شاءت لى الظروف أن أحضر الدورة التدريبية الأولى فى البرنامج الأوروبى المتوسطى لحقوق الإنسان ، والتى نظمتها كل من المنظمة المصرية لحقوق الإنسان والفيدرالية الأوربية لحقوق الإنسان ، وذلك فى الفترة من 4إلى 10مايو بالقاهرة عام 1997. حيث أثيرت قضية الخصوصية فى حقوق الإنسان عبر العديد من محاضرات ومداخلات الدورة ، والتى تناولت الإعلان الإسلامى لحقوق الإنسان ، وقضايا المرأة فى ظل الخصوصية المصرية وغيرها من المداخلات..وقد ذكرنى هذا بما جرى من مناقشات حامية فى لجنة الدفاع عن حرية الفكر و الاعتقاد التى شاركت فى تأسيسها على أثر قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد ، حيث ثارت الخلافات حول الخصوصية المصرية وعلاقتها بالحق الإنسانى فى حرية الفكر والاعتقاد والتعبير . فقد تمترس البعض وراء ما أسموه بالخصوصية المصرية المتميزة بالتسامح فى مواجهة الحركة الأصولية الإسلامية التى ترفع راية خصوصية أخرى هى الخصوصية الإسلامية وبين الخصوصيتين ضاعت قضية حقوق الإنسان ذات الطابع العالمى .
فقد صاغ أستاذ جامعى مثقف ويسارى ومدافع نشط عن كل من حقوق الإنسان والثقافة القومية مشروع البيان التأسيسى للجنة ، والذى حفل بالكثير من تعبيرات الاستعلاء بالخصوصية المصرية على ما أسماه بالغزو الخليجى للعقل المصرى ، ولما وجهت انتقادات حادة إلى هذا المشروع ، منها أن عباراته تحمل طابع شوفينى يتعارض وجوهر حقوق الإنسان ، انبرت إحدى عضوات اللجنة وهى مخرجة سينمائية ومناضلة يسارية ومثقفة للدفاع عن الشوفينية وتساءلت فى براءة " وهل الشوفينية عيب ؟ "وصرحت أنها شوفينية بالمعنى الإيجابى للكلمة !.و الحقيقة أن الاثنان أبناء تيار سياسى و فكرى ساذج يسعى لمقاومة الأصولية الإسلامية بالدعوة للقومية المصرية وإحياء الحضارة والثقافة المصرية القديمة بدرجات متفاوتة للطرح ما بين التطرف والاعتدال ، لذلك فبعض أبناء هذا التيار يدعو لإحياء اللغة المصرية القديمة أو اعتبار اللهجة المصرية لغة قائمة بذاتها ، شأنهم فى ذلك شأن حزب الكتائب الفاشى اللبنانى الذى كان يدعو للقومية الفينيقية . وتكمن السذاجة فى تغافلهم عن أن الثقافة الإسلامية والعربية هى الأكثر تقدما ، و التى مازالت حية وبقوة عكس الثقافة الميتة الذين يودون لو بعثت مرة أخرى للحياة كى تساعدهم فى مواجهة الأصولية الإسلامية، وذلك لعجزهم على مقاومة فعالة وتقدمية ونقدية وواقعية للأصولية الإسلامية والقومية العربية على السواء .
وهكذا فإذا كانت هناك قطاعات متزايدة من النخبة المستنيرة الإيجابية على ضآلتها فى المجتمع ، والمدافعة عن حقوق الإنسان تمتلئ عقولها ويحفل خطابها بهذا القدر من التشوش والتناقض ، فهل يمكن أن يزعم أحد بوجود حركة حقيقية لحقوق الإنسان فى بلادنا المنكوبة بطلائعها المثقفة قبل أن تكون منكوبة بحكامها ، تلك الطلائع التى كانت فى غالبها تمارس وظيفتها الاجتماعية فى تدشين وتبرير وتلميع استبداد هؤلاء الحكام الذين يجسدون أفكارهم ، وما دفاعهم التكتيكى أحيانا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان إلا لمعارضة بعضهم لبعض الحكام الذين لا يجسدون تلك الأفكار ؟ ألا يحتاج الأمر لمواجهة ما ليس فحسب للقوى الفاشية وشبة الفاشية الصريحة التى خربت مستقبل المنطقة العربية ، بل وقوى الفاشية المستترة وراء أقنعة الاستنارة والديمقراطية وحقوق الإنسان .
فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية ، كانت حقوق الإنسان و واجباته تتحدد فقط وفق موقعه فى البنية الاجتماعية التى ينتمى إليها ، عضويته فى قبيلة أو عشيرة ، تبعيته لسلطة ما ، انتماؤه لطائفة حرفية أو تجارية ، موقعه فى علاقات السلطة داخل الأسرة أو الدولة ، وظيفته داخل المجتمع . إلا أن هذه الحقوق التى يتمتع بها الإنسان لم يكن معترفا بها على النطاق الإنسانى العام المتجاوز للبنية الاجتماعية التى ينتمى إليها هذا الإنسان فحقوق الملك فى بلاده وعلى رعاياه لا يعترف بها رعايا البلاد الأخرى التى لا تراع حقوق الملك ، وحقوق عضو القبيلة فى قبيلته لا تحترمها القبائل الأخرى وهكذا . إلا أن ثقافات ما قبل الرأسمالية وبصرف النظر عن ما كان يمارس فعليا فى الواقع ، ذخرت بمفاهيم أخلاقية ومثل عليا و إنسانية عامة عن العدالة والمساواة والحرية ، إلا أنها لم تتجاوز إلا فيما ندر أفكار مبدعيها .
ومع بدء الحضارة الرأسمالية التى انطلقت من غرب أوروبا لتسود العالم بأسره . و بسبب الميل الغريزى للرأسمالية للتوسع المستمر ،تعولم المجتمع البشرى ليزيح يوما بعد يوم تلك الخصوصيات القديمة التى تنتمى لحضارات تجاوزها التاريخ البشرى ، ولذلك ففى إطار الثورات البورجوازية طرح مفهوم الإنسان المجرد أى باعتباره إنسانا وبصرف النظر عن انتماءاته المختلفة وعن الموقع الاجتماعى الذى يشغله .
وإزاء هذا المفهوم الليبرالى وجه نقدان :ـ الأول وجهته الماركسية و رأت أن مفهوم الإنسان المجرد المنفصل عن موقعه الاجتماعى مفهوم غير صحيح ، فما معنى حق التعبير لمن لا يملكون وسائل التعبير ، وما معنى حق الترشيح لمن لا يملكون الوقت والمال لممارسة هذا الحق ، ومن هنا حددت الماركسية أن التمتع الفعلى بحقوق الإنسان لن يكون إلا فى بنية اجتماعية مختلفة تخلو من الملكية الخاصة والقهر والاستغلال وكافة الفوارق الطبقية بين البشر .
أما النقد الثانى فقد أتى من القوى المحافظة التى تستند على الخصوصية الجماعية ، دينية أو حضارية أو ثقافية أو قومية لتمنع أو تقيد بعض أو كل تلك الحقوق الإنسانية العامة التى تطورت لتشمل حقوقا سياسية ومدنية وثقافية واجتماعية واقتصادية يتعارض الإقرار بها مع مصالح و رؤى اجتماعية معينة تعبر عنها تلك القوى . فالخصوصية الاجتماعية هى دائما أساس كل الحركات السياسية والاجتماعية ذات الطابع الاستبدادى المنافى لجوهر حقوق الإنسان فهى تهدف باسم التحدث بلسان المنتمين للخصوصية المزعومة إلى انتهاك أو تقييد بعض أو كل حقوق البشر الذين لا يتمتعون بالانتساب لتلك الخصوصية الجماعية.
فباسم الخصوصية اليهودية، وعلى مرأى من العالم كله تنتهك حقوق العرب ،ويذبح الشعب الفلسطينى وتنتهك حريته على مدى قرن من الزمن ، وتسرق أرضه ، وتستباح حقوقه . وباسم الخصوصية الإسلامية يحرم غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية من بعض أو كل حقوقهم الإنسانية ومن الحرية والمساواة مع الأغلبية المسلمة فى الحقوق والواجبات. وباسم الخصوصية المسيحية يحرم المسيحيين من الحق فى الطلاق والمرأة من الحق فى الإجهاض . وباسم العشيرة والقبيلة والأمة والقومية والثقافة والعنصر والعرق واللون والدين والجنس واللغة على وجه العموم ، أرتكب البشر وعبر تاريخهم شتى الجرائم والحماقات والشرور التى أهدرت الأنفس وحصدت البشر ودمرت الموارد والإمكانيات البشرية والطبيعية ، و أهدرت فرص التقدم والازدهار ، فى حروب وصراعات دفعت لها المصالح الضيقة للنخب الحاكمة والسائدة والمسيطرة على الثروة ، وغذتها أفكار التعصب ونفى الآخر وأوهام التفوق والذاتية الجماعية والمشاعر الرومانسية الفارغة ، ودفع الثمن دائما الغالبية المحكومة والمخدوعة التى لا ناقة لها و لا جمل فيما يحدث سوى أنها وقود الصراع الذى تتورط فيه عن رضاء أو قهر .
وفى اعتقادى أن الخصوصية الجماعية أيا كانت قومية أم حضارية أم دينية هى قضية زائفة من ثلاث أوجه أولهما أن هذه الخصوصية الجماعية هى تقديرية ومفترضة إذ لا تعبر عن واقع فعلى وملموس فأى جماعة مهما اتسم أفرادها بانتماءات مشتركة تحدد خصوصياتهم الجماعية ، فأن هؤلاء الأفراد لم يختاروا هذه السمات التى فرضت عليهم من جهة ، ومن جهة أخرى أن هؤلاء الأفراد لا يتماثلون ولا يتطابقون إذ أن كل منهم يحتفظ بخصوصيته وفرديته التى تتمايز عن الآخرين ، وهى الخصوصية الوحيدة الحقيقية و الواقعية .
أما الوجه الثانى الزائف لقضية الخصوصية الجماعية فهو أن الخصوصية مفهوم تاريخى لا يعبر عن جوهر خالد ما ، فالمجتمعات البشرية وما تتميز به من خصوصيات عرضة باستمرار للتطور والتغير والتأثر بالمجتمعات الأخرى ومن ثم فلا قداسة لخصوصية ما.
أما الوجه الزائف الثالث فهو أننا فى العالم المعاصر وفى كل المجتمعات البشرية نعرف ظاهرة التعدد و التجاور الثقافى داخل كل مجتمع ، فالحضارة الرأسمالية تفرض الكوكبية باستمرار ، وتزيح الخصوصيات الجماعية جانبا لتفرض ثقافة عالمية جديدة لا يجب تجاوزها بإحياء أو المحافظة على تلك الخصوصيات المحلية ، وإنما بتجاوزها لثقافة أخرى أكثر رقيا وتقدما .
إلا أننا فى النهاية لابد وأن نعترف بحقيقة الخصوصيات الجماعية من جهة تأثيرها الاجتماعى والسياسى . إلا أن هذا الاعتراف لا يعنى الاحترام والتقديس والتثبيت .
فالمجتمعات البشرية لا تتغير إلا بنقد ما هو كائن إلى ما ينبغى أن يكون والموقف الصحيح لا يبدأ إلا بالنقد ومن ثم الرفض والتجاوز .
إن الرضوخ للخصوصية الجماعية حتى مع الاعتراف بحقيقتها لا يعنى إلا المحافظة على الأوضاع الجائرة ، واستمرار انتهاك الحقوق الإنسانية للبشر ، وذاك الاحترام لا يعنى التحرير بأى معنى ،و إنما يعنى العبودية للمنقول والتراث ، و باسمه ..