الناصرية والفن والأدب
هل قتلت دولة الضباط الأحرار صلاح عبد الصبور؟
فى يونية 1957 كرمت الدولة رسميا، وللمرة الأولى، الصحفيين والإذاعيين والمسرحيين والشعراء والزجالين والسينمائيين والقصاصين والملحنين والمطربين "الذين قاموا بجهد فى تعبئة الشعور القومى أثناء المعركة" (أى حرب 56). واحتفت الصحف بهذه المناسبة واستبشرت بها خيرا كعلامة مهمة على مسار من التغير النوعى فى علاقة الدولة بالثقافة والإعلام، وتكريسا لتحالف يمنح كل المشاركين فى الإنتاج الإيديولوجى الحديث، بما فى ذلك الفن والأدب، مكانة رسمية لم يكونوا يحلمون بها قبل عصر الضباط. ويكفى أن نتذكر هنا أن جمال عبد الناصر قد توسط شخصيا لتحقيق الصلح بين أم كلثوم وعبد الوهاب لينتجا عملا فنيا مشتركا يمثل لقاء القمم، على غرار "اجتماعات الأقطاب" من قادة العالم آنذاك.
ولا يعنينى هنا ما أثاره هذا التكريم من فرح واستبشار، ولا من حسد واستهجان لدى رجال الدين وغيرهم من المنتجين الإيديولوجيين الآخرين، ولا أيضا ما حدث فى السنوات التالية من احتكاكات بين الأطراف التى تم تكريمها نفسها، بين المطربين والصحفيين مثلا، من أجل تأكيد المكانة الأرفع والأهمية الأكبر فى خدمة النظام وتحقيق أهدافه – التى هى "طبعا" أهداف الشعب والأمة، وربما الإنسانية كلها! يعنينى فقط أن أستكشف الدلالات العديدة لهذا التحول.. طبيعة الأوضاع التى دفعت إلى هذه الرعاية وهذا الاهتمام والتكريم من جانب النظام للفن والأدب، وما رافقه من تدخل للدولة فى أمورهما. وإذا كان هذا التدخل قد شاعت عنه صورة الحظر والمنع والتوجيه والتسلط تحت شعار الاشتراكية، فإننى سأحاول هنا أن أوضح أن المنع لم يكن جوهر العلاقة بين الدولة والفن والأدب، لا لأن الفنانين والأدباء كانوا يتمتعون بالحرية، ولكن لأن الأمر كان أعقد من المنع والحظر بكثير؛ كذلك لم يكن التكريم نابعا من إعجاب خاص بالفن والأدب فى حد ذاتهما؛ ولا كان هذا التدخل والتوجيه والاحتفاء مرتبطا بـ"المرحلة الاشتراكية"، على ما هو شائع، وإنما بدأ منذ يوم الانقلاب، لأنه ارتبط فى الواقع بتصاعد أهمية الإيديولوجيا عموما والدعاية خصوصا فى آليات عمل النظام بسبب طبيعته الخاصة للغاية.
فإذا كان عهد الضباط هو عصر تصاعد الاهتمام الرسمى بالفن أولا والأدب ثانيا، وصولا إلى شكل من التحالف الوثيق بين الضابط والفنان، فإن هذا التحالف يرجع فى المقام الأول إلى اعتماد نظام حكم الضباط فى آليات استمراره السياسى بشكل متعاظم على نوع من الحشد والتعبئة والتوجيه للجمهور، بشكل يفوق معظم النظم السياسية المعاصرة (وهى مسألة كانت ملموسة ومعروفة تماما على أية حال، ولن نخوض فيها هنا)، الأمر الذى دفعه على نحو ما سأوضح إلى الاهتمام الشديد بتحقيق نوع من السيطرة أو التوجيه لمجال الأدب والفن، وتوثيق الصلة بالفنانين والأدباء؛ كما أدى فوق ذلك إلى الاهتمام بتوسيع نفوذ هذا المجال ذاته، كواحد من أهم أدوات الدعاية؛ ومن هنا تلك المصلحة المشتركة التى سمحت بتحقيق التحالف بين الضباط وعدد كبير من الفنانين. ومع ذلك لم يقم هذا التحالف على أساس نفعى بالضرورة، فقد كان ثمة أيضا إغراء المكاسب المعنوية المتمثلة فى اعتراف الدولة واهتمامها وتكريمها، وهناك مكسب إضافى يتمثل فى الحصول على حمايتها من هجوم أطراف أخرى، كرجال الدين والمفكرين المحافظين مثلا، ومؤازريهم من الأصوات المحافظة فى مجلس الأمة فى سنوات انعقاده القليلة.
ومن الطبيعى أن يتأثر تحالف الضابط والفنان بطبيعة إيديولوجية النظام ذاتها، التى حكمت مسار الضغط الرسمى على مجالى الفن والأدب، والمجالات الإعلامية والثقافية عموما. وكانت الإيديولوجيا السائدة تقوم على نوع من تقديس الشعب فى عمومه، وبالتالى تقديس النظام، لا بذاته، ولكن بوصفه بالتحديد المعبر عن هذا الشعب العمومى. فـ"الشعب المعلم"، وفقا للميثاق (الذى يبلور بهذا المصطلح تطورات إيديولوجية سابقة)، "راح يلقن طلائعه"، أى الضباط، "أسرار آماله الكبرى، ومضى يحرك المبادئ الستة بالتجربة والخطأ نحو وضوح فكرى يصنع التصميم الهندسى لبناء المجتمع الجديد الذى يريده". بل و"راح يشرف"، هو، لا الضباط، " على التحول الرائد الخلاق نحو الاشتراكية الديمقراطية التعاونية". فقد اتجه الضباط منذ اللحظة الأولى، وليس فقط عند إصدار الميثاق، إلى الكلام باسم الشعب، بالضبط لأنهم لا يمثلون فئة أو جماعة أو اتجاها بعينه، وبالتالى لم يتبق لهم بوصفهم زمرة سوى ادعاء أنهم يمثلونه كله بغير تمييز (باستثناء "أعداء الشعب") بشكل مباشر وبغير حاجة إلى أجهزة تمثيل.
ووفقا لهذا المبدأ كان مطلوبا من الفن أن يستلهم هذا الشعب الذى يحرك التاريخ والضباط معا، فيما يقول الميثاق! فيؤلهه أولا، ثم يعبر عن مشاعره العميقة التى تتلخص بالضبط فى تأييد النظام فى تحقيق ما يحققه وتحطيم ما يحطمه. فباسم الشعب بكل أفراده وطوائفه يعلن عبد الحليم حافظ مثلا أننا "كلنا كده عايزين صورة/ صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة". ونحن، أى "كلنا" هؤلاء، وحدة لا تقبل التعدد أو الانقسام أو الاختلاف. فـ"اللى حيبعد م الميدان عمره ما حيبان فى الصورة". وباختصار كانت هذه الصورة، التى كان "يصَّورها جمال" كما تقول الأغنية، الإطار الحاكم، سياسيا وإيديولوجيا للشعب ولكل من يرغب فى المساهمة فى "التعبير عنه"، أو بعبارة أخرى: الظهور فى الصورة. وبالتالى لم يكن ما مارسه الضباط من "تطهير" ثقافى وإعلامى عموما يهدف إلى مجرد ضمان الولاء، وإنما كان يرمى من حيث الموضوع إلى تكريس مقولة "الشعب" كمقولة حاكمة فى الوعى العام. ويكفى أن نتذكر أن مبرر تأميم الصحف كما ذكره عبد الناصر كان بالتحديد أنه يريد صحافة تتحدث عن الشعب والتنمية وما شابه ذلك، لا عن الأرستقراطية والخيانات الزوجية، أو أى شىء له طابع فردى أو غير منضبط. وفى نفس السياق جرت عملية إحياء ما سُمى بالفن الشعبى، وتواترت الشعارات عن الحفاظ على "طابعنا الثقافى والروحى".
وجدير بالذكر هنا أن هذا الميل المتزايد للتدخل سابق على أية أقاويل عن "الاشتراكية"، بما فى ذلك "الاشتراكية الديمقراطية التعاونية" التى ظهرت فجأة شعارا رسميا ذات يوم من عام 1956. فلم يكن فرض الوصاية على الدعاية، وعلى الثقافة بقدر ما لها من تأثير دعائى، مرتبطا بأية اشتراكية، ولا بالتالى بنظرية "الواقعية الاشتراكية" فى الأدب والفن. كان مضمون الفن والأدب السياسيين فى الخمسينات "ضباطيا" وطنيا شعبويا. فقضاياه كانت تدور حول: فساد الباشوات أخلاقيا وماليا (وهو امتداد أكثر "جرأة" للأفلام المعبرة عن صعود الطبقة الوسطى فى الأربعينات التى كانت تكتفى بتناول فساد أبناء الباشوات)؛ تجرد الضابط ووطنيته وحبه للشعب؛ تمجيد الطبقة الوسطى بصفة أنها هى الشعب وتأكيد اتحاد هذا الشعب مع الضباط. وباختصار إحلال عبادة الشعب، بقيادة الضباط، محل الأرستقراطية، وكذلك إهالة تراب الإدانة على الثقافة السابقة على الانقلاب، بوصفها بأنها "استعمارية". أما على الصعيد الاقتصادى فكان المطروح هو الوفاق الاجتماعى والوئام الطبقى بين العامل والرأسمالى، أو "اشتراكية المحبة" بين الطبقات.
على هذا الأساس الإيديولوجى توثقت العلاقة بين الدولة والفن والأدب. وبصفة خاصة كانت الأغنية الوطنية النموذج الأمثل للتعاون "المثمر" بين الضابط والفنان. فمثلا نجح الشعراء والزجالين والمطربين والملحنين أثناء حرب 56 فى تلحين عشرات الأناشيد فى ساعات، منها النشيد الوطنى/ العسكرى "واللـه زمان يا سلاحى"، ولعب بعضها دورا كبيرا فى التعبئة المعنوية بحيث استحقت التكريم الذى افتتحنا به هذا المقال. ولكن لم تكن تلك هى السابقة الأولى، فقد أجريت بروفة سابقة لـ"التلحين السريع" بمناسبة الاستفتاء على عبد الناصر كرئيس للجمهورية، وعلى دستور 56. فتم تأليف وتلحين أغنية "إحنا الشعب" فى ساعات لتلحق بالمناسبة، وكانت أيضا بصوت عبد الحليم حافظ. وفيما بعد أصبحت أعياد "الثورة" الرسمية، وعلى رأسها عيد الثورة نفسه، من المناسبات التقليدية لـ"التلحين السريع". وتطورت قدرات الفنانين فى هذا المجال بشكل مذهل، بحيث استطاعوا فى يوليو 63 مثلا أن يخلقوا من العدم 36 نشيدا وأغنية وطنية فى عشرة أيام لا غير، شهدت أيضا انطلاق مطربيها لغنائها فى عشرين حفلة مختلفة.
لم يقتصر "تعاون" الفن والأدب مع النظام على الأغانى، برغم أنها كانت أهم بنود "التعاون" وأكثرها حساسية. فقد تدفقت مجموعة هائلة من الأفلام التى تمجد العهد الجديد أو تهلهل العهد السابق. وتراوح النشاط السينمائى بين إنتاج أفلام دعاية مباشرة وبين مجرد الاحتفاء بالجيش كجيش، على غرار سلسلة أفلام إسماعيل يس فى الأسطول والجيش والطيران ... الخ. وقد ظهر أول فيلم من "أفلام الثورة" وهو فيلم "الله معنا" فى مارس 55. وفى مجال الأدب سارع توفيق الحكيم مثلا إلى التعبير عن "رأيه" المؤيد للنظام الجديد بكتابة مسرحية "الأيدى الناعمة" (مايو 54)، التى تشيد بالعصامى، وتطرحه كنموذج إيجابى وطنى باحث عن مصلحة الشعب على غرار الضباط مقابل الأرستقراطى الفاشل. ولكن الأغرب أنه نشر فى أكتوبر من نفس العام ما أسميه مجازا "اسكتشا" من خمسين جملة بمناسبة محاولة اغتيال عبد الناصر فى المنشية، ومؤداه أن رجلا وزوجته أصيبا فى منزلهما بجروح من ماكينة الحلاقة وإبرة الخياطة فى نفس لحظة سماعهما فى الراديو لصوت إطلاق الرصاص على عبد الناصر وجعل عنوانها: "دمى من دمكم"، دليلا على الوحدة المطلقة بين الشعب والزعيم!! وهناك أيضا قصة يوسف السباعى الشهيرة "إنى راحلة"، التى تحدثنا عن نبل الضابط وانحلال الأرستقراطى، الأمر الذى يبرر من الناحية الدرامية أن تهجره زوجته وتهرب مع الضابط. هذا طبعا بخلاف الروايات الأخرى ليوسف السباعى نفسه ولآخرين فى التأريخ لمنجزات الثورة والتعبير عن مُثلها.
وليس معنى ذلك أن الأدباء والفنانين كانوا وحدهم الطرف المبادر بالتطوع للدعاية للثورة، أو لنفاقها إن شئت، فقد اتجه الضباط أيضا منذ البداية لاجتذاب الأدباء والفنانين. فمثلا أُرسل وجيه أباظة، المحافظ الكفء فيما بعد، إلى الإذاعة لتولى شئون الدعاية للضباط بعد الانقلاب مباشرة، واستطاع أن يجتذب إليه معظم الفنانين، وكان من بين مساعديه سامى داود. وفى عام 53 أُنشئت للمرة الأولى وزارة الإرشاد القومى، وهى تكافئ وزارتى الإعلام والثقافة معا الآن (ثم انفصلت وزارة الثقافة)، فكانت هذه خطوة حاسمة فى مسيرة الضباط المصممة على استخدام الدولة كجهاز دعاية لهم، ولكن باسم الأمة كلها. وفى مايو 55 أنشأ الضباط المجلس الأعلى للفنون والآداب، الذى اعتبر قانون إنشائه أن الدولة قوامة على رفاهية الشعب الروحية، وأن واجبها أن تحميه من "سموم الفكر ومخدرات الوجدان"، وأن تهذب الذوق العام وتحمى الأخلاق فى مجال الأدب والفن. وفى يونية 57 أُنشئت مؤسسة دعم السينما بهدف إنقاذها من حالة الكساد من جهة، وتوجيهها للأعمال "الجدية" من جهة أخرى.
خلف هذه التطورات وغيرها فى فترة الخمسينيات توجد شخصية فاعلة رئيسية: فتحى رضوان الذى قضى مدة طويلة وزيرا لـ"الإرشاد" القومى. غير أن تيار تدخل الدولة لم يكن مرتبطا به بالذات، ولا انتهى بخروجه. فقد توالت التدخلات، فظهر مسرح الدولة وفنونها "الشعبية" وسينما الدولة ودور نشر الدولة ومجلات الدولة الثقافية، والأبواب الثقافية فى الصحف المؤممة … الخ، كما توالت تأميمات المؤسسات الخاصة القائمة الكبيرة. وقد صرح فتحى رضوان فى ديسمبر 55 صراحة أن هدف التدخلات هو "حماية عقل الشعب وروحه". وفى تصريح أخر "مبدع" جامع لمغزى السياسات الثقافية قال فى أبريل 56 أن "الثورة لها أهداف روحية تتطلب توجيه الثقافة القومية وتخليصها من الشوائب التى بثها الاستعمار [فى الثقافة]". فباختصار كان ثمة مشروع للوصاية على الشعب روحيا وفكريا، كان مبررا فى البداية باسم الوطنية. فبناء على هذا الشعار برر الضباط لأنفسهم إجراء "الإصلاح"، المادى و"الروحى" على السواء، بالإجراءات الإدارية؛ وافترضوا أن عدم تلوث أيديهم بمصافحة رجال الاستعمار- وهى فرصة لم تُتَح لهم أصلا على أية حال ليرفضوها– وبصفة عامة "حسن نواياهم"، يعتبر فى حد ذاته ضمانة مقبولة تتيح لهم حق الوصاية وإصدار الأحكام الفكرية، وإدانة الثقافات المخالفة لتكريس شرعيتهم. وبالطبع كان فتحى رضوان من الرواد فى اتهام المثقفين السابقين على عهده "الطاهر" الميمون، فاتهمهم جميعا، بما فيهم طه حسين ولطفى السيد والعقاد، بخدمة الاحتلال لتحصيل القوت، فى كتاب ظهر عام 66. فعلى هذا النحو كان بمقدور المقاعد الممنوحة "ممن لا يملك لمن لا يستحق" أن تمنح الجرأة والمكانة التى تتيح إصدار أحكام الإدانة والتمجيد على العصور والثقافات. وفى ظل الحكم العسكرى لم يكن بمقدور أحد أن "يناقش" هذه المسلمات، وخصوصا مسألة جدارة هؤلاء "الطاهرين".
* * *
وقد تعرضت هذه السياسة الثقافية الشعبوية populist إلى تحول بسيط فى "العصر الاشتراكى" الستينى، بالانتقال من تمجيد الشعب فى عمومه إلى تمجيد الطبقات الكادحة بالذات، وخصوصا الفلاح الذى أصبح من الناحية الإيديولوجية تميمة النظام، وأداته فى تكريس نوع من عقدة الذنب عند المثقفين- وهى مسألة لن يتسع المجال للتدليل عليها هنا. ولكن على أية حال تدفقت الكتابات التى تحرض على الاهتمام بالفلاح، والأغانى التى تتغنى بأمجاده، بل تبرع صلاح جاهين بتحويل قصة قاطع الطريق المنادى بالثأر أدهم الشرقاوى إلى بطل قومى معادٍ للاحتلال. كما طالب المثقفين بالتعلم من الفلاح (1965)؛ وفى ذروة هذا التوجه طالب سعد كامل (65 أيضا) بتحويل الفلاح إلى فنان يمثل لأمثاله من الفلاحين، بل وينتج فنه وصحافته. وتستطيع أن تجد هذه الفكرة فى أقصى تطرفها فى تأكيد بدر الديب أن الطبقة الوسطى لن تحقق حتى مهمة تثقيف الفلاح وأن تحقيق الثورة الثقافية منوط بالفلاحين والعمال أنفسهم (1962). أما ثروت عكاشة فقد حول هذه الأقوال لأفعال، وجهز فى أواخر 61 شيئا يسمى قافلة الثقافة، التى تحركت لقرية مليج وسط ضجة (لا ضوضاء!) ثفافية كبرى، احتفاء بتوفير الفن الرفيع للفلاح الذى وقف مشدوها يتفرج على عجائب السلطة الثقافية فى صندوقها السحرى. ولكنه أيضا أنشأ قصور الثقافة الأولى. ولكن أغرب أعماله كان بلا شك دعوة حوالى 500 عامل لمشاهدة "أوبرا بغداد" فى دار الأوبرا تحت أنظاره شخصيا، وبعد انتهاء الحفل صرح السيد الوزير بسعادة بالغة أنه "اليوم تتحقق اشتراكية الفن والثقافة"!!
* * *
لم يكن هذا التحول لصالح ما أسميه "شعبوية الطبقات الفقيرة" الذى اشتهرت به "ثورة يوليو" تحولا نوعيا فى إيديولوجية النظام ولا فى علاقة الدولة بالثقافة، بل كان مجرد سمة إضافية لها. لنعود إذن إلى الخمسينات، التى شهدت وضع أسس هذه العلاقة. فمع رسوخ مبدأ "توظيف" الفن والأدب فى الدعاية السياسية المسماة "الإرشاد القومى"، اتسع استخدامها ليشمل أداء "واجب" المشاركة فى تصفية الصراعات التى يخوضها النظام فى الداخل والخارج. ففى مؤتمر للأدباء العرب انعقد فى ديسمبر 57 أكد عبد الناصر أن "الأدب والفكر سلاحان أساسيان" فى الحرب الباردة، وأن عليهم "إقامة أدب عربى متحرر مستقل" وتدعيم "الوحدة الفكرية" بين العرب (وبالمناسبة فإن فكرة أن الأدب والفن "سلاح" ، وأن الفن يخوض "معركة" وغيرهما من التشبيهات العسكرية، كانت مصطلحات شائعة على أقلام وألسنة الجميع فى عهد الضباط).
ومع ظهور أول تحد مهم لانفراد عبد الناصر بالثورية والقومية العربية فى المجال العربى، أى الصدام مع عبد الكريم قاسم، وما تلاه من خلاف مع الشيوعيين المصريين فى الداخل بحجة ميلهم لقاسم (58- 59)، دعا ثروت عكاشة وزير "الإرشاد" الجديد آنذاك إلى عقد "مؤتمر عام للثقافة والفنون"، انعقد فى أبريل 59، وحضره حوالى الألف من الممثلين ورجال المسرح والسينما والفنون التشكيلية والأدباء والنقاد وأساتذة الجامعات وغيرهم، بهدف "تعبئة الطاقات الروحية لتأكيد شخصيتنا العربية المسالمة". وطالب المؤتمر بأن تكون أهداف التأليف والترجمة "بيان حقيقة الشيوعية وأساليبها… والدفاع عن سياسة الحياد الإيجابى". كما طالب بـ"تغذية" الإذاعة بالبرامج والأناشيد والأغانى التى تحقق هذه الأهداف، وإجراء مسابقات مسرحية وتقديم جوائز سينمائية "لتقديم مسرحيات [وأفلام] تتفق وأهداف المؤتمر". أى برنامج كامل للإنتاج الثقافى الدعائى.
ومع توالى تدخل الدولة ونمو قطاع ثقافى خاضع للضباط أصبح من المسلم به وجود "سياسات ثقافية"، كما أصبح الولاء للنظام باعتباره ولاءً للشعب، كمعيار لهذه السياسات مسألة بديهية. وتجسد ذلك فى القرارات الصادرة عن المؤتمر العام للاتحاد القومى المنعقد فى يونية 60 والتى صاغتها لجان مختصة بـ"الإرشاد" والثقافة وأقرها المؤتمر العام، ومنها على سبيل المثال: تأليف لجنة دائمة للتوجيه القومى؛ وضع ميثاق شرف للمشتغلين فى جميع وسائل الإعلام ليكونوا فى جميع ما يحاولونه من أسباب النشاط فى خدمة الأهداف القومية؛ أن يكون نشاط كل وسائل الإعلام من الصحافة والإذاعة والمسرح والسينما والمكتبات العامة [!!!] وغيرها متلائما مع مبادئنا وأهدافنا القومية؛ تشجيع إنتاج الأفلام التوجيهية التى تخدم الأهداف القومية؛ تنمية الروح القومية فى الفنون التشكيلية (وبالمناسبة رسم عبد الهادى الجزار لوحة اسمها "الميثاق"، وأقيمت معارض للفن التشكيلى السياسى فى الاتحاد الاشتراكى). واقترح المؤتمر أن يتعهد الفنانون والأدباء والعلماء بالقيام "بدور توجيهى فى بناء المجتمع الاشتراكى الديمقراطى التعاونى، وإحياء القيم العربية الأصيلة للشعب، ومواجهة عوامل الهدم والانحراف [كذا] فى الإنتاج الفكرى". وهكذا تم النص صراحة على إدراج الفن والأدب والثقافة عموما ضمن أدوات الدعاية وإخضاعها لتخطيط سياسى شامل.
وتتويجا لهذا التوجه جرت محاولات عديدة لإصدار "ميثاق شرف للفن والأدب والعلم"، وأحيانا أخرى للصحافة والإعلام، بهدف إلزام المعنيين بتأييد سياسات النظام، ولكنها لم تنجح، بسبب المقاومة السلبية. لقد ذكرنا بشىء من التفصيل بعض محاولات أجهزة مختلفة للنظام لتأطير الإنتاج الفنى والأدبى والثقافى عموما. ولكن ليس معنى ذلك أن النظام قد استطاع بقوة القرارات العالية الصوت، المتحدثة باسم "الشعب" و"مصلحته"، أن يحقق هدفا كهذا. بل يمكن حتى أن نقول أن مثل هذه القرارات لم تكن تمثل الكلمة النهائية أو الأولى للنظام، الذى لم يكن فى واقع الأمر مجمعا بكل أطرافه على تحقيق هذه الدرجة من السيطرة. ففى هذا المؤتمر المهول ذاته صرح عبد الناصر بأننا –أى النظام– لن نفرض شيئا، وأن "الدولة" تكتفى بتوفير وسائل النشر والإنتاج الفنى. فبينما كان البعض من المنتجين الإيديولوجيين والأجنحة الأكثر عقائدية يسعى لتقييد الأدباء والفنانين للحد من نفوذهم وتقليل صلاحياتهم، أو استبعاد البعض لصالح آخرين، لم يكن المطلب العام للنظام فى واقع الأمر يتعدى ولاء الفنانين المعلن للنظام، وإبقاء قدر من الرقابة والتحكم يمنع استخدام الأدب والفن "سلاحا" ضد النظام (أما الدعاية، فقد ساهم فيها الكثيرون طوعا وتقربا للنظام كما ذكرنا، ولم تكن بالتالى بحاجة إلى تقنين أو إلزام).
وبصفة عامة كان النظام يتجنب بقدر الإمكان الصدام الصريح مع الأدباء والفنانين والكتاب والصحفيين. ولهذا السبب، وأسباب أخرى أيضا، اهتم النظام بتحقيق السيطرة المباشرة على "وسائل الإنتاج" الفكرى والفنى والصحفى، سواء بتأميم المؤسسات القائمة أو بإنشاء العديد من المؤسسات الجديدة للنشر والإنتاج الفنى ... الخ. فقد كان يفضل الجزرة على العصا، أو مبدأ "الوقاية خير من العلاج". وكانت "ملكية الشعب" تتيح له أن يحدد بأمواله، أو أموال الشعب وهما نفس الشىء، التوجه الثقافى والفكرى والفنى العام، بأدوات بريئة فى ظاهرها مثل النقل والندب والتعيين والترقية فى المؤسسات التى كان يمتلكها باسم الشعب، أى بالأدوات الإدارية التى كان يفضلها دائما. فبدلا من فضائح قمع منتجى الثقافة الخارجين على الحدود المسموح بها بعد أن ينتجوا بالفعل، كان التأميم وإقامة المؤسسات الثفافية يتيحان له منعهم من التأثير أصلا بإقصائهم من مؤسساته، أو "الترزيل" عليهم داخلها. ومن خلال المكانة التى تضفيها المناصب تتبلور بالتدريج معايير للإنتاج الثقافى عموما تناسب النظام. ومن جهة أخرى لم تكن مشكلة النظام هى إمكانية تحديه صراحة فى مجالات الثقافة والإعلام، فقد كانت أدوات الدولة البوليسية أكثر من كافية لردع معظم الناس مسبقا من خلال ثقافة الخوف السائدة (الذهاب "وراء الشمس"، "زوار الفجر" الخ). وإنما كانت المشكلة كما ذكرنا هى صياغة المجال الثقافى نفسه فى اتجاه شعبوى مناسب للنظام، وليس فقط منع نقده أو الحث على مدحه، الأمر الذى كان يتطلب أن تكون له سيطرة إدارية مباشرة، تتيح له تعيين من يفهموا أهدافه الحقيقية فى مواقع تمكنهم من تحقيقها.
* * *
وبالمقابل وُجدت عدة أجنحة فى مؤسسات النظام أكثر عقائدية، تمثلت فى الخمسينات فى أنصار ما يسمى "شخصيتنا" القومية والدينية، مثل فتحى رضوان وكمال الدين حسين الذى لعب دور الموجه الإيديولوجى الأول فى الخمسينات بعد إبعاد صلاح سالم، وحتى التأميمات. أما فى الستينات فتمثلت هذه الأجنحة فى معسكر اليسار، الذى انتعش كثيرا بعد استسلام الشيوعيين وقبولهم حل تنظيماتهم مقابل استخدام مفكريهم فى مؤسسات النظام الدعائية/ الثقافية المختلفة. وتتضح هذه النزعة فى صورتها الأكثر تطرفا فى كتابات محمود العالم، الذى ظل حتى وهو فى "المعارضة"، أى خارج مؤسسات الدولة الثقافية، مدافعا عن تفسير سياسى "اشتراكى" للأدب، كان يعنى فى التطبيق كيل المديح أو الاستهجان للعمل الفنى وفقا لما إذا كان مع "الشعب" أم مع "الرجعية"؛ أى مع أفكار محمود العالم عن مصلحة الشعب أم الأفكار المضادة. وفى مقالاته المنشورة آنذاك دافع "فلسفيا" عن أقصى تدخل للدولة فى مجالات الثقافة والفن بمنطق "هيجلى"، وأوضح أن موقف المثقف الثورى يجب ألا يكون "مجرد التأييد، بل المشاركة الإيجابية الفعالة على مختلف المستويات لتحقيق الأهداف الثورية للمجتمع ، ولتثبيت هذه السلطة" باعتبارها سلطة الشعب.
وثمة نموذج آخر مهم، هو نعمان عاشور الذى دافع بانتظام فى مجموعة كبيرة من المقالات بين عامى 64 و66 عن تدخل الدولة فى الفن والأدب، واعتبر أن "اشتراكية" الدولة ضمانة كافية بحد ذاتها لسلامة وشرعية تدخلها. وأوضح أن مهمة الأدب هى الارتقاء بالحياة الاجتماعية والتأثير فى حياة الملايين، بهدف تقويمها وتغييرها. وبناء عليه يجب حظر ما يخالف "المتجه الاشتراكى" –بتعبيره– فى الإنتاج الأدبى والفنى. وإذا كان الشعب لا يحب الفن الاشتراكى، فلأنه مخدوع، ويجب أن نحميه من الزيف بإتاحة الفرصة للفن "الجيد" –بمفهومه هو– للوصول للجماهير. أما المسرح الكوميدى الناجح آنذاك (فؤاد المهندس) فهو أداة الرجعية التى تلهى الناس عن تطلعاتهم المشروعة، ويجب القضاء عليه. كذلك لا يجوز السماح بتفشى النزعات التجريبية أو ترك العنان للتأثر بموجات المسرح الغربى الجديدة. فالواجب هو الإبقاء على "الواقعية الأصيلة العربية" وحدها.
والأهم من ذلك أن نعمان عاشور يعتبر أن هذه الإجراءات وأمثالها "تحرر" الأدب. لأن الأدب فى الدول الرأسمالية –فيما يرى– يعانى من القهر! لأنه هناك مجرد حلية اجتماعية، بينما يعتبر هنا قوة دافعة للتطور! أما سعد كامل فقد طالب عام 65 بتأميم السينما تماما لمنع استخدامها فى الترويج للأفكار المعادية. وبصفة عامة فإن الفنان وفقا لهذه الرؤية– على نحو ما نُشر فى روز اليوسف بدون توقيع فى ديسمبر 66– ليست له سوى حرية واحدة، هى حرية اختيار السيد الذى يخدمه.. ففى عصر الإقطاع كان يخدم الأمير ، ثم خدم الشركات فى عهد الرأسمالية. فمن الأفضل له إذن أن يخدم "الشعب" فى عهد الاشتراكية، فهو أفضل "الأسياد"!!
* * *
وتعبر هذه الرؤية أيضا عن نتيجة من نتائج استفحال قبضة النظام فى مجال الأدب والفن. فعن طريق المال: دعم إصدار مجلات وكتب وإنتاج أفلام ومسرحيات، الخ، أصبح بمقدور النظام أن يدفع توجهات معينة للصدارة ويلح بها على الجمهور حتى إذا رفضها، كما أصبح بمقدوره أن يرفض "تمثيل" اتجاهات معينة فى أدواته الثقافية. وبالتالى أصبحت أجهزة النظام الثقافية أكبر زبون للفن والأدب ووسيطا ضروريا بين الفنان وجمهوره فى معظم القطاعات، وبالتالى أصبحت غنيمة تتصارع عليها الاتجاهات الأدبية والفنية. وأدى ذلك إلى وجود ميل متعاظم عند معظم الاتجاهات الأدبية والفنية لإضفاء مغزى سياسى على صراعاتها الأدبية والفنية، وإلى خوض صراعات إيديولوجية، سواء للحصول على هذه الأدوات المجانية أو للحيلولة دون تمكن الآخرين منها. وشاع بالتالى سلاح التخوين وتأليب النظام.
ويكفى أن نقارن هنا بين دورتين من دورات الصراع الأساسى الذى حكم المجال الأدبى فى عهد عبد الناصر، وهو الصراع بين الشعراء التقليديين والمجددين. كانت الدورة الأولى مناوشات متصاعدة وصلت ذروتها على صفحات الصحف والمجلات عام 60. فهاجم زكى نجيب محمود الشعر الحديث ودافع صلاح عبد الصبور وأحمد حجازى ورجاء النقاش وعبد القادر القط. ولكن سلاح التخوين لم يستخدم إلا نادرا، وحرص صلاح عبد الصبور، الفارس، على الابتعاد بالشعر عن المهاترات السياسية، بل وعن الشطط فى الخصومة، معبرا عن احترامه للعقاد برغم الخلاف والاتهامات بالشيوعية.
أما الدورة الثانية التى جرت وقائعها بين ديسمبر 64 ويناير 65، فقد فجرتها مذكرة صدرت عن لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وكانت تحت سيطرة المحافظين من أمثال عزيز أباظة وزكى نجيب محمود وصالح جودت. كانت المذكرة بمثابة بلاغ بوليسى يتهم الشعر الجديد بهدم الطابع القومى واستخدام ألفاظ "من دين آخر غير الإسلام" (والمقصود صلاح عبد الصبور) ويعتبر ذلك كله تهديدا للقومية العربية التى تستند استمراريتها فى رأيهم إلى العمود التقليدى للشعر (كعمود الخيمة!)، وبالتالى يعتبر الشعر الجديد مخالفا للميثاق، الذى أصبح رسميا حكما إيديولوجيا بين الاتجاهات المختلفة منذ إقراره عام 62. وتمثل مطلب لجنة الشعر فى فرض وصايتها على مجلة الشعر، الحكومية أيضا، التى كانت تنشر الشعر الجديد. بالمقابل انتفضت جبهة مكونة من صلاح عبد الصبور وأحمد حجازى ورجاء النقاش وعبد اللـه الطوخى وصلاح جاهين وسعد وهبة ويوسف إدريس ومحمود العالم ولطفى الخولى وغيرهم، استنكرت استعداء السلطات على الشعر الجديد. ولأن المسألة أصبحت متعلقة بأدوات النظام الثقافية، وبالتالى بسياستها ومواقفها وإمكانياتها وتسهيلاتها، فضلا عن الخوف من عقوباتها، تصاعد الخلاف إلى حد الصدام فى جمعية الأدباء، حيث دافع التقليديون عن فكرة "تقاليد المجتمع العربى" التى نص عليها الميثاق، بينما اتهم المجددون الطرف الآخر بالرجعية ومعاداة الاشتراكية، وبالتالى مخالفة الميثاق أيضا. وأصبح لا مفر من تدخل الوزير عبد القادر حاتم فى ذلك الخلاف الذى اتخذ منحى سياسيا، فقرر رفض مطلب التقليديين بالسيطرة على مجلة الشعر، أى ترك الحال على ما هو عليه. وبعد سنة تم إغلاق مجلتى الرسالة الجديدة والثقافة الجديدة، اللذان كانا لسان حال الأصالة والعداء للمجددين، وللأدب والفكر "المستوردين" عموما (راجع مثلا كتابات محمد فريد أبو حديد فى تلك الفترة).
وفى خضم هذه الصراعات تمثلت سياسة النظام بصفة عامة فى الحفاظ على التوازن بين الأطراف المختلفة، فظل الرعيل القديم يتولى المناصب الكبرى معظم الفترة؛ ومنح النظام لكل الرءوس والاتجاهات الكبرى الجديدة والقديمة منابر مختلفة، برغم الهجوم والهجوم المضاد من مختلف الأطراف، فرشاد رشدى فى "المسرح"، والمحافظون فى "الرسالة الجديدة" و"الثقافة الجديدة"، والشيوعيون وحلفائهم فى "الكاتب"، الخ. غير أن احتكار الدولة للمنابر الثقافية الكبرى والخوف من الاستبعاد منها، بالإضافة أيضا إلى الروح الواحدية العامة للنظام السياسى والثقافى، أى فكرة أن ثمة اتجاه واحد "صحيح" يسمى "وطنيا" أو "اشتراكيا"، الخ، كانت كلها عوامل شجعت على حملات من التخوين المتبادل، سواء لتحقيق انتصار "نهائى"، أو حتى خوفا من استفحال خطر الأطراف المضادة، على نحو ما تصرفت لجنة الشعر.
ويعتبر عبد القادر حاتم الممثل الأمثل لسياسة تعدد المنابر المتنافسة على إرضاء النظام. حيث أعلن صراحة أنه ضد تمييز مدرسة على أخرى، وأنه يترك الحكم للجمهور، والمجال مفتوحا لكل الكتاب (تصريحات64). كما تبنى سياسة تقوم على تنشيط المجال الثقافى بمعنى إتاحة فرص العمل لجميع منتجى الفن والأدب على اختلاف مستوياتهم، والقضاء على البطالة بينهم، أى ربطهم بالنظام مصلحيا؛ الأمر الذى أثار امتعاض كثير من الأدباء والفنانين المتميزين واعتبروه تخريبا ثقافيا (ولكنهم طبعا لم يعبروا علنا عن هذا الامتعاض إلا بعد خروج حاتم من الوزارة). وبالمثل اهتم يوسف السباعى، برغم تأييده العام للتقليديين، بإتاحة الفرصة للجميع بصفته مسئولا ثقافيا، وانحاز دائما للفنانين والأدباء وأعفاهم من التقيد بالروتين. ولكنه اهتم بصفة خاصة فى منتصف الستينات بمواجهة عملية تصاعد تسييس الثقافة اليسارى والأصوات المطالبة بحظر الأعمال الأدبية والفنية غير المتوافقة مع إيديولوجية النظام، وفقا للتفسير اليسارى لها.
والواقع أن منتصف الستينيات قد شهد بالفعل ميلا نحو اليسار، بسبب الإفراج عن الشيوعيين وإتاحة الفرصة لمثقفيهم للعمل فى العديد من المنابر الثقافية والإعلامية. ثم تلقى هذا الاتجاه نحو اليسار دعما قويا مع اكتشاف تنظيم سيد قطب التابع للإخوان، لأنه نجح فى اجتذاب مئات من "شباب الثورة" من الطبقة الوسطى "المستفيدة"، مخيبا أمل النظام فى خلطته الدعائية. وبالتالى تقرر فتح الباب أمام اليسار لمواجهة ما اعتُبر مدا يمينيا وتنشيط الدعاية. وشهد الاتحاد الاشتراكى صعود اتجاه يسارى (بمعنى الدعوة لمزيد من تدخل الدولة والتأميمات، ولكن أيضا تسييس الجماهير وتوعيتها)، بتكوين منظمة الشباب والتنظيم "السرى" المسمى طليعة الاشتراكيين وإنشاء المعهد الاشتراكى، وصدور نشرة "الاشتراكى".
وقد تبنت هذه النشرة فى نوفمبر 65 مشروع ميثاق شرف للمثقفين هدفه تقنين الفن والأدب الاشتراكيين، أى تحديد أطر إيديولوجية "اشتراكية" للإنتاج الفنى والأدبى. ويرى المشروع أن وظيفة الفنون الثورية أنها "تدفع الجماهير إلى المعركة وتوقظها وترغمها [كذا] على الاتحاد"، كما أن الهدف الرئيسى لأجهزة الإعلام والثقافة هو "مساندة عملية التحول الاشتراكى"، والهدف المشترك للإعلام والثقافة هو "خلق المواطن المتفائل" [وربما إرغامه على التفاؤل!!]. وبرغم أن المشروع "يتنازل" فلا يطالب الفنان بكتابة فن دعائى (مع أنه يعبر عن احترامه الشديد للفن الدعائى، خصوصا فى الترويج للنظام عند الفلاحين)، فإنه طالب بـ"إغلاق الأبواب أمام المبادئ الضارة وفتحها أمام المبادئ المؤيدة للإنسان" كما أنه اكتفى كرما ومنةً بأن يؤيد الفنان "روح الخطة" الخمسية لا تفاصيلها!! وتدعم هذا الاتجاه خصوصا بتولى سليمان حزين وزارة الثقافة عام 66، حيث أعلن عن انحيازه لفن يعالج مشاكل المجتمع الاشتراكى، مثل مشاكل بنك التسليف على حد تعبيره، ويغير أخلاق المواطنين لتتفق مع سياسات النظام، التى هى فى مصلحتهم طبعا.
ولكن حتى قبل حدوث هذه التحولات من جانب الدولة، حوَّل بعض الأدباء مواقفهم؛ فمثلا كان موقف فتحى غانم التقليدى مدافعا عن حرية الفنان. وبعد "التحول الاشتراكى" واصل الدفاع عنها مؤكدا أنه لا يوجد فن اشتراكى وآخر غير اشتراكى، وأن كل فن صادق هو مع الاشتراكية، فالمعيار الأدبى هو الأساس (حتى 63). (هذا برغم أنه كان على المستوى الاقتصادى والسياسى مؤيدا ثابتا لمبدأ تدخل الدولة). ولكن فى أواخر 64 أصبح يؤكد أنه لا يمكن أن نفصل بين الفن والسياسة، وأن الفن يجب أن يُنتَج بهدف تأكيد القيم الثورية. ومن المتحولين أيضا علاء الديب، الذى كان يرى أن على الدولة أن تشجع الفن الجيد على أسس فنية بحتة، فأصبح يرى فى أواخر عام 63 أن الثقافة بأكملها يجب أن تتمحور حول فكرة "حتمية الحل الاشتراكى"!
والواقع أن تضخم أجهزة النظام الثقافية جعل تحديد الموقف من نوعية تدخلها قضية لا مفر من التعرض لها. فحتى الذين اتخذوا أصلب المواقف دفاعا عن فصل الأدب والفن عن المهاترات السياسية، وترفعوا عن استخدام سلاح التخوين والاتهام السياسى، طالب بعضهم "الدولة" بالتدخل لأسباب أخرى. فمثلا طالب رجاء النقاش بتبنى الأدب الرفيع واستبعاد الأعمال التافهة والمنحرفة، وعدم الاستجابة لذوق الجمهور. وبالتالى يكون قد اقترح على الضباط أن يحموا الفن الرفيع من الجمهور وأجهزة الأمن معا، لوجه الفن وحده!! وغنى عن الذكر أن الدعوة لم تحقق نجاحا كبيرا! ويشبه هذا الموقف كما هو واضح موقف علاء الديب قبل تحوله.
* * *
قد يكون الأدباء والفنانون قد اقتتلوا على النفوذ داخل النظام وأجهزته الثقافية، وقد يكونوا قد أدوا المطلوب منهم فى ترويج إيديولوجيته إجمالا، بل استبطنها البعض فى إعمالهم، ولكنهم مع ذلك ظلوا بصفة عامة يقاومون فرض معايير إيديولوجية خارجية عليهم. فقد رأينا كيف انتهت فى صمت كل محاولات فرض مواثيق شرف عليهم، سواء من منطلق قومى أو "اشتراكى". وقد رصد موسى صبرى، برغم موقفه المدافع عن توظيف الأدب والفن لخدمة الدعاية آنذاك، موقف الأدباء والفنانين السلبى المقاوم لميثاق الشرف على النحو التالى: إن الرفض لم يكن رفضا لمضمون الميثاق المقترح، وإنما خوفا من استخدامه كأداة لمحاكمة إبداعاتهم وتقييمها. وبالطبع فإن نجيب محفوظ كان من أبرز الأمثلة للمقاومة المراوغة، فبرغم "مسايراته" المعروفة للأوضاع أكد رفضه لتوجيه الأدب رسميا فى ذروة صعود هذه الدعوة (أبريل 66)، بل وأكد على أهمية دور الأدب فى إبراز السلبيات (مثل قصته ثرثرة فوق النيل)، مهونا من خطرها، على أساس أن الإعلام الأوسع انتشارا قائم بواجباته فى إبراز الإيجابيات. وبمكره القاهرى استخدم شعارات النظام نفسها، فقال إن الأديب الناقد إنما يواجه الرواسب الرجعية التى لم يتم القضاء عليها بعد، حيث أننا رسميا ما زلنا فى مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية ونواجه مؤامرات "الرجعية". وبالتالى فإن هدف النقد هو تحقيق كمال النظام (أغسطس 66)!
والواقع أن تزايد ثقل القطاع العام فى الثقافة كان مؤرقا للأدباء والفنانين عموما. فمع نمو أجهزة الدولة الثقافية، تشكلت فئة من الموظفين الثقافيين قليلى أو منعدمى الموهبة، والحريصين على إثبات جدارتهم وأهميتهم النابعة تحديدا من سلطاتهم الإيديولوجية التى تمنحها لهم مناصبهم. وقد حذر إحسان عبد القدوس، مثلا، مرارا من نمو سلطة الموظفين على الفنانين. وكان يوسف السباعى محبوبا بالضبط لأنه كان ينصر الفنان على الموظف. ولتوضيح مدى خطورة هذه المشكلة، تعالوا نقرأ سعد كامل، الذى رأيناه عام 65 يطالب بتأميم السينما.. وهو يبدى فزعه قبل أن يندمج تماما فى "اللعبة". فحين يستولى القطاع العام على 24 دار عرض (أبريل 63) حذَّر من وقوع الفنانين تحت رحمة البيروقراطية، وطالب بالمرونة وحرية الفنان. وبرغم ميول أحمد حجازى التدخلية الواضحة وأفكاره المنشورة المتعددة لتخطيط الثقافة، فإنه يطالب الدولة بأن تدعم الفن المعبر عن اشتراكيتها، ولكن بغير أن تقمع الآخرين (مايو 65). وبصفة عامة حرص كبار الأدباء، حتى أشدهم "مجاملة" مثل توفيق الحكيم، على نشر إبداعاتهم التى يحترمونها خارج مؤسسات النظام وبعيدا عن موظفيه، برغم أنهم قبلوا فى نفس الوقت أن يشغلوا مناصب مختلفة فى أجهزته. لقد كانوا كمواطنين، بل ومثقفين، على استعداد لـ"التعاون"، ولكن ليس كأدباء.
والخلاصة أنه لم تتكون على الإطلاق جبهة متسقة من الأدباء والفنانين من أى اتجاه تطالب بثبات بتدخل "الدولة" كمبدأ، فالمطالبين بالتدخل والمحذرين منهم كانوا موجودين فى جميع المعسكرات. ولكن تعارض مطالب التدخل أفضى إلى استخدام بعضهم لسلاح التخوين والاتهام السياسى. والأهم من ذلك أن النظام ذاته لم يتخذ مطلقا موقفا حاسما من النزاعات الإيديولوجية القائمة فى الأدب وغير الأدب، وبالتالى لم يكن له معسكر أدبى وفنى خاص بها مقابل معسكر آخر معادٍ له. فكما سمح فى السياسة ببروز تيار دينى قومى محافظ وتيار يسارى شبه ماركسى وغيرهما داخل أجهزته، بشرط الولاء له، وفى إطار التوازنات المتفقة مع سياساته المتغيرة، سمح للتيارات الفنية والأدبية المختلفة –من باب أولى– بالتواجد، وبنقد بعضها البعض، وباستعدائه أحيانا.
* * *
ومن جهة أخرى لم يمارس النظام ضغطا متساويا على كل الفنون والآداب، لأنه كان يهتم بها فقط من حيث هى أدوات من بين أدوات أخرى للتعبئة، وبالتالى كان الاهتمام بكل أداة منها متناسبا مع مدى انتشارها أو "إعلاميتها". فباستثناء تطرفات قليلة لثروت عكاشة.. سمح النظام بأعمال ذات صفة نقدية غير مباشرة للأوضاع فى مجال الأدب المنشور فى الكتب والمسرح. فمثلا برغم تبرع البعض (من أمثال محمود العالِم ونعمان عاشور) بإيضاح مخالفة مسرحيتى الفرافير والمهزلة الأرضية (ليوسف إدريس) للإيديولوجيا المعلنة، لم تتخذ السلطات أى موقف. وكذلك الأمر بالنسبة لعرض "نهاية اللعبة" لصمويل بيكت. وبالنسبة للأدب لم تتخذ أية إجراءات بناء على الهمسات التى أثيرت بشأن "حلاق بغداد" أو "السلطان الحائر" أو "سليمان الحلبى" أو "سكة السلامة"، أو "لا شىء يهم".
كانت المسألة أكثر خطورة فى مجال السينما. فمثلا رفض فتحى رضوان أثناء وزارته تصوير فيلم عن خالد بن الوليد لأنه يتعرض لفترة ما قبل إسلامه وسلوكه أثنائها. كما اضطر يوسف إدريس للموافقة على تغيير نهاية قصة العيب عند تحويلها إلى فيلم للتأكيد على القيم المثالية وانتصار الخير وسلامة جهاز الدولة من الفساد. وتولى أحمد رشدى صالح تحوير قصة السمان والخريف لنجيب محفوظ عند إعداد السيناريو بنفس المنطق، وسُميت قصة "القاهرة الجديدة" لنجيب محفوظ "القاهرة 30" لتلافى شبهة "التلسين" على النظام. ومن جهة أخرى سعى البعض لإضفاء مسحة من الشعارات على بعض الأفلام للحصول على دعم الأجهزة الثقافية أو تقربا منها، مثلما حدث فى فيلم "ألمظ وعبده الحامولى" (62) الذى جعل منهما بطلين وطنيين يتحديان الخديوى ويقودان الشعب!!!
وبالطبع كانت الأغانى مسألة لا تحتمل إى اختلاف، فدورها الوحيد المتاح كان الإشادة المطلقة بالنظام والتغنى بشعاراته الشعبوية بغير أى تحفظ. أما الفن المعروض فى الإذاعة (والتليفزيون بعد إنشائه) فمسألة لم تكن تحتمل أى درجة من "التساهل"، وكان الجهازان تابعان مباشرة لرئاسة الجمهورية، وتولى الإشراف عليهما فى معظم الفترة عبد القادر حاتم، سواء تولى وزارة الثقافة أم تولاها غريمه ثروت عكاشة.
* * *
برغم كل مظاهر "التعاون" والاتحاد و"الدفع" payment الثورى والحفاوة الواضحة بالفن التى بدأنا بها هذا المقال، كان النظام والفن يقفان فى حقيقة الأمر فى مجالين منفصلين بعنف طوال مدة حكم الضباط! حقا وفر الضباط للأدباء والفنانين مسارح ودور عرض وتمويل للأفلام والعروض المسرحية، واستوديوهات وإذاعة قوية واسعة الانتشار عربيا وتليفزيون، ودور نشر ومجلات ثقافية وأبواب أدبية فى الصحف والمجلات المؤممة.. وحقا أن الضباط كانوا، كما فعلوا مع فئات اجتماعية عديدة، يستبقون مطالب الأدباء والفنانين قبل إعلانها، ويكرِّمونهم ويعتبرون عملهم عملا "وطنيا" ثم "تقدميا" جديرا بأرفع مكانة.. ولكن نظام الضباط لم يكن مع ذلك قادرا على إدماج الفنانين والأدباء، سواء بصفتهم الفنية أو كمواطنين عاديين، ولا كان كما أوضحنا نظام أي فريق منهم، حتى أكثرهم حظوة وحصولا على الامتيازات. لقد كان النظام نظام الضباط وحدهم، الذين وضعوا أنفسهم على رأس المؤسسات الإعلامية والثقافية، مثل كل المؤسسات الأخرى بما فيها الأندية الكروية. وكان الثلاثة الكبار الموثوق بهم ضباطا، وهم عبد القادر حاتم ويوسف السباعى وثروت عكاشة. وكان المدنى الوحيد الذى تولى وزارة الإرشاد لمدة طويلة هو فتحى رضوان، وكان كاتبا سياسيا ينتمى إلى انشقاق من حزب مغمور، لا يستطيع بجهوده أن يحصل على أصوات دائرة واحدة. فكان سنده الوحيد هو ثقة الضباط فى ولائه لهم، واشتراكه معهم فى الكراهية العميقة للأحزاب البرلمانية القديمة. أما الدكتور سليمان حزين، فكان يتمتع بالكفاءة العلمية، ولكنه بدوره لم يكن يمثل أحدا أو تيارا.
الأهم من سيطرة الضباط بحد ذاتها أنهم كانوا يشكلون زمرة حاكمة منفصلة عن قوى المجتمع الحية، بما فيها المثقفين. فالقرارات الكبرى والصغرى على السواء كانت تتخذها جماعات محدودة للغاية من الموثوق بهم فى اجتماعات مغلقة، وتصدر فجأة بدون سابق إنذار ولا مناقشة. وبالتالى كان التنبؤ بها مسألة شاقة وشبه مستحيلة إلا لخاصة المقربين المشاركين فى اتخاذ القرارات أو اقتراحها مثل حسنين هيكل. كانت هموم الزمرة الحاكمة والتحديات التى تواجه إدامة حكمها معروفة لها وحدها، وكان أعضاؤها هم المسئولين وحدهم بالتالى عن مواجهتها. وقد سمَّى حسنين هيكل هذا الانفصال العميق بين الضابط والمثقف "أزمة المثقفين"، ليلقى بمسئوليته على أكتافهم، وليردعهم بتهمة الرجعية ليتجهوا لنفيها بكل سبيل، بل كان من الذكاء بحيث حمَّلهم مسئولية ما يشكون منه، وهو بالتحديد حكم الضباط: فـ"خيانتهم للشعب" هى المسئولة عن تحطيم الحياة السياسية وانتقال السلطة للعسكريين!! كانت الأزمة فى الحقيقة أزمة نظام لا يثق فى أحد، ولا يعرف أحد نواياه، نظام أحال المجتمع بأكمله إلى مقاعد المتفرجين، وطالب قسما من هؤلاء المتفرجين أنفسهم، وهم المثقفين، بأن يكونوا أبواقه و"هتِّيفته"، "باسم الشعب" ومن أجل الشعب.
وللسخرية المرة، أُعلنت قرارات التأميمات المشهورة بـ"يوليو الاشتراكية" فى 20 يوليو 1961 بغير سابق إنذار، ومازالت هناك حلقة أخيرة فى سلسلة مقالات هيكل التى تطالب بـ"مشاركة" المثقفين لم تنشر بعد، ، لتوضح بما لا يدع مجالا للشك حدود ما يستطيع أن يمنحه النظام وهيكل المتحدث باسمه من "مشاركة"!! فحتى لو كان المثقفون راغبين فى بيع أنفسهم للنظام بالكامل (وكان ثمة قطاع منهم مستعدا بالفعل، سواء عن انتهازية أو عن اقتناع وحماس)، فإنهم كانوا عاجزين عمليا عن معرفة نوايا هذا النظام ورغباته وأهدافه الواقعية كما تتجسد فى قراراته، لا شعاراته الحمالة الأوجه. أما على مستوى مؤسسات النظام الثقافية تحديدا، فقد تحطمت بالفعل معنويات الكثيرين وهم يحاولون عبور الهوة الفاصلة بين الإيديولوجيا والواقع، بين الشعار والمؤسسات واختيارات النظام فى شغل المناصب وتقسيم مناطق النفوذ. وعانى الجميع من سياسة غير رسمية كانت تقضى بترك كل مؤيد يحاول إرضاء النظام بالطريقة التى يراها، كنوع من بالونات اختبار أوتوماتيكية، تعمل بلا تكليف، وأحيانا بتلميح. وكان الوسط الثقافى ككل مليئا بالأمراض المتفاقمة من جراء عدم الوضوح المتعمد فى السياسات الثقافية.
خابت إذن توقعات الكثيرين ممن أيدوا من كل قلوبهم. فمثلا كان أدباء اليسار أو أنصار الشعر الجديد مثل أحمد حجازى يتوقعون أن ينصرهم النظام، فإذا به يترك لهم العقاد المعارض له على رأس لجنة الشعر، دون أن يعرفوا لذلك سببا. كان الفهم مستحيلا، لأن الجميع وقعوا أسرى شعارات النظام ونسوا أنه نظام زمرة لا تعبر فى الواقع إلا عن نفسها، وتقوم سياستها على حفظ التوازنات لا حسم الصراعات. كانت السلطة غريبة عن الجميع، تجرى تحولاتها "الثورية" وغير الثورية من فوق رءوس "الشعب" الذى "يحركهم"! ويستيقظ المواطنون كل صباح ليعرفوا من الصحف ماذا تقرر فى شأنهم، يستوى فى ذلك المثقف وغيره. فيستيقظ الأديب مثلا ذات صباح ليقرأ فى الصحف أنه قد تقرر فى اجتماع لوزير الثقافة وضع تخطيط جديد للمجلات الثقافية والأدبية (يناير 66)، أو أن محمود العالم بصفته رئيسا لدار الكتاب العربى قد قرر بموافقة ثروت عكاشة إلغاء طبع 209 كتب، لأنها تخالف إيديولوجية الدولة (فبراير 67). وانفصل الجميع عن الواقع الذى انفصل عنهم، واستسلموا لمنطق المفاجآت. وبالطبع كانت المفاجأة الكبرى هى مفاجأة يونية 67، التى كانت بحد ذاتها أكبر شاهد على عمق الهوة السحيقة بين "المبدأ" و"التطبيق".
إذا كان مبدأ النظام كما رأينا هو تحقيق نوع من التوازن بين التيارات المتعارضة، فإنه كان يواجه فعليا صعوبة متزايدة كلما تقدم به العمر، فالتناقضات تستفحل، واليمين واليسار ينموان على حسابه ومن داخل مؤسساته، وبفعل سياساته ذاتها. فها هو يضطر مثلا لمنح المزيد من الكعكة لليسار ليواجه تنظيم سيد قطب، كما يضطر لتكثيف الجرعة الإيديولوجية باستمرار لكى يتمكن من البقاء بين التناقضات التى ينميها داخله بالتبادل فى كفاحه من أجل البقاء.
ولكن ما نجح فيه النظام بالفعل هو أنه رسخ المبدأ السلطوى فى الثقافة. فبفضل هذه التفاعلات التى حاولت أن أشرحها أصبحت كل أطراف الصراع أكثر سلطوية وتشبثا بمبدأ تدخل "الدولة". فكلما نفخ الضباط فى أجهزتهم الثقافية لتبتلع المزيد من الفعاليات كلما تلمظت الأطراف المختلفة على هذه الغنيمة العملاقة، وكلما اكتشفت أيضا استحالة الحياة بعيدا عنها. لقد كانت أجهزة الثقافة الرسمية الهائلة ساحة حرب أكثر منها مبدأ توجيه. ففى حدود الولاء العلنى كان يمكن أن يطالب كل من فريد أبو حديد ومحمود العالم بتدخل "الدولة" بالقمع والمنع، أو بالرعاية والتمويل، لصالح أحدهما ضد الآخر. ولكن أيا منهما لم يتح له أن يعتبر هذه "الدولة" دولته. كان أبو حديد وزملائه خائفين من "تغلغل الملاحدة" فى القطاع العام الثقافى والإيديولوجى، بينما كان العالم وشركاه مرعوبين من تغلغل الرجعية، وما قد يسفر عنه ذلك من "ردة" وعودتهم إلى السجون مرة أخرى. وكان الضباط يعيشون بالضبط على هذا التوازن الذى عزز سيادة القيم السلطوية لدى معظم الأطراف. وتدريجيا اقتنع الجميع بأن الحق واحد والفن السليم واحد، ومصلحة الشعب، حتى إذا لم يكن هذا الشعب يدركها، واحدة؛ وبالتالى فإن الآخرين ليسوا إلا أعداء هذا الحق الواحد الأوحد: هم الرجعيون الراغبون فى إيقاف مسيرة "الاشتراكية" والإبقاء على الاستغلال؛ أو هم الشيوعيون "الملاحدة" العملاء الذين يريدون تدمير ديننا وطابعنا القومى. والمعركة إذن على المناصب والنفوذ حاسمة ومصيرية لا تحتمل أنصاف الحلول، فـ"الآخر" إذا انتصر ستكون لديه القوة الكافية لا لـ"تدميرنا" فقط، وإنما أيضا "تدمير الوطن"… نهائيا.
وفى النهاية انعكست حالة انعدام اليقين وفقدان الاتجاه وخيبة الأمل والصراعات الشرسة على المناصب على الأعمال الأدبية والفنية نفسها، خصوصا بالنسبة لليسار الذى كان من المفترض أنه قد أصبح الأقوى نسبيا قرب الهزيمة. فيرصد الناقد الكبير محمد مندور فى آخر مقال له (مايو 65) الأزمة النفسية والأخلاقية لرجال الفكر والأدب والصحافة، متجسدة فى مسرحيات ثلاث: الحصار لميخائيل رومان وخيال الظل لرشاد رشدى وطيور الحب لعبد اللـه الطوخى. ويرى أنها جميعا تعكس أزمة قيم حقيقية نابعة من واقع جيل الخمسينات الذى نادى (مثل مندور نفسه) بأهداف وطنية واجتماعية، حققتها الثورة، ولكنها أقصته حتى عن حراسة هذه الأهداف، فأحس بالضياع. ولكنه أنهى مقاله بنبرة متفائلة، كانت شبه إجبارية آنذاك، معلقا آماله على التنظيم السرى للاتحاد الاشتراكى، الذى سيصالح الثورة على المثقفين والشعب ويتيح لهما فعالية سياسية واجتماعية. كما يرصد لويس عوض انهيار المجلات الثقافية وانحطاط توزيعها، دليلا على تضاؤل شأن "الغنيمة" نفسها التى يتصارع عليها الجميع بسبب إضراب الجمهور الذى ملَّ من "الفرجة" على الإنجازات.
وقبل كارثة يونية بأسبوعين بالضبط، ينطلق أحمد حجازى فى البوح: لماذا يواصل الجيل السابق على الثورة، الحكيم ومحفوظ، الإنتاج، بينما توقف "جيل الثورة" نفسه عن الإنتاج الأدبى؟ السبب فيما يقول أن هذا الجيل الأخير قد عُزل عن العمل السياسى، وبالتالى انفتح الطريق أمام المحافظين مثل العقاد، فأُصيب جيل الثورة بالإحباط. ويتذكر مترحما أن محمد مندور كان "هدفا دائما لاضطهاد الأجهزة الثقافية ونكرانها… بل لقد رأيته يوما باكيا"، وقد حدث أيضا أن بكى كامل الشناوى لأسباب مشابهة. والخلاصة أن جيل الخمسينات، جيل الثورة، كان يشعر بضآلة دوره على هامش الحياة، أو بالأدق اكتشف أن الدولة لا تعتبره حليفا فى قضية مشتركة بل أداة فى توجهات لا يفهمها هو نفسه، وبالتالى كما يقول أحمد حجازى أصيب ذلك الجيل المصدوم بالكسل والهمود، بل وانصرف البعض منه لكسب المال. ولكن المقال بالطبع ينتهى بختم التفاؤل بالمستقبل.. الذى بطُل استعماله بعد أسبوعين.
كانت "دولة" الضباط فى مجال الثقافة دولة القوميين المحافظين، والمحافظين الدينيين، والاشتراكيين القوميين، والاشتراكيين التقدميين، كانت دولة التقدم ودولة الأصالة، وكانت دولة الشعب كله، بشرط أن يكون شعب الضباط. ولم يفلت من هذه الدائرة الجهنمية سوى هؤلاء الذين لم يأخذوا شعاراتها على محمل الجد تماما، سواء كانوا من مؤيديها أو معارضيها، وأقصد هؤلاء الذين لم يكرسوا أنفسهم لها، أو لم "يجندوها"، بمصطلحات العصر، لإثبات ادعاءاتها أو نفيها.. إنهم أمثال يوسف إدريس، صلاح عبد الصبور، رجاء النقاش، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم ... فكل منهم كان عنده ما يشغله وما يقوله بخلاف: "الاتحاد والنظام والعمل"، أو بعدها: "الاشتراكية الديمقراطية التعاونية"، أو أخيرا: "حرية اشتراكية وحدة". ولكن كان لـ"دولة" الضباط ضحايا، هم أولئك الذين كانوا يحاولون "تحسينها"، تحقيق شعاراتها، جعلها تتفق مع دعايتها، الحالمين بـ"تماثيل رخام على كل ترعة وأوبرا فى كل قرية عربية"، وعالم إنسانى جميل … هؤلاء الصادقين ممن منحوا "الناصرية" قلوبهم لتحقق لهم، ولو من فوق رؤوسهم، طموحاتهم فى عالم إنسانى. هؤلاء.. العظماء.. أفقدهم الضباط حياتهم نفسها فى 67، بعد أن نزعوا منهم قبلها عصارة أرواحهم، وهم يتعثرون بين أقدام سادة المؤسسات الثقافية والإعلامية، من الضباط وغيرهم من "الموثوق بهم" أمنيا. ولكن كان هناك أيضا من استطاعوا أن يمارسوا إبداعهم المستقل، ويمسكوا باليد الأخرى أعنة السلطة بيد من حديد، مثل فتحى غانم، الرجل الذى امتلك قلبين كاملين فى جوفه خصص أحدهما للأدب والحرية والآخر لعبادة الدولة.
ليس معنى ذلك أن عصر الضباط فى عهد عبد الناصر لم يترك إرثا فنيا وأدبيا وإيديولوجيا. فقد شهد ذلك العصر إنتاج العديد من الأعمال الفنية المتميزة التى أنتجتها كوكبة متميزة من المبدعين، غير أن الإنتاج الأساسى لنظام الضباط ومؤسساته الفنية والأدبية ليس هؤلاء المبدعون العظام، وإنما هذه المجموعة الهائلة من الموظفين الإيديولوجيين الذين رباهم فى أجهزته الثقافية، ومعظمهم من أنصاف الأدباء وأشباه الفنانين، الذين كان من الممكن أن يكونوا بتفاعلاتهم الحرة طاقة تجديد واحتجاج، ولكنه نجح فى تحويلهم إلى عنصر استقرار ومراقبة بمنحهم مناصب فى هيراركية إدارية جعلت منهم حراسا إيديولوجيين، فأخذوا شعاراته بجدية وقاموا بوظائفهم كشرطة فكرية، وما زالوا يتولونها حتى الآن كلما أتيحت لهم الفرصة، منتقلين بنشاطهم إلى الجمعيات والمؤسسات الثقافية والصحف "الخاصة"، والمنابر الحزبية، يمارسون بطولات التكفير الوطنى، ويمتحنون الأدباء والكتاب والفنانين وفقا لجدول معتمد لديهم من المبادئ التى لا تجوز مخالفتها، والاتهامات المقابلة لها بالعمالة والرجعية والخيانة، وساهموا بذلك فى خلق عالم بأكمله من كوابيس الخوف والحذر.. إنهم "مثقفو المبادئ"، الذين إذا نزعت عنهم شعاراتهم لا يتبقى منهم شىء؛ أصحاب سرير بروكست الشهير؛ إنهم هؤلاء الذين قتل واحد منهم، شرطىٌ من حملة شعار من الشعارات المتداولة، صلاح عبد الصبور، أعظم شاعر مصرى فى النصف الثانى من القرن العشرين. قتله.. بكلمة. لماذا قتلتك الكلمة يا صلاح؟ ماذا كانت تساوى هذه الكلمة الرخيصة فى عالم كلماتك الرائع المسحور؟ حتى أنت استوطنت هذه الشعارات قلبك الرحيب؟ أم هذا ما كنت تشعر به منذ البداية نفسها، فى قمة غنائك للـ"ثورة"؟ هل كنت أنت ذلك الصوفى الفار من جحيم ذلك العالم؟
تعالى اللـه، أنت وهبتنا هذا العذاب وهذه الآلام
لأنك حينما أبصرتنا لم نحل فى عينيك
تعالى اللـه، هذا الكون موبوء، ولا برء
ولو ينصفنا الرحمن عجل نحونا بالموت
تعالى اللـه، هذا الكون، لا يصلحه شىء
فأين الموت، أين الموت، أين الموت