المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
الحوار المتمدن-العدد: 1084 - 2005 / 1 / 20 - 10:36
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تقرير خاص
دمشق ، 19 كانون الثاني / يناير 2005
أصدر الرئيس السوري بشار الأسد في الحادي عشر من الشهر الجاري مرسوما يقضي بتعيين اللواء محمد منصورة رئيسا لشعبة الأمن السياسي في وزارة الداخلية ، خلفا للواء غازي كنعان الذي أصبح على رأس هذه الوزارة في حكومة عبد الغني العطري الراهنة . فمن هو محمد منصورة الذي يصنفه نزار نيوف بأنه " أحد الصحابة البعثيين العشرة المبشرين بجنة حافظ الأسد "(*) ، والذي يلقبه أبناء منطقة الجزيرة السورية باسم " أبو جاسم " رغم أنه لم يتزوج وليس له أولاد ؟ وما هي دلالات ومغازي تعيينه في هذا الموقع على الصعيد الداخلي والإقليمي ؟
ينحدر محمد منصورة من قرية " عين قبيّة " ، التي أصبحت في الوقت الراهن مجرد حي من أحياء ناحية " حمّام القراحلة" التابعة لمنطقة جبلة . وقد ولد في العام (1950 ) لوالده الشيخ أحمد منصورة الذي يعتبر أحد الرموز الدينية والاجتماعية لعشيرة " القراحلة " ( عشيرة آل الأسد ، أو فخذ منها ) في منطقة ريف جبلة . ومن اللافت أن جميع إخوته تقريبا ( مهندس الكهرباء ،علي ، البالغ من العمر 45 عاما ، والذي عين قبل بضعة أيام محافظا لمدينة السويداء ـ حاضرة جبل العرب في جنوب سورية ، والمهندس سهيل ـ 43 عاما ، والمهندس عدنان 42 عاما ) محسوبون ، فكريا ، على تيار صلاح جديد في حزب البعث ، وكانت لهم علاقات صداقة وطيدة (غير تنظيمية ) مع حزب العمل الشيوعي وحزب البعث الديمقراطي ( تيار صلاح جديد ) . كما أنهم يتمتعون بسمعة طيبة لجهة النزاهة ، على الأقل حتى قبل سنوات قليلة . ويشار إلى أن المهندس عدنان كان ذهب إلى منطقة الجزيرة السورية مؤخرا لتسلم منصب هام في إحدى مؤسسات الدولة هناك ، إلا أن شقيقه اللواء محمد منعه من ذلك وأعاده إلى محافظة اللاذقية بدعوى " أن كل من يأتي إلى هذه المنطقة للعمل في مؤسسات الدولة ، سرعان ما يتلوث . وسيقول الجميع أنك لم تأت إلى هنا إلا لتستفيد من موقع أخيك ( اللواء محمد )..." !! وبغض النظر عن دقة الرواية ، فإنه نادرا ما نظر إلى اللواء محمد منصورة كفاسد ، ولو أن أبناء الجزيرة السورية ، التي خدم فيها حوالي ربع قرن رئيسا لفرع المخابرات العسكرية ، يتحدثون عن تورطه في عمليات فساد تتعلق بالأراضي الزراعية وبحصوله على " ريع وظيفي Position Rent " كبير جراء استخدام نفوذه في هذا المجال .
عمل محمد منصورة رئيسا لفرع المخابرات العسكرية في منطقة الجزيرة السورية ( ومركزه في مدينة القامشلي ) لحوالي ربع قرن ، أي منذ أواخر السبعينيات الماضية ، وحتى نقله إلى الفرع 235 ( فرع فلسطين ) بدمشق ليخدم حوالي عامين رئيسا للفرع المذكور خلفا للواء مصطفى التاجر ، ثم لينقل مرة أخرى ، لكن خارج ملاك شعبة المخابرات العسكرية . وقد تزامن نقله هذا من الفرع المذكور ومن شعبة المخابرات العسكرية مع نقل اللواء غازي كنعان الذي عين رئيسا للشعبة السياسية في وزارة الداخلية ، والذي كان حريصا على أن " يأتي" بمحمد منصورة معه ليكون نائبه في هذه الشعبة ، باعتباره " أحد أعضاء فريقه أو مجموعته داخل المخابرات العسكرية على مدى عقدين من الزمن" . وحين تم تعيين كنعان وزيرا للداخلية ، كلف منصورة برئاسة الشعبة السياسية حتى الحادي عشر من الشهر الجاري ، حيث أصبح رئيسا فعليا لها بموجب مرسوم جمهوري .
سمحت له خدمته الطويلة ( ربع قرن) كرئيس لـ " فرع مخابرات الجزيرة العسكري " ، وخطورة الملفات التي أنيطت به المسؤولية عنها ، أن يكون " الحاكم المطلق " لمنطقة الجزيرة السورية التي تعتبر عماد الاقتصاد السوري ( نفطا وزراعة ) ، وأن يكون على تماس مع ثلاثة ملفات طالما أرّقت النظام السوري خلال العقود الماضية ، وكانت على رأس جدول اهتماماته الأمنية والسياسية ، لا سيما من حيث صلتها بقضايا داخلية وانعكاسها ـ بالتالي ـ عليها . وهي : ملف القضية الكردية بأبعادها وامتداداتها الجغرافية الثلاثة ( السورية والعراقية والتركية ) ، ولا سيما لجهة ما يتصل بحزب العمال الكردستاني ؛ و ملف " العراق والمعارضة العراقية " ، قبل سقوط نظام حسين ؛ و ملف " استكمال عملية تعريب منطقة الجزيرة " . ومما لا شك فيه أنه أصبح مرجعية لا ترد كلمتها من قبل " مكتب الأمن القومي " والقيادة السياسية في هذه الملفات ، بمقدار ما كان غازي كنعان مرجعية في مجال " الملف اللبناني" و المنظمات الإرهابية التي كانت تمارس إرهابها انطلاقا من بلد الأرز ، بأوامر كنعان المباشرة أو بغضّ نظره .
وبخلاف ما كان عليه وضع شعبة المخابرات العسكرية خلال الفترة الممتدة منذ مجيء علي دوبا إلى قيادتها في العام 1974 ، وحتى تسريحه مطلع العام 2000 بتهمة غير معلنة ( تهريب النفط العراقي ـ السوري وبيعه إلى مصفاة حيفا الإسرائيلية ) ، حيث كانت " الجهة المسؤولة عن الأمن الداخلي " في سورية وصاحبة القول الفصل فيه ، يبدو أن فرع هذه الشعبة في منطقة الجزيرة ( بقيادة منصورة ) كلف بمهام أكثر تعقيدا ، تتصل بإدارة الملفات المشار إليها ، بعيدا عن القمع اليومي المباشر بمعناه " التقليدي " الذي أنيط في هذه المحافظة بإدارة المخابرات العامة ( أمن الدولة ) . ولعل هذا ما يفسر أن غالبية المعتقلين السياسيين في منطقة الجزيرة ، خلال الفترة المذكورة ، اعتقلوا من قبل هذا الجهاز الأخير. وبتعبير موجز يمكن القول إن المهمة التي أوكلت لمنصورة كانت ، فيما يتعلق بالقضية الكردية ، إدارة حرب حزب العمال الكردستاني ضد تركيا ، وتوفير الدعم اللوجستي لهذه الحرب ، وكل ما يتصل بتحركات الحزب المذكور في مثلث " الشمال العراقي ـ سورية ـ تركيا " ، قبل أن يصبح الحزب مطلوبا Wanted بعد اتفاق أضنة الأمني السري الموقع بين سورية وتركيا في تشرين الأول / أكتوبر 1988 إثر تهديد تركيا باجتياح الشمال السوري . ولا بد من الإشارة هنا إلى أن رجلا آخر كان يقاسم محمد منصورة مسؤولية الإشراف على الملف الكردي ولو جزئيا، وبشكل خاص ما يتصل بحزب العمال الكردستاني . ونعني اللواء مصطفى التاجر ، الضابط الأكثر دموية في تاريخ شعبة المخابرات العسكرية ، ونائب رئيس الشعبة حين تمت " تصفيته مسموما بمادة الأكونتين في مزرعته بمنطقة المنصورة شرقي حلب في آب / أغسطس 2003 ، بسبب إفشائه معلومات لوكالة المخابرات الأميركية عن وجود أموال صدام في سورية " ، وفق ما أشارت إليه معلومات حصل عليها " المجلس" ونشرها في حينه ، وتم الرد عليها بالنفي من قبل " مصدر رسمي " سوري ، مع القول بأنه " مات لأسباب تتصل بتدهور وضعه الصحي " . وينسب إلى مصطفى التاجر الدور الرئيسي في عملية " تسليم " عبد الله أوجلان إلى المخابرات التركية حين " أرسل لهم صورة عن جواز سفره السوري ، الذي يحمل اسما مستعارا، فتمكنوا من متابعة حركته بين موسكو وإيطاليا وكينيا حيث اعتقل " . وقد بدأت علاقة مصطفى التاجر بالملف الكردي كـ " ضابط اتصال" مع المخابرات التركية منذ أن كان رئيسا لفرع المخابرات العسكرية في حلب إبان الثمانينيات ، حيث كانت اجتماعاته بالأتراك تتم في مزرعته التي يملكها في المنصورة شرقي المدينة المذكورة. إلا أنه ، وفق مصادر متطابقة ، كان على خلاف مع " التيار الآخر " في المخابرات العسكرية الذي مثله كنعان ومنصورة واللواء علي يونس رئيس فرع الضباط في الشعبة نفسها .
عمل محمد منصورة ، فيما يتعلق بالملف الكردي الداخلي ، على استكمال تنفيذ مشروع محمد طلب هلال العنصري لتعريب منطقة الجزيرة السورية ، الذي وضع أواسط الستينيات . وفي هذا الإطار قام بتشجيع هجرة عشرات الألوف من مواطني الساحل السوري إلى المنطقة ، سواء بشكل مؤقت أو دائم ، أغلبيتهم الساحقة من المعلمين والمدرسين والموظفين . وقد استخدم نفوذه كحاكم مطلق للمحافظة من أجل منح هؤلاء " المهاجرين " مواقع وظيفية عالية في سلك الدولة المدني والأمني ، فضلا عن إقطاعهم مساحات واسعة من أراضي الدولة ، أو مساعدتهم على استئجار الأراضي هناك واستخدام إمكانيات محطات المكننة الزراعية التابعة للحكومة واتحاد الفلاحين ( بذار، أسمدة ، آلات زراعية ..) لصالحهم الخاص . هذا فضلا عن القروض التي يقدمها المصرف الزراعي بشروط ميسرة . ويسجل أن فروع المصارف الزراعية شهدت أكبر عملية نهب " قانوني" منظم في " عهد" محمد منصورة . وقد نشرت صحيفة "تشرين " الرسمية تحقيقات جريئة أواسط وأواخر التسعينيات الماضية حول عملية النهب هذه التي بلغت مليارات الليرات السورية . وكثيرا ما يشار إلى أن هذه المصارف تم " تكنيسها بالمقشة ، بحيث لم يبق فيها حتى الفئران " !!
وفي إطار عملية التعريب أيضا ، يشار إلى أن اللواء منصورة استكمل عملية تعريب أسماء العشرات من القرى الكردية والسريانية ـ الآشورية التي حملت أسماءها منذ آلاف السنين . وعمد إلى مدّ العرب المستجلبين من منطقة غمر مشروع سد الفرات بكل الدعم الذي مكنهم من احتلال أراضي الفلاحين الأكراد .
أما على صعيد الملف الكردي في بعده " العراقي ـ التركي " ، فترتبط باسم محمد منصورة عملية الإشراف المباشر على دعم حزب العمال الكردستاني في حربه ضد الحكومة التركية ، وتوفير قاعدة لوجستية كبيرة له في المؤخرة ، فضلا عن دعم المعارضة الكردية العراقية (سابقا) في مواجهة نظام صدام المخلوع . وفي هذا الإطار يشار إلى أن اللواء منصورة كان وراء إنشاء العديد من المعسكرات ومخيمات اللجوء التابعة للقوى المذكورة ، ولآلاف العراقيين الذين هربوا من جحيم النظام العراقي واتخذوا من منطقة الجزيرة السورية محطة على طريق هربهم إلى باقي أنحاء سورية أو خارجها . وقد لعب دورا محوريا في إدارة " الصراع المخابراتي " بين النظامين السوري والعراقي إبان عقد الثمانينيات الماضية. ويحتفظ اللواء منصورة بعلاقة وثيقة مع العشرات من رموز المعارضة العراقية السابقة التي يعتبرها النظام السوري " رصيدا سياسيا " له إذا ما أراد تطبيع علاقته مع القيادة العراقية الجديدة التي تضم قسما كبيرا من هؤلاء .
ولكن إلى مدى يمكن اعتبار مجيء منصورة إلى قيادة الشعبة السياسية " مؤشرا معياريا" للحديث عن " توجهات أمنية وسياسية جديدة أو إصلاحية" على الصعيد الداخلي والإقليمي !؟
يطيب للكثيرين ، سواء في أوساط المعارضة السورية والصحفيين ، العرب منهم والأجانب ، التوقف دوما عند استبدال هذا المسؤول الأمني أو ذاك في سورية للحديث عن " تغيرات وانفراجات وتوجهات إصلاحية جديدة " ! ويصل الأمر ببعض هؤلاء إلى حد " الدروشة " أحيانا ، حيث بناء جبال من الأوهام والسيناريوهات الوردية على إجراءات " إدارية " من هذ النوع . وهذا ما لاحظه الجميع مثلا حين أنيطت وزارة الداخلية باللواء غازي كنعان . حيث بدأ بعض أوساط المعارضة ( ولو بشكل محدود ) والعديد من الصحفيين ببث العديد من الإشاعات (بعضها بأقلام مأجورة ، وأكثرها بذهنيات مخمورة !!) عن الإجراءات " الإصلاحية " التي يقوم بها الجنرال كنعان . ولم يخطر ببال هؤلاء ـ مثلا ـ أن تعيين كنعان وزيرا للداخلية يمكن أن يكون رسالة للإدارة الأميركية ( وبعض المعطيات تقول بإملاء منها ) ، نظرا لعلاقته الوثيقة بالأجهزة الأمنية الأميركية ، حيث كثيرا ما كان " ملاذها" الوحيد لحل هذه المعضلة الإرهابية أو تلك فيما يتصل بالساحة اللبنانية وما يتفرع عنها . هذا وإن كانت الإدارة الأميركية قد قلبت ظهر المجن لكنعان في الآونة الأخيرة بسبب اكتشافها ضلوعه ( وفق ما تقول مصادر واشنطن) بعمليات تهريب أموال صدام إلى سورية ولبنان ( بنك المدينة ) ، ووقوفه وراء كريم بقرادوني واللواء جميل السيد والنائب إيميل إيميل لحود و رينيه كعدو معوض ورنا قليلات في عملية التهريب تلك قبيل سقوط النظام العراقي بعدة أسابيع ، وإدارة هذه الأموال لاحقا لتمويل عمليات فلول النظام العراقي !؟ وفيما يتعلق بتعيين منصورة رئيسا للشعبة السياسية ، فلم تكن الأوهام والإشاعات أقل حضورا ، رغم أنه لم يمض سوى عدة أيام على التعيين ، ولو أنه مارس المهمة بالوكالة منذ عدة أشهر .
صحيح أن " التاريخ الأمني " للواء منصورة لم يتلوث بالدم كتاريخ زملائه ( ونحن نتحدث هنا بالمعايير النسبية) ، وكان في كثير من الأحيان " عامل تهدئة " و " مفتاح حل" للعديد من القضايا الأمنية والسياسية الداخلية ، كما حصل إبان الهبة الشعبية الكردية ربيع العام الماضي ، إلا أن سلوك أي رجل أمن في البلدان التي تحكمها الأنظمة الشمولية هو تكثيف لسلوك النظام ، ولو "أن الأسلوب هو الرجل " ، ولكل رجل بصمته الخاصة كما يقال . ولا يغير من هذه الحقيقة شيئا عملية " عسكرة " الأجهزة الأمنية السورية خلال السنوات الثلاث الأخيرة ، حيث تم تطعيم المخابرات العامة والشعبة السياسية بجنرالات من المخابرات العسكرية ، أغلبيتهم من ذوي التاريخ الدموي المرعب ، كاللواء هشام بختيار واللواء غازي كنعان .
إن تعيين منصورة في قيادة الشعبة السياسية يرتبط بتوجهات و " هموم " إقليمية للنظام ( وتحديدا في العراق ) ، أكثر مما يرتبط بالداخل السوري . وفي القضايا الإقليمية ( والداخلية أيضا) غالبا ما كان شعار النظام وسلوكه يقولان " أخياركم في جاهلية البعث .. أخياركم في ما بعده " ، أو " قرشك الأبيض لا ينفعك غيره في يومك الأسود " !
مصادر التقرير :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـ نزار نيوف : دفاتر السجن ، الدفتر الثاني ( العشرة المبشرون بجنة حافظ الأسد ) ، مخطوط ، سجن المزة العسكري ، 1999 .
ـ تقرير محدود التداول من إعداد وحدة الاستخبارات في السفارتين الأميركيتين بدمشق وبيروت بعنوان :
The Emperors and Barons of Narcotic Traffic in the Middle East, Washington DC , 1996 ( أباطرة وبارونات تجارة المخدرات في الشرق الأوسط ، واشنطن 1996 ) .
#المجلس_الوطني_للحقيقة_والعدالة_والمصالحة_في_سورية (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟