلمه هذا البعض في إصول دينه كالأخوة بين المسلمين وعدم جواز قتل النفس البريئة وهكذا . ولكي يقنع الطاغية هذا البعض بخلاف ما ذهب إليه ، توجه إلى سورة الأنفال هذه مرة أخرى ليجد فيها ضالته التي جاء بها من تأويل الآية : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ولم يات هذا التحريض لشحذ الهمم بسبب قلة جيش الطاغية وكثرة جيش عدوه ، بل بالعكس فإن ميزان القوى عددياً كان إلى جانبه . لقد جاء هذا التحريض مقروناً بالكراهية وممزوجاً بالتدني الأخلاقي الذي اراد به بلوغ عواطف تابعيه له وحقدهم وكرههم لأهل وطنهم لا لسبب آخر غير نفس السبب الذي إستخدمه بعد بضعة سنين ليس ضد الشعب الكوردي فقط ، بل ضد الشعب العراقي باجمعه حين قمع إنتفاضة آذار عام 1991. فسورة الأنفال بما فسره الطاغية من محتوى تحريضي ضد معارضي سياسته القمعية العنصرية قدمت له التبرير الذي أراده في إرتكاب جريمته هذه إستناداً إلى تأويله وتأويل فقهاءه للنص القرآني. وهكذا يستمر التفتيش هنا وهناك في هذه السورة التي أراد لها الطاغية ان تلبي ما يكنه في فكره من جريمة تلبس لبوس الدين ضد شعب بكامله . فيجد فيها : " وما النصر إلا من عند الله " (آية 11) أو " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " (الآية 18) . التاريخ الإسلامي يحكي لنا قصصاً كثيرة تشير إلى سعي بعض فقهاء السلاطين إلى الإختفاء وراء النص الديني حينما يضيق بهم الأمر ولا يجدون ما يحاورون به مَن إختلفوا معهم او ما يقاتلون به اعداءهم وليس لديهم مبرر لهذا القتال غير المبرر الديني . وربما ظلت مصاحف عمرو بن العاص من اشهر القصص في التاريخ الإسلامي التي جعلت من النص الديني بكامله معلقاً على رؤوس الرماح ليستصرخ عواطف مَن تعلقوا به : أن إحتكموا إلي ...وكلنا يعلم اليوم كيف أُستُغِلَ القرآن الكريم لبلوغ هذف سياسي لا علاقة له بتعاليم الدين الحقة التي لا تلتقي والخديعة . وتاريخ المسلمين مليئ بمثل هذه النماذج التي جعلت من الدين ُسلَّمآ للوصول إلى أهداف دنيوية , حتى وإن كان ذلك على حساب الحقيقة والمبادئ والأخلاق , إذ أن مثل هده ألأمور لا تعني شيئآ بالنسبة للمتسلطين وفقهاءهم قدر ما تعنيهم السلطة والتحكم في رقاب الآخرين مستغلين صفاء النية وطيبة السريرة والإخلاص للمبادئ الدينية الأصيلة لدى كثير من الناس الذين سيقفون على حقيقة مثل هؤلاء يومآ ما طال الزمن بعروش الجبابرة وكروش هؤلاء الفقهاء ام قصر.
يحاول مستغلو الدين لأغراضهم السياسية والحزبية أن يوهموا الناس بتفسيراتهم للنصوص القرآنية على أنها تعاليم ومبادئ الدين الحقيقية ويطالبون ألإلتزام بها ويجعلون من مخالفتها مخالفة للاحكام الدينية وخروجآ على التعاليم ألإلهية، يتوعدون مَن يخالفهم الرأي بالويل والثبور لا يتورعون من الإقدام على الجريمة لإنهاء المعارضين لهم ولتأويلهم للنصوص القرآنية . وهذا ما تبلور عنه تيار الإسلام السياسي الذي يسير اليوم في وطننا العراق على نفس ذلك المنهج الساعي لتخندق السياسة وراء الدين.
يقدم تيار الإسلام السياسي الدين الإسلامي وكأنه مرتبط بالعنف والتكفير وإنهاء الآخرين بالإرهاب والقتل فيبدو الإسلام أمام أبناءه وغير أبناءه بهذه الصورة التي لا تعرف الرحمة والتسامح , وهذا هو دينهم , إسلام الفقهاء , فقهاء مروجي ألإرهاب والداعين له , وقد لاقى أهل العراق , كما لاقى غيرهم من المسلمين ألأمرين من فتاوى إسلام الفقهاء التي أحلَّت دمهم . علمآ بأن المبادئ الدينية الحقة التي يدعو لها إسلام السماء مليئة بالدعوات التي تؤكد على الحكمة والموعظة الحسنة ، وترك الوصاية على الناس في أمور دينهم والتوجه من المبادئ التي تدعو إلى التسامح وسعة الصدر ونشر المحبة والتآلف بين الناس جميعآ , فكيف بالأمر إذا كان بين المسلمين أنفسهم..؟
لا يقتصر ظهور هذا التيار على المجتمعات الإسلامية فقط , بل ويمكن مراقبة هذه الظاهرة في مجتمعات اخرى أيضآ يلجأ فيها دعاة تسييس الدين أو تديين السياسة إلى أساليب مشابهة عند مواجهة خصومهم في الرأي . لقد أصبح التطرف الديني ظاهرة تعكس ما يتبلور عن المشاكل الإجتماعية بأشكالها وصورها المختلفة في اي مجتمع من المجتمعات .
ألاسباب السياسية وهدف الوصول إلى السلطة أو الإحتفاظ بها يكاد يكون القاسم المشترك بين جميع هذه التيارات أينما وجدت , أي الرغبة بالوصول إلى الحكم أو الدفاع عن الحكم وليس الدفاع عن الدين , كما يدعون , هو السبب الرئيسي الذي يدفع هذه التيارات لإرتكاب مثل هكذا جرائم كجريمة الأنفال . لقد شاءت الصدفة أن أُولَدَ في بيت عربي إسلامي في جنوب العراق، ولا إرادة لي في ذلك ، كما بينت اعلاه . إن هذا الإنتماء اللاإرادي سيرتبط بانتماء إرادي مستقبلاً قد يتحرك في مجالات قد تختلف عن مجالات انتماء البداية . أي ان التربية العربية الإسلامية التي يتلقاها مَن يولد ويتربي في أجواء إرتبطت بنظام البداوة واستمرار العصبية القبلية في كثير من مفاصلها ولم نستطع التخلص منها لحد الآن بالرغم من تبجحنا بالقضاء عليها ، تفرض على المنتمي لهذا التراث طريقين اساسيين في حياته : فإما ان ينغمس في هذا التراث دون وعي يسعى على تغييره او تطويره على الأقل . أو أنه يبدأ بالنظر إلى هذا التراث نظرة نقدية فاحصة قد تؤدي إلى الإنقلاب على كل او بعض مفاهيمه ، وذلك رغبة في الإنسجام مع تغيير الواقع الحياتي الذي تؤكده الحياة كل يوم من خلال حركة المجتمع نحو الأمام دوماً . فكيف ينظر العربي العراقي ، خاصة المسلم ، او العربي غير العراقي إلى جريمة كجريمة الأنفال التي إرتكبها واحد من دعاة القومية العربية وأحد زعماء مَن يدعون إلى تحرر هذه القومية من السيطرة الأجنبية والساعين إلى وحدتها ، كما يزعم ؟ هل تنسجم هذه الأطروحات القومية العربية مع التصرف الإجرامي اللإنساني تجاه القوميات الأخرى ؟ أي بمعنى هل يمكن لقومية او شعب يضطهد أو يقمع شعباً آخر ان يكون نصيراً وعاملاً على تحرر شعبه أو قوميته أو اي شعب او قومية أخرى ؟ ألأجوبة على هذه الأسئلة وغيرها قد يقودنا إلى توضيح صورة جرائم الأنفال في الوعي والفكر العربي. إن محاولة التوضيح هذه تحتم علينا الوقوف أمام تفسير طبيعة ألإنتماء القومي وتعاملنا مع هذا الإنتماء وهل ينطلق من مقولة : إنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، بغض النظر عن تفسير الظالم هنا ، أو نتعامل مع هذا الإنحياز من وجهة النظر الداعية إلى تقييم الإنسان كإنسان اولاً ثم التحري عن هوياته الأخرى ، إن كان هناك ما يدعو إلى هذا التحري . إلى أي مدى إنشغل الوعي العربي بتقييمه للقوميات الأخرى في المجتمعات التي يكون فيها العرب القومية الأكبر بين القوميات المتواجدة على نفس البقعة الجغرافية في دولة ما ؟ وإلى اي مدى اصبح الإنحياز القومي حاجزاً دون تقصي الخلل الذاتي وغَض الطرف عن حقوق المواطنة بالمقارنة مع حقوق القومية الكبرى ؟ هذه إستفسارات ينبغي علينا ، نحن العرب ، ان نعالجها حينما نفتش عن تفسير التجاهل الذي يكاد ان يكون عاماً ليس لدى الحكومات فقط ن بل وداخل المجتمعات العربية والإسلامية ايضاً لقضايا هي في صميم هذه المجتمعات وتشكل جزءً من وجودها ، والقضية الكوردية التي نحن بصددها هي واحدة من الأمثلة الكثيرة التي ينوء بها حاضرنا كامتداد لتاريخ ظل يزحف على هذا الحاضر قاصداً المستقبل . فهل نملك من الجرأة وقوة الإرادة لأن نوقف هذا الزحف لكي لا يشمل ابناءنا واحفادنا في المستقبل ؟ ليس هناك مَن يؤاخذ إنسان ما حينما يتعلق هذا الإنسان بانتماءه القومي ويعكس ذلك على مشاعره وفي تصرفاته وعلاقاته مع الآخرين . إلا أن هناك مَن يؤاخذه على ذلك حينما يجعل من هذا الإنتماء وسيلة لتجاهل الآخر وطريقاً لفرض ما يريد ، واضعه فوق الإنتماء الإنساني ، لا على بقعته المحدودة فقط ، بل وعلى إمتداد الجغرافية البشرية على بقاع لم يشترك مع ساكنيها إلا بانتماءه الإنساني الذي يجب ان يكون الفيصل في مسار حياته . إن مَن ينطلق من توجه الأكثرية والأقلية ، باعتباره توجهاً ديمقرطياً ، في تحديد علاقته مع بني جنسه سواءً كان ذلك التوجه قومياً أو دينياً فإنه لم يع اساساً مفهوم الديمقراطية المبني على اساس الوعي في تطبيق هذا المفهوم وينطلق في هذه العلاقة بين الديمقراطية والقلة أو الكثرة كذاك الذي ينطلق من إعتبار الإنتخابات بغض النظر عن الأسلوب الذي تمت فيه كأساس للديمقراطية المعزولة عن الوعي والمعرفة . فإذا ما إنطلقنا نحن العرب في اوطاننا من مبدأ القومية الكبرى الآمرة الناهية ، فإننا والحالة هذه سوف نقدم لأجيالنا القادمة تلك المواد الإنشائية التي أراد أو يريد بها المتعصبون قبلياً ودينياً ان يستمروا في بناء الجدار الذي يحجز بينهم وبين أقرانهم من البشر ، لتصبح هذه الأجيال صم بكم عمي لا يفقهون ما يدور حولهم من جرائم يقترفها الحاكم المتسلط بحق الإنسان الذي ينتمون إليه . لقد تخلف الوعي العربي كثيراً عن محاكاة واقعه محاكاة تنطلق من التحرك ضمن هذا الواقع فعلاً . وإن اردنا تقصي اسباب ذلك فسنجد اثر الأنظمة السياسية بما تبنته من تشذيب للفكر وتعتيم على الحقيقة وإذلال للمواطن بالوسائل التي تراجع امامها هذا الوعي مكرهاً على ذلك لا راغباً به ، إذ انني مقتنع تماماً بعدم وجوذ تلك الأمة أو ذلك الشعب الذي يسعى بقدمه راغباً للتخلف . فهل بوسعنا ان نجعل الوعي العربي في حالة يتجاوز فيها هذه الوسائل ليجعل من مجتمعات اجيالنا القادمة مجتمعات تكف عن ترديد : لنا الصدر دون العالمين او القبر ، او ما شابه ذلك من العنجهية الجوفاء التي تبعدنا دوماً عن تفعيل مقولة : حتى يغيروا ما بانفسهم ( الآية 53) التي تضمها سورة الأنفال ايضاً والتي لم يعرها مجرمو الأنفال اي إهتمام وكأن مفهوم الآية 85 من سورة البقرة : ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوَهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ينطبق عليهم تماماً . الرياح العاتية التي بدأت تهب منذ اكثر من عام ونصف على مجتمعاتنا العربية والتي تشير إلى التغيير لا محالة ، مهما كان نوع هذا التغيير، تشير إلى انتقال الخوف من بيوت الفقراء إلى قصور الأمراء وإن بعض تباشير هذا الخوف ستجعلنا لا نفقد الأمل في حياة افضل لأجيالنا القادمة . وما على جيلنا اليوم إلا الخروج عن سكوته ومواقفه المتفرجة التي ظلت الأنظمة السياسية القمعية تحيطه بها . وليعمل كل من موقعه ، حتى بعد ان إشتعل الرأس شيبا ، على ان يحقق مبدأ الإنسان أخ الإنسان . الدكتور صادق إطيمش
#صادق_إطيمش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انقدوا القرآن من هؤلاء المهرجين
-
ثلاثة أيام من التضامن الأممي
-
هل من مبرر بعد لتشتت الديمقراطيين العراقيين ...؟
-
لماذا التيار الديمقراطي العراقي ...؟
-
صرح للديمقراطية
-
تحقيق الذات في إزالة العورات ... أو ؟
-
يا سامعين الصوت ... صلوا عالنبي
-
حذاري ... حذاري من الدولة الدينية ، فإنها دكتاتورية بامتياز
-
هل فشل المشروع الأمريكي في العراق ؟
-
خُذ الشور من هذا البروفيسور
-
الصراع على ملئ فراغ إنسحاب الأمريكان من العراق
-
الحوار المتمدن ... عقد من النضال ألثقافي والإعلامي الهادف
-
أردوغان ذو المنطق المفلوج
-
ما أوضحه الخاقاني لما إختلفوا فيه من المعاني
-
لو فرضنا ...
-
فَتِّش عن الإسلام السياسي
-
الملف السوري بين الواقع والطموح
-
الحقد على الشيوعيين يعمي القلوب قبل الأبصار
-
هشام لا تغضب ...
-
متسولو القذافي بالأمس ... اين هم منه اليوم ؟
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|