أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - في أصول القرآن، مسائل الأمس ومقاربات اليوم















المزيد.....



في أصول القرآن، مسائل الأمس ومقاربات اليوم


ناصر بن رجب

الحوار المتمدن-العدد: 3693 - 2012 / 4 / 9 - 03:55
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في أصـول القـرآن
مسائل الأمس ومقاربات اليوم
ألفريد - لويس دي بريمار
 
Aux origines du Coran
questions d’hier, approches d’aujourd’hui
Téraèdre, Paris, 2004
Cérès, EDIF2000, LE FENNEC, Tunis
 
ترجمة وتعليق
ناصر بن رجب
[email protected]
 
مقدمة المترجم
قبل وفاته بعامين تقريبا، أصدر المستشرق الفرنسي ألفريد-لويس دي بريمار سنة 2004 آخر كتاب له. وهو يمثّل، على ما أعتقد، عصارة ما توصّل إليه في أبحاثه ودراساته التي امتدّت طوال عقود عديدة حول القرآن ومراحل تشكّل الإسلام الأولى. وقد سبق وترجمتُ له عدّة مقالات نشرت في موقعي "الأوان" و"الحوار المتمدّن". أذكر منها على سبيل المثال : "نبوّة وزنا"، "المقاربة التاريخية للشخصيات الدينية : محمد" و "قراءات وكتابات". كما أشير هنا إلى أن رابطة العقليين العرب ترجمت ونشرت أشهر مؤلفاته Les fondations de l’Islam الذي صدر في طبعته الفرنسية سنة 2002. كما خصّصت مؤخرا مجلّة Revue des mondes musulmans et de la Méditerrannée التي تصدرها جامعة بروفانس في فرنسا، عددا مُهدى لروحه سنة 2011 بعنوان : « Ecriture de l’histoire et processus de canonisation dans les premiers siècles del’islam ».
 
وحتّى أواصل التعريف بما أنتجه هذا المفكّر، اخترت تقديم ترجمة كاملة لكتابه صغير الحجم، عظيم الفائدة « Aux origines du Coran » للقارئ العربي، وذلك لأنه من ناحية نصّ قصير نوعا ما (143 صفحة)، ولكنّه من ناحية أخرى نصّ مركّز يستعرض فيه المؤلّف كلّ الإشكاليات التي تثيرها الدراسات العلمية الحديثة بخصوص تدوين وجمع القرآن في بدايات الإسلام. ويحتوي الكتاب على خمسة فصول سوف أنشرها في عدّة حلقات متتالية. وقد فضّلت أن يكون نشرها في موقعنا المتميّز "الحوار المتمدن" تعميما للفائدة من حيث وفرة عدد القراء وكذلك التجاوب المثمر والحوار البناء الذي استطاع هذا الموقع السّخي طيلة هذا الوقت أن يوفّره من حيث غزارة المادة المقَّدمة وخصوبتها وتنوّعها.
 
لقد حاولت قدر المستطاع الرجوع إلى المصادر الأصلية العربية التي اعتمدها دي بريمار في كتابه هذا ووضتعها في مواقع الإستشهاد في متن النص أو في الهوامش. كما أضفت في الهوامش استشهادات من المصادر العربية وتعاليق شخصية للتّوضيع أو لإثراء الموضوع. بطبيعة الحال إشارات المؤلّف إلى الصفحات في الهوامش تتطابق مع الطبعة الفرنسية وبالمقابل فضّلنا ترقيما متسلسلا للهوامش بما فيها الهوامش التي أضفناها من عندما مع تمييزها عن غيرها من هوامش المؤلّف بإضافة عبارة المترجم بين معقوفين.
 
في أصـول القـرآن (1)
 

تنبيــه
هذا الكتاب ليس "بداءً[1] [تعليم] للقرآن" : القارئ لن يجد فيه، تحت الصورة الكلاسيكية والمألوفة "لمدخل"، أولى العناصر الإخبارية التي قد تنقصه في حالة ما إذا قد كان لم يسمع قط بهذا الكتاب أو لم يفتحه ابداً أو لم يحاول إطلاقاً قراءته أو لم تُتح له الفرصة للقيام بذلك. كُتب هذا الكتاب ضمن مجموعة عنوانها "الإسلام على بساط البحث والنقاش[2]" ولذلك فالمؤلف دخل مباشرة في صلب الموضوع الذي حُدّد له : تسليط الضوء على نحو سهل المنال، فيما يتعلق بالقرآن، على حصيلة راهنة للمسائل العويصة في حالتها العلمية والهستوريوغرافية الأحْدَثِ عهداً.
وهكذا فانطلاقاً من المسائل التي هي على بساط البحث يكون القارئ مدعوّاً لمعرفةٍ أفضل لهذا الكتاب (القرآن)، ولمحتواه ولتاريخه، وللمكانة التي يحتلّها عند المسلمين كنصّ مرجعي أوّل وككتابة مقدّسة. الفصلان الأول و الثاني كُتبا خصيصاً لإدخال القارئ في هذا المنظور. وهو منظور أكثر دينامية، ويبدو لنا أكثر فائدة من مُجرّد تقديم عناصر القرآن الأساسية التي بإمكان القارئ أن يجدها تقريباً في كل مكان في سوق الكتاب.
أما بخصوص ترجمة النصّ القرآني إلى الفرنسية، فالمشكلة ليست فقط، ولا أساساً، الانتقال من لغة إلى أُخرى، بل هي الإختيار بين مختلف تأويلات النص التي اقترحها المفسرون المسلمون منذ بدايات تفسير القرآن. وفعلاً، نص القرآن الأصلي، زيادة على كونه نصّاً مُبهماً بسبب طابعه المقطّع، هو غالباً أبعد ما يكون عن الوضوح، حتى لذوي الثقافة العربية، بسبب قَدامَة لغته وتاريخ تأليف نصوص : بداية من القرن الثامن الميلادي أعطى المفسّرون المسلمون للكثير من كلماته وصيغه ومختلف المواقف التي قد تكون أُنتجت فيها رسالاته تفاسيرَ شديدة الاختلاف وغالباً متضاربة. كانت هذه التفاسير إذاً، وحتى في العربية، ضروباً من الترجمات التأويلية.
الترجمات الحديثة إلى اللغات غير العربية تخضع خضوعاً كبيراً لهذا الوضع. ترجمة كزمرسكي الفرنسية على قِدمها تبقى غالباً أكثر دقّة من كثير من ترجمات متأخرة. ترجمة رجيس بلاشير، المستخدمة عادة من الجامعيين، تطمح لأن تكون جدّ حرفية بسبب اهتمامها الفيلولوجي، ممَّا يجعلها غالباً جافة. ترجمة دنيز ماسون، أدبية أكثر، تقدّم أيضاً فائدة الإحالات المتعدّدة لنصوص موازية من المأثور الكتابي أو شبه الكتابي. تتميز ترجمة حمزة بو بكر بالمستوى الرفيع للعبارة الفرنسية، في حين أن ترجمة محمّد حميد اللّه، المنشورة باللغتين، توشك أن تثبّط عزيمة القارئ لحرفيتها المفرطة. وأخيراً ترجمة جاك بيرك المهمة غالباً في خياراتها السيميائية والأدبية، غير أنها تعاني من أسلوبها المتكلّف إلى حدّ ما.
أما فيما يتعلّق بالآيات القرآنية المستشهد بها بالفرنسية في هذا الكتاب فالمؤلف فضّل ترجمتها بنفسه ملتصقا ما استطاع إلى ذلك سبيلا بالتعبير العربي، آخذا بعين الاعتبار حاجات استدلاله والاختيارات التأويلية التي ينبغي إنجازها.
 
الفصل 1
 
الجـدل في القـرآن
الجدل في القرآن قديم قدم الأزمنة التي دُوّنت فيها الآيات تدريجياً لتصبح المرجع الأول لأمة إسلامية كانت حين ذاك في غمرة توسّعها. بدأ هذا الجدل في منتصف القرن السابع (م) في الشرق الأوسط، في عدة نقاط من الأمصار المفتوحة، بظهور مصاحف شتّى ينافس بعضها البعض. وقد يكون عثمان (644-656)، الخليفة الثالث، قد حاول أن ينال، أو يفرض، إجماعاً حول المصاحف التي كُتبت في المدينة. ومع ذلك فالإجماع لم ينعقد لأننا نمتلك في حقبة معاوية (661-680)، صدىً لتدخل رسمي يهدف لوضع حدٍّ لتعارض المصاحف. في حوالي أواخر هذا القرن نفسه أو بداية القرن الثامن (م)، فرض الخليفة الأموي عبد الملك (685-705) مصحفاً مكتملاً تقريباً، مع أنه لم يستقر تماماً بعد، وذلك ابتداء من المصاحف التي كُتبت، كما قيل، في المدينة. غير أن هذه المصاحف أُعيد فيها النظر ونُقّحت ودون شكّ أضيف إليها تحت إشراف الحجاج بن يوسف، أهم ولاة دولة الخلافة الأموية[3]. لقد كان هذا المصحف الذي لم يستقر بعد هو المصحف ولا شك الذي اطَّلع عليه، في بداية القرن الثامن (م)، أوائل المجادلين المسيحيين المعترضين على بعض النصوص القرآنية. في نهاية القرن الثامن (م)، تدخّل من جديد المهدي، ثالث خلفاء بني العباس (775-785) فأرسل إلى المدينة مصحفاً يَحُلُّ فيها محلّ مصحف الحجّاج. في النصف الأول من القرن العاشر (م) انتهى العمل والجدل في النصوص باصطفاء القراءات المختلفة التي ستكون من الآن فصاعداً الوحيدة المعتمدة في التعليم والشعائر الدينية، من أجل قرآن ذي نصٍّ موحَّدٍ، رسميٍّ اختُتم نهائياً. بقية المصاحف الأخرى، التي مازالت متداولة، استُبعدت نهائياً. أما نشر النص القرآني في كتاب مطبوع، فلم يشرع المسلمون فيه إلا بداية من نهاية القرن الثامن عشر. أما الآن فإن النسخة المصرية، المطبوعة في القاهرة سنة 1923، هي التي تُستخدم كمرجع في العالم كله. بالرغم من مستوى طباعتها الرفيع فإنها ليست "طبعة نقدية". لقد اعتَمَدت قراءةً واحدة من "القراءات" التقليدية السبع المعترف بها، قراءة الكوفة، مما يعزز إغلاق النص القرآني المستلَم reçu. وبالفعل، فالنشر والاستخدام المشترك لهذه النسخة يختزلان أيضا إمكانية الانفتاح على مشاكل البحث في تاريخ النص[4].
وهكذا يمكننا أن نُلخّص المراحل الرئيسية لتأليف النصوص القرآنية كما ظهرت من خلال المصادر العربية. هذا المخطط schéma ينبغي أن نضعه في صيغة شرطية، بسبب الشكوك واختلاف الأخبار التي وصلتنا من هذه المصادر. إلا أن هذا المخطط مُحتمل اعتباراً لهذه الشكوك، وللتّأريخ المحتمل لأقدم القطع القرآنية المخطوطة المعروفة حتى اليوم[5]. وعلى أية حالٍ، فإنه كافٍ لكي يدلّنا على ان الجدل في النصوص القرآنية ليس وليد اليوم.
 
جـدل القـرون الماضـية
الأخبار عن تكوين النصوص القرآنية
عدّة أخبار بخصوص تكوين وكتابة القرآن كانت ولا شك متداولة في النصف الأول من القرن الثامن (م). لا نعرف هذه الأخبار إلا من خلال إعادة كتابتها المتأخرة مأخوذة عن مُصَنِّفي القرن التاسع (م). وهؤلاء يعودون بنا إلى الماضي، إلى الأزمان التي كانت فيها الحركة الإسلامية، بعد وفاة مؤسس الإسلام، في غمرة توسّعها خارج شبه الجزيرة العربية. انغرس الإسلام آن ذاك بفضل فتوحاته العسكرية ورسوخه السياسي الخاص، وسط اقوامٍ لهم كتبهم المقدسة ومأثوراتهم الدينية. ولكن المسلمين، رغم دينامية توسعهم، أو بسبب هذه الدينامية ذاتها، كانوا منقسمين سياسياً : ثلاثة من الخلفاء الراشدين هلكوا اغتيالاً، وحتى نهاية القرن السابع (م)، فإن شتّى الأحزاب المتعارضة عرفت سلسلة طويلة من المجابهات والحروب الأهلية. إذن، وفي خِضمّ أوضاع صراعات خطيرة وقع الشروع في كتابة نصوص دينية مرجعية لأمة منقسمة على نفسها.
مع ذلك، وبقطع النظر عن النزاعات السياسية التي تردّد صداها في الأخبار التي راجت حين ذاك، يتطلب أن نطرح على أنفسنا بعض الأسئلة المهمة ذات الطابع الديني التي تتجاوز رهاناتها مجرّد الحالات العابرة. سأحاول استخلاص دلالة هذه الأخبار في ذهن أولئك الذين كانوا ينقلونها عندما كانوا يستعرضون الظروف التي تمّ فيها تجميع المصحف. إنّ الجدالات التي أثارتها هذه الأخبار تشكّل إحدى مواد البحث الحديث والمعاصر في تاريخ القرآن[6].
 
الجدل القرآني في القرآن
من جهتها ردّدت النصوص القرآنية الحالية صدى ضرب آخر من الجدل في القرآن. يُعبّر هذا الجدل، من جهة، عمّ يمكن تسمّيته "مبحث النبوة" prophétologie : منزلة رسول القرآن، أصل ولغة وصورة وطبيعة رسالته. ويُعبّر، من جهة أخرى، عن منزلة القرآن الكريم : الوحي واللغة المقدّسة. النصوص التي تشير إلى ذلك لها طابع جدلي، فهي تتصدّى لاعتراضات خصومٍ غير مسلمين أو، رُبّما، على معترضين من بين المسلمين أنفسهم. فهي تورِد حُجج المعترضين وترُدّ عليها بواسطة سلطة النص الإلهي. ومع هذا فإن الجدل العقائدي لم يُغلق. نصوص الجدالات القرآنية في القرآن سيتمّ تقديمها لاحقا. كما أن بُنيتها، لغتها ومضمونها سيتمّ تحليلها، في علاقتها مع السياق التاريخي الذي يمكن تنزيلها فيه، ما استطعنا معرفة ذلك[7].
 
السجالات البيْدينيّة Interreligieux
الخصوم غير المسلمين الذين تشير إليهم النصوص القرآنية لم تقع تسميتهم بوضوح. ولكن بإمكاننا أن نتعرف، من خلال اعتراضاتهم، على المعالم الأولى لاستدلال سجالي سيتوسّع لاحقاً في الوسط المسيحي. يشهد على ذلك كتابان صَدَرا عن هذا الوسط في مستهلّ القرن الثامن (م). سنشير إلى هذين الكتابين بقدر ما يكون في إمكاننا الإسهام في إلقاء أضواء على المأثورات الإسلامية التقليدية عن تاريخ القرآن، أو السجال القرآني في القرآن ضد الخصوم غير المسلمين[8].
 
السجالات العقائدية الداخلية
ليس موضوع هذا الكتاب تناول المناظرات التي دارت حول القرآن بين المسلمين أنفسهم خلال الحقبة الكلاسيكية من تاريخ الإسلام. فهو لن يتناول إذن المناقشات في "إعجاز" القرآن، بالرغم من أن الجدل قد بدأ يظهر على المستوى الأدبيّ المحض في أيام الكاتب الإيراني العربي إبن المقفّع (720-757)[9]. كما لن نتناول أيضا السجال في طبيعة خلق أو عدم خلق القرآن، الذي تحوّل إلى مذهب رسمي وإلى محنةٍ في خلافة المأمون (813-833) وخلافة خَلَفيْه. هذه هي المسائل التي ستظهر في وقت متأخرٍ، نسبة إلى الحقبة الأكثر غموضاً التي تهمّنا هنا. إلا أنه علينا ملاحظة أن هذه الجدالات تضرب بجذورها في إثبات النصوص القرآنية التي سنتعرض لها في ثنايا هذه الصفحات[10].
 
المنـاقشات المعـاصرة[11]
المناقشات المعاصرة في القرآن وتاريخه حدثت خصوصا في اطار البحث الحديث في النصوص الدينية. والموقف الفكري الذي ينطوي عليه هذا البحث في الغرب يرتكز على عدم الأخذ بالمزاعم الدينية التقليدية. النصوص الدينية المؤسِّسة اعتُبِرت أولاً وقبل كل شيئ كوثائق أدبية بأوسع معاني الكلمة. إذن فمن شأنها أن تُدرس بهذه الصفة بقطع النظر عن خصوصية الطبيعة الدينية التي تدَّعيها. بإمكاننا أن نستعرض تاريخها بطريقة "دنيوية" Profane أي "خارج الحرم المقدس" حسب الإشتقاق اللاتيني للكلمة. بالإمكان أيضا إخضاعها لبحث نقدي بفضل أدواتٍ تقدمها طرق التحليل الفيلولوجية، الأدبية والتاريخية. وبهذه الطريقة سنعالج من الآن فصاعداً جميع النصوص الدينية المُؤسِّسة، من أجل فهمٍ أفضل لمحتواها في السياق الذي رأت فيه النور. ومثلما حدث للنصوص الكتابية، فإنّ النصوص القرآنية لا تستطيع أن تتمتّع، في هذا المجال، بمنزلة استثنائية.
وجهة نظر الفقهاء التقليديين في العلوم الدينية الإسلامية تختلف عن ذلك كل الاختلاف. خصوصية الرسالة القرآنية مقارنةً بالرسالات السابقة المشابهة، حتى ولو كانت توحيدية، هي في نظرهم حقيقة أساسية لا يجوز التشكيك فيها والتي ينتج عنها كلّ ما تبقّى.
القرآن، حسب العقيدة كما تكوّنت باكراً نسبيّاً، لا يخضع للتاريخ باعتباره "نزل" من اللَّه على محمَّدٍ انطلاقا من لوحٍ محفوظ؛ هذا الأخير تدعوه النصوص "أمّ الكتاب"[12]، التي تؤكّد أو تفنّد، حسب مشيئة الله، الكتب المقدسة السابقة. وقصارى ما يستطيع أن يحاوله مُفسّر القرآن هو تحديد الأسباب الظرفية التي نزلت فيها على الرسول هذه الآية أو تلك[13]. ولا مجال للمناقشة إلا داخل نصٍّ ذي مَنشئ إلهي تمّ قبوله بصفته تلك، لكي يُفسَّر ويُؤَوّل. وهنا تكمن بالضبط المزاعم الدينية التي يعتبر الباحث الحديث أن من واجبه الابتعاد عنها ولكن دون أن يتجاهلها مع ذلك إذ أن الأدب حيثما يعبّر عن نفسه يمكن أن يكون حاملاً، هو أيضاً، لمعلومات تاريخية بالمعنى الحقيقي.
تختلف عن ذلك أيضاً، حتى ولو كانت متجذّرة في تفكير حديث، وجهة نظر بعض الباحثين المسلمين الحاليين الذين يتموقعون بوضوح تام في خط إصلاحيّ، يقّل أو يكثر صرامة حسب الحالات، مُقارنة للفكر الإسلامي التقليدي. كلّهم يؤكدون على القيمة الميتافيزيقية والروحية والإخلاقية للرسالة القرآنية. إلا أنهم يحبذون وضع نصوص هذه الرسالة في سياقها التاريخي وإعادة تقييمها مُقابل غِلّ المأثور التقليدي الذي يكبّلها، وجعل الأحكام أو التوجيهات التي تحتويها في النظام السياسي، والإجتماعي أو الشرعي نسبيّة، وبإعطائها امكانية تأويل وقراءة مطابقة لتطوّر الذهنيّات وللمسائل الأخلاقية الجديدة التي يطرحها المجتمع الحديث. إذن، فالمناقشة لا تتناول القرآن وتاريخ تكوّنه كنصّ، بقدر ما تهتم بإعادة فحص استيعابه الظرفي من طرف الأجيال المسلمة السالفة، مما يشهد على ذلك بشكل خاص الأدب الفقهي الإسلامي التقليدي. حتى الآن يبدو أن الأستاذ الجامعي التونسي عبد المجيد الشرفي (وُلِد سنة 1942)، هو الأكثر منهجية في هذه المحاولة لإعادة تقييمٍ معمّقة في منظور "تحديث الفكر الإسلامي"[14].
المقصود هنا هو مناقشة تدور في داخل المجتمع الإسلامي المعاصر، وهي أساسية له ولا تخلو من فائدة لمن لا يشكلون جزءا منه. وعلى العكس من ذلك، بحثنا هذا يحصر عمداً موضوعه الخاص في التاريخ النقدي للآيات والسور القرآنية، الذي لم يُعالَج أبداً مباشرة، بما هو كذلك، من هذا التيّار المجدِّد.
 
تاريخ النصوص النقدي
الطرق الفيلولوجية والتاريخو-نقدية
أولى الدراسات الحديثة في تاريخ النصّ القرآني أنجزها المستشرقون الألمان. كان غوستاف فايلGustav Weil ، بكتابه "مدخل تاريخو-نقدي للقرآن" (1844)، هو الذي دشّن المحاولات لوضع كرونولوجيا منتظمة بمختلف الوحدات التي يتكوّن منها المصحف وهي السوَر، ثم تبعه بقليل تيودور نولدكه Theodor Nöldeke، بكتابه "تاريخ القرآن"[15] (1860) الذي أُعيدت كتابته فيما بعد ثم أُضيف إليه، بين 1909 و 1938، بأعمال فردريش شفاليFreidrich Schwally  في كتابه "جمع القرآن" وغوتهلف برغشترِسر Gotthelf Bergsträsser وأوطو بريتزل Otto Pretzel في كتابه "تاريخ النصّ القرآني"[16]. هذه المؤلفات، التي غدت كلاسيكية، والتي جُمعت مُعطياتها لاحقاً مع معطيات باحثين آخرين، وَضَعت الأسس لتاريخ نقديّ للنصّ. يتموقع ريجيس بلاشير Régis Blachère (1900-1970) في هذا الخط، والذي كان، في الجيل الذي سبقنا، أستاذ الدراسات القرآنية في فرنسا. أما المستشرق الإنجليزي ريتشارد بِلRichard Bell ، مؤلف كتاب " القرآن، ترجمة مع إعادة ترتيب نقدي للسُّوَر" (1937-1939)، فهو يحتلّ في هذا الصنف من البحث مكانة متميّزة سنعالجها بعد قليل.[17]
إعتمد المستشرقون على معرفتهم المعمّقة ليس للّغة العربية وحسب بل وأيضاً على اللغات الشرقية الأخرى ساميّةً كانت أم لا. ولذا وقع الحديث، بخصوص أعمالهم، عن بحث أو طريقة "فيلولوجية". يجب أن يُفهم هذا المصطلح في معناه شبه العام، متضمّناً في نفس الوقت المعرفة بالّلغات والبحوث بجميع أنواعها في النصوص القديمة التي تسمح بها هذه المعرفة. بيد أن الموضوع الرئيس لهذه البحوث كان من طبيعة تاريخية : في الواقع كان الهمّ الأول للمستشرقين إعادة كتابة تاريخ القرآن بما هو نصّ بفضل طرق نقد النصوص والأدب.
 
القرآن والتاريخ
ومع ذلك ينبغي أن نلاحظ أن القرآن في حدّ ذاته لا يقول شيئاً تقريباً عن تاريخه. الجدل القرآني في القرآن الذي ألمحنا إليه سالفا يتنزّل في سياق لا يقينَ فيه البتّة حتى يمكنه أن يقدم لنا معلومات موثوقة عن تاريخ النصوص المعنية. وفضلا عن ذلك، فإن القرآن هو عموماً، ضنينٌ جدّا بكلّ تدقيق تاريخي للوقائع بما في ذلك ما يخصّ محمّداً ومراحل نبوّته. بكامل التجرّد نقول أنه من المدهش جدّا أن يكون قد تسنّى لبعض المستشرقين اعتبار القرآن الوثيقة التاريخية الأساسية لبدايات تاريخ الإسلام الأولى، بل أنه يشكّل المرجع الأوّل، وهو الوحيد الموثوق إلى حدّ ما لمعرفة سيرة مُؤلّفه. والحال أن أسماء الأعلام فيه مثل "محمّد"، "مكّة" و"المدينة" (أو "يثرب") تُعَدّ على أصابع اليد الواحدة. فيما خصّ ذكر المعركتين الواردتين فيه، يكتفي النصّ بالقول بأن اللَّه أعان فيهما المؤمنين. كما لم يرد في المصحف ذكر أيٍّ كان من "الصّحابة" الكبار المؤسّسين للحركة إلى جانب مُحمّد، وهذا صحيح أيضا بالنّسبة لعدّة عناصر أخرى خاصّة بتاريخ بدايات الإسلام والتي عرفناها من أماكن أخرى[18]. لا شكّ أن هذه الملاحظات صورية، غير أنها تشكّل مؤشّراً على واقع أن القرآن هو عكس "تاريخ" [للإسلام ومُؤسِّسه] كما حَلَم بذلك مستشرقو القرن التاسع عشر.
 
المأثور التقليدي
إذا ما كان التحليل النصي والأدبي للقرآن ليس بكاف لتدارُك فقر النص القرآني فيما يتعلق بالمعطيات التاريخية الخالصة، فإن البحث الإستشراقي لا يمكن له أن يستغني عن تقصي الحقائق في المأثور التقليدي في كل ما يمتّ لكلّ من القرآن ومحمد بصلة، وهذا المأثور مكوّن أساساً من الحديث، أي كتب الصِّحاح الهائلة الجامعة للأقوال، والأفعال والحركات والسّكنات المنسوبة لنبيِّ الإسلام وأصحابه، ومن امتداداتها في مأثور التفسير والسيرة[19].
من بين هذه الإمتدادات، توجد الروايات الهادفة إلى تنزيل هذه الآية أو تلك أو فقرة قرآنية في إطارٍ تاريخاني[20] historicisé، أطلق عليه المؤلّفُون المسلمون أسباب النزول. وهذه الروايات متناثرة في التفاسير القرآنية الكلاسيكية.
هناك نوع ثان من المأثورات مرتبط وثيق الارتباط بما سبق ذكره. إنها الأخبار التي جمُّعت في المصنّفات أو المؤلفات التي تهمّ حصرا سيرة وتاريخ نبيّ الإسلام في تسلسلها الزمني؛ وهو ما يُشار إليه بالمصطلح العام سيرة أو "حياة" الرسول.
وأخيرا هناك روايات خاصّة مكرَّسة لما يُسمّى عامة جمع القرآن، وهو ما يعني تاريخ تأليف وكتابة القرآن بعد وفاة نبيّ الإسلام. فعندما توجد هذه الروايات في إطار السّنة، فإنها تشكّل ضرباً من الإمتداد للسّيرة : وفعلا، لم يعد المقصود حينئذ، حسب المصنِّفين، إلاّ مجرّد تسجيلِ وكتابة كلّ ما رُوي عن محمد بما هو "قُرآنات" طِوالَ فترة نبوّته. وعندما توجد هذه الروايات في مصنّفات هستوريوغرافية historiographique أكثر حياداً، فإنّها تسمح بتصوّر تاريخ أكثر تشعّبا من ذلك بكثير.
 
إطار زمكاني مُقَنَّن
إنطلاقا من هذين الأساسين، التحليل النّصي والأدبي من جهة، وتقصّي المعطيات التراثية، من جهة أخرى، حاول علماء القرنين الأخيرين، ما استطاعوا إلى الدقّة سبيلا، إعادة ترتيب التسلسل الزمني للسّور التي تُؤلّف القرآن. نولدكه Nöldeke وتلامذته، مع فروق دقيقة شتّى، استأنفوا وهذّبوا مخطّط العلماء المسلمين القدامى. وحسب هذا المخطط فبالإمكان تصنيف السور زمنيّا أوّلا وقبل كل شيء، ثم تبعا لأسلوبها وموضوعاتها الغالبة، في فترات ثلاث متمايزة من دعوة محمد في مكة. أما سور الفترة المدنية، بداية من الهجرة، فإن ترتيبها يجب أن يأخُذ بعين الإعتبار سلطة محمّد السياسية المتزايدة وتلاحق غزواته، وأخيراً إهتمامه بتنظيم أُمَّته ببعض الأحكام التشريعية، الشعائرية أو الإجتماعية.
تقسيم المصحف إلى "سور مكيّة" و "سور مدنيّة"، حسب السّنة، انتهى إلى فرض نفسه على علماء القرن الأخير باعتباره الإطار الزمكاني شبه المُقنَّن الذين قدّروا أن من واجبهم أن يحصروا ويهذّبوا ضمنه البحث في تاريخ النص القرآني. بيد أن عدّة تصنيفات أُضيفت تدريجيّا لهذا المخطط الأول إلى درجة أن المستشرق الإنجليزي ريتشارد بيل Richard Bell شكّك فيه. لقد استدلّ هذا الأخير داخل السور على تشعّبٍ وتشظٍّ كبيرين للنّصوص أكثر ممّا كان يُظَنّ. شَكْل المصحف الحالي ربّما كان حصيلة مراجعات، تحويلات، وإلغاءات أو تقميشات compilations متعاقبة، قد يكون بعضها وقع في زمن محمّد وتحت مراقبته، ولكنّ بعضها الآخر قد يعود إلى حقبة جمع الآيات والسور بعد وفاته[21].
بيد أنّ المخطط الكلاسيكي، وبإجمال شديد، هو الذي انتهى إلى تبوُّء مركز الصدارة، وواصل باحثون مشهورون الإحتفاظ به اليوم كمرجع مظهرين عموما الإهتمام بتبديل مواقع السّور في السياقين المتتاليين "المكّي" و "المدني" طوال فترة النّبوّة. ومع ذلك، شكّك باحثون آخرون لا يقلُّون عنهم شهرة في خضوع هذا المخطط المفرطة للمعطيات الإسلامية التقليدية التي تُعتبر مصداقيتها، في نظرهم، أبعد ما يكون عن الوثوق بها.
 
الجدل حول مصداقية المصادر التقليدية
حقًّا، الإرتياب في عدد كبير من المعطيات التي يحملها الحديث ظهر باكرًا. العلماء المسلمون في القرن التاسع (م) لم يفوِّتوا فرصة، لأسباب شتّى، للتشكيك في صحّة عدد كبير من الأحاديث المنسوبة إلى محمّد فاضحين طابعها الموضوع[22]. كان ذلك بالنّسبة لهم، مناسبة لعمل أوّل اصطفائي قاموا به حسب معاييرهم الخّاصة[23].
في إطار البحث الحديث، مسألة الصحة التاريخية للمصادر الإسلامية التقليدية، في جملتها، أثارَها منذ 1890 الإسلامولوغ المجري غولدتسيهر Goldziher في كتابه "دراسات محمّدّية"، وأثارها أيضا في 1905، المؤرِّخ الإيطالي ليون كيطاني Leon Caetani، منذ المدخَل إلى دائرة معارفه النصّية في عشر مجلّدات "حوليّات الإسلام". الإرتياب في الإعتماد على الحديث تعزّز أكثر بكتاب المستشرق الألماني جوزيف شاخت عن "أصول الفقه المحمّدي"[24]، الصادر في 1950. أما دراسات غوتييه H. A. Gautier Juynboll من جامعة ليدن، التِّقَنيّة جدًّا عن إسناد الحديث فقد صدرت بين 1971 و 1994. وهي تتنزَّل في الإمتداد المباشرة لأعمال شاخت. الجدل في الإعتماد على الأحاديث في مادّة تاريخ الإسلام هو إذن قديم، ودائما راهن.
ينتظم نقاش اليوم حول المسائل التالية : في غياب تدقيق تاريخي حقّا في نصوص القرآن، من أين لنا أن القرآن يُمثّل كُليًّا وقطعِيًّا دعوة محمد في الحجاز طوال الثلث الأول من القرن السابع (م)؟ اعتمدنا في ذلك حصرا على الأخبار التقليدية التي رُويت في الحديث. لكن الإعتماد على هذه الروايات كوثائق تاريخية عن هذه الحقبة يجوز التشكيك فيه بسبب طابعها المتأخّر وإعادة جمعها بعد الحدث بزمن طويل. الأحاديث المتعلّقة بمسألة معيّنة هي غالبًا متضاربة من مُحدِّث إلى آخر. والأحاديث الخاصة بأسباب النزول هي غالبا عاجزة عن تقديم تفسير مقبول لنصوص إيحائية خالصة ]الآيات المتشابهات[25][ مثلما نجد منها بكثرة كاثرة في القرآن ؛ كثير من هذه الأحاديث كُتبت وانتشرت خارج شبه الجزيرة العربية، في الأمصار المفتوحة، وكان دَوْر معتنقي الإسلام من غير العرب في ذلك مُهمًّا جدًّا[26]، هذه الأحاديث، فيما يبدو، تعكس بالأحرى الصورة التي أرادت أُمّة مؤمنة، أمّة الإسلام، أن تقدمها عن أصولها وعن مؤسِّسها؛ وأخيرا، فبالإمكان أن تكون هذه الأحاديث، إلى حدّ ما وغالبا، إسقاطا على ماض حجازي تأسـطر mythifié، مواقـف وجدالات حدثت في زمن متأخّر، مثلا في ميادين الفقه والقراءات[27]. وهكذا إذن فهذه المعطيات يمكن تحليلها على نحو مفيد بما هي كتابات أدبية متأخّرة، وليس بما هي وثائق عاكسة للحقيقة "التاريخية" لأساس الإسلام الأوّل.
 
الباحثون المعاصرون
في إطار هذا التساؤل يجب تنزيل أعمال ج. وانسبرة John Wansbrough من جامعة لندن الذي تُوفّي أخيرا. نشر وانسبرة على التوالي كتابين مهمّين : الأول، دراسات قرآنية (1977)، تمحور حول القرآن واستلهم طرق البحث الكتابي [نسبة للكتاب المقدس] المعاصر. انتهى وانسبرة إلى الخلاصة، المشطّة نوعا ما، بأن القرآن الذي بين أيدينا لا يمكن أن يكون قد اكتمل جمعه قبل نهاية القرن الثامن (م)، بَلْهَ voire في بداية القرن التاسع. الكتاب الثاني، البيئة المتعصِّبة (Le milieu sectaire) (1978) وقد كرّسه للأحاديث والسير النبوية ولبدايات الإسلام. إسهام وانسبرة الأساسي يخصّ طريقة مقاربة النصوص بصورة عامّة. فهو يلقي الأضواء على واقع أن هذه النصوص جميعا ينبغي أن تُعتَبر، أساسًا، كآثار أدبيّة كُتبت في زمن متأخر وليس كموضوعات وثائقية من طبيعة "تاريخية" بالمعنى الدقيق للكلمة. الأحاديث والسير النبوية تعكس ما قدّر مؤلِّفوها، المنتمون لبيئة رجال دين متخصّصين، أنّ من واجبهم تقديمه عن "تاريخ الخلاص الإسلامي"، وعن صورة "رسول الله" وعن المغامرة الفريدة للأُمّة التي أسّسها.
ففي هذا المنظور ذاته يتنزّل عموما اليوم بعض الباحثين : مؤرّخون لبدايات الإسلام، مثل مايكل كوك Michael Cook (كيمبريدج)، باتريشيا كرونه Patricia Crone (أكسفورد)، جيرالد ر. هاوتينغ  Gerald R. Hawting (لندن)، ويهودا نيرو Yehuda Nero (اسرائيل)؛ وكذلك الإختصاصيون في الدراسات القرآنية مثل أندرو ريبين Andrew Rippin (كندا) أو في الحديث والسّيرة مثل أوري روبين Uri Rubin (تل أبيب).
بيد أن هذا الإرتياب الراديكالي لا يشاطره جميع الباحثين، رغم أنهم عمومًا متّفقون على ضرورة إعادة الفحص النقدي للمصادر التقليدية. مثلا، الجامعي الألماني هارالد متسكي Harald Matzki، بروفيسور في Nimègue، ركّز أيّما تركيز على إعادة هذا الفحص النقدي مُظهِرا في نفس الوقت الإهتمام بإعادة تقييم المواقف الصارمة التي أبداها غولدتسيهر وشاخت وتلامذتهما. ومن جهة أخرى، فإن مجموعة من باحثي الجامعة العبرية بالقدس، تقليداً ﻟ : م. ج. كيستر M. J. Kister، قد تعلّقت خاصّة بإعادة كتابة تاريخ بدايات الإسلام في شبه الجزيرة العربية نفسها. برهن هذا التيّار من الباحثين عن شيء من التفاؤل فيما يتعلّق بإمكانية إعادة الكتابة هذه بالإستخدام الذّكي للمصادر الإسلامية، ممّا يقتضي إعادة النظر فيها، في تنوّعها، وإعادة جمع معطياتها بعناية أو بتحليلها تحليلا نقديّا. وهذه مثلا حالة مايكل ليكر Michael Lecker، فيما يخصّ تاريخ المدينة، المنطقة التي أسّس فيها نبيّ الإسلام أمّته الناشئة.
فيما يتعلّق بالبحث الجامعي الفرنسي في القرآن، فقد عرف، منذ ريجيس بلاشير، بعض الإنكماش لبعض الوقت. مختلف المحاولات التي أشرنا إليها آنفًا من إعادة الفحص الرّاديكالية لنصوص الإسلام الأولى لم تَلْق في فرنسا حتّى الآن، رغم عدم تجاهلها، إلاّ صدًى ضعيفا، إن لم يكن تحفُّظًا حذرًا. لا نجد أيّة إشارة لهذه البحوث في الكتاب الأساسي الوحيد الذي صدر حديثا عن القرآن وأصول الإسلام : "شيخ القبائل" (1997) Le Seigneur des tribus تأليف جاكلين الشابي، بروفيسور بجامعة باريس VIII. اتّبعت المؤلفة في هذا الكتاب، والحقّ يُقال، مشروعًا خاصّا وشخصيّا جدّا، من طبيعة أنتروبولوجية وتاريخية في آن واحد : تقديم القرآن، منظورا إليه كمجموعة من الدعوات التَّبْشيرية ذات الأصل الشفوي أساسًا، فيما تسمّيه المؤلّفة بالسّياق الأول لاستقباله، ألا وهو السّياق القبلي العربي في الحجاز في القرن السابع (م). النقاش العلمي في طبيعة وضرورة إدراج المأثور التقليدي حول القرآن في سياق [تاريخي] La nécessaire contextualisation لم يكن أقلّ حضورا على امتداد تحليلاتها سواء فيما يتعلّق بالحديث، أو بالسيرة النبويّة، أو بالتّفسير المأثور المُسمّى أسباب النزول[28].
محمد أركون، بروفسور متقاعد من جامعة الصربونIII [29] ومؤلِّف كتاب "قراءات القرآن" Lectures du Coran (1982)، يُلِحّ، من جهته، على ضرورة تنويع طرق مقاربة القرآن. الإتجاه التاريخو-نقدي الذي غدا كلاسيكي عند المستشرقين لم يستنْفذ قطُّ الطرق الممكنة؛ بل أن هذا التوجه يميل إلى تجاهل الإمكانيات التي تفتحها الألسُنيّة، والسيميائية، والأنتروبولوجيا أو السوسيولوجيا التاريخية، على "قراءة مفتوحة" للقرآن تذهب إلى ما أبْعد من الإهتمام التّاريخاني historicité أو التحليل الأدبي والألسُني الستاتيكي[30] Statique. وبالرغم من ذلك فالتاريخ النقدي للنصّ القرآني مسألة لا مفرّ منها، ويشكل شرطا مسبقا لطرق المقاربة الأخرى التي قدّم أركون آفاقها في مدخل كتابه، وحاول أن يُطبّقها على هذه السورة أو تلك في الفصول التّالية.
 
أبعد من التاريخ النقدي والتحليل الأدبي
الكتب الدينية مثل العهدين القديم والجديد والقرآن، تقدّم نفسها جميعا : "كَكُتبٍ مقدّسة"، مرصودة لتبليغ رسالة عن الله وعن الإنسان في طبيعة كلّ منهما وفي العلاقات المتبادلة بينهما. نظرا لكون هذه الكتب مُؤسَّسة على مرجعيّات مشتركة بينها جميعا، رغم كونها مختلفة ومتضاربة غالبا، فمن شأنها أن تكون موضوع نقاش لاهوتي مقارن. التاريخ النقدي والتحليل الأدبي في تنوُّع طُرُقهما أصبحا اليوم شرطيْن مسبقين ضروريين لمثل هذا النقاش. ولكن ما إن يصبح هذان الشرطان الضروريان مضمونين، حتى يغدو بالإمكان تنزيل هذا النقاش اللاهوتي في المستوى الخاص به.
 
إضفاء القداسة  canonisationعلى النصوص
مختلف أسفار الكتاب المقدّس اليهودي والمسيحي اكْتسَبت، في نظر تقاليد كلٍّ منها وفي لحظات من التاريخ، محدّدة قليلا أو كثيرا، مَنْزِلة الإعتراف بها ككتب مقدّسة. الإعتراف بقداستها، الذي استلزم إقصاء كتابات أخرى، لم يحدث إلاّ بعد مسارٍ طويل إمتدّ قرونا عدّة. بمقدور المؤرِّخ، فيما يتعلق بالقرآن، أن يصف، مع التعديلات اللازمة mutatis mutandis، مسارًا مماثلا. كان الطور الأساسي للقرآن قصيرا نسبيّا : الفترة التي امتدّ خلالها هذا الطور - من القرن السابع إلى بداية القرن الثامن (م) – كانت متأخرة بكثير، وقد شعر المسلمون بحاجة ملحة مَّا لإنتاج كتاب يُعبّر عن رسالتهم الخاصة بهم مُقابل رسالة الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية. وبالرغم من أن مسار إضفاء القداسة[31] على القرآن ]في مصحف موحّد[، كان أكثر قِصرًا زمنيًّا، فإنّه امتدّ مع ذلك إلى القرن العاشر (م)، أي حتى الإعلان النهائي، سنة 936 (م)، عن قبول مُختلف "القراءات"[32] المعترف بها في استخدام النّص المنزّل الوحيد[33].
 
"كتاب الله"
هناك خاصيّة، تُثيرها بعض الآيات القرآنية وهي تتحدّث عن نفسها، تحدّد الفكرة التي يتصوّرها المسلمون عن طبيعة القرآن. هذا الأخير لا يدّعي لنفسه بأنّه "كتاب مقدّس" بقدر ما يدّعي بأنّه كتاب "إلهي" Ecriture divine. هذا الإدّعاء يتجلّى، في علم الكلام، بإثبات التنزيل وقد صِيغ كأسلوب عملي mode opératoire للوحي القرآني. رسول هذا الوحي، الذي تلقّاه بواسطة الملاك جبريل[34]، لم يكن إلاّ مجرّد مُبَلِّغ سلبي؛ ولم يشارك بأي قسط فعّال في كتابته، ناهيك عن صياغة مضمونه.
عموما، إلاّ فيما ندر، يبدو أن نصوص الكتاب المقدّس، في بُنياتها وفي لغتها، لا تدّعي لنفسها أيّ شيء من ذلك. وهذا عائد أساسا إلى الإطار السردي الذي هو إطار عدد كبير من أسفار الكتاب المقدس، وعائد أيضا للتّنوع الكبير للأصناف الأدبية التي تمثّلها هذه الأسفار، وعائد كذلك إلى تنوّع المؤلِّفين، حقيقيين كانوا أم وهميين، الذين نُسبت لهم هذه الأسفار. مفهوم "الكتابة المقدسة" في نصوص الكتاب المقدس ليس مُطابقا للمفهوم الذي عبَّر عنه القرآن.
فعلا، النصوص القرآنية لا تعبّر عن نفسها بأسلوب سردي، بل إنّها تُعبِّر عن نفسها بأسلوب إعلاني حُبِك بصورة يُفهَم منها أن الله، شخصيًّا، هو الذي يتكلّم. إذن، فإن النصوص القرآنية تدّعي بأنها آتية مباشرة من الله الذي "أنزلها" حَرْفيًّا على رسوله : إنه "كتاب الله" جريا على التعبير المتداول لدى أجيال المسلمين الأولى. أمُّ الكتاب archétype لهذا الكتاب هي عند الله في لوح محفوظ، عبارة صورة أوّلية pré-image أزليّة للنّص القرآني الحالي. بما هي كذلك، وحتى في تعبيرها الأسلوبي، هذه النصوص القرآنية هي التي أراد لها كتّابها أن تُعلن نفسها s’autoproclament ]وحيًا منزّلا من اللوح المحفوظ (المترجم)[، وبما هي كذلك سيتمّ قَبولُها، تصوّرها وتقديمها سواء من المخيال الجَمْعي أو من إجماع علماء الكلام. عبارة "كلام الله" التي تُنسب للنّصوص القرآنية هي إذن عموما مرصودة لتُفهم بهذا المعنى الحصري جدًّا وشبه المجسَّد.
مؤرِّخ النصوص والأفكار يستطيع تماماً أن يكتب التاريخ "الدنيوي" لهذا المفهوم للنص المقدَّس إعتمادا على الوثائق المنقوشة épigraphiques والأدبية للشرق الأوسط القديم. ولكنّ الدرب طويل أمام تقليد عريق كالتقليد الإسلامي، قبل أن يقبل تنزيل نفسه بنفسه في الإرث المشترك للتّعبير الديني القديم. ومهما يكن من شيء، يبدو جيّدًا أنّ ما قد يُسمّى اليوم ضربا من الكلام المجازي métaphorique، كان قد اكتسب قُوّةَ التعبير الدغمائي إبّان فترة جمع المصحف ووضعه في صيغته النّهائية. وهكذا، فانطلاقا من هنا، سَيَنْمُو في القرن التاسع (م) الجدال الخاص بالمسلمين في طبيعة خلق أو أزليّة القرآن.[35]


[1] Initiation : نحت لها صاحب المنهل "مُسارّة" والحال أنّ لسان العرب يعطيها مصطلحا عربياًّ هو (الإبداء، وأبدأ الرجل : كناية عن النَّجو، والإسم البداء).وجاء في منجد الطلاب، في مادّة : "بدوء، البَدَائية في علم الكلام : فرقة من الشيعة جوَّزت البداء على الله أي انكشاف ما لم يكن مُنكشفا له" ص 931. [المترجم]
[2] آثرنا ترجمة Débat بنقاش عندما يتعلَّق الأمر بالكتابة المعاصرة، وترجمناها بجدل كما وردت في كتب التفسير وكتاب المصاحف للسجستاني والإتقان للسيوطي وغيرهما عندما يتعلق الأمر بالقرآن. [المترجم]
[3] ذُكر أن الحجاج بن يوسف الثقفي جمع كل مصحف وأسقط منه أشياء كثيرة : "حدثنا عبد الله حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثنا عباد بن صهيب، عن عوف بن أبي جميلة، أن الحجاج بن يوسف غير في مصحف عثمان أحد عشر حرفا قال : كانت في البقرة (لم يتسن وانظر) بغير هاء فغيرها لم يتسنه بالهاء، وكانت في المائدة (شريعة ومنهاجا) فغيرها شرعة ومنهاجا، وكانت في يونس (هو الذي ينشركم) فغيره يسيركم، وكانت في يوسف (أنا آتيكم بتأويله) فغيرها أنا أنبئكم بتأويله، وكانت في المؤمنين (سيقولون لله لله لله) ثلاثتهن، فجعل الأخريين (الله الله) ، وكانت في الشعراء في قصة نوح (من المخرجين)، وفي قصة لوط (من المرجومين) فغير قصة نوح من المرجومين وقصة لوط من المخرجين ، وكانت الزخرف (نحن قسمنا بينهم معايشهم) فغيرها معيشتهم، وكانت في الذين كفروا (من ماء غير ياسن) فغيرها من ماء غير آسن ، وكانت في الحديد (فالذين آمنوا منكم واتقوا لهم أجر كبير) ، فغيرها وأنفقوا، وكانت في إذا الشمس كورت (وما هو على الغيب بظنين) فغيرها بضنين" كتاب المصاحف للسجستاني، ص 49 "باب ما كتب الحجاج بن يوسف في المصحف"، وفي ص 117 "باب ما غيّر الحجاج في مصحف عثمان". [المترجم]
[4] عن نشر القرآن بالمطبعة، انظر بلاشير، مقدّمة، ص 133-135.
وقد ترجم رضا سعادة المدخل تحت عنوان : القرآن، نزوله، تدوينه، ترجمته وتأثيره. دار الكتاب اللبناني 1974.[المترجم].
[5] نشر الشيخ احمد زكي يماني، وزير النفط السعودي السابق وأحد مؤسسي منظمة أوبك، في اليومية السعودية "المدينة" مقالا بعنوان : "من جعبة الذاكرة : البابا ومكتبة الفاتيكان" ذكر فيه أنه زار مكتبة مخطوطات الملوك العرب بالفاتيكان التي تنقسم إلى ثلاثة أقسام، المكتبة العامة (التي يرتادها من أراد) والخاصة والتي تحتوي على المخطوطات ويرتادها الخاصة من المهتمين أو الباحثين، وقسم ثالث يسمّونه كنوز الفاتيكان ويحتوي على أكثر الوثائق ندرة وأهميّة ولا تفتح أبوابه إلا لمن حظي بإذن خاص من أعلى المراجع. وحصلت على ذلك الإذن (...) مخطوطة واحدة استرعت انتباهي وتستحق الإشارة إليها. كانت المخطوطة في حال يرثى لها فقد فُقِدت الصفحات الأولى منها، لكن آخر صفحة بها تذْكر أن مؤلِّفها قد أكمل كتابتها في المائة الثانية من الهجرة وتنقسم المخطوطة إلى ثلاثة فصول، الأول في فقه العبادات كالطهارة والصلاة (...) والقسم الثاني يتعلق بعلم الفلك ودورة الشمس والقمر (...) والقسم الثالث يبحث في شدّ أوتار الآلات الموسيقية (...) ومن طريف ما رأيت قِطعا من الجلد كتب عليها آيات من القرآن بحروف غير مُنقَّطة، وقيل أنّه أُجريت دراسات علمية لمعرفة عمر الجلد الذي كتبت عليه الآيات فتجاوز عمره مائتين وخمسين وألف سنة ميلادية، وهذا ما قادهم إلى افتراض أن بعض كُتّاب الوحي من بني أميّة لم يسلِّموا ما لديهم أو بعضه من آيات الكتاب الحكيم عندما جُمع المصحف في عهد الصدّيق رضي الله عنه[والصحيح عثمان (المترجم)].وأُتلفت جميع الآيات المتفرّقة التي نزلت منجّمة.[والصحيح أن ما أتلف هو المصاحف الأخرى، السبعة كما تقول روايات المفسّرين ومنهم مصحف أُبي بن كعب الذي شارك في كتابة مصحف عثمان، ومصحف ابن عبّاس، ومصحف علي، ومصحف ابن مسعود الذي يذكر الألوسي في تفسير المعاني أنه قال : "لو كنت أنا الخليفة لأحرقت مصحف عثمان وأبقيت مصحفي" المترجم].وأنّه عندما دالت دولة الأمويين في الشام وهرب عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس حيث أقام دولة الأمويين استطاع فيما بعد نقل الذخائر ومنها تلك القطع التي كتبت عليها آيات من القرآن أثناء نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم". المدينة، 29 أبريل 2005.[المترجم].
[6] أنظر الفصلين 3 و 4.
[7] اُنظر الفصل 5.
[8] اُنظر الفصل 4، ص 39. والفصل 5، ص 127.
[9] Urvoy, Penseurs libres, p. 55-58
[10] اُنظر أدناه، ص 27-28 "كتاب الله"، والهامش 115 عن "آيات التّحدّي".
[11] أسماء الكتّاب والعناوين الأصلية الكاملة للمؤلّفات المشار إليها باقتضاب في الهوامش مذكورة بالبيبليوغرافيا العامة المدرجة في نهاية هذا الكتاب.
[12] يقول الطبري في تفسيره للآيتين : "بَلْ هو قرآن مجيد، في لَوْحٍ محفوظ" (الآيتان 21، 22، البروج)، إن اللوح المحفوظ هو أمّ الكتاب. إذن فهما مترادفتان، لذا ترجمنا Archétype divin باللّوح المحفوظ. ومن جهة أخرى يرى المحلّل النفساني فتحي بن سلامة في كتابه عن حياة محمّد "فلق الصبح" La nuit brisée أن كلاًّ من أم الكتاب واللوح المحفوظ يرمزان في لاشعور محمد إلى ما قرأه ونسيه من العهدين القديم والجديد، بعدما أصيب بفقدان الذاكرة الهستيري Amnésie hystérique. ويسوق دليلا على رجحان فرضيته أن لفظ النسيان ورد في القرآن 53 مرّة ومنها آية : "وسنُقرئُك فلا تنسى" (الآية 6، سورة الأعلى)، وآية : "ما ننسخ من آية أو نُنْسها [وفي قراءة أخرى ونُنْسيكَها] نأْت بخير منها أو مثلها" (الآية 106، سورة البقرة). ومعروف في الطب النفسي أن فقدان الذاكرة هو أحد أعراض الفصام.[المترجم]
[13] فيما يتعلّق بالأدب التقليدي لأسباب النزول، اُنظر لاحقا الفصل 5، ص 107 "أسباب النزول".
[14] هذا عنوان سلسلة محاضرات أُلقيت بالعربية في الدار البيضاء سنة 1994 ثم نُشرت في نفس المدينة سنة 1998. اُنظر الببليوغرافيا تحت إسمه وأيضا تحت إسم فيلالي أنصاري : إصلاح الإسلام ؟ الذي يقدم الممثّلين الرئيسيين لمحاولة التجديد هذه داخل الأمة الإسلامية المعاصرة.
[15] تَرجم هذا الكتاب د. جورج تامر ونشرته دار نشر جورج ألمز، الطبعة الأولى، بيروت 2004.[المترجم]
[16] الإحالة إلى هذه المؤلّفات الثلاثة المجموعة في كتاب واحد ستقع الإشارة إليها بمختزل واحد : Nöldeke, GdQ I, II, III.
[17] فيما يخصّ تطورات البحث الإستشراقي في هذا الموضوع، أُنظرA. T. Welch, « al-Kur’ân », E. I. V, 416a-420b ; A. Rippin, The Qur’ân, Introduction, وبالخصوص الصفحات XVIII-XXII.
[18] مثل كتب السيرة والتاريخ.[المترجم]
[19] كلّ واحد من الأقوال، والأفعال والحركات والسّكنات المنسوبة إلى نبيِّ الإسلام يُشار إليها تحت إسم حديث. وتعميما، فالحديث يشير إلى مجموع هذه الأقوال، والأفعال والحركات والسّكنات المجموعة في كتب الحديث والتي لها قيمة معيارية بالنسبة للأمة الإسلامية.
[20] الإهتمام التاريخاني بالنصوص الدينية، إهتم به الكهنة لإثبات أصالة وصحّة نصوص الكتاب المقدس والأناجيل. واهتم به مؤرّخو الأديان المقارنة لتتبّع مسار النص الديني المؤسِّس والتغيّرات التي طرأت عليه خلال تاريخه. [المترجم]
[21] نعرف من التفاسير والحديث أن النبي قد نسخ آيات من القرآن نَسْخَ إلغاءٍ للنّص لا نسخ حكمه وحسب مثل آية رجم الزاني والزانية : "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة"، انظر السيوطي : الإتقان، ج 2، ص 56. [المترجم]
[22] مثلا أبو حنيفة (توفي 150 ﻫ) جمع في مسنده 300 حديث لكن لم يعترف إلا بصحّة 17 حديث منها. أمّا أحمد بن حنبل الذي توفي بعد أبي حنيفة ﺑـ 91 سنة فقد جمع ركاما من الأحاديث الموضوعة في معظمها وصل إلى 50.000 كما ذكر ذلك ابن خلدون في مقدّمته. [المترجم]
[23] من الكتّاب المسلمين المعاصرين الذين شكّكوا في سلامة طريقة المُحَدّثين بمن فيهم صاحبي الصّحيحين، البخاري ومسلم، في جمع الأحاديث، أحمد أمين في ثلاثيته الشهيرة، فجر وضحى وظهر الإسلام، حيث آخذ المُحدّثين على عنايتهم بالسّند، أي سلسلة الرُّواة، وعدم الاعتناء بالمَتْن أي بالمضمون. وضرب لذلك أمثلة من البخاري الذي يروي أحاديث صحيحة السّند، حسب طريقته، ولكنّها متهافتة المتن، مثل : (لا يبقى على ظهر الأرض بعد مائة سنة نفس منفوسة). يقول أحمد أمين مُعقّبا : ها نحن في القرن الرابع عشر ومازلنا أحياء. أو الحديث الآخر الذي يقول : "مَن اصْطبَح كلّ يوم بسبع تمْرات من عجوة لم يضره سمّ ولا سحر ذلك اليوم إلى اللّيل". ويعقّب أحمد أمين : لقد حلَّلنا رَطَب المدينة فلم نجد فيه أيَّ تِرْياق... وفي ايامنا يتزعّم المفكر الإسلامي جمال البنا التيّار الفكري الذي يقدّم ألذع نقد لما جاء في متون الحديث ويناادي بغربلة ما ورد خاصة عند البخاري ومسلم من أحاديث لا يقبلها العقل والمنطق ولا تستسيغها أبسط المعايير الأخلاقية. أنظر مثلا كتابيه : "تجريد البخاري ومسلم من الأحاديث التي لا تلزم" و"جناية قبيلة حدّثنا" [المترجم]
[24] وهو مترجم إلى العربية. [المترجم]
[25] الآيات المتشابهات التي جاء ذكرها في الآية : "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات مُحكَماتٌ هنّ أمّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات (...) وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا..." (سورة آل عمران، 7). وهي الآيات ذات المعنى الملتبس أي المتناقض؛ وقد قدّرها بعض الباحثين ﺑ 94% من آيات القرآن الـ 6232 أي ما يعادل 5858 آية [مجموع الآيات الكلي في طبعة فلوغل (1834) 6238 آية، بينما في طبعة القاهرة (1926) 6236 آية]. وقد جاء في الإتقان : "وقد حكى ابن حبيب النيسبوري في المسألة ثلاثة أقوال : أحدها أن القرآن كله مُحكَم لقوله تعالى: "كتاب أُحْكِمَت آياته"؛ الثاني كلّه متشابه لقوله تعالى: "كتابًا متشابِهًا مثاني"؛ والثالث وهو الصحيح انقسامه إلى مُحكم ومتشابه للآية...". الإتقان، ج 2 ، ص 2. فهذه الآية التي تبدو محكمة للقراءة السلفية أي النّصية، في الواقع آية متشابهة أي ملتبسة ومزدوجة المعنى : القرّاء والمفسرون الذين اعتبروا الواو عاطفة تراءى لهم أن "الراسخون في العلم" يشاركون الله نفسه في علم آياته المتشابهات. أما الذين اعتبروا، بالعكس منهم، أن الواو استئنافية فقد خصّوا الله بمعرفة معنى آياته المتشابهات أمّا البشر فليس لهم في ذلك شيء. وقس عليها باقي الآيات التي تبدو للقراءة السلفية من البينات، وهي في حقيقتها من المتشابهات. وهكذا فالآيات المتشابهات، تكشف لنا شخصية نبي الإسلام النفسية التي جعلت القرآن على حدّ تعبير فولتير في رسالته لصديقه ملك بروسيا (12/1/1742) : "كتابا مُبهما : Un livre inintelligible " وهو ما أدركه قبله المفسرون الذين كانوا يقفون حيارى أمام معنى كلمة أو آية مستغلقتين عن الفهم؛ بل وأيضا من معاصري محمد نفسه بمن فيهم صحابته الأقربين. فهذا عمر بن الخطاب يقول :"ثلاث لأَن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنهنَّ لنا أَحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها : الخلافة، والكلالة، والربا". السيوطي، الدرّ المنثور في التفسير المأثور، ج 2، ص 442، (آية الكلالة، النساء، 176). [المترجم]
[26] اُنظر Anne-Marie Delcambe, La schizophrénie de l’Islam, Desclée de Brouwer, Paris 2006,
surtout le chapitre II : “L’Islam et l’histoire : une religion de converti”.
آن ماري دلكومب : فُصام الإسلام، خاصّة الفصل الثاني : "الإسلام والتاريخ : دين المُعتنِقين"، وهو كتاب فرنسي جدير بالترجمة إلى العربية رغم المسحة السجالية المبثوثة فيه هنا وهناك. [المترجم]
[27] هناك عشر قراءات للقرآن منها سبعة مُعتمدة. وقد أورد السيوطي: "واشتهر من هؤلاء في الآفاق الأئمة السبعة. نافع : وقد أخذ عن سبعين من التابعين منهم أبو جعفر، وابن كثير : وأخذ عن عبد الله بن السائب الصحابي. وأبو عمرو : وأخذ عن التابعين. وابن عامر : وأخذ عن أبي الدرداء وأصحاب عثمان. وعاصم : وأخذ عن التابعين. وحمزة : أخد عن عاصم والأعمش والسبيعي ومنصور بن المعتمر وغيره. والكسائي : وأخذ عن حمزة وأبي بكر بن عياش ثم انتشرت القراءات في الأقطار وتفرّقوا أمما بعد أمم."، الإتقان، ج 1، ص 159. [المترجم]
[28] أعمال كلود جيليو، أستاذ بجامعة آكس أون بروفانس، تناولت حتى الآن أساسا تفسير القرآن. في انتظار إنجاز تاريخ القرآن، أصدر بالإنجليزية، بالتعاون مع بيار لرشير Pierre Larcher، أستاذ بنفس الجامعة فصْلا معمّقا بعنوان : "لغة وأسلوب القرآن". انظر الببليوغرافيا. (تفسير الرواية  exégèse narrative أو التفسير بالمأثور، هو الذي يُلغي التفكير الشخصي في النّص الديني، يقابله تفسير الدّراية exégèse réflexive أو التفسير بالمعقول، وهو الذي يعطي الأولوية للعقل على النقل وللتّفكير الشخصي فيه على مأثور الأسلاف. وقد ساد تفسير الرواية، مع استثناءات قليلة، منذ القرن الثاني عشر (م). ابتداءً من هذا التاريخ ساد فقه وتفسير الحنابلة، أصحاب الأثر، على حساب فقه وتفسير أصحاب النظر[المعتزلة]. فقه أصحاب الأثر الحنبلي عمّقه الأشعري، بعد أن تخلّى عن الإعتزال واعتنق الحنبلية، في آخر كتبه "الإبانة عن أصول الديانة" حيث يؤكّد : "قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسّك بكتاب الله، ربّنا عزّ وجلّ، وبسنّة نبيّنا محمّد (صلعم)، وما رُوِي عن السادة الصّحابة، والتّابعين، وأئمّة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضّر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون، ولما خالف قوله مخالفون". (ص 20)، رغم أن الحنابلة كانوا الوحيدين خلافا للمذاهب السنّية الثلاثة الأخرى المالكي، الحنفي والشافعي، الذين رفضوا الأشعرية بسبب قبولها تأويل النص القرآني ونظريّة "الكسب". ومنذ القرن السادس ﻫ، الثاني عشر م، حملت الحركة السّلفية لِواءَ فقه وتفسير الأثر، هذه الحركة التي تمثّلها اليوم الوهّابية ومعظم الإسلام السياسي المعاصر المهووس بعبادة الأسلاف.) [المترجم]
[29] توفّي محمد أركون في 14 سبتمبر 2010 عن سنّ تناهز 82 سنة، وهو غنيّ عن التعريف. [المترجم]
[30] أي ثابت لا يعتريه التطوّر. من الأفضل تعريب أكثر المصطلحات التي تكاد تكون منمّطة في اللّغات الحيّة بدلا من ترجمتها العقيمة كثيرا وغالبا؛ أوّلا لأن المعاجم الفرنسية العربية جميعا تترجم في أحسن الحالات الكلمات التي شَرَحت بها المعاجم الفرنسية المصطلح ممّا يؤدّي إلى ترجمة المصطلح بأربع كلمات أحيانا، وعندئذ تنتفي عنه صفة المصطلح؛ وثانيا لأنّ الهوس بترجمة المصطلحات ترجمة تقريبية أو خاطئة فضلا عن ذلك، سببه اللاشعوري أو نصف الشعوري هو التقيّد بفقه الولاء والبراء الذي يحرّم ويجرّم "تقليد اليهود والنصارى في استخدام لغتهم إلاّ للضّرورة القصوى (...) وفي التأريخ بتاريخهم". محمد سعيد القحطاني، من مفاهيم عقيدة السلف الصالح : الولاء والبراء في الإسلام، دار الفتح الإعلامي العربي، القاهرة، الطبعة السابعة 1417 ﻫ [كذا] [المترجم]
[31] Canonisation إضفاء القداسة على القرآن أي الإعتراف النهائي ببعض القراءات والمصاحف وإقصاء القراءات الأخرى مع المصاحف الأخرى مثل مصحف أُبي، وابن مسعود، وعلي، وابن عباس، ويضيف الشيعة مصحفهم، التي نُزعت عنها صفة القداسة. ويمكن مقارنتها مع الـ 34 إنجيل المنحولة التي نزع عنها آباء الكنيسة القداسة، لكن لحسن الحظ لم يحرقوها، لذلك نشرتها مؤخرا La Pléiade الفرنسية في جزئين. [المترجم]
[32] أربعة عشر قراءة، أشهرها سبعة وأشهر السبعة قراءةُ ورش وحفص. تنوّع القراءات المتباينة والمتناقضة هو أيضا تعبير عن الإبهام والتشابه في القرآن الذي أوّله كل قارئ وكل فرقة على هواهما.[المترجم]
[33] ât», E.I, V, 130a-130b.’R. Paret, « Kirâ
[34] يقول عالم نفساني : "إذا قلتَ أنّك تكلّم الله فأنت تصلّي، أمّا إذا قلت أن الله يكلّمني فعندك أفكار هاذية".[المترجم]
[35] اعتبر مُتكلّمو المعتزلة أن صفة الكلام، في الله، وكذلك للقرآن الذي يبلّغ هذا الكلام، هُما حقيقتان مخلوقتان لا يجوز أن نجعل منهما كيانين أزليين عند الله، إذ أن الله هو الواحد المتعالي. وخلافا لذلك استنتج بعض المحدِّثين، خاصّة ابن حنبل، من النصوص المذكورة آنفًا أن القرآن أزليّ غير مخلوق ومثله في ذلك كمثل كلام الله الذي يحتوي عليه. في النهاية، تغلَّب هذا المعتقد في الأرثوذكسية السّنية.



#ناصر_بن_رجب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءات أفقية في السيرة النبوية


المزيد.....




- هكذا أعادت المقاومة الإسلامية الوحش الصهيوني الى حظيرته
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة-إيفن مناحم-بصلية ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تعلن استهداف مستوطنة كتسرين بصلية ...
- المواجهات الطائفية تتجدد في شمال غربي باكستان بعد انهيار اله ...
- الإمارات تشكر دولة ساعدتها على توقيف -قتلة الحاخام اليهودي- ...
- أحمد التوفيق: وزير الأوقاف المغربي يثير الجدل بتصريح حول الإ ...
- -حباد- حركة يهودية نشأت بروسيا البيضاء وتحولت إلى حركة عالمي ...
- شاهد.. جنود إسرائيليون يسخرون من تقاليد مسيحية داخل كنيسة بل ...
- -المغرب بلد علماني-.. تصريح لوزير الشؤون الإسلامية يثير جدلا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف حيفا ومحيطها برشقة صاروخي ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناصر بن رجب - في أصول القرآن، مسائل الأمس ومقاربات اليوم