|
ثورة في سورية، سورية في ثورة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3699 - 2012 / 4 / 15 - 12:25
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أخرجت الثورة المجتمع السوري من الغمر. كانت سورية بلدا مُعمّى، يبدو خاليا من البشر ووجوههم وحكاياتهم. اليوم هو بلد يعرف بثورته ووحشية نظامه، وبهذا الموكب الصاخب من مدن وبلدات وقرى، من أسماء وصور لرجال ونساء وأولاد وشيوخ، من أديان وطوائف وإثنيات وعشائر، من لغات ولهجات وأصوات وأزياء، من "ناشطين" و"مقاتلين"، و"سياسيين"، ومن تضامن وكراهية ولامبالاة بليدة، ومن أمل وغضب وتهكم مر. وفي سورية الحيوية والفوارة هذه، وحده النظام يبدو مبتذلا قديما، ووحدهم رجاله يبدون تجسيدا لكل ما هو سقيم وعفن وميت. لهذا الخروج الكبير وجهان لا ينفصلان عن بعضهما. وجه مشرق، ترسم ملامحه قوة الحياة وتطلعات الحرية والغنى الإبداعي الكبير الذي أظهره المجتمع السوري خلال 13 شهرا، ووجه مكفهر يحيل إلى قوة التدمير وتحطيم الأطر السياسية والمؤسسية والفكرية المعهودة، وما يواكبها من اضطراب سياسي وتمزق نفسي وتنازع اجتماعي. بهذين الوجهين معا، يغاير التفجر السوري التفجرات التي عرفتها البلدان العربية الأخرى، من حيث اتساع قاعدته البشرية، وشدة قوته التدميرية، وطول أمده. ويفوقها قوة لخواء المؤسسات السياسية والفكرية القائمة في سورية من أية فاعلية عامة ضابطة. وما تواجهه المعارضة السورية من صعوبات يتصل بهذا الاندفاع العاصف غير المنظم، الذي يتعذر أن تستوعبه قوالب التفكير والعمل الموروثة. يرجح لهذا الدفق الحيوي الفوضوي أن يتسبب بتقويض هائل لكل ما هو مستقر، وألا يترك شيئا على حاله في البلد. هذا ليس امتيازا مضمونا للبلد وأهله. لعله يزج قطاعات أكبر من السوريين في عملية التفجر الاجتماعي والسياسي والفكري الجارية، فيُرقّي بذلك من أهليتهم السياسية، لكن له جانب تدميري عنيف هو منذ الآن شديد القسوة وباهظ الكلفة، وقد يكون القادم أعظم. في تونس ومصر، كان ثمة مؤسسات أمكن استصلاحها والاستناد إليها. هذا حد من جذرية الثورتين، لكنه حد من كلفتهما الإنسانية والمادية أيضا. في سورية لا يبدو أن هناك ما يمكن الاستناد إليه، لا شيء على الإطلاق (إلا الله!). ويحتمل، لذلك، أن تكون القطيعة السورية أشد عمقا وإيلاما، بدرجة تتناسب على كل حال مع تطرف النظام وعدوانيته. ولعل الأصل في كل هذا الاضطراب هو التوتر المديد بين غنى وتنوع وفتوة المجتمع السوري وبين الضيق الخانق للقوالب السياسية والفكرية التي حشر ضمنها خلال نصف قرن. وهذا في بلد شديد القلق أصلا، كان موّارا بتيارات متضاربة قبل الحكم البعثي، ولم يتوافق في أي وقت على أسس فكرية وسياسية مناسبة لاستقراره وتطوره، ولا حتى على مفهوم للهوية الوطنية الجامعة. وإنما من هذه الثغرات الواسعة دخل الانقلاب العسكري البعثي، ثم الحكم الأسدي، الذي حول الغنى السوري المتنافر إلى نمط واحد فقير و"استقرار" مميت. وإذا كان صحيحا أن الزمن البعثي (أكثر من نصف عمر الكيان السوري الحديث)، وصفحتيه الأسديتين بخاصة، يتحمل المسؤولية عن المحنة السورية الراهنة، فإن حكم البعث والأسدين جاء على خلفية مشكلات موروثة، كيانية واجتماعية وسياسية، وإن يكن في المحصلة فاقمها جميعا ولم يحسم أي منها. هذه المشكلات تفرض نفسها بزخم متزايد منذ الآن، وستكون مثار خصومات وصراعات كثيرة في سورية في أي مستقبل قريب. منها بخاصة ما يتصل بالمسألة الطائفية وتنظيم العلاقات بين السوريين مختلفي الأديان والمذاهب. السجل البعثي الأسدي مشين في هذا الشأن، وميراثه كارثي. ومنها ما يتصل بالشأن الكردي والمجموعات الإثنية الأخرى، والسجل سلبي جدا في هذا الشأن أيضا. ومنها ما يتصل بالنظام السياسي ومؤسسات الحكم، والصعوبات الكبيرة التي يتحتم أن تواجه سورية بعد التخلص من النظام الحالي. ومنها ما يتصل بعلاقات سورية وروابطها العربية والإقليمية والدولية، وما يطرحه ذلك من صعوبات في وجه ضمان استقلال واستقرار البلد في المستقبل. وفي أساسها كلها ما يتصل بمفهوم سورية وهويتها الوطنية، وصيغ استيعاب كل من العروبة والإسلام في الوطنية السورية. والقصد أن الثورة مناسبة لتفجر مشكلات تاريخ سورية غير المعالجة وغير المحلولة كلها. قبل الحكم البعثي، كان لدينا سورية، لكن لم يكن هناك سوريون. اليوم، وبعد نحو نصف قرن بعثي، هناك سوريون أكثر، لكن هناك خشية جدية على سورية، كيانا ودولة. وسيتمثل التحدي العسير في إعادة بناء سورية كوطن والسوريين كشعب، وتجاوز مشكلات الاضطراب السياسي والفكري السابقة للحكم البعثي، والإفقار السياسي والثقافي الذي نرثه من الحكم الأسدي. وليس في وقوف السوريين أمام تاريخ كيانهم الوطني كله ما هو استثنائي. فعدا عن حداثة كيان سورية، فإن الثورة هي أضخم حدث تاريخي في تاريخ هذا البلد منذ استقلاله، بل هو الأكبر والأوسع نطاقا خلال 94 عاما من تاريخه. ثم إنه طوال سنوات الحكم الأسدي كانت النخب السورية، المثقفة والسياسية، تفر من مواجهة مشكلات البلد والمجتمع، أو حتى من الإقرار بها. فكان أن انضاف إلى الكبت السياسي كبت فكري، جعل سورية بلدا مجهولا لأهله قبل غيرهم. وكان أيضا أن أخذت تتفجر بفظاظة المشكلات التي ثابر الفكر المرهف على تجنبها. وإذ تتحدى الثورة اليوم وبقسوة عادات النخبة السورية في المواربة والتجنب، تبدو مقبلة على الإطاحة بإشكاليات ومذاهب وأعلام، والتأسيس لإشكاليات وتفكير جديدين. وإلى حين تتبلور توازنات اجتماعية وسياسية وفكرية جديدة ويقوم عليها استقرار جديد، سنمر حتما بأوقات مضطربة تتنازع فيها الآراء وتحتدم الانفعالات وتتقلب النفوس. إننا ندفع ثمن تأخر في مواجهة الذات عمره أكثر من جيل. من شأن قسوة القادم السوري أن تكون مخيبة لحماسات وتوقعات محلّقة من الثورة، لكن هذه هي القاعدة وليس الاستثناء في تاريخ الثورات. فهي قلما تثمر أوضاعا أكثر عدالة وحرية خلال وقت قريب، لكنها تحرر ديناميات اجتماعية وتاريخية كانت مكبوحة، وتنتج جيلا نشطا مجددا، وتفتح أفق المجتمع المعني على ممكنات كثيرة. ... نتكلم كأن سقوط النظام أمر محقق؟ هو كذلك.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عدالة الثورة لا تضمن عدالة الثائرين
-
النظام الطائفي ليس نظام طائفة
-
الإسلاميون السوريون... توجهات منفتحة وتناقض مقيم
-
الثورة كصناعة للأمل
-
حوار في شأن أصول الثورة السورية وفصولها
-
الحكم بالتذكر: من أصول المحنة السورية
-
هذا النظام، هذه الثورة، هذا العالم: حوار حول الشأن السوري
-
عن الطائفية ما بعد كرم الزيتون
-
لا عودة إلى بيت الطاعة الأسدي
-
عام من الثورة المستحيلة
-
عام من الثورة السورية: فلنسحق الخسيس!
-
من الأزمة السورية إلى المسألة السورية
-
سورية، إلى أين؟ أسئلة نارين دانغيان
-
عناصر أولية من أجل استراتيجية عامة للثورة السورية
-
الحزب الذي لم يعد قائدا للدولة والمجتمع...
-
-اختراع التقاليد- لإريك هوبسباوم
-
ملامح من الوضع الراهن للأزمة السورية
-
الحكم بالاحتلال!
-
في الطائفية والنظام الطائفي في سورية
-
-قتل ذاك الماضي-، حازم صاغية يروي سيرة -البعث السوري-
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|