|
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع 3
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1085 - 2005 / 1 / 21 - 12:09
المحور:
القضية الكردية
تضطر المجتمعات المنقطعة عن الوعي التاريخي، للعيش في ظروفٍ تفُوق في سوئها مراحل الإبادة، كالافتقار إلى معناها والتجرد من هويتها. وسيكون من السهل، ولأبعد الحدود، تحميل المجتمعات المنقادة للتآلف مع هكذا شروط، أيَّ عبء، ومهما كان. من هذه الزاوية أيضاً تبرز أهمية تقاليد الأديان التوحيدية. إنها كذاكرة الواقع الاجتماعي. فمقابل تأصل السلطنة، يكون تأصل النبي كالبديل للأول. تكاد الديانة المسيحية تحاكي تقاليد أباطرة روما بمؤسستها الأسقفية. وينشط تطور مشابه لذلك بالنسبة للقيادة الإثنية أيضاً. فتَشَبُّه كلا التيارين بالإمبراطور، وتقليدهما إياه، يمهد السبيل لكليهما للوفاق مع النظام القائم، والذوبان التام في بوتقته حيناً، والتحول إلى بنى مجتمعية يمكن تأمين استمراريتها بمستوى أعلى في أحيان أخر. وإذا ما أريدَ رسم جدول تاريخي للإثنية بخطوطه العريضة، فسيكون من المفضَّل الابتداء فيه بولادة الثقافة الزراعية وتمأسسها في الأعوام ما بين (15000 – 10000ق.م). كل المعطيات الآركولوجية (علم الآثار القديمة) والأتيمولوجية (علم الاشتقاق والصرف)، تشير إلى أن الإثنية تشكلت لأول مرة في تلك التواريخ، في الحوض الداخلي لسلسلة جبال طوروس وزاغروس. فالثورة الزراعية شرط مصيري من أجل الحركة الإثنية. وإلا فلن تنجو من البقاء في حالة المجتمع الكلاني. أما المجتمع الكلاني، فلايذهب أبعد من كونه مجموعة عائلة واسعة، في أي زمن من الأزمان. تقنية الإنتاج هي التي تحدد هذه الحدود. وبالتالي لا يمكن لمجتمع كهذا بلوغ مستوى المجموعات اللغوية الكبيرة، بأنظمته الصوتية المحدودة للغاية. والجماعات اللغوية المعروفة، يبدأ تاريخها اعتباراً من أعوام 20000ق.م. هذا علاوة على بعض الأسباب الشبيهة الموجودة في نفس الجغرافيا، والتي تلعب دورها في ذلك. توطُّدُ اللغة يفتح المجال لتطور الإنتاج، الذي يثب بدوره بالمجتمعية إلى مستوى أعلى. وقد أجمع كل علماء الآثار القديمة البارزين، من أمثال "غوردون جيلد Gordon childe" و"فانيلور Vanilor"، على الدلائل المشيرة إلى تكوُّن المجموعة اللغوية الآرية البدائية في الحوض الآنف الذكر. والمجموعة اللغوية الآرية هي أثر للمجموعات المشاعية البدائية المحقِّقة للثورة الزراعية. يمكن مصادفة أقدم الألفاظ ذات الأصول الزراعية، في كافة الأقوام المتشاطرة لهذه البنية اللغوية. يُجمَع عموماً على أن هذه المرحلة الأولى للتكون الإثني انعكست على كافة القارات على شكل انتشار ثقافي أكثر منه جسدي. بل وحتى أن الحقيقة الأخرى المُجمَع عليها هي انتشارها في أعوام 11000ق.م، من مضيق برينغ في آسيا، صوب القارة الأمريكية، على يد الهنود الحمر. أبدت هذه الثقافة الإثنية تطوراً ملحوظاً في مركزها الأم، على الحواف المنفصلة عن سلسلة الجبال فيما بين دجلة والفرات، حتى تكوُّن الحضارة السومرية. أي حتى عام 3500ق.م على وجه التقريب. والبقايا المتبقية من أقدم مواطن الاستيطان تدل على أن تلك المرحلة شهدت العديد العديد من العناصر، التي لا تزال تنبض في الحياة حتى يومنا الحاضر. ونخص بالذكر هنا المرحلة ما بين 6000 – 4000ق.م، من حيث أهميتها ببلوغها إثنية راسخة وذات هوية بيِّنة. وكأن كل الاختراعات والاكتشافات والمعلومات الأولية الممهدة لابتداء التاريخ – الحضارة – قد خُلِقَت في هذه المرحلة الملتحمة مع العصور الكالكوليتية (عصر الحجر النحاسي – المَلَكيت). حيث تشكلت مؤسسات الفن والدين والهرمية الأساسية فيها. ويتضح أن الحوريين – أقدم مجموعة آرية – هم أقدم أسلاف الكرد الحاليين، في مركز ولادة هذه الثقافة (أور = ur: تعني التلال، أي أهالي التلال العالية). ومعلوم أنهم تميزوا بحياة فعالة منذ أعوام 6000ق.م، كمجموعة تنتمي إلى ذات الشعب في تلك المنطقة. وكانت لهم صلات القربى مع السومريين في فترة التكون، كما كانوا مجاورين لهم. وما الأسماء: الكوتيون، الكاسيتيون، اللوريون، النائيريون، الأورارتيون، والميديون، سوى أسماء أطلقها السومريون والآشوريون على المجموعات المتشاطرة للثقافة الشبيهة لهم، على التوالي. انتشرت موجة الثقافة الآرية في أعوام 9000ق.م صوب بلاد الأناضول، وفي 6000ق.م نحو قفقاسيا وأفريقيا الشمالية وإيران، وفي 5000 – 4000ق.م باتجاه داخل الصين وسيبيريا الجنوبية وأوروبا. تشير هذه التواريخ إلى انتشار الثقافة الزراعية في كافة أرجاء العالم. والبدو الآريون الذين انتشروا جسدياً أيضاً، تسربوا وتغلغلوا في 3000 – 2000ق.م حتى أشباه الجزر في القارات والهند إنكلترا، اليونان، إيطاليا، شبه جزيرة إيباريك، وأوروبا الشمالية. ويُخمَّن أنهم توجهوا صوب الهند، إيران، بلاد الأناضول، ومصر في أعوام 2000ق.م، وفقاً للمستجدات الحاصلة آنذاك، لينضموا فيها إلى المراحل الحضارية البارزة. وهي ذاتها المناطق التي أغنتها الحضارة السومرية، التي كانت تسير كحركة مضادة. إنها مرحلة مفعمة بالنشاط والحيوية بأقصى حدودها. فجاذبية الحضارة السومرية تجذب إليها كل البدو الرحل والجماعات القروية المجاورة لها، بتأثير واضح أشبه بما تتميز به أمريكا اليوم. حركات الهجرة الكبرى التي شهدتها أعوام 2000ق.م، تعد مرحلة أوسع أشكال الانتشارات والاستيطانات في تاريخ الإثنية، والتي شكلت الأرضية الخصبة لنشوء الحضارات الكبرى للتمدن – الدولة – بعد ميزوبوتاميا، باقتفاء الأثر السومري. ومع ذلك، فالمدن الحضارية في تلك الأعوام، كانت أشبه بالجزر العائمة وسط البحر البدوي المتنقل. فالذي يقوم بالعملية أساساً هو البدو الرحل. ومع وصولنا أعوام 1000ق.م، تبدأ الحملة الثالثة الكبرى من النزوح. فالهجرات المتدفقة من أوروبا وقفقاسيا وآسيا الوسطى نحو المناطق الحضارية في الجنوب، تشرع في احتلال مكانها بدل أنظمة السلالات والبيكاوية. إنها المرحلة الحضارية الأولى. والمجموعات الإثنية الكبرى الشهيرة في هذه المرحلة هي، الدوريون في اليونان، الفريغياليون في بلاد الأناضول، الميديون في تقاطع سلسلة جبال طوروس وزاغروس، والأتروسكيون في إيطاليا. تلعب هذه المجموعات دوراً عظيماً في التطور الحضاري بين صفوف الدولة الرومانية في أعوام 1000ق.م. والحضارات الإغريقية، الفريغية، الأورارتية، الميدية، والأتروسكية، هي حضارات شُيِّدت على يد أهم المجموعات الإثنية في تلك المرحلة. لا تتعدى الحركة الإثنية المستوى الهرمي من حيث التنظيم. وإذا لم تنحل وتتفكك في هذه الحدود من الداخل أو الخارج، تبقى حينئذ وجهاً لوجه أمام مشكلة التدول. والتدولات المشابهة للأنموذج السومري، دارجة بالنسبة للمجموعات التي تخطت هذه المراحل بتفوق. إنها بالأغلب تقلد النماذج الحضارية التي تكون على تماس معها. إذ ما من طاقة بنيوية كامنة أخرى غيرها بالنسبة للبنية الهرمية. وفي هذه الحالة يحصل التمايز الطبقي. حيث تبقى الشرائح السفلية في المناطق الجبلية بأوضاعها السابقة نسبياً، في حين أن الشرائح المتوجهة صوب المدينة، إما أن تصبح عبيداً، أو جنوداً، أو تسعى لإكمال المجتمع الطبقي بالانخراط في صفوف الشرائح المستوطنة هناك الإثنية تعني على الدوام الدم الطازج بالنسبة للمجتمع الطبقي. فما تمثله القروية بالنسبة للرأسمالية، تؤديه الإثنية على نحو مشابه بالنسبة للحضارات القديمة. وإذا ما حاولنا إقامة تشبيه مع حاضرنا، تكون التدولات المعتمدة على القاعدة الإثنية الموجودة على شكل مقاومات إثنية وإمارات في الحضارات القديمة، مقابلة للمقاومة الوطنية والدولة القومية المؤسسة من بعدها، تجاه التوسع الرأسمالي، في يومنا الحالي. تجد الحركات الدينية والنبوية، التي عرَّفناها بأنها ضرب من ضروب الصراع الطبقي في العصور الأولى، مصدرها في مراحل نضوج الحضارات وانتعاشها. إنها مدينية الأصل. وتتسم بطابع الطبقة الوسطى. لقد أبدت جسارتها في التصريح بمنافاة النظام العبودي الأول للعقل والمنطق. إنها الحركات الانتقادية الأولى، والتمردات الاجتماعية الأولى. علاوة على أنها تأثرت بتقاليد الشامانية والمشيخة القديمة، التي لم يكن لها حضور يُذكر في المؤسسات المَلَكية. هذا ويجب النظر إلى التجريد الموجود في مفاهيم الدين والإله، ومناهضة عبادة الأوثان، بعين الاختلاف في الذهنية. وأهم معتقداتها هي استحالة أن يكون الملوك البشر آلهة. فمزاعم ومعتقدات المَلك الإله من جهة، وعدم إيمان الناس العاقلين بها من جهة ثانية، إنما يصور في حقيقته التناقضات والصراعات الكائنة بين الطبقة الإدارية وأهالي المدينة. فاستيعاب الفرق الكامن بين الشرائعية القائمة في مجتمع المدينة، وبين الروحانية الطبيعية، يمهد السبيل لارتجاج معتقد المَلك الإله. ويتطور اختلاف الذهنية ذاك بسرعة أكبر في أوساط المدينة، ليؤمِّن الأجواء المساعدة على البحث عن تطلعات وأفكار ومصطلحات جديدة. فنظام تبادل البضائع والسلع يُنَشِّط الذهن أكثر فأكثر، لتزداد معه الوضعية الإدارية للذكاء التحليلي. والمعلومات والاصطلاحات التجريدية المتزايدة تفضي بعد مرحلة معينة إلى تعرية وإفناء الأيديولوجية الرسمية، أي الميثولوجيات المعتقد بها. ومع البحوثات الأيديولوجية الجديدة، تُشرَع الأبواب أمام مرحلة المثالية النبوية. من المخمَّن أن هذه المرحلة المبتدئة منذ أعوام 3000ق.م، وحتى عهد سيدنا إبراهيم، قد ابتدأت بالأغلب في مدن المتبروبولات السومرية. وعندما لم تستطع إيواءها، ينتقلون إلى المناطق الموجودة في الأقاصي، وإلى الأجواء الحرة نسبياً. من الصحيح تسمية المرحلة الممتدة من سيدنا آدم وحتى سيدنا إدريس وأيوب، بمرحلة النبوة السابقة لأورفا. ويمكننا طرح الاعتقاد القائل بأن عهد أورفا الممتد من 2000ق.م وحتى 1000ق.م قد لعب دوراً مركزياً. ومن المحتمل أن تقاليد النبوة قد نضجت في تشكلها في هذه المرحلة، واكتسبت أرضية مؤسساتية متينة. كما وصدشَّرت الكثير من الأنبياء إلى الأطراف المجاورة لها، وعلى رأسهم سيدنا إبراهيم. والعديد من الأقاويل تؤكد صحة هذه الفرضية. الفرضية الثانية التي يمكننا طرحها هي، بروز القدس إلى الأمام، كمركز نبوي ثانٍ، منذ أعوام 1000ق.م، وحتى انهيار روما. ويحتوي الكتاب المقدس لائحة شاملة بأسماء أنبياء تلك المرحلة. تلك المواد التي تتميز بسرد وفير الغنى ومتين البنيان بشأن عهد الأنبياء، والمبتدئ بـ"ساول Saul"، وحتى داوود وسليمان؛ يمكن تقييمها بالحنين إلى المَلَكية، وشرح قواعد الأخلاق المنظِّمة للحياة الاجتماعية، بالأغلب. إنها تتطرق بقدرة وكفاءة إلى المجتمعية. وما منْع عبادة الأوثان، والارتباط بالرب في مضمونه سوى سرد ديني معني بصون القبيلة العبرية من التشتت والتفكك، وتكوُّنها كمَلَكية. وكيفما تكون الميثولوجيات السومرية حكايات أسطورية للملوك الآلهة، فإن الكتاب المقدس أيضاً هو الحكاية الدينية لتكوين المَلَكية من أحشاء القبيلة. فالآداب والبنية الذهنية التي كانت مهيمنة في تلك الحقبة، كانت تستلزم لغة كتاب مقدس كهذا. ومن المهم تلمس الجوهر المستتر تحت تنميق الشكل ذاك. بيد أن مأرب سيدنا عيسى، في النهاية، كان أن يصبح مَلكاً على القدس، التي أسماها "بنت الصهيون"، فدفع حياته ثمناً لها. المرحلة الثالثة والأخيرة من النبوة، كانت في الفترة المتراوحة ما بين (0م – 632م)، حيث تبدأ بميلاد سيدنا عيسى، لتمتد حتى سيدنا محمد (ص). وبينما تندرج القبيلة العبرية بعد هذه المرحلة في عهد الكُتّاب المسمّون بـ"الكتّاب الصفاريون Safarin"، تحقق المسيحية انفتاحات كبرى بين صفوف الشعب، عبر الحواريين أولاً، ومن ثم الكهنة القِسّيسين والأساقفة (المطارنة). مهّدت ترجمة الآداب النبوية – وعلى رأسها الإنجيل – إلى اللغة الإغريقية واللاتينية لحصول تحولات جذرية في البنية الذهنية للحضارة الغربية. حيث تنتزع مزاعم الألوهية من أيدي الأباطرة الهيلينيين والرومانيين شبه الآلهة، عبر الصراع المخاض تجاههم. يعد قبول قسطنطين الأكبر الديانة المسيحية واعترافه بها في عام 312م، ومن ثم إعلانه إياها ديانة رسمية؛ الخطوة الأخيرة لمرحلة تاريخية مهمة. وهذا ما مؤداه بلوغ المعتقدات القائلة باستحالة أن يكون الإنسان إلهاً، والمبتدئة من أول الأنبياء، النصرَ المظفر، وإن كان فقد الكثير من مضمونه. وبالأصل، فالجناح البارز على شكل الديانة الإسلامية بقيادة سيدنا محمد (ص)، يعلن منذ البداية أنه – أي النبي – رسول الإله وظله على وجه الأرض. وبرفض الثالوث "الأب – الابن – الروح القدس" الذي نادى به سيدنا عيسى، ينزل الوحي بحكمه في أن البشر لا يمكن أن يكونوا إلا عبيداً للإله، كآية قرآنية أساسية. إلا أن مفهوم عبد الإله، يشير مرة أخرى إلى التأثر بثقافة المَلك الإله. حيث يوضع "الله" مكان المَلك الإله. ومع ذلك، فهو مثال ضارب للنظر من حيث إشادته بالمسافة الشاسعة المقطوعة في صراع الذهنية. كما ويبرهن على استمرار صراع البشر مع الملوك الآلهة على مر آلاف من السنين. بالإضافة إلى تنويهه إلى عدم سهولة الخلاص من العبودية الثقيلة الوطأة. وبالأصل، فلدى تخطي عهد الملوك الآلهة مع حلول نهايات عهد الإمبراطورية الرومانية، تنتهي هذه المرحلة كلياً مع سيدنا محمد (ص). حيث يتخذ معتقد النبوة الأولي من استحالة إعلان البشر ذاتهم كآلهة، أساساً له. إنه أشبه بمنهاج حزبي مؤلف من مادة واحدة فقط، بحيث يفقد معنى مواصلة وجوده لدى تأدية مستلزماتها؛ فلا يتبقى منه سوى الأثر، الحكاية، والظلال. الثمرة الأساسية للأديان التوحيدية الشرق أوسطية، هي الدولة الإقطاعية للعصور الوسطى. فعبودية "القن،" التي تعتبر أكثر مرونة من العبودية الكلاسيكية، هي بمعنى آخر، عبودية مطوَّرة أكثر. أي الصعود درجة أخرى على سلم العبودية. تحصل التطورات في العبودية الخالية من الأقنان أيضاً. فقوة السلطان والسلطة القتالية، تعتبر ظل الإله على الأرض. ويجب اعتبارها كامتداد لقوة المَلك الإله. ومع ذلك، يجب عدم الاستهانة بمنزلة كلتا الحركتين في تاريخ البشرية، من حيث مواقفهما الديمقراطية، وخصائصهما المشاعية، وتطلعاتهما إلى الحرية والعدالة. لقد أحرزت تقاليد المقاومة المستمرة على مر آلاف السنين، مكتسبات مهمة في الميادين الذهنية والسياسية والاقتصادية، إزاء عبودية العصور الأولى والكلاسيكية. وما من شائبة في حقيقة هذه المكتسبات، رغم فرز التاريخ المكتوب إياها. وقد تغذت الثقافة الإنسانية من هذين الجناحين المقاوِمين بنسبة كبرى، حيث أضحيا في مقدمة المواضيع المتداوَلة في كافة أنواع الفنون. فالنُّصُب التذكارية في المعابد وصلت إلى يومنا الراهن بكل أبهتها وعظمتها. وإذا كانت ثمة أجزاء متبقية من الأخلاق المجتمعية، فذلك بباعث من هذه التقاليد بالتأكيد. فالملاحم الخالدة، القدِّيسون، وقصص الأنبياء التاريخية، إنما تصور المواقف الإنسانية العظيمة. وأصحاب هذه التقاليد هم الذين انزووا بذاواتهم عشرات السنين، واهترأت أجسادهم في غياهب السجون، صُلِبوا وربُّوا أنفسهم بكِسرة خبز وحبة زيتون وعنب وتمر، شعروا بآلام الإنسان، وأولوا أسمى القيم للحكمة والعلم. وهذه التقاليد هي أيضاً التي أولَت قيمة مدرسية مكملة للحياة المشاعية بدل الفردية، ونظام الدير، وادخار المعرفة والمعلومات، وتطور الفن والحِرفة. وقنوات هذه التقاليد النبيلة هي أيضاً التي حثت الإنسانية على التفكير بالسلم والأمن، مقابل جناح السلطة القتالية التي لم تمنحها أية فرصة سواء القتل والاقتتال. وهي أيضاً التي صانت كرامة الإنسان واعتمدت التعاون والتكاتف أساساً، ونوَّهت إلى الأخوّة ونادت بها، وحققت الانفتاح نحو الكونية. إنها عجزت عن المجيء بالمجتمع الطبقي. بل ولم تنج أيضاً من الذوبان بالأرجح في بوتقة النظام الاجتماعي السائد. بل وحتى أصبح المنادون بها هرميين ودولتيين – أحياناً – بقدر الأسياد القدامى. إلا إنه، وإذا كانت ثمة بضعة متبقية من القيم الإنسانية حتى يومنا الحالي، فإن التفكير في نصيب هذه الحركات في ذلك، إنما يكافئ إعطاء الحقيقة مستحقها. إذ من غير الممكن تعليل المواقف الديمقراطية، التطلعات إلى الحرية والمساواة، البحث عن بيئة طبيعية، حقوق الإنسان، والهويات الثقافية القائمة في راهننا؛ من دون التفكير في مساهمات كلا التيارين التقليديين العظيمين فيها. وإذا ما نظرنا إلى الساحة العامة (الدَّوْلية)، والتي تعتبر أرضية لا غنى عنها من أجل الديمقراطية – بقدر الفردانية على الأقل – بأنها الميراث الأولي المتأتي من هاتين الحركتين العظيمتين؛ فسيُدرَك التأثير الإيجابي للتقاليد، بشكل أكثر واقعية وقدرة على الحل. إن إطار السرد المطروح بصدد مخطط الموقف الديمقراطي والمشاعية، يساعدنا على استيعابنا الأفضل لمجتمع الإمبراطورية الرومانية. وروما أيضاً، مثلما هي حال سابقاتها جميعاً، انهارت في نهاية المطاف، بعد عدة قرون من حركات الدفاع والهجوم للحركة الاجتماعية المشاعية القادمة من الداخل من جهة، وللجماعات المنفتحة للمتجتمع الإثني والطبيعي، والآتية من الشمال من جهة أخرى. انهيار روما، وتحطم القسم الباقي منها في أواخر القرن الرابع الميلادي، إنما يعني الانتصار الموحد للإثنية والمشاعية الدينية، والعلاقات القائمة بينهما، وإن بشكل ملتوٍ. إنه الانتصار العظيم للشعوب والنظام المشاعي، وإن بشكل مختلط. لا شك في أن الذهنية الدولتية والقوة لم تتحطما. فحتى لو تمزقتا كالكرة الثلجية، إلا إنهما لم تتورعا، ولو لحظة واحدة، عن تكوين ذاتيهما في العديد من المناطق، دون أن تذوبا. ومرة أخرى نلاحظ أن السلطة القتالية لا تحتمل التمزق الطويل المدى. بل، وكما حلقات السلسلة، ستستمر في وجودها بإضافة أجزاء أخرى، وبإكثار حلقاتها. وستستمر بيزنطة في الشرق، وفرانك، شارلمان، وإمبراطورية روما المقدسة في وجودها بأشكال جديدة مغايرة. مَن دك دعائم روما بالأساس هم أنساب الجرمان ذوي الأصول الثقافية الآرية. فالخونيون القادمون من آسيا الوسطى، أحاطوا بهذه البنية مرة أخرى، وبقوا كذلك لعشرات السنين. لا يمكن التفكير في شل روما وماكينتها الحربية الكبرى، دون وضع قوة الإثنية في الحسبان. إن التعبير عن ذلك بمقولة "الانهيار الحزين للحضارة الرومانية تحت وطأة اعتداءات البرابرة"، لا يمكن أن يكون لغة الحقيقة، مثلما هو ليس لغة المجتمعيين الديمقراطيين. فإذا ما أخذنا نصب أعيننا سلسلة الأباطرة، سنستوعب على نحو أفضل مدى فظاعة قوة السلطة القتالية. ولن يصدنا أي اعتراض عن النظر إلى تحطيم البرابرة – الذين هم في الحقيقة القوى الشعبية التحررية – لتلك القوة، بأنه من أعظم خطوات الحرية المخطوة. ما يُبرهَن على صحته مرة أخرى في انهيار روما، هو أن مسار التاريخ يحدده – بالأساس – الصراع الكائن بين من يجعلون من الحرب والعنف مصدراً للبنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعنوية من جانب، ومن يصرون ويقاومون ويصمدون في سبيل المواقف الديمقراطية والحياة الحرة المتساوية المشاعية من الجانب الآخر. وإذا لم نغض الطرف عن أن حالة الحرب الدائمة هذه هي المتوارية تحت النظام المسمى بـ"السلم والاستقرار"؛ فسنستوعب الحقيقة المجتمعية حينئذ على نحو أفضل. يكمن وراء دخول أوروبا في العصور الوسطى خلال المدة الممتدة بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديَّين، تاريخٌ كذاك الذي حاولنا رسم مخططه سابقاً. ومن المهم الإدراك أنه لولا هذا التاريخ، دعك من أن تصنع أوروبا الحضارة، بل لعجزت حتى عن تعلم نقطة "الصفر". ولا يمكن حتى تصوُّر شروعها بمحاولة المعرفة واكتساب الذهنية الجديدة، بكل ما لديها من قدرة، بعد سبات عميق قضته في مرحلة الحضانة الإقطاعية؛ دون التفكير بهذا التاريخ. فتوجُّه أوروبا اللاحق نحو العلم والتاريخ، بما يستحقه فعلاً، سيمدها بالقوة والطاقة اللازمتين لها، لتصنع مرحلة عظمى تليق بقدرها في الحضارة، عبر هاتين القوتين، أي عبر سلوك أسلوب العلم والتاريخ الصحيح. مشاركة الديانة المسيحية في العصور الوسطى محدودة النطاق. حيث سعت بالأرجح لإعاقة الولادة الجديدة، عبر محاكمها التفتيشية. فبينما سعت للتخلص من الهراطقة (مذهب المنشقين) والساحرات الجنّيّات (بقايا المرأة الحرة) والكيميائيين (رواد العلم) – باعتبارهم أجنحة إيجابية متأتية من الماضي – بحرقهم في النار؛ تحطمت إرادتها – بالمقابل – عبر الميول المعتادة على الحياة الطبيعية المرتكزة إلى الذكريات الغضة للإثنية، وعبر البروتستانتية، لتتعزز بالتالي ذهنية وإرادة الحضارة الجديدة بسطوع أكبر. وبينما تم تخطي التزمت المتجذر في الدين منذ زمن غابر، عبر البروتستانتية، شُرِعَت الأبواب أمام التحول الوطني بالاستناد إلى ثقافة الإثنية. ما من دليل يمكنه الإشارة أو الزعم بأن الهدف من هذه التطورات التاريخية العظمى، كان التطوير المخطط والمدروس للنظام الرأسمالي. بل ثمة دلائل أكثر في حوزتنا تشير إلى أن ما يجب أن يتطور أساساً هو الحضارة الديمقراطية.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية و
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني اللب التاريخي للقيم المشاعية والد
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ - اللب التاريخي للقيم المشاعية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع ال
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجت
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا
...
-
الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة
...
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول
-
الدفاع عن شعب
المزيد.....
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وجالانت لأ
...
-
كندا تؤكد التزامها بقرار الجنائية الدولية بخصوص اعتقال نتنيا
...
-
بايدن يصدر بيانا بشأن مذكرات اعتقال نتانياهو وغالانت
-
تغطية ميدانية: قوات الاحتلال تواصل قصف المنازل وارتكاب جرائم
...
-
الأمم المتحدة تحذر: توقف شبه كامل لتوصيل الغذاء في غزة
-
أوامر اعتقال من الجنائية الدولية بحق نتانياهو
-
معتقلا ببذلة السجن البرتقالية: كيف صور مستخدمون نتنياهو معد
...
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|