|
السؤال الفلسفي والحياة
محممد قرافلي
الحوار المتمدن-العدد: 3701 - 2012 / 4 / 17 - 17:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
السؤال الفلسفي والحياة
يبحث الإنسان باستمرار عن تفسير لما يحصل في وجوده سواء ما يتعلق بذاته أو بالعالم من حوله فيجد أمامه إجابات وتفسيرات أسطورية دينية، فلسفية وعلمية كأن الحياة سلسلة من التفاسير ينسخ بعضها بعضا تتقاطع وتتنافر وتتضارب وتجعل الناظر الباحث يتيه فيها. وكلما سعى الإنسان إلى التقصي والتنقيب عما هو جديد يطلع عليه القديم وكأنه جديدا وانه لم يعد ثمة من شئ لم ترتده آفاق الإنسان ولم يترك السلف للخلف ما يمكنهم أن يتكبدوا عناء السهر من اجله تبعا للحكمة المتداولة "لا جديد تحت الشمس". ما أن يتبادر إلى الذهن سؤال حتى تلوح موسوعات الأجوبة ومدونات المقاربات إلى حد التلف والجنون.على سبيل التلميح قد يدفع سؤال الغيب بالمتدين إلى الرغبة في الغوص في عالم الغيب ويلقي به في عوالم التفسيرات والمدونات التي تعرض فتوحاتها حول لغزية عالم الغيب فهل يمكنه الاحتماء بمنظومته القيمية وحدها ويسد أبواب المدونات الأخرى المعروضة أمامه ويستريح أم أن فضوله الجامح سيجره إلى عالم منظومات قيمية هندوسية وكنفشوسية وطوطمية وتلموذية.... تقدم ما لانهاية من التصورات والتخريجات لعالم الغيب وعلاقته بعالم الشهادة والتي قد تحتوي المتمرس وتغرقه قبل الفضولي المبتدئ. هل يمكن للسؤال أن يشكل المنقذ من التورط أم العكس كلما تساءل الإنسان إلا ويزداد تورطا وقد يؤدي إلى انتهاك المحظور؟.ثم لماذا يؤرق الإنسان نفسه بطرح تساؤلات كبيرة تتجاوز حدوده ؟ وهل العمر يكفي لكي يعيد الحفر في كل ذلك التراث العظيم الذي يلفه ويحتويه ؟ مادامت الرسالات قد أكملت وختمت، معناه أن كل الأسئلة التي ظلت تشغل الإنسان قد تم الحسم فيها. فماذا يعني أن يطرح الإنسان اليوم أسئلة مثل ما الإنسان؟ وما الحياة؟ وما الموت ؟ وما الحيوان؟ وما الفرق بين الإنسان والحيوان؟ ولماذا نعيش؟ ........ إلى أخره من الأسئلة التي تطول قائمة سردها وقد نعجز على إكمالها، بل الغريب في هذا العصر أن سؤال ذبابة أو حشرة تائهة يزلزل عرش أهل العلم والعرفان ويكلف سنوات وقرونا من التقصي والتنقيب والاختبار ويحتاج إلى مجلدات . قدر الإنسان أن يبدأ من الصفر وان يحاول التأسيس في كل لحظة. على ماذا يؤشر هم التأسيس والبداية من الصفر وان نعيد طرح نفس الأسئلة؟ يحضر السؤال بمختلف أشكاله في كل مناحي الحياة، فهو مفتاحا لحل المشكلات التي تعترضنا في حياتنا اليومية وأداة فعالة في التعلم والتعليم إذ يستحيل الاستغناء عنه. إدراكا لأهمية السؤال واجرائيته عملت مختلف المجالات على استلهامه وتوظيفه، لذلك نجده يحضر باستمرار في المجال القضائي ويمثل وسيلة فعالة لتعيين مجال التنازع ولحل القضايا ووسيلة للاستنطاق وانتزاع الاعتراف وأداة لتفنيد دعاوى الخصم وإبطالها إلى درجة أن أهل المرافعات يتفاضلون فيما بينهم على مستوى مقدرتهم على إتقان فن التساؤل وعلى حسن صياغته وتدبيره وتوجيهه. كما يتحول بين يدي سابري الأعماق وعلماء الباطن( علماء النفس) إلى وسيلة لسبر أعماق الذات الإنسانية وتعرية جوانبها الخفية والحميمية وطريقة للعلاج والمصالحة مع الذات. لعل الحس الفلسفي قد تنبه مند البدء إلى خطورة وأهمية السؤال ولا ريب أن تحددت ماهية التفكير الفلسفي بممارسة السؤال إلى حد القول أن الفلسفة هي فن التساؤل بامتياز وان الفيلسوف الحقيقي لا يدعي انه يقدم إجابات أو يمتلك حقيقة الموجودات بقدر ما يتحول جهده إلى فعالية تساؤلية وذات متسائلة باستمرار. تمثل المحاورات الأفلاطونية نموذجا حيا تتجسد فيه تلك الفعالية بكونها استدعاء للأخر واعترافا بحقه في بناء الحقيقة من خلال مقدرته على ممارسة السؤال وعلى تبادل الأدوار(الإبطال أو الإثبات الهدم أو البناء) وعلى استنفار ذاكرته ولملمة أفكاره وإخضاعها للمساءلة والمراجعة وشحذ بناه الحجاجية. هكذا تحول السؤال مع سقراط(469-399) إلى ممارسة يومية وتجربة حياتية والتزاما فلم يدعي سقراط انه يحمل معرفة ويقدم إجابات ويتجلى ذلك من خلال مقولته الشهيرة "الشئ الوحيد الذي اعرفه تمام المعرفة هو أنني لا اعرف شيئا " رغم تواضعه المعرفي الماكر إلا انه لم يتوقف ولو لحظة عن إزعاج المدينة وحماتها ومشرعيها بجرأة أسئلته التي تكشف عن مكامن الضعف وأشكال الاضطراب والقلق التي تتأسس عليها منظومة الفكر والقيم لدى الإنسان اليوناني" إني أولد الأفكار من عقول الناس مثلما كانت تولد أمي النساء" وكان نتيجة سلاطة السؤال وجرأته أن يدفع سقراط ثمن ممارسته للسؤال وتتم محاكمته بتسفيه أحلام المدينة وإفساد عقول الشباب . لم يغب السؤال عن الممارسة الفلسفية بل أضحى تابتا ومحددا لماهية التفكير الفلسفي بحيث أن في كل لحظة فلسفية يتم تفعيل مجالات ممارسة السؤال وتتبلور قواعد وأصول ومجالات تداولية للسؤال بحيث سيدشن ديكارت(1596-1650) لحظة تأسيسية دفعت بالسؤال إلى حدوده القصوى محاولا استشكال مختلف القضايا الفلسفية الاسكولائية من خلال إخضاعها للشك والمساءلة المنهجية. سيصبح السؤال أولا فعالية تحريرية للفكر من الإرث المدرسي ومن سلطان الوهم والمعرفة الحسية ومن المخيلة ثم إلى قدرة بنائية من خلال إعادة التأسيس للحظة فكرية جديدة تعطي مكانة للعقل وتبوئ الذات مكانة مركزية بوصفها ذاتا عارفة ومريدة وحرة. وتكشف نصوص ديكارت عن أهمية السؤال في حياته إلى درجة أن أعماله تمثل حوارا تساؤليا واستشكاليا مع الذات وان مختلف القضايا التي عمل على مساءلتها واستشكالها نتيجة تساؤلات اقتضتها مرحلة التأسيس واستجابة لروح العصر ولتساؤلات الآخر عموما كما تكشف عن ذلك رسائل ديكارت الفلسفية مع الأميرة إليزابيث تحديدا. ستتكرر التجربة نفسها اخذا بعين الاعتبار الفارق مع فيلسوف النقد كانط (1724-1824) ومحاولته التأسيس لممارسة جديدة للسؤال تعيد النظر في جغرافية العقل وتشرح بنيته وتحدد شروط إمكانه وترسم حدوده النظرية والعملية . وتتجلى قيمة فعالية السؤال من خلال الأسئلة الثلاث التي شكلت نواة جهود كانط النقدية: ما الذي يمكنني معرفته؟ وما الذي ينبغي عمله؟ وما الذي أريده أو أمل فيه؟ ويمكن إدراج تلك الأسئلة تحت سؤال عام وشامل ارق كانط هو سؤال: ما الإنسان؟ يكتسح السؤال مختلف مناحي الحياة وتختلف أشكال السؤال باختلاف السائلين وباختلاف أنواع السؤال والمراد من السؤال إذ يمكن أن نميز بين الناس ومستوياتهم باختلاف ممارستهم للسؤال، تتميز أسئلة الطفل بعفويتها وتلقائيتها عن أسئلة الراشد المحسوبة والملغومة والأداتية وتتميز أسئلة ممارس التفلسف بنوعيتها وصرامتها ودقتها وقصديتها وإزعاجها عن أسئلة الإنسان العادي الجاهزة الآنية والنفعية وتتباين أسئلة رجل العلم التي تبحث في كيفيات الأشياء عن أن أسئلة المتدين التي تتوخى ماهية الأشياء كما تتمايز أسئلة الأستاذ ببيداغوجيتها عن أسئلة المتعلم وتطلعاته.... رغم اختلاف صيغ السؤال واستراتيجياته وغاياته إلا انه يظل تابثا وملازما للإنسان ويمتد إلى كل المجالات المعرفية والأدبية والعلمية وتحول إلى مجال قائم بذاته يسعى البعض( مثلا ميشيل مايير فيلسوف بلجيكي ولد سنة 1950) إلى التأصيل للسؤال ووضع قواعد لممارسة السؤال وعيا بوظائفه المتعددة التي سبقت الإشارة إليها التربوية والبيداغوجية، الاستشكالية والتواصلية الحوارية، التجريحية والعلاجية التطهيرية ......ووعيا كذلك بأهمية اللحظة الخطيرة التي تمر بها البشرية. وفق ما سلف تنم علاقة الإنسان بالسؤال عن أبعاد وجودية ونفسية وفكرية وأخلاقية قد تدفع إلى إعادة النظر في مختلف التعاريف التي تقدم للإنسان حيث يعرف ذاته بكونه كائنا عارفا وأخرى يربط هويته بالقدرة على صناعة الأدوات والتقنيات وحينا يعتبر نفسه كائنا ميتافيزيقيا مهووس بأفضل العوالم الممكنة وأحيانا يتمثل نفسه ذاكرة للحضور و للغياب في نفس الآن ......... وعبر مساراته لم يركن لأي تعريف بل كل تعريف يلتهم سابقه ويتمرد عليه إلا أن التعريف الذي يبدو ملازما للإنسان هو كونه كائنا متسائلا باستمرار لم تنتهي سلسلة تساؤلاته ولم يحسم البتة في أية قضية من قضاياه لذلك لم يتوقف عند تعريف من تلك التعاريف إلا واخترقه السؤال ويبقى السؤال في حيويته وحركيته والمتسائل مترنحا بين الإقرار والمكوث لإمكان أو إجابة عن سؤاله وتحمل مسؤولية الركون والالتزام أو الترحال مع حركة انفتاح السؤال وتحمل مسؤولية التيه فيه ومن بلاغة اللغة العربية أنها وصلت بين السؤال والتساؤل والمسؤولية فالسائل والمتسائل مسئولان . على ماذا يعبر حضور السؤال في حياة الإنسان في اللحظة الراهنة وتحوله إلى وسواس؟ يعزى ذلك إلى انهيار المنظومات القيمية الكبرى الدينية والفلسفية التي كانت تقدم إجابات وعزاء وتفسيرات لمختلف القضايا الميتافزيقية والنفسية والاجتماعية التي تشغل الإنسان وما واكب ذلك الانهيار من تصدع وشروخ نتيجة التطور العلمي في الفيزياء والبيولوجيا وعلوم الإنسان وقلب لمجموعة من المفاهيم والحقائق الفلسفية والدينية السائدة والمألوفة، وكذا إلى خصوصية اللحظة التاريخية وما تحقق مع الطفرات التقنية والرقمية من تجاوز للحدود الجغرافية وتضارب في المنظومات القيمية التي أصبحت معروضة في السوق وتثير فضول الإنسان الرقمي المتفرج؟ ألا يجوز أن الإنسان اخطأ المسعى منذ البداية وانه ليس مخلوقا من اجل البحث عن الأسئلة والإجابات واللهث خلف الحقيقة وانه لم ينصت للآلهة فحلت عليه اللعنة وظلت تطارده وكلما مضى في السؤال إلا وتوغل في المحظور وانكشف له ما يسوؤه. لأنه لا يعقل أن يخلق الإله إنسانا ويلقي به في المجهول وينبذه في العراء ويلغز الكون من حوله ويحيطه بالسديم والفراغ ويتركه لحاله. لنقل بكلمة أوضح أن الإنسان المتسائل المسئول قد توارى خلف الركامات الفلسفية والعلمية وتم ترويض سؤاله وتدجينه وتحويله إلى مهارة بيداغوجية وعدة ديداكتيكية للنقل والتحويل المعرفي وليس سلاحا للتعرية والفضح وجرأة على الجهر بالحقيقة كما كان مع سقراط.
#محممد_قرافلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|