صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 1087 - 2005 / 1 / 23 - 10:28
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كان في نيتي ان اقدم دراسة مقارنة بين البرامج الانتخابية, مساهمة مني في مساعدة الناخبين العراقيين المترددين في اختيار مرشحيهم كما افعل عادة قبل الانتخابات في هولندا. لكن كثرة الكيانات السياسية, وقلة الفروق في برامجها دفعني الى التردد. لكن السبب الاهم من تلك هو ان الانتخابات العراقية القادمة لاتعني انتخاب حكومة تهدف الى انجاز برنامج معين ويعطى لها الوقت والامكانيات لذلك, بل هدفها بالدرجة الرئيسية كتابة الدستور.
قبل ان اتحدث عن كتابة الدستور اود ان اقول كلمة عن المشاركة بالانتخابات ومقاطعتها.
كما قلت في مقالة سابقة, لا استغرب ان يقاطع العراقيون الانتخابات لقلة ما تعد به, وللظروف الغامضة التي يمر بها العراق, وللقلق من ان تكون الانتخابات والحكومة الناتجة عنها غطاء لحكومة لاتمثل الشعب, وبالتالي ستمتلك صلاحيات اوسع للاضرار بالبلاد. انها مخاوف مشروعة, ومن غير الصحيح اتهام كل المقاطعين بانهم مدافعين عن الارهاب والصداميين.
بالمقابل يتهم المتحمسون للمقاطعة, الباقين الذين يتوجهون للانتخاب بانهم عملاء للامريكان, وهذه تهمة لاتستند الا على تعجل متهور في اصدار الاحكام. فالامريكان وجماعتهم, سيسعدهم اكثر ان تتم انتخابات يقاطعها منافسيهم المخالفين لهم بالرأي.
اذن ما هو الموقف؟ مقاطعة الانتخابات سلاح مشروع وجيد للاحتجاج, لكنه يتطلب دائما تحضيرا كبيرا ودبلوماسية نشطة تنجح في اقناع اغلبية الناس والاحزاب بمقاطعة الانتخابات, وليس عن طريق ارهابهم. فان لم تأت المقاطعة بنسبة كافية, جاءت نتائجها معكوسة بشكل خطير للغاية, وان امتنع الناس ارهابا, خسرت المقاطعة شعبيتها وكسبت عداء الناس.
لذلك, ما ان يرى دعاة المقاطعة ان حملتهم لم تنجح ما فيه الكفاية لافشال الانتخابات, دون حساب تأثير الارهاب, توجب عليهم التوجه لصناديق الاقتراع لكي لا تترك الساحة فارغة للجهة المقابلة. فمقاطعة الانتخابات كانت تتطلب وعيا وتنظيما لم ترتفع المقاومة الى اي مستوى قريب منه, فهي تعمل لوحدها دون اية محاولة حقيقية لكسب الناس والجهات السياسية المخلصة, بل واسوأ من ذلك انها قبلت الارهاب في صفوفها حتى لم صار من الصعب تمييزها عنه.
نعود الى الدستور. ما سوف يسعى اليه الامريكان, كتابة دستور للعراق يجعله في يد الشركات اكثر ما يمكن, وبعيدا عن الناس اكثر ما يمكن. سيكون في الدستور نصوص على حرية المواطن وحقه في الرفاه وغيره, لكنه سيحتوي نصوصا اخرى تجعل تنفيذ هذه النصوص مستحيلا, مثل حرية السوق وحقوق الملكية. ولمن لايعرف معنى حرية السوق اقول انها ببساطة منع الحكومات من دعم اي شيء بما فيها مواطنيها الفقراء, ويفرض عليها فتح كل موارد البلد لكل الشركات العالمية بلا تمييز. لن يشمل ذلك النفط لوحده, بل الماء والكهرباء, وغيرها, وسيسمح للشركات, او السوق, بتحديد اسعارها. هذا ليس خيالا, بل ما يحدث الان في العالم حتى في الدول القوية فمثلا اشتكت شركات التأمين الامريكية الى الجهات المالية العالمية (محامي حرية السوق) ضد خطة حكومية لتأمين شعبي في كندا, وافشلت المشروع.
لن تكتفي اميركا بالحصول على دستور يضع الشركات امام الناس, بل ستسعى للحصول على حكومة تهتم بان يكون التنفيذ السياسي اكثر بعدا حتى مما يتيحه الدستور من استغلال.
وللحكومة الامريكية والسوق خطوط دفاع اخرى, ان فشل الدستور والحكومة المناسبة من تحقيق مأربها, وهي ديون صدام. ربما سمعتم ان 90% من الديون قد الغيت, لكن هذا هو الجزء الاول من الحقيقة فقط. اما الجزء الثاني فهو ان هذا الاعفاء سيكون بشكل 30% مباشرة, والباقي سينفذ فقط في حالة رضا البنك الدولي عن الاداء الاقتصادي للحكومة العراقية المقبلة. وهو ما لايعني الا التزامها الاجباري ب "حرية السوق", اي حرية الشركات (العراقية والاجنبية) من اي تدخل حكومي, لتحدد بنفسها ما ينتج في العراق وما يترك, وتحدد الاسعار لكل شيء. ان "حرية السوق" ليس في الواقع الا "دكتاتورية الشركات", لكن من سيستطيع اقناع الناس به اذا ما اطلق عليه اسمه المناسب؟
واخيرا ان فشل كل شيء فهناك دائما امكانية الانقلاب العسكري, خاصة بوجود كل تلك القوات الامريكية في العراق. بالطبع لن يقوموا به بانفسهم, ولن يقوم به عميل لهم بشكل مفضوح, بل سيقدم له بتمثيليه معدة جيدا, او ستقدمها الضروف لهم, بحيث يبدوا مرشحهم مدافعا عن الديمقراطية, كان يبدأ الموضوع بمحاولة احد العسكريين الاستيلاء على السلطة, فينبري علاوي او شعلان لانقاذ الديمقراطية ليحكم الى اجل غير مسمى. لم يكن ذلك صعبا في روسيا, ولم يخجل الامريكان من ان يقدموا يلتسين الذي كان يضرب البرلمان الروسي بالدبابات امام كامرات تلفزيون العالم, على انه امل الديمقراطية في روسيا.
ان مما سيسهل مرور الخطط الاقتصادية الامريكية للعراق, ان لايركز الناس واحزابهم عليها. وهذا مايقدمه الوضع الارهابي الحالي في العراق من خدمة لهم. فبعد ارهاق العراقي بالخوف, لن يقرأ الجزء الاقتصادي لمشاريع مرشحيه, بل يضع الامن كهدفه الاول وربما الوحيد. لاينطبق ذلك على العراق وحده, بل هي السياسة الامريكية الداخلية والعالمية: تريد من الناس التركيز على الارهاب وترك الاقتصاد مفتوحا لشركاتها.
ابتعدنا عن موضوع الانتخابات, لكن معرفة الاخطار التي تهدد العراق مستقبلا, خطوة اساسية لرسم سياستنا لردعها بافضل السبل, واحد هذه السبل هي الانتخابات. قد يكون من حقنا اليأس من امكانية اية حكومة من ان تمنع كل تلك الاخطار, لكن في العراق رجال ونساء يعتقدون ان بامكانهم عمل شيء وهم يخاطرون بحياتهم بشكل هائل, ولايطلبون الا دعم الناس لايصالهم الى حيث يمكنهم مواجهة الوحش, لعلهم يستطيعون شيئا لعرقلة خططه. ان ما يعطي بعض الامل هو ان هناك ظروفا سياسية عالمية جديدة يمكن الاستفادة منها ان وصلت العراق حكومة مثقفة شجاعة امينة. واهم تلك الظروف, انه ولاول مرة في التاريخ ينتبه الناس في كل العالم الى الخطط الامريكية ويخشونها ويراقبوها بحذر بل يكرهون القائمين بها ويخافونهم ويحتقرونهم. لذلك فان سياسة امريكا داخليا وعالميا تقوم على "ادامة الخوف", والذي يستدعي ادامة الارهاب في العالم.
الخطر الاخر بالطبع هو ان تأتي العراق حكومة رجعية تضع دستورا رجعيا غير ديمقراطي. والخطر الاخر وصول ارهابيي صدام الى السلطة, وقد وصلوا فعلا اليها, حتى انه صار من الصعب اليوم ان نحزر فيما اذا كانت نسبة تمثيل الصداميين في القوى الارهابية اكبر, ام في السلطة الحالية.
السؤال يصبح اذن, من هي الحكومة الاكثر قدرة للتصدي لمشاريع الامريكان والصداميين والرجعيين التدميرية في العراق؟ بدأ ارى انه يجب استبعاد, ليس فقط اية قائمة تطرح الليبرالية وحرية السوق كهدف لها, بل وقبل ذلك اية قائمة يقف في قيادتها مشبوهين بالتبعية للامريكان, او الصداميين او المشبوهين اخلاقيا, او الداعين الى الغاء الديمقراطية.
ليس لي ما اقوله لمن ينوي ان يصوت على اساس قومي او طائفي, لان امكانية الحديث موجودة فقط مع من ينوي ان يكون عقله مصدر قراره, وليس انتمائه الوراثي.
كذلك لامعنى لطروحات من يسمون انفسهم تسميات لا توضح موقفهم السياسي مثل "تكنوقراطيين" لان هؤلاء يضعون مواقفهم السياسية في الخفاء ويدعونا للتركيز على الناحية العلمية التكنولوجية التي يدعون انهم الافضل فيها. لكن قرارات الحكومة قرارات سياسية وليست تكنولوجية, ولكل حكومة مستشاريها التكنولوجيين دائما, ويجب ان تستمع الى نصحهم, فلا يشترط بوزير الكهرباء مثلا ان يكون مهندس كهرباء مثلما لايشترط في وزير الدفاع ان يكون عسكريا, بل ان ذلك غير مفضل.
اما الملكية الدستورية, فهاهو رجل يريد ان ننتخبه, ليس فقط مدى الحياة, ولكن مدى حياة سلالته, ونفرض ذلك ليس علينا فقط, بل واولادنا واولادهم, وليس له من ميزة سوى انه يرتبط بقرابة رجل جاء به الانكليز لنا ملكا قبل ثلاثة ارباع قرن.
وبالنسبة للعشائر ومرشحيها, فان من قرأ حنا بطاطو يعرف جيدا ان رؤساء العشائر كانوا الطبقة الاكثر انانية وتدميرا في العراق حين اتيحت لهم سلطة في الثلاثينات وحتى ثورة 1958, حتى ان الملك فيصل, حين كان يختلف مع الانكليز, كانوا يقفون ضده, ومرة قالوا له صراحة " ان ولاءنا لك من ولائك للانكليز". اما اغوات الاكراد فكانوا الاكثر قسوة بين رؤساء العشائر على عشائرهم اطلاقا, وكان التابعين لهم عبيدا حسب بطاطو.
يجب انتخاب حزب له تأريخ مضاد لكل هذه الاخطار, مما لا يبقي لنا الا بعض الشخصيات المتفرقة وقائمة اتحاد الشعب. وانا اعتقد انه في حالة التردد, يجب تفضيل الحزب دائما على الشخصية, لانه اكثر استقرارا, واكثر قدرة على الدفاع عن مواقفه كما يمكن محاسبته بشكل افضل من قبل ناخبيه ومن قبل الناس.
يجب التصويت بمسؤولية ووعي وليس لان فلانا يبدو "قوي الشخصية", او لان صوته جميل. كذلك يجب الابتعاد عن الاسس الغامضة للتقييمات, مثل : ان العراق بحاجة لرجل قوي. او : العراق لا ينفع معه الا مثل هذا الرجل. فالكثير من الناس يفكر بتأن وحكمة اكبر حين يتعلق الامر بعشرة دولارات اكثر من ما يبذل من تفكير بقرار يتعلق بمصير بلاده. نعم ان الخطر كبير ومخيف, لكن الشجاعة هي القدرة على التفكير السليم والقياس الصحيح, في موقع الخطر.
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟