جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 3699 - 2012 / 4 / 15 - 10:08
المحور:
سيرة ذاتية
حين أتذكر جدتي تغرورقُ عيناي بالدموع على تلك المرأة الحديدية ذات الحنان البالغ الأثر في نفس كل من خبرها من أهل الدار,تلك العجوز التي فُجعت بكافة أبنائها وهي ما زالت على قيد الحياة تشاهدُ سقوطهم واستسلامهم للأمراض النفسية المعاصرة واحداً تلوى الآخر ولكل واحدٍ منهم قصة أغرب وأعجب من الخيال وتقاوم مرض الضغط وهشاشة العظام,وكانت تُسمي الضغط ب(الزغط) وأخيرا مرض القلب الذي أودى بحياتها حين نعرفُ بأنها ولدت سنة 1910م وتوفاها الله في عام 1994م,وحين كانت تجلس على باب الدار في الساعات الأخيرة من النهار في فصل الصيف كنتُ وما زلت أتذكر الناس وهم يمرون من أمامها يسلمون عليها ويحيونها بتحية الصابرين وأغلب الذين عرفوها وخبروها كانوا يتقدمون منها مطمئنين رؤوسهم ومحنيين ظهورهم قائلين لها(وبشر الصابرين), وما يحزنني أكثر أن الناس اليوم يشبهون حياة أمي بحياة جدتي وأحيانا أمي تجهش بالبكاء وهي تقول(اللي شافته وذاقته "حمده" شفته وذقته ) حين تحزن على وضعي الحالي.
وكانت علاقة أمي بجدتي قوية جدا لم أسمع بمثلها إلى هذا اليوم وذلك.. كانت فعلا جدتي جبلا من الهموم وكتلة من الصبر حتى كاد الناس فعلا أن يكنون بيتها ب(بيت الهموم أو دار أبو الهموم ودار أبو المشاكل),كنا نجلس في بيتها وعلى مائدتها أكثر من 20 عشرين ولدا دون أن نشكل أي ازدحام على صحن السلطة الذي كانت تعده لنا والمصنوع أصلاً من شغل يديها حين كانت تفرم لنا الخيار وتخلطه مع اللبن(الرايب) وتدقُ معه سنين من الثوم أو حين كانت تصنع لنا السلطة من نبات (الرشاد) وهو نبات حار جدا تذهبُ حرورته حين يختلط باللبن أو الماء, وما زال طعمه على رأس لساني إلى اليوم,والغريب في الموضوع أننا اليوم نجلس بدونها على مائدة الطعام ونزدحمُ عليها ازدحاما شديدا حتى لو كنا اثنان أو ثلاثة ولا يكاد المكان أن يتسع لنا بعد غياب جدتي,لم يعد المكان يتسع لنا بعد موتها رحمها الله,وصدقوني أنني أكتب مقالي هذا عنها وتكاد عيناي لا ترى ما أكتبه من فيض الدموع على ذكراها العطرة,فأعصابي لا تتحمل منظرها في أول ساعات المساء حين تناديني لأشعل لها نور الغرفة التي كانت تسكن بها, وكانت حركتها ثقيلة جدا,رغم أنها كانت سريعة الحركة في أيام شبابها ولكنني لم أعاصرها في أيام خفة جسمها, والمدهش أنها كانت بعصاها(منسأتها) تجلبُ من حولها كل ما تحتاجه خطفاً حيث كانت تخطف أكياس الخضرة أو الدواء لتتناول منه كل ما تريده ومن ثم تعيده إلى المكان الذي من المفترض أن يكون به,وكان بجانبها مدفئة صغيرة تعمل على الكاز مُقزمة الشكل ولونها أخضر تطبخ عليها ما تشتهيه وخصوصا شوي الباذنجان,وحين ماتت إلى اليوم لم أذق في حياتي طعم الباذنجان الذي كانت تطهوه بيدها الكريمة, وكنتُ وأنا صغير في سنة 1991,أتعلم شرب السجائر بين الفينة والأخرى وخصوصا في أوقات الذروة حين لا أجد عملا يسليني, وكنتُ أطلب منها أن تلف لي سيجارة مصنوعة من الميرمية اليابسة فحين كانت النبتة تنشف كانت رحمها الله تفركها بيديها لتتخذ من أصابع كفها مطحنة للميرمية, والميرمية نبتة طيبة الرائحة نضعها أيضاً على الشاي وهي ما زالت خضراء طازجة لتعطيه نكهة لذيذة,وكنتُ حين أشرب من يديها سيجارة الميرمية أشعر بالدوار (الدوخة),وكانت تكنيني بكنية(عمود الدار) وكانت توصيني على الدار ولم أكن أرفض لها أمرا على الإطلاق,وكانت تناديني وتُسمي لي أصدقاء جدي واحدا تلوى الآخر ومن ثم تُسمي لي أعداء جدي أيضا واحدا تلوى الآخر وكانت تقول لي(اللي ما بحب جدك ما بحبك وعدو جدك هو عدوك) وكانت توصيني بتعميق العلاقة بيني وبين أبناء وأحفاد أصدقاء جدي وأحبائه وكانت تأمرني بالابتعاد عن أبناء وأحفاد أعداء جدي وهم قلةٌ والحمدُ لله,وفعلا كانت صادقة في رؤيتها للمستقبل حيث ما زال أحفاد أعداء جدي إلى اليوم لا يحبونني بدون أي سبب أما أبناء أصدقاء جدي فما زالوا إلى اليوم يلقونني بالشوارع والأزقة ويأخذونني بالأحضان أيضاً دون أي سبب, وحين كنت أسألها عن تاريخ العائلة القديم كانت تتكلم بأول كلمة ومن ثم تبكي بصوت عالٍ على (علي) وهو أبي وكانت تبكي على عمتي(أم خالد) بصوت مسموع ومن ثم تطردني من غرفتها نظرا لأنني بسؤالي هذا كنتُ أتسبب لها باشترار الذكريات الأليمة أي:استحلاب الماضي بكل مكوناته وصوره وكنت أشعر بالخجل منها وأذهبُ إلى غرفة أمي خائفاً أترقبُ ماذا يحدث وعلى الأغلب كنتُ أعود إليها بعد أن تطردني لأرى ما تفعل فأجدها نائما تشخر من شدة التعب والإرهاق, ولم يكن يدخل عليها في العطلة المدرسية الواقعة بين الفصلين أي ولد أو أي بنت من بنات ابنتها المرحومة (أم خالد) إلا وتبكي وتصرخ بأعلى صوتها وتضع أصابع يديها على وجوه الأطفال تتحسسهم وتشتم رائحة أم خالد رحمها الله عن طريق أولادها وبناتها اليتيمات,وأنا ما زلت أستذكر كل ذلك كلمة بكلمة وحرفا بحرف.
كانت رحمها الله سيدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ولم تكن تقبل بأن تراني متعبا وكانت تفتخر بي كثيرا حين تسمع من الناس عني كل ما هو طيب من أخلاقي وأدبي واحترامي للناس,وكانت تناديني في أغلب الأحيان وتحتضنني تحت جناحيها وتبكي على رائحة أبي(علي) ربما لأنه كان ولدها المدلل جدا الذي صارع الأقدار وصرعته حتى أردته وأتت على آخرته.
رأت جدتي في حياتها كثيرا من النعيم الزائل وحين وصلت الخمسين من عمرها رأت في حياتها كثيرا من البؤس الدائم حتى ماتت شهيدة المعاناة والحزن والكآبة وكانت تتهم البؤس كونه (صيبت عين) فكانت تقول الناس أصابتنا بالعين من شدة الحسد,وحين كان يسقط المطر على غرفتها كانت تنكمش شيئا فشيئا مع فراشها حتى تصل إلى زاوية ليس فيها أي تساقطٍ لقطرات الماء التي كانت تدلفُ عليها من السقف المصنوع من رُمح القُصيب,وحين كان يحلُ عليها الظلام تقول(الله يعيني عن ساعةٍ لا بد عنها) وحين كان يأتي الصيف عليها كانت تقول(يا حزين يا عبدي لا تطيق حري ولا بردي) ومن ثم تجهشُ بالبكاء بصوتٍ عالي,وكنا نبحث في بيتها عن الدفء التام في فصل الشتاء كون البيت مصنوع من الحجر والطين مما يسمح لجدرانه العريضة بأن يحتفظ بالحرارة لمدة أطول على اعتبار عرض الجدار 60سنتمتر,وكنا نبحث في فصل الصيف عن البرودة والهواء النقي في بيتها كون البيت مرتفع السقف يصل إلى علو خمسة أمتار ونصف المتر مما يسمح للهواء الساخن أن يتراكم كالأبخرة في أعلى السقف والهواء البارد أنْ ينزل إلى ملامسة سطح الأرض ,وكل من كان يشتدُ عليه الحر في فصل الصيف كان يأت إلى بيتها ليجد البرودة وهبات النسيم ولم تكن تسمع بموت أي أحد في قريتنا إلا وتعتريها كثيرا من الوساوس والشكوك والظنون وخصوصا إذا كان المتوفى من مجايليها في الأعمار وكانت على الأغلب تعد حقيبتها للسفر إلى المكان البعيد الذي لا يعرف عنه أحد أي شيء,وكانت ترتجف من ذكر الموت ارتجافا وكانت أحيانا تبدو شجاعة جدا ومستعدة للموت وكانت أحيانا تستجمع قواها الضعيفة لتلحق بكل من رحل من أهل البيت,وما زلتُ أذكر آخر مرة مَرُضتْ فيها حين دخلتُ عليها وهي ترتجفُ تحت الغطاء وكنتُ يومها ذاهبا إلى العمل في ذلكَ الصباح ,وحين تقدمتُ منها وأمسكتُ بيدها كانت قد شدت بيدها على يدي وهي تقول(حطها على قلبي إيدك ساخنه وأنا باردة )وتنهدت عدة تنهيدات طويلة وقالت :-لي بعدها-(يمكن ما راح أشوفك), وما زالت تضع يدي على صدرها حتى جاء رجال الدفاع المدني والإسعاف فنقلوها إلى المستشفى وركبتُ معها في سيارة الإسعاف ويدي على صدرها وكانت شبه فاقدة للوعي بين الموت وبين الحياة.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟