رمضان عيسى
الحوار المتمدن-العدد: 3677 - 2012 / 3 / 24 - 00:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
اٍن أبسط تعريف للفلسفة هو " حب الحكمة " ، حب المعرفة , هي حب معرفة الحقيقة .الفلسفة هي نشاط عقلي انساني هادف الى معرفة الحقيقة , هي حالة الرغبة للمعرفة التي تثيرها حالة الاندهاش والتساؤل التي تصيب الانسان من ملاحظته للظواهر الكونية والطبيعة والمجتمع والانسان والعضويات النباتية والحيوانية .
ومن يدرس الفلسفة تنمو لديه فكرة البحث وتتوسع بصيرته وتقوى لديه المقدرة على الفهم وسبر غور ما يمر به من أحداث يومية ، وما يدور في العالم المحيط به .
ولكن هل من الممكن أن يتكون لدى جميع الناس فلسفة واحدة وحيدة لتفسير ما يجري حولهم من أحداث ؟ بالطبع ، لا .
ولما كانت الفلسفة مجمل لأفكار وخبرات تتراكم من خلال تفاعل الناس مع الطبيعة ومع بعضهم البعض , ونتيجة لهذا التفاعل تتكون عنها مفاهيم في أدمغة الناس ، ولما كان الناس يختلفون في مستوياتهم الاقتصادية , فانهم حتما سيختلفون في الطرق والوسائل التي يحصلون فيها على الغذاء ،وهذا التمايز الاجتماعي لا بد أن يخلق فئات اجتماعية ، طبقات اجتماعية ، تختلف في مصالحها عن بعضها البعض ، لهذا كان من الطبيعي ظهور آراء وفلسفات مختلفة في المنطلق ، وفي النتائج . وكل طبقة اجتماعية تحاول تسييد مفاهيمها عن الحياة وطريقتها في تنظيم المجتمع .
ولما كانت الحقيقة هي أفكارنا ، فهمنا لما يجري في الواقع ، ولما كان هناك اختلاف بين الناس في فهم الواقع ومجريات الأحداث حولهم ، اذا لابد من وجود اختلافات فيما يحمله الناس من أفكار ونظرات عن الواقع في عقولهم ، أي في نظرتهم الفلسفية للحياة .
والآن ، لابد من السؤال : هل من الممكن أن تتكون لدى جميع الناس نظرة صحيحة ، نظرة علمية لمجريات الأحداث ومسبباتها الواقعية ؟ بالطبع , لا ، وذلك لأن لكل طبقة مصالحها وتتبنى من الأفكار ما يخدم هذه المصالح ويدافع عنها ، وبالتالي نرى في المجتمع خليطا من النظرات ، خليطا من الفلسفات ، منها من يكون أقرب الى الواقع ، الى العلم في تفسيره للأحداث الدائرة حولنا ومنها ما هو أبعد في تفاسيره عن الواقع ، عن العلم ، عن التجربة المعاشة ، بل الأقرب الى الخيال، الى الخرافة ، الى الميثولوجيا الاٍجتماعية ، أقرب الى التفسيرات الشعبوية ليس للأحداث الاجتماعية ، بل وحتى الأحداث الطبيعية الصرفة ، مثل كسوف الشمس وخسوف القمر ، ومسببات الأعاصير والزلازل والبراكين والحرائق .
ان التفسير والفهم الفلسفي العلمي ينطلق من الواقع ويساير العلم والمكتشفات العلمية لكى تكون حية وحيوية في استيعابها لكل جديد ومتطور في جميع جوانب الحياة المادية والفكرية .
ان العلوم ، الأحياء ، الفيزياء ، الجيولوجيا ، والفلك ، وفروع الطب وغيرها تتخصص في دراسة وفهم وتفسير قسم من الظاهرات في العالم ، كل في مجاله . أما الفلسفة فهي شمولية في دراستها للظاهرات ، وتعتمد على المنجزات العلمية في تدعيم تفسيراتها لما يدور في الكون من أحداث وظاهرات ، لهذا فان الفلسفة لا تستطيع الاٍستغناء عن منجزات العلوم الأخرى ، والفلسفة من هذا الطراز ، أي التي ترتكز على العلم ، هي الفلسفة التي يسعى الناس لامتلاكها ومعرفتها ودراستها .
من هنا أصبح معنى الفلسفة في هذا العصر هي النظرة الشاملة لما يجري من تغيرات على الموجودات المادية والعضوية والاٍجتماعية ، وهي بهذا العلم عن القوانين الأكثر شمولا التي تخضع لها كل الظاهرات في العالم , القوانين التي بموجبها تتطور الطبيعة والمجتمع والفكر البشري .
ولكن ما هو المغزى من دراسة الفلسفة ؟ يجيب على هذا السؤال ، كارل ماركس ، حيث يقول :" دأب الفلاسفة على تفسير الظاهرات والأحداث التي تحدث في العالم والمجتمع ، ولكن المهم هو تغييره ".
ولا عجب اذا رأينا في المجتمع طبقات ، وفئات اجتماعية لا يعجبها التفسير العلمي ولا الفلسفة التي تؤمن بالتطوروالتغيير، لأنها تتعارض مع مصالحها . فاذا عرف الناس الفهم السليم الواقعي لمجريات الأحداث في المجتمع ،أي اٍذا فهم الناس أسباب الظلم الاجتماعي ، أسباب الفقر ، أسباب التمايز الاجتماعي وانقسام المجتمع الى طبقات فان هذه المعرفة ستدفع الجماهير الفقيرة الى الثورة ، الى محاولة التغيير ، متخذة من الفلسفة الشمولية الواقعية نسقا فكريا ، أيديولوجيا لها في حراكها الاجتماعي نحو بناء المجتمع الأفضل .
ان الطبقات التى تملك السلطة بحكم موقعها الاقتصادي القوي تتبنى فلسفة غير علمية تزيف الواقع وتزيف الفهم الحقيقي للفوارق الاجتماعية وتشوه العملية التطورية للمجتمع الانساني ، تتبنى فلسفة غير منهجية ، لا يمكن على أساسها بناء مجتمع خالي من الأزمات الاقتصادية والارهاصات الاجتماعية . أما الطبقات الفقيرة والتي تشكل الجماهير الغفيرة من العمال والفلاحين والذين يقع على كاهلهم مهمة انتاج الخيرات المادية اللازمة لاستمرار الحية ، ومهمة تطوير الحياة ووسائل العيش ، هذه الطبقات لايمكن لها اٍلا أن تتسلح بالنظرة الفلسفية الأكثر تقدما ، الأكثر طليعية في التعامل مع الواقع الاجتماعي ، مع الفكر الانساني .
ان النظرات الفلسفية تختلف في النظر الى المسائل المتعلقة بمعنى الحياة ، والسعادة والحرية والاستقلال والبناء والتطور . فالشعوب المناضلة من أجل الحرية تتناقض مع التفسيرات الفلسفية التي تنشرها الدول الامبريالية . وأنظمة الحكم الديكتاتورية والملكية والوراثية تتبنى فلسفة تتناقض مع فلسفة شعوبها الطامحة للتغيير ، وتحاول جعل فلسفتها هي السائدة وتنشر المفاهيم المضادة للتطور والتقدم والتغيير . فالفلسفة التي ترتكز على العلم اذا ليست مع الجميع الظالم والمظلوم ، السيد والعبد ، البرجوازي والعامل ، الاقطاعي والفلاح ، الكمبرادوري والمستهلك . بل تكون مع , وضد ، أي تدافع عن مصالح ضد مصالح ، أي مصالح الذين تخدمهم ، أي لا يمكن أن تكون محايدة ، بل منتمية ومتحزبة ، والفلسفة العلمية هي التي تتحزب وتدافع عن مصالح الفقراء والمظلومين في المجتمع .
على مر التاريخ كانت هناك نظرات فلسفية متعددة بتعدد الطبقات الاجتماعية ، ولما كانت هناك طبقات حاكمة ، سائدة ، ظالمة ، تملك السلطة والمال وتجير القوانين لصالحها وتنشر لدى الجماهير فلسفة القناعة والقبول بالوضع الراهن وعدم المحاولة للتغيير ، اٍن هذه الفلسفة هي الفلسفة المثالية ، التي كانت دوما تدافع عن مصالح الطبقات الفوقية .، الأغنياء ، السادة ، الاقطاعيين ، البرجوازيين ، الأريستقراطيين .
وبالمقابل كانت هناك طبقات محكومة ، فقيرة ،- عمال وحرفيين وفلاحين - مضطهدة ، مظلومة لا تملك المعرفة ولا التعليم ، ولكن لديها حس بأن السلطة ظالمة ، ولكن لا تعرف السبيل الثوري للتغيير . ان لدى الفقراء دوما نزوعا للتغيير واصلاح الوضع الاجتماعي , وتتكرر المحاولات للتغيير ,ولكن لا تصل الى النتيجة المرجوة , وذلك بسبب غياب الفكر الارشادي الثوري عن الحراك الاجتماعي , ومن هنا وفي ظل تكون الظروف الموضوعية الملائمة للثورة لا بد من أن تظهر البؤرة المتعلمة والتي تكشف للجماهير الفلسفة الثورية ، النظرة الفلسفية المادية ، العلمية ، والتي تكشف اِسباب البؤس والظلم الاجتماعي وسبل التحرر الاجتماعي . إنها الفلسفة التي تضع المبرر التاريخي للحراك الاجتماعي ، للثورة ، للتطور ، للسير نحو المجتمع الأفضل .
اذا هناك نظرتان فلسفيتان الى العالم : نظرة فلسفية مثالية ، ونظرة فلسفية مادية . ولما كانت الطبقات السائدة ، الحاكمة تعمل جاهدة للبقاء في السلطة للأبد لهذا تبنت الفلسفة المثالية ، وفي نفس الوقت عملت بكل قوة على تزييف المفهوم الحقيقي للفلسفة المادية ، فجعلت الناس ينظرون للمادي ، بأنه شخص أناني ومحب للشهوات ويهتم بالمصالح الشخصية ، أما المثالى فشخص يخدم المًثل ، من حق وخير ، ومنزه عن الغرض ، وذو أخلاق مثالية .
ان دعاة المًُثل والأخلاق والعفاف من الطبقات الحاكمة والأغنياء هم أكثر الناس شبقا وحبا للشهوات ونهما في اغتراف اللذات . وهذا واضح في حفلات الزواج لديهم و الأعياد و المناسبات المتعددة الأشكال و الألوان .
و مما يثير العجب أن الأكثر انتفاخا و الاكثر بذخا يكثرون من التشدق بالمًثل و دعوة الفقراء الى القناعة ، و عدم النظر الى ما متع الله به الأغنياء من نعم ، و ما الغنى والفقر الا منحة مقدرة من الله و تفضيل للناس بعضهم على بعض ، فلا يمكن ان يخلق الله الناس متساوين ، و هذه سنة الحياة أن يكون بين الناس فقراء و أغنياء ، و الفرق الحقيقي بين الأغنياء و الفقراء هو في التقوى، و ليس في الدرجة الإقتصادية و المراكزية ، أو امتلاك المال ، و تجدهم في الصفوف الأولى في المساجد ، وهذا واضح على أجسامهم المنتفخة و تعدد زوجاتهم و تنعم جلودهم من كثرة العمل الجسدي ، فلديهم الطرق السرية و العلنية لتنمية رؤوس أموالهم أضعافا مضاعفة بإختراق كل القوانين الوضعية و الوصايا الدينية لتغطية مصاريفهم الماجنة .
بينما الفقراء ليس لديهم ما يسد الرمق بالكاد . و بالكد المتواصل يحصلون على قوت يومهم ، فليس لديهم لا الأرضية الاقتصادية و لا الإمكانية المالية للبذخ و الاغتراف مما لذ و طاب .
ان هذا الفهم بعيد كل البعد عن المعني الفعلي لكل من المفهومين الفلسفيين ، المادي والمثالي في النظرية والتطبيق .
ان الفلسفة المادية ، تنطلق من الواقع ، من الأحداث الجارية ، من الأسباب المادية ,الواقعية للظواهر الطبيعية والاٍجتماعية ، وتقدم لها الحلول الواقعية حسب خطوات المنهج العلمي ، وأن كل توقع لحدث ما ، يرتكز على المعطيات والامكانات الواقعية ، ومدى الاحتمال الأكثر احتمالا .
أما الفلسفة المثالية ، فتبدأ من الخيال والقدرية والغيب ، وهذه القوى لا يمكن اخضاعها للتجربة ، ولا يمكن توقع الحدث القادم من الغيب ، ولا مداه ولا زمانه ولا مكانه ، وقد تكون نتائجه سلبية لأًناس أكثر اٍيمانا ، ولا مانع في ذلك ، لأن المؤمنون أشد بلوة . فالحدث القدري لا يمكن توقع نتائجه ، ولا تحاشي الأضرار الناتجة عنة ، لأنه غيبي يسقط عليك دون ٍاٍنذار .
هذا هو الفرق الفعلي بين الفلسفة المادية والفلسفة المثالية في النظرية والتطبيق ، وعلى الجموع الغفيرة أن تختار بين الفلسفة المثالية التي تبرر الظلم وتزينه وتعمل على تمييع الصراع الطبقي بالنصائح الدينية ، وتجعل الناس يؤمنون بأبدية الفوارق الاٍجتماعية ، وأن الحياة الأفضل هي في علم الغيب ، وسنحصل عليها بعد الموت . ان هذه دعوة للتواكل وعدم الثورة وعدم الميل للتغيير وبناء المجتمع الأفضل .
بينما الفلسفة المادية توضح الأسباب الواقعية للظلم الاجتماعي ، للفوارق بين الناس ،ان الفلسفة المادية لا تؤمن بقدرية وأبدية الفوارق الطبقية بين الناس , بل تؤمن ان هذه الفوارق جاءت بسبب الخلل في تقسيم خيرات البلاد لصالح مجموعة صغيرة من الناس , وتحاول إقناع الناس أن هذا الوضع هو الوضع الطبيعي , ولا داعي للتغيير , بل لا يمكن تغيير الفوارق الطبقية بين الناس لأنها إرادة إلاهيه , فالله جعل الناس درجات , ويجب عدم الثورة لتغيير هذه الدرجات , " ولا تمدن أعينكم للذي متعنا به غيركم " – قرآن كريم .
ان الفلسفة المادية تؤمن أن الفوارق الطبقية هي فوارق اقتصادية مصطنعة , أي فوارق يسببها الخلل في تقسيم خيرات البلاد بين الناس , ويتم هذا بطرق ملتوية باسم الميراث , أو باسم الهبات المصطنعة من الحاكم , وفي إطار العمل يتم عن طريق استئثار المالك بكامل الربح الذي يقوم به العامل في المصنع أو في المزرعة .
ان الفلسفة المادية تؤمن بامكانية تغيير هذا الوضع الغير انساني وغير العادل , و تبين الطرق والوسائل الاجتماعية الممكنة لبناء المجتمع الأفضل . انها توضح المبررات التاريخية للتغيير ، للثورة ، للتطور العلمي والاجتماعي .
#رمضان_عيسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟