رحمن خضير عباس
الحوار المتمدن-العدد: 3696 - 2012 / 4 / 12 - 20:22
المحور:
المجتمع المدني
تتفشى في المجتمع العراقي ظاهرة جديدة . هي ( الكًوامة ). ولأنّ اللهجة العراقية تقلب بعضا من القاف كًافا , فإن الأصل في الكلمة ( القوام ) بفتح القاف والذي يعني العدل . وقوام الأمر- بكسر القاف – نظامه وعماده . لكن سياق الجملة الدارجة يوحي بالتحدي,واعلان نزاع موقت من أجل حلّه بطريقة سلمية او غير سلمية .لذالك فالكًوامة لها علاقة بمعالجة بعض المشكلات اليومية , ومحاولة حلّها وتقويمها . ويُفترض ان يكون لها طرفان : الشاكي والمشكو عليه . فتطرح المشكلة من قبل الطرفين امام لجنة متنفذة من وجهاء العشيرة او شيوخها , والذين يحكمون لأحد الطرفين , وعلى الطرف الخاسر ان يلبي ويستجيب , والا سيواجه عواقب وخيمة تصل الى القصاص بالقتل او بالتهديد به , هذا اذا كان المتخاصمان من عشيرتين مختلفتين , اما اذا كانا من عشيرة واحدة . فالخاسر بالأحتكام يجب ان يلبي ما قضته جلسة الوجهاء وما امروه به وبعكس ذالك فمصيره الطرد من العشيرة والبراءة منه .
ورغم شيوع الكوامة في المجتمع العراقي , ولاسيما في جنوبه , وتغلغلها في مفاصله . ولكنها عادة دخيلة , جاءت على أثر زحف القرية باتجاه المدينة , فحملت معها كل خصائصها ومقوماتها وعاداتها . وكان بالأمكان ان تذوب العادات الريفية في المجتمع المديني الذي عادة ما يمتصها في البداية , ثم يقوم بتذويبها حتى تتلاشى . ولكن العكس هو الذي حدث , وذالك لأسباب عديدة . وقد يكون اقواها هو استعانة النظام الدكتاتوري بالعشائر لأحكام قبضته على سكان الأرياف ومحاولة تدجينهم . وقد منحهم لقاء ذالك سلطات ونفوذا, لكن هذا النفوذ سرعان ما يصبح قوّة حقيقية اكتسبته العشيرة في ظل ضعف الحكومة المركزية , نتيجة لهزيمة غزو الكويت وما تلاه من حصار , جعلت الكثيرين من ابناء الريف يرون في المدينة بديلا مقبولا لريف لايتوفر على ضروريات الحياة او مباهجها . لذالك كانت الهجرة الريفية بمثابة زحف اطاح بخصائص المدينة وافرغها من طابعها , لصالح الريف . وحينما جاء النظام الجديد كرّس ماهو سائد , فزاد اعتماده على العشيرة . وفي ظل سقوط هيبة الدولة العراقية . وحلّ الجيش والشرطة من قبل الأحتلال , وغياب مؤسسات الدولة باجهزتها التشريعية والقضائية والتنفيذية . اصبحت اعراف العشيرة وسطوتها بديلا للفراغ الذي نشا بعد السقوط , فكانت الكوامة هي المسطرة التي لجأ اليها المجتمع لتقليص مشاكله ومعالجتها . ولكنها سرعان ما اصبحت مقصلة تهدد الكثيرين , ووسيلة ابتزاز للبعض , وجسرا للثراء السريع للبعض الآخر .وهكذا تحولت من وسيلة للحل الى مشكلة في حد ذاتها . مشكلة تهدد المجتمع المدني وتعصف بمكاسبه , وذالك لأنها تحولت الى بديل للقضاء وبديل للسلطة التي تنفذ مقرراته .
تتحول العادات احيانا الى اعراف , والعرف يكتسب قوة القانون وسلطته , ولكنه لايمتلك شرعية القوانين ومنطقيتها وقدرتها على حل مختلف الأشكالات الأنسانية .التي اعتمدت على تراث عريض من تجارب الشعوب من طفولتها حتى نضجها .لذالك فالأعراف تنتمي الى محيط جغرافي وتأريخي يجعلها غريبة وغير مقبولة في مجتمعات اخرى , وحتى في ظروف اخرى . لذالك فان تقدم المجتمعات وانفتاحها على بعضها , يجعل من بعض الأعراف اداة معرقلة للتطور , ناهيك ان بعضها الآخر يكرّس التخلف . لذالك فينبغي ان نتخلص من بعض الأعراف ذات المنحى السلبي , وفي ذات الوقت ينبغي ان نتمسك بالأعراف ذات القيم الجوهرية التي تساهم في شد اللحمة بين افراد المجتمع .
ان تفشي الفساد في مؤسسات العهد العراقي الجديد , ولاسيما القضاء , حمل الكثير من الناس الى اللجوء الى الحل العشائري , فتتحول ( الكّوامة ) الى بوليصة تأمين عن الحياة والمقتنيات في مجتمع لاتوجد فيه شركات تأمين عاملة – مثلا ليس هناك سيارة تسير في العراق لدى صاحبها بوليصة تأمين ! – لذا فان دور الكوامة يصبح فاعلاومؤثرا . فهناك حاجة ملحة للحماية من الأخطار في نظام حكم غير قادر على تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع اي حماية المال من الأخطار المحتملة , وحماية الأرواح في حوادث السير المرعبة , التي يذهب ضحيتها آلاف الأبرياءيوميا , نتيجة لرعونة السوّاق وسوء الطرق . لكن مشكلة الكوامة في الحل تكمن في عدم قدرتها الدقيقة بين المخطيء والبريء ومن ثمه التفريق بين الخطأ والصواب . في وقت يدّعي كل طرف من المتخاصمين أنّ الحقّ بجانبه !, لكن ايجابيتها تكمن في الحد من الرعونة لدى البعض , او الحد من الجرائم والجنايات . لكن هذه الهالة من الأيجابية سرعان ما تخبو إزاء الأستخدام السيء والمشوه واللاعقلاني لها . لقد تعرض بعض الأطباء الى الكوامة بحجة انهم تسببوا في وفاة بعض الناس . من يمتلك مؤهلات مهنية وعلمية بحيث يستطيع ان يثبت ان الموت كان بسبب خطأ جراحي مثلا ؟, كما تعرض بعض موظفي الحكومة الى شكاوى مماثلة . وفي هذه الحالة , كيف يمكن للشرطي ان يقوم بواجبه , وكذالك المحامي او المعلم او التاجر ؟؟ لقد استغلت هذه الظاهرة من قبل البعض لتتحول من وسيلة للأصلاح الى وسيلة للثراء الفاحش , فقد عين البعض انفسهم في هذه المهنة , واصبح يتلقى مالا لقاء اتعابه . وكأي مهنة اصابها الفساد واصبحت من وسيلة لأصلاح المجتمع وحماية حقوق افراده , الى وسيلة ضاغطة على اعناق الناس , ومعرقلة للوصول الى رقي المجتمع المدني المبني على تفهم للحقوق والواجبات بين افراده , ناهيك أنّ الآلية التي تتم بها تعتمد على ما يشبه المزاد العلني , لأن الحلول تعتمد على الغرامة المالية , فحالما تطرح كمية المال حتى تنهال الحسومات ,التي تخضع الى منطق السوق في المضاربة , حتى تشعر أنّ الأنسان يتحول الى سلعة , كما ان المشرفين عليها يحصلون على نسبتهم المادية من المبلغ , وهذا ما يجعل الطبقات الفقيرة والمتوسطة تنوء بحمل أعباء جديدة في الهموم الحياتية اليومية .
إنّ التخلص من هذه الظاهرة ونتائجها يعتمد على امرين متلازمين . اولهما : عودة الروح الى القضاء وتخليصه من كل الشوائب التي طفحت فيه , من فساد وضعف ولامهنية , وان يكون بوصلة الآمان للمجتمع , من خلال تعامله على اعلاء سلطة القانون , وليس من هو فوقه . هذا الأمر سيساهم في اضعاف الكوامة وانسحاب الناس من التعامل معها باعتبارها غير قانونية . وثانيهما : بث الوعي بين الناس عن طريق الميديا او المؤسسات العلمية والمدرسية . وذالك لأرساء قواعد المجتمع المدني الذي يجعل الأنتماء للوطن بمختلف مكوناته , وليس الأنتماء للعشيرة فقط . ان الوعي عماد التقدم في بلدنا الذي مازال يعاني من آفات التخلف , ويجب ان نبدأ بانفسنا في تغيير الظواهر السلبية , ولنجعل من موقف الشاعر والمثقف امير ناصر مثالا ايجابيا لنا . حينما حكمت له العشيرة بمبلغ كبير من المال , نتيجة حادثة غرق ولده الشاب , فقد ادانت ( جلسة الكوامة) صديق الفقيد بتقاعسه عن إنقاذ الغريق او الأخبار عنه . لكن امير ناصر المفجوع بإبنه , تجرع مرارة الفقد , معلنا انه يرفض الديّة , وانه يتسامح مع الخطأ غير المقصود . وكان موقفة اعلان البراءة من التشاحن الأجتماعي , كما انه جعل الباب مفتوحا امام الصفاء الأجتماعي القائم على التسامح والعدل .وهذا يعطينا مثلا على اننا لايكفي ان نتذمر من ظاهرة ما , بل يجب ان نبدا بتغييرها .
#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟