تييري باكو
الحوار المتمدن-العدد: 1086 - 2005 / 1 / 22 - 10:36
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
احتلال معمل لمنع عمال النقل الذين أرسلهم رب العمل لتحميل الالات الى بلاد اخرى، قلع النباتات المعدلة جينيا لحماية الصحة العامة، عقد قران المثليي الجنس، الحضور بصمت داخل مجلس او الاعتصام سلميا على الرصيف، تلك هي بعض الافعال السياسية المرتبطة عادة بما يسمى "العصيان المدني". انه موقف غير جديد...
ففي يوم من أيام شهر تموز/يوليو 1864 (الثالث والعشرون او الرابع والعشرون منه) في مدينة كونكورد في ولاية ماساشوستس الاميركية حيث ولد، التقى هنري ديفيد تورو بصموئيل ستابلز وهو شرطي بلدي راح يطالبه بدفع ما يتوجب عليه من ضرائب. وكان تورو على وشك تسديد المطلوب منه قبل أن يتردد قليلا. فهو يعيش منذ سنتين في كوخ وسط غابة والدن وقد نزل الى المدينة لاسترجاع حذائه من عند الاسكافي. سرعان ما فضل الامتناع من ناحية المبدأ عن دفع المال للدولة في الوقت الذي يعارض فيه سياستها ولا يرغب مطلقا في تمويل الحرب على المكسيك. فتم اعتقاله وأمضى ليلة في السجن بالرغم من قيام امرأة مجهولة (عمته ماريا تورو على الارجح) بدفع الغرامة عنه.
كان تورو يتمتع بشعبية في هذه البلدة المنضوية تحت افكار رالف امرسون (1803-1882) التجديدية والمثقفين المتحلقين حوله وحول صحيفته The Dial، وقد طلب منه بعدها تدوين تجربته وتبرير فعلته. فكتب نصا بعنوان "علاقة الفرد بالدولة" وقدمه خلال محاضرة في مدينة كونكورد في شهر كانون الثاني/يناير 1848. وقامت اليزابيت بيبودي، قريبة الروائي ناتانائيل هاوثورن بنشر هذا النص في مجلتها Aesthetic Papers في ايار/مايو من العام 1849 تحت عنوان "مقاومة الحكومة المدنية" والذي سيتحول الى "عصيان مدني" [1] في مؤلفات تورو الكاملة التي نشرت عام 1862 بعد وفاته. الحقيقة ان هذا النص المثير للجدل قد طواه النسيان حتى ان تورو نفسه لم يعد يستشهد به.
لكنه وقع في غريب الصدف بين يدي ليون تولستوي الذي قرأه ودعا الاميركيين في رسالة نشرتها صحيفة North American Review في بداية القرن العشرين، الى التمثل بهذا الموقف الجريء والنموذجي لفرد في مواجهة الدولة عندما تسلك الطريق الخاطئ. قبل ذلك بقليل كان مهندس غاندي، الطالب الهندي في جامعة اوكسفورد، وهو نباتي، يتقرب من اتباع آخرين للنظام النباتي من أمثال هنري سالت، كاتب سيرة تورو الذي قدم اليه هذه النشرة. تحمس غاندي للفكرة وعندما أصبح محاميا في جنوب افريقيا نشرها في مجلته Indian Opinion بتاريخ 26/10/1907. وما انفك منذ ذاك التاريخ وحتى اغتياله عام 1948 يدعو الى العصيان المدني ويربطه بممارسة اللاعنف.
وكان تورو قد تأثر ببرونسون ألكوت وهو مواطن من مدينة كونكورد وصفته ابنته لويزا ماي تحت اسم الدكتور مارش في كتابها "نساء صغيرات" وكان يعلن بالصوت الصارخ انه لن يسدد ضرائبه طالما ان الحكومة لم تضع حدا لسياسة استعباد السود المهينة. يقال ان صموئيل هوار تكفل الدفع عنه لكن المهم هو الاقرار النهائي لفكرة تصدي مواطن واحد لحكومته في وقفة ضمير تنسجم مع المبادئ التأسيسية للدولة.
تلك هي الفكرة التي سيتبناها ديفيد تورو بدوره. ما المقصود؟ في السطور الاولى من مساجلته يشير الى ان وجود الحكومة لا يجب ان يعني تخلي المواطنين عن الاحتكام الى ضمائرهم. ويؤكد "ان المفروض عليّ تحديدا هو الاحتكام الى فكرتي عن الخير والانسجام معها". وفي مكان لاحق يعطي مثلا على هذا المبدأ الاخلاقي بالقول ان أمة تقول انها "حرة" لا يمكن ان تقبل بوجود واحد على ستة من سكانها رهن الاستعباد وانه آن الاوان بالتالي "للشرفاء ان يتمردوا ويفكروا في اطلاق الثورة".
وكما توجد قوانين غير عادلة فان نصير العدالة يمكن ان يجد مكانه الحقيقي في السجن الى جانب ضحايا حكومة ظالمة. اما الموظفون الذين يسعون الى خدمة الخير فليس امامهم سوى الاستقالة... يعترف تورو أنه يدفع الضريبة بطيبة خاطر من اجل اصلاح الطرق او المدارس لكنه لا يقبل تمويل الحرب التي تساهم في تعزيز ولايات الجنوب التي تتبع نظام العبودية. رغبته في السلام تترافق مع اقنناعه بضرورة الغاء نظام العبيد. وهو يعتقد بشكل عام ان الدولة الحريصة على العدالة واحترام الجميع تعلن بنفسها زوالها اذ ان البحث عن قانون يحترم، يشكل في نظره اشارة الى الاستعباد المضاد لتأكيد الذات الفردية لكل شخص.
في سياق تحليلها لهذا النص البالغ الدلالة في نظر حركة الحقوق المدنية التي كانت تحرك أميركا في حينه، توضح حنه آرندت [2] انه لا يشير الى ما يجب عمله لتصحيح المظالم بل الى كيفية تفاديها. وهي تعتقد في توافق مع مونتسكيو بوجود "روح للشرائع" يختلف بين بلد وآخر وتعتبر بالتالي أن فكرة العصيان المدني مرتبطة بظروف ولادة الاتحاد الاميركي. وتجد فيه مثالا اعلى لـ "الرضاء الجماعي" وما يلازمه من "حق الاختلاف" كمبدأين تأسيسيين لـ"فن التشارك" الخاص بالمستوطنين الاوائل وورثتهم والذي كان يثير اعجاب الكسي دي توكفيل. وفي سياق تساؤلها حول احتمال تصدير هذا النوع من الممارسات الى انظمة سياسية قانونية أخرى يحكمها "طغيان الأكثرية"، تعتقد حنه آرندت انها ستترافق مع اعادة نظر في الآلة القانونية والبيروقراطية الصلفة.
اما الحكومة الاميركية التي خاضت الحرب ضد فييتنام من دون ان تعلنها وهي العاجزة عن تأمين المساواة في الحقوق بين البيض والسود فانها اعادت في الواقع احياء العصيان المدني. وتتكاثر في العالم حالات الطوارئ الناجمة عن قصور في عمل المؤسسات وهذا ما ترى فيه آرندت اشارة الى تعميم الرفض المتحول الى مقاومة.
وهذا ما كان يدعو اليه غاندي من خلال عبارة "ساتايغراها" [3] التي اخترعها لتعني "تمالك النفس" في الحقيقة. ويشير تكرارا الى ان "الساتايغراها" ليست سوى "الحقيقة والنعومة في الحياة السياسية" وانها تفترض اللاعنف وليس السلبية. على العكس فان العصيان المدني هو "خروج مدني على قرارات تفتقر الى الاخلاق نابعة من القوانين". وقد التحقالعديدون بغاندي بعد ان ذاق السجن وصمد في موقفه المستقيم وانفتاحه على الآخرين واحترامه للجميع بمن فيهم الاعداء. لكن معركته تبدو بلا نهاية لان الظلم الذي يكتنف بعض القوانين وانحراف المؤسسات وافتقار اصحاب القرار للباقة بدت قادرة على التجدد بشكل مثير للقلق. ويحصل احيانا ان يفرض ميزان القوى احتمال اللجؤ الى العصيان المدني. وهذا ما أدركه جيدا ملك الدانمارك كريستيان الذي واجه فرض النازيين على اليهود وضع النجمة الصفراء على صدورهم عند احتلالهم لبلاده بان علق بدوره هذه النجمة على معطفه. وقد قلده في ذلك العديد من ابناء بلده مما دفع النازيين الى التراجع ولو انهم ارتكبوا العديد من اعمال القمع.
في فرنسا قدم ليون بازالغيت وهو اختصاصي في الشاعر الاميركي وايتمان، مقال تورو في "لو ماغازين انترناسيونال" عام 1894 قبل ان يصدر ترجمة له عام 1921. وبعد ان قرأه الاديب رومان رولان استخدمه في كتابه "حياة فيفيكاناندا" وكان له بالغ الاثر على جان جيوينو خلال الثلاثينات الى درجة انه استوحاه من اجل استنكاره الحروب على انواعها تحت عنوان "رفض الانصياع".
هكذا كان الادباء في فرنسا اول من تشبع بفكر تورو وجاء من بعدهم المناضلون الفوضويون ثم تبعهم - ومن خلال غاندي والهند الصوفية - تلامذة لانزا دل فاستو (1901-1981). نرى هكذا ان فعل العصيان لم يستخدمه "السياسيون" وقادة الرأي كثيرا الا منذ بضع سنوات مع اشخاص امثال خوسه بوفه ونويل مامير وغيرهم من دعاة العولمة المغايرة وهم لا يترددون في الاعتراض على القانون باسم احترام القيم الانسانية نفسها. فأي عمى يدفع "السياسيين" الى التشبث بعدم الاعتراف ببطلان بعض القوانين وعدم مطابقتها لظروف مستجدة ومفاعيلها المذلة للمجموعات او الافراد وما تنتجه من عنف يمارس باسم دولة مجردة؟ انه لمن الواجب على كل فرد يتمتع بالضمير الحي ان يلجأ الى حق الاعتراض والعصيان المدني.
--------------------------------------------------------------------------------
* فيلسوف، استاذ في في جامعة باريس XII، من مؤلفاتهDemeure terrestre. Enquête vagabonde sur l’habiter, Les Editions de l’Imprimeur, Paris,
--------------------------------------------------------------------------------
[1] Mille et une nuits, Paris, 1997. Sur David Thoreau, se reporter aux textes suivants CHOISIR 1: The days of Henry Thoreau. A biography, par Walter Harding, Alfred Knopf, New York, 1965 ; A Historical guide to Henry David Thoreau, édité par William E. Cain, Oxford University Press, New York, 2000, en particulier l’article de Lawrence A. Rosenwald, “ The Theory, Practice, and Influence of Thoreau’s Civil Disobedience ”, p.153 et s. ; “ De désobéir au crime d’obéir ”, par Louis Simon, Europe, n° 459/460, 1967, p. 210 et s.
[2] Hannah Arendt, “ La désobéissance civile ”, dans Du mensonge à la violence, essais de politique contemporaine, Calmann-Lévy, Paris, 1972, pp. 57-109.
[3] Gandhi, La Jeune Inde, introduction de Romain Rolland, Stock, Paris, 1924
#تييري_باكو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟