|
هل يمكن التفكير خارج نطاق الكلّي؟
منوبي غبّاش
الحوار المتمدن-العدد: 3688 - 2012 / 4 / 4 - 22:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من الشائع القول إن الفلسفة تتحدد كتفكير في الكلي أي في المسائل النظرية والعملية والجمالية ذات الطابع الكوني. وبالنظر إلى هذه الخاصيّة تكتسب المفاهيم الفلسفية قيمتها، فالمفهوم هو الأداة التي يتمكّن بواسطتها الفيلسوف من تصور الكلّي والتعبير عنه. ولئن بدا هذا الربط بين الفلسفة والكلي مقبولا من منظور الفلسفة التقليدية أو الميتافيزيقية فقد لا يتماشى مع تصور الفلسفة كما يفهمها المعاصرون، فالكثير من هؤلاء يعتبرها بحثا في ما هو هامشيّ وجزئيّ ونسبيّ لأن وجود الإنسان تحديدا هامشي وجزئي ونسبي. فالإنسان حسب سارتر مثلا يوجد دائما في "وضعيّة" معطاة وعليه أن يحدد ماهيته انطلاقا منها . وهو لدى هيدجر ومرلوبنتي كائن موجود- في- العالم أي منخرط في عالم الأشياء والكلمات والآخرين بروابط لا يمكن معها الفصل بين الذات والموضوع . إن نفي الكلي ليس خاصية مميزة للفكر الفلسفي الحديث، فنحن نجد في الفلسفة القديمة مدرستان قامتا على إنكار الكليات ونفي الكلي وهما الحسية التي مثّلها السفسطائيّون والإسميّة في القرن الرابع عشر. فقد أقر السفسطائيون بالصيرورة وقالوا بالحركة المستمرّة(هيراقليطس)، فكل شيء يتحول والمرء لا ينزل إلى النهر مرّتين لأن المياه تتغير باستمرار(بروتاغوراس). إن القول بالصيرورة يعني رفض الكلي في الواقع وعلى صعيد المفهوم. من الثابت أن الحسية السفسطائية تقترن بنزعة فردية مفادها أن ما يوجد هي الأشياء الفردية لا غير إذ لا وجود للكليات ولا للمفاهيم وهذا ما عبر عنه غورجياس في النفي الثلاثي: _لا وجود لشيء. _ حتى إن وجد شيء ما فإن معرفته تستحيل. _حتى إن أمكن معرفة شيء فإن إيصالها أمر مستحيل. هذه القضايا الثلاث تنفي الأنطولوجيا و تنفي نظرية المعرفة كما تنفي التواصل. النفي من خلال هذه القضايا يطال الكلّي في بعده الأنطولوجي والإبستيمولوجي والأكسيولوجي (باعتبار أن التواصل هو فاعلية توجّهها قيم محدّدة). أنكرت النزعة الإسميّة، من جهة أخرى، كل واقعية مزعومة للكلّي كما رسخته نظرية المثل الأفلاطونية والأنطولوجيا الأرسطية. فقد قال أكّام Ockham بأنه لا يوجد نظام في العالم أي نظام كوني وأنّ العالم هو مجموعة الأشياء والكائنات الفرديّة(لا يوجد إلا هذا الفرد وتلك الشجرة) وأمّا المفاهيم والمعاني العامّة أو الكليّات فلا وجود لها وهي مجرّد أسماء وعلامات.هكذا انتهت كل من الحسية والإسمية إلى إنكار الكلي، فالمعاني الكلية كالإنسانية والعدالة والشيئية والحرية ليست إلا أسماء لا تحيل ولا تدلّ على شيء. لا يعني هذا أن مفهوم الكلي استُبعد تماما من التفكير الفلسفي ونحن نفترض أنه لا يمكن التفكير فلسفيّا خارج نطاق الكلي على الرغم من النقد الذي استهدف مفهوم الإنسان(نقد النزعة الإنسانية من قبل فوكو وكلود ليفي ستروس مثلا) وكذلك النقد الجينالوجي الذي قام به نيتشه بهدف تحطيم القيم الكونية. ما هو الكلي وهل يوجد في الأشياء أم في الفكر؟ هل يمكن للكلي أن يتحقق في الإنساني؟ تستعمل عبارة "الكلي" في العربية كمرادف لعبارة "الكوني". الكوني هو ما ينسحب على الكون كله وما يمتدّ إلى جملة الموجودات والأفكار. هذا التحديد لا يكفي لتجنب الخلط بين "الكوني" و"العام" ولهذا علينا أن نعمل على التدقيق في دلالات المعنى: 1- الكلي هو ماله خاصيّة الكليّة المنطقية ويفهم في مقابل ما هو خاص أو مأخوذ بشكل خصوصي.- الكلي هو ما يعبر عنه بحدّ عام بحيث يكون محمولا لذوات مختلفة، فبحسب أرسطو الوجود يحمل على الموجودات على اختلافها ولهذا يمكن اعتباره الكلي. أما في نظر القديس طوما الإكويني فليس للكلي وجودا في العقل فقط ولا وجودا في الأشياء الفردية فقط بل إن له وجودا في العقل الإلهي أيضا. 2- يدل الكلي على الوحدة الجمعية أو الكلية unité totalitaire. 3- يدل الكلي على جملة الخصائص التي يشترك فيها أشخاص مختلفون. إذا كان الكلي يعني الوجود ويدل على الموجودات التي تشترك في نفس الخصائص والصفات فإنه يتعلّق بالإنسان. ومن هنا يمكن ان نتحدث عن الكلي الإنساني(الكلّي هو الإنسانية سواء فهمت باعتبارها وحدة أو باعتبارها كثرة). إن الإنسان هو من يفكر في الكلي وتفكيره هذا يتنزل في سياقات مختلفة:سواء فكر الإنسان في ذاته (الإنية) أو في الآخر(الغيرية) أو في انتمائه إلى شعب أو أمة(الخصوصية العرقية والثقافية) أو في انتمائه إلى الإنسانية ككل(الكونية) فان مفهوم الكلي حاضر في هذه المباحث جميعا بشكل صريح أو ضمنيّ. بأيّ معنى يمثل الكلي مطلبا؟ ما معنى أن نطلب الكليّ؟ إذا كان الكلي مجرّد فكرة أو قيمة فماذا يعني بالنسبة لنا طلبه؟ هل يتعلق المر بالفهم أم أننا من خلال طلب الكليّ نهدف الى تعيين أو توجيه ممارسة؟ وبعبارة أخرى هل أن رهان الكليّ رهان عمليّ أم نظريّ؟ هل يمكننا أن نكون مع أو ضدّ الكليّ؟ وهل علينا أن نُنقذ الكلي أم علينا الإفلات منه بمعنى التقوقع على الشخصي والخصوصي و النسبي؟ لقد اقترن مفهوم الكلي أو الكوني في الفكر الفلسفي بمفهوم الكليّات أو المعاني العامة. ويمكننا أن نبرز دلالات مختلفة للمفهوم تحددت بحسب ثلاثة مذاهب: 1-المذهب الواقعي: يقول بان للكليّات وجود مستقل و موضوعيّ. وهي موجودة في حدّ ذاتها سواء عرفت بالعقل أم لا(أفلاطون). 2-المذهب التصوّري : يقر أتباعه بان الكليات توجد في العقل بمعنى خاص هو انه لو لم توجد العقول لما وُجدت الكلّيّات. وهكذا فان التصورية ترى أن العمومية هي خاصيّة أساسية للتجربة وللغة و« هي تهتم بمعرفة كيف تتكون المفاهيم الذهنية وكيف تكون عامة إذا كانت معطيات التجربة المنطلقة منها جزئية وكيف تكون الكلمات عامة في دلالتها» . 3- المذهب الإسمي: يرى أتباع هذا المذهب أن الكلّيّات مجرد معان عامة ليس لها وجود مستقل عن الفكر والعقل وهي أسماء لا غير. تقول الإسمية بأن المعاني العامة لا توجد في حدّ ذاتها (وجود ذهني) و لا تحيل إلى وقائع بل هي مجرد علامات عامة. وهكذا تكون الأسماء أو الكلمات وحدها كلية و الأشياء المسماة يمثل كل منها الجزئي و الفردي. يقول باسكال: «إن الكليّ واحد في كل مكان ومكتمل في كل موضع». الخاصّيتين الأساسيتين للكليّ في هذا التعريف هما الوحدة والإكتمال. أن يكون الكلي واحد في كل مكان فذلك يعني أنه لا يتحدّد بالمكان بل هو مطلق. أما هيجل فنحن نجد لديه تحديدا للكليّ يقوم على التمييز بين "الكلي العينيّ" و"الكليّ المجرّد". الكلي العيني هو« النموذج المثالي الذي تستمدّ منه الأشياء وجودها». يحيل هذا المعنى الى مفهوم النموذج الأفلاطوني. فالشجرة مثلا هي نموذج مثالي لكل الأشجار الواقعيّة. وأما "الكلي المجرّد" فهو«يتكون بعملية عقلية تستخرج العناصر المشتركة بين أشياء مختلفة ويّعبّر عنها بمفهوم». الكلي المجرّد إذن هو المفهوم العقلي الدال على العناصر المشتركة بين الأشياء المختلفة. إن الكلي باعتباره مفهوما عقليّا يرتبط بالإنيّة من حيث أنّه ينتمي إلى مجال التفكير الذاتي. هل يعني ذلك أن التفكير في الذات أو في الأنا هو تفكير في الكليّ؟ أو بعبارة أخرى هل يصح القول بأننا نفكر في الكلي من خلال التفكير في الأنا؟ أليس ربط الكلّي بغيره، هو في النهاية، تناقض بيّن، ذلك أن كل حدّ أو تحديد أو خفض أو اختزال للكلّي إلى ما عداه يعني نفيُ الكليّة عنه؟ نفترض أنه بالإمكان حلّ هذا الإشكال بوضع الكليّ، منذ البداية، كأفق للتفكير أي كمفهوم مجرّد وليس واقعا متعيّنا. تدلّ الإنية على هويّة الذات الجوهريّة، على الذات التي تعي ذاتها جوهرا بسيطا ومستقلاّ عن الجسميّة. تدلّ الإنيّة على الوعي الذاتي أي على الهويّة الذاتية المميّزة للأنا. ولنا أن نقول إن الإنية تعني الهويّة الشخصيّة أي إحساس الشخص الذاتي بوجوده مستقلاّ عمّا ليس هو. إن صح ّ ذلك ألا يكون الكلي الذي نطلبه موجودا فينا أي في كل واحد؟ الكليّ هو الوعي الذي يمكن كل واحد من إدراك العالم من حيث انه وعي بالذات. الوعي إذن هو الكليّ الإنسانيّ. هذه الفكرة هي محور فلسفة كل من ديكارت وكانط على وجه الخصوص: لا تفلسف خارج دائرة الكليّ. إن التفكير في حقيقة الذات هو إثبات للكونية، ذلك أنّ الذاتية، وإن كانت تحيل الى الإنية، فهي، في نفس الوقت، تحيل إلى الغيرية. فالآخر هو ذات أخرى أنا آخر، إنية مغايرة. نستطيع القول إنّ الذاتية تتطابق مع الكونية والمقصود بالكونية هنا الحقيقة الجوهريّة للإنسان. لا تتحدد حقيقة الإنسان من جهة أشخاص الأفراد بل من جهة النوع الإنساني ككل. إذا كان الناس يوجدون كأفراد،كأشخاص متعيّنين، فان معرفة الفردي غير ممكنة. يقول أرسطو:« لا وجود إلاّ للجزئي ولا علم إلاّ بالكليّ» . وحده الكليّ يكون موضوعا للعلم. ولهذا نقول إن الكليّ هو الإنسان مأخوذا في المطلق أو هو الكليّ الإنسانيّ. يقول أبو حامد الغزالي في كتابه "معيار العلم": « اعلم أنّ الكليّ اسم مشترك يطلق على معنيين هو بأحدهما موجود في الأعيان، وبالمعنى الثاني موجود في الأذهان لا في الأعيان. أمّا الأول فهو الشيء المأخوذ على الإطلاق من غير اعتبار ضمّ غيره إليه واعتبار تجريده من غيره... والمعنى الثاني للكليّ هو الإنسانية مثلا بشرط أنه مقولة بوجه من وجوه المقوليّة على كثيرين » . ما يعنينا من قول الغزالي هو إثباته للتطابق بين الكليّ والإنسانيّة، الانسانيّة المطلقة التي لا تشترط الوحدة أو الكثرة. بهذا المعنى يكون التفكير في الإنيّة و الغيريّة أو في العلاقة بينهما تفكيرا في الكليّ الإنسانيّ. اعتبار الكليّ مطلبا يعني أنه لا يوجد في مستوى الواقع البشري الماديّ والتاريخيّ. إذا كان الأمر كذلك لماذا نطلب الكلي وما وجه ضرورته بالنسبة لنا نحن الأفراد المتذرّرون؟ ألا يعني طلب الكلي إقرارا بعرَضيّة وجودنا وبنسبيّة معارفنا؟ إذا اعتبرنا أن الكليّ هو المتعالي Transcendantal، فبالامكان القول إن طلب الكلي ّ هو إقرار بالمحايثة Immanence: الإنسان كائن يوجد على نحو خاصّ، في وضعية محددة يتمثل وجوده دائما من خلالها. إن الإنسان يطلب الكليّ بطريقتين: بحسب الطريقة الأولى يكون الكلي مجاوزا للوجود الإنساني النسبي والمحدود. في هذه الحالة يكون الكلي هو الله ككائن أسمى موجد لكل الموجودات. لقد تصور الفلاسفة الله بما هو المصدر النهائي للقيم و للتشريع وللحقيقة.(قال ديكارت بالضمانة الإلهيّة للحقيقة واعتبر لوك أن الله هو المبدأ الذي تكتسب منه السلطات والقوانين والعهود مشروعيّتها.كما أن اسبينوزا طابق بين حقيقة الله والوجود وهو ما يعني أنّ معرفة الله ليست شيئا آخر غير معرفة قوانين الطبيعة. وأمّا الطريقة الثانية فتتمثل في نسبة الكليّ إلى الإنسان ومعنى ذلك أنه إذا كان للكلي معنى فهو لا يخرج عن النطاق الإنساني. في هذا المستوى بإمكاننا أن نتساءل عن الدلالة التي يمكن أن تعطى للكليّ الإنساني. إذا أخذنا في الإعتبار التمييز التقليدي بين ما هو موجود وما ينبغي أن يوجد، بين ما يوجد وجودا طبيعيا ومباشرا وبين ما يكون وجوده مطلقا، فإن الكلي سيدلّ، لا محالة، القيم الكونيّة. يتّسم الوجود الإنساني بمفارقة أساسية: فالإنسان يوجد في عالم الوقائع كما ينتمي بطريقة ما إلى عالم آخر هو عالم القيم أو ما سمّاه كانط بعالم الأشياء في ذاتها. بهذا التوتر بين الوقائع النسبية والقيم المطلقة يتحدّد وجود الإنسان. إذا قبلنا، إلى هذا الحدّ، بأنّ الكلي هو الإنساني و بأنّ الكلّي الإنساني هو القيم الكونيّة فالسؤال الذي يتوجّب طرحه هنا هو: من يطلب الكلّي أي من يطلب القيم. "مَن" في هذا السؤال تعني الجزئي والنسبي والخصوصي. إذا كان من يطلب القيم هو فرد بعينه أو مجموعة من الأفراد أو شعب معين فمن المشروع أن نسأل أيضا: أي قيم تُطلب؟ ولماذا تُطلب؟ من يطلب الحريّة على سبيل المثال؟ لا شكّ أنّ من كان حرّا لا يبغي الحرية ولا يسعى من أجل التحرّر، ولكن المستعبَد أو المضطهَد هو الذي يسعى في طلابها باعتبارها نقيضا للواقع. الحريّة إذن قيمة نسبيّة لأنّها تعبّر عن وضعية نسبيّة. لقد عبّر نيتشه عن هذا الأمر بنفيه لصفة الإطلاقية عن القيم . لا توجد قيم مطلقة أصلا لأنّ كل القيم ليست إلاّ "أحكام قيمة" وأحكام القيمة هي دائما جزئية ونسبية باعتبارها تحيل إلى وضعيّات وجوديّة و ملابسات تاريخيّة محدّدة. إن القول بتاريخيّة القيم و بنسبيّتها يتعارض مع القول بوحدتها. لا توجد قيمة واحدة يمكن أن تكون محلّ اتفاق من حيث دلالتها أو من حيث قيمتها. من الصعب إذن إنكار تعدّد القيم. هل يسمح لنا تعدد القيم هذا بإثبات الكوني والدفاع عنه؟ ألا يحيل تعدد القيم إلى اختيارات إنسانية مشروطة بوضعيات وجودية معينة؟ قد يرى البعض أن الإختلافات الثقافيّة وتنوّع المنظومات الرمزيّة لدى الشعوب والأمم والطوائف والجماعات دليل كاف على وجاهة فكرة التعدّديّة القيميّة وبالتالي مبرّر لرفض معنى الكلّي. يبدو أنه من الصعب التوفيق بين مفهوم الكلّي وفكرة تعدّد القيم. ألا يحيل تعدد القيم وتنوع المرجعيّات الأخلاقية إلى ما هو نسبي وخصوصي؟ أليست كل القيم تأويلات جزئية أو هي على الأقلّ قابلة للتأويل من منظورات متعددة(نيتشه)؟ إنّ النّسْبَوِيّة الأخلاقية ترفض القيم الكونية وتنفي عن الكليّ كل إمكانية للتحقّق بحيث تكون القيم مجرد وجهات نظر وتأويلات نسبية لأشخاص ينتمون الى وضعيات وجودية محددة. لا شك أن هذا الموقف يقود في النهاية إلى عدمية أخلاقية تنعدم معها أيّة إمكانية لتقييم الأفعال والممارسات الإنسانية، بمعنى أن كل الأفعال تُقبل من حيث أفعال فقط لا من حيث أخلاقيّتها. تعني النسبويّة الأخلاقية، في نهاية الأمر، إلغاء مبدأ الأخلاقية في حدّ ذاته، ولكن كيف يمكن لمجموعة من الأفراد أن يتواصلوا وأن يتفاهموا في ظل انعدام منظومة قيم مشتركة يتّفقون في ما بينهم على تأويلها وعلى اعتبارها مرجعا لتقييم الأفعال؟ من الواضح إذن أن فكرة تعدّد القيم لا تفهم إلاّ في إطار نزعة فرديّة تعتبر الفرد مصدر القيمة ومرجع كل تقييم أخلاقي. إن مفهوم القيمة يحيل أساسا إلى الوجود الإنساني بما هو وجود اجتماعيّ. لا وجود للفرد في حدّ ذاته. فالفرد هو فرد بالنظر الى الجماعة ومن منظور الجماعة. والفرد بدوره لا يرى نفسه فردا إلاّ عبر الآخر ومن خلال الجماعة. إن القول بتعدّد القيم لا يعني القول بنسبيّتها. فكي يكون للقيم قيمة ينبغي أن تكون مطلقة أي ينبغي أن تتجاوز النسبي والمحدود والجزئي. وأن تكون القيم متعدّدة فذلك لا يعني أنها نسبيّة. إن القيم لا تكون إلاّ كونيّة أو كليّة وكل إقرار بطابعها النسبي هو إقرار متناقض. يمكننا إذن القول إن الكليّ يتطابق مع القيم الإنسانية الكونيّة ولكن هذا لا يعفينا من أن نسأل مرّة أخرى عمّا يبرّر طلب الكلّي. فتعدّد القيم الذي نشهده اليوم، التعدد الذي رسّخته الفلسفة المعاصرة بتوجهاتها المختلفة، قد يكون حافزا على طلب الكلّي الذي منه تستمدّ القيم معناها. ما عساه يكون هذا الكلّي الذي تُردّ إليه كل القيم؟ هل يتمثل في حقوق الإنسان أم في الخير أم في الكرامة الإنسانية؟ لكأنّ السؤال هنا يتعلق بقيمة القيم أو بالقيمة الأولى أو الأساسية. رأى أفلاطون أنّ الكلّي هو فكرة الخير، الخير الذي هو مبدأ الوجود والمعرفة في نفس الوقت. عن هذا المبدأ تصدر كل المثل الأخرى،و سيكون هذا التصوّر المثالي أساس نظريّة الفيض الأفلوطينيّة: الواحد هو الوجود المطلق وعنه تفيض كل الموجودات الأخرى. لقد مثّلت نظريّة الفيض حلاّ لمشكل الوحدة والكثرة. كيف تصدر الموجودات عن الموجود الواحد دون أن تشاركه في الوجود فيصبح متكثّرا وينتفي عنه الكمال تبعا لذلك؟ هكذا حل محل مفهوم مثال الخير مفهوم الإله الواحد. ولكن التغير في الإسم يعني أيضا تغيّرا في الدلالة. فالكلّي العقلي عند أفلاطون ليس مطابقا للكلّي الإلهي لأن هذا الأخير اعتبر مصدر الكلّي العقلي و الكلّي العينيّ في آن واحد. رفضت الفلسفة المعاصرة مفهوم الكلّي المتعالي على الوجود الإنساني سواء تعلق الأمر بكلّي عقليّ أو بكلّي لاهوتيّ وذلك بإثبات التطابق بين الكلّي والإنساني. فبما أنّ الوجود الإنساني يتّسم أساسا بالمحايثة فإنّ الكلّي سيكون محايثا للإنسان. ولعلّ أطروحة "موت الإله" مثّلت أحسن تعبير عن هذا التحوّل في منزلة الكلّي في الفلسفة. فقد أعلن نيتشه عن موت الإله وكان ذلك بمثابة إعلان عن موت الكلّي وعن نهاية الفلسفة المؤسّسة على مزاعم الكلّي.لا وجود للكلّي لأنّه لا وجود للتعالي، لا في مستوى الوجود ولا في مستوى الفكر. ولكن هل سيمثلّ الإنسانيّ و"النزعة الإنسانية" آخر حصن يحتمي به الكلّي من هجمات النزعات الشكيّة (القول بانعدام الحقيقة الواحدة والثابتة) والنسبويّة (القول بنسبيّة القيم وبتعدّدها) والعدميّة (القول بفقدان القيم لقيمتها وبأنها مجرّد أحكام قيمة)؟ هل بالإمكان إنقاذ الكلّي من خلال ربطه بالإنسان وربما من خلال المطابقة بينهما؟ هل سيكون الإنسانيّ ملاذا للكلّي؟ في هذا السياق تمثل أطروحة ميشيل فوكو مساهمة ذات أهمية بالغة. لقد دافع فوكو عن موقف على غاية من الخطورة، ليس فقط في الوقت الذي ظهر فيه أي الستّينات من القرن العشرين، بل في زماننا هذا. دافع هذا المفكر عن فكرة "موت الإنسان" و"نهاية النزعة الإنسانيّة". فالإنسان ليس ذاتا ولا موضوعا للتفكير الفلسفي وللمعرفة بصفة عامة.فقد «انبثق مفهوم الإنسان كذات هي نتاج للحياة وللّغة و للعمل: ذات تحيا و تتكلم وتعمل، ولكن معارفها الآن أصبحت تُعلن لها أنها ليست هي تلك الحياة ،لأن الحياة أقدم منها. و ليست هي تلك اللغة، لأنها نطقت من قبلها وليست هي ذلك العمل لأنه يفلت من قبضتها» . استعمل فوكو فكرة "موت الإله" لدى نيتشه لتعميق نقده للأنثروبولوجيا من حيث هي ،كما يعرّفها، «تحليليّة للإنسان»، وبالتالي لعرض فكرة "موت الإنسان". هكذا سيكتمل أفول اللاهوت بأفول الإنسان و سيتم الإعلان عن أفول الكلّي من أفق الفكر الفلسفي. ودلالة ذلك أنه لا يوجد وعي مطلق أو متعال، بالمعنى الكانطي، يمكنه أن يفكر في ذاته وفي الكلي. ثمة فقط ما هو جزئي ونسبي ومنسيّ وهامشي، ثمة ما هو لا مُفكّر فيه. لقد اكتشف الإنسان أنه لا ليعرف شيئا، لا يعرف حتي نفسه في الوقت الذي كان يتوهم أنه مصدر المعرفة باعتباره كائنا واعيا ومفكرا. إنّه السبات الأنثروبولوجي الملازم، في نظر فوكو، للنزعة الإنسانية. ولذلك فهو يرى أنّه من الضروري تنبيه الفكر من سباته ليفكر في ذاته وفي العالم ولكن خارج نطاق الكلي الإنساني. لقد أكد فوكو على أن نهاية الإنثروبولوجيا تمثّل تتويجا أو تتمّة لنهاية اللاهوت. يقول في "الكلمات والأشياء" :« ربما كان علينا أن نرى في تجربة نيتشه أول سعي لهذا الإقتلاع لجذور الأنثروبولوجيا الذي كرّس الفكر الحديث ذاته لإنجازه: فعبر نقد لغوي فقهي، ونوع من النزعة البيولوجية biologisme وصل نيتشه إلى النقطة التي عندها يمتلك الإنسان والله بعضهما، حيث يكون موت الأول مرادفا لزوال الثاني، وحيث إن الوعد بالإنسان الأسمى يعني أولا وقبل كل شيء حتمية موت الإنسان الوشيك. بهذا فإن نيتشه عندما يطرح علينا هذا المستقبل كاستحقاق وكمهمة في آن معا، إنما هو يعيّن بذلك العتبة التي يمكن منها للفلسفة المعاصرة أن تستأنف التفكير، وسيبقى نيتشه بلا ريب مشرفا من علٍ على مسيرتها إلى أمد بعيد. ولئن كان اكتشاف العودة يعتبر عن حق نهاية الفلسفة، فنهاية الإنسان هي بدورها عودة بداية الفلسفة. فلم يعد يمكن اليوم التفكير إلاّ داخل الفراغ الذي يتركه وراءه الإنسان المندثر. ذلك أن هذا الفراغ لا يشكل نقصا. فليس هو أكثر أو أقل من إعادة انتشار لفُسحة يتسنّى فيها التفكير مجدّدا» . هل يعني هذا انه لا سبيل إلى التفكير في الكلّي؟ لئن أكد فوكو على أهمية الهامشي والمنسيّ واللاّمفكّر فيه بالنسبة للتفكير الذي يريد أن يكون متحرّرا هيمنة الميتافيزيقا والأنثروبولوجيا، فإنه يحق لنا أن نسأل عمّا إذا كان بالإمكان حقا التفكير خارج نطاق الكلّي؟ فما قيمة فكر يتقيّد، من جهة منطلقاته ومن جهة رهاناته، بالنسبيّ والجزئيّ؟ كيف لنا أن نفكر في الإنسان كفرد يعي ذاته وعالمه وكمجموعة ذات خصوصيّات إذا لم تكن لدينا فكرة عن الإنسان يمكن أن تتحوّل إلى مفهوم يسمح بفهم ماهو جزئيّ ونسبيّ في الوجود الإنساني؟ نستطيع في هذا السياق أن نجد جوابا عن هذه الأسئلة لدى هيجل. أكد هيجل على أنه يتوجب علينا « ألاّ نخلط بين الكلّي الحقيقي وبين ما هو مجرّد شيء عام او شائع مشترك. إنّ الكلّي في معناه الحقيقي الشامل هو الفكر الذي وصل إلى الوعي البشري على ما نعلم بعد آلاف من السنين » . كي نفهم، على سبيل المثال، أنّ للإنسان الفرد حقوقا وكرامة فإنه يتوجّب علينا أن نتصوّر الإنسان "في كلّيته ولا تناهيه" كما يقول هيجل نفسه. ومعنى ذلك مفهوم الحقّ أو الكرامة لا ينطبقان على فرد بعينه بل على كل الناس من حيث هم أفرادا ومن حيث أنهم ينتمون إلى النوع الإنساني. هكذا تكون الكلّية هي مبدأ الفكر ومبدأ الشخصيّة من حيث هي موضوع للفكر . لنعد إلى الى سؤال طرحناه أعلاه وهو: هل يتمثل الكلّي في الكرامة الإنسانية؟ هنا علينا البحث عن تحديد متّفق عليه، أو يمكن أن يكون محل اتفاق، لمعنى الكرامة الإنسانية. هل نعني توفر الخيرات الضرورية اللازمة للبقاء أم نقصد سلامة الشخص الجسديّة أم المقصود هو احترام حقوق الإنسان الأساسية؟ يقول لنا كانط في هذا السياق إن للإنسان كرامة أي أن له قيمة في حدّ ذاته باعتباره غاية و ينتمي إلى مملكة الغايات. الكرامة الإنسانية تمثل إذن مبدأ كليّا يسمح بفهم استقلالية الإنسان،وهي استقلالية تتحقق من جهة القدرة على تشريع القانون الأخلاقي و من جهة طاعة ذلك القانون. تعني الكرامة أن للإنسان حقوقا وفي نفس الوقت عليه الخضوع للواجب الأخلاقي: « لكل شيء في مملكة الغايات ثمن أو كرامة. فما له ثمن من الممكن أن يُستبدل بشيء آخر مكافىء له، أما ما يعلو على كل ثمن، وما لا يسمح تبعا لذلك بأن يكافئه شيء، فإن له كرامة... ما يؤلف الشرط الذي لا غنى عنه لكي يصبح شيء من الأشياء غاية في ذاته، فليست له قيمة نسبية فحسب أي ليس له ثمن، بل إن له قيمة باطنية أي كرامة. الأخلاقية هي الشرط الوحيد الذي يجعل الكائن العاقل غاية في ذاته» . لا شك أننا اليوم في أمس الحاجة إلى التمسك بمبدإ الكرامة الإنسانية والدفاع عنها ضدّ كل النزعات النسبويّة والشكيّة والعدميّة. نحن نرى اليوم أشكالا جديدة من البربرية، من امتهان الإنسان واستلابه واحتقاره، ربما لم يعرف لها التاريخ مثيلا، ولذلك لا يمكننا أن نتجاهل انتهاكات حقوق الإنسان والجرائم البشعة ضدّ الإنسانية بحجة النسبيّة الأخلاقيّة وتعدديّة القيم. إذا كان للفكر من قيمة فإنها تتحدد بمدى اعتباره واحترامه للإنسان لا بتجاهله أو تناسيه أو الإحتفاء بموته.
#منوبي_غبّاش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإشتراكية والمجتمع المدني الديمقراطي
-
ليبرالية سياسية أم عدالة اجتماعية
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|