أخبار الشرق - 16 أيلول 2002
بات من الواضح جداً أن "الذهنية الأمنية" هي الجناح المسيطر اليوم على القرار السوري، وبناء عليه، فلنتصور "الرأي والرأي الآخر" على أيدي هذه العقلية وأجهزتها القائمة أصلاً على الشك والريبة، طبعاً: الشك والريبة بالأعداء. وإذا تحول الشك والريبة إلى جهة المواطنين الشرفاء، فلنتصور الطامة الكبرى كيف تكون؟ بل هي كائنة في سورية، وما تزال منذ عقود، لكنها اليوم تتلبس لبوس "التمويه"، لاستدامة هيمنتها وعقليتها المدمرتين.
بعد مؤتمر لندن الوطني الأول للحوار السوري "أصبحت الجمهورية الديمقراطية، القاسم المشترك الأعلى لكل الأطراف المعارضة في الداخل والخارج، ولم يبق خارج اللحن الديمقراطي سوى حزب البعث الحاكم، الذي نصّب نفسه قائداً للدولة والمجتمع في دستور، ينتمي للقرون الوسطى السياسية، فإذا لم يكن هذا الحزب مؤهلاً لقبول مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، فهل يمكن التحلي بالمرونة السياسية، ولو بداعي غريزة الدفاع عن البقاء؟".
هذه خلاصة الموقف السياسي في الساحة السورية الداخلية، كما عبرت عنه الدكتورة فيوليت داغر رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان (القدس العربي 29/8/2002)، في تعليقها على مقررات المعارضة السورية في المؤتمر الأول للحوار الوطني. وإذا كان الأمر كذلك، فما مصير الأجهزة الأمنية القمعية في "الجمهورية الديمقراطية" المستقبلية؟
في خطوة استباقية يتقدم أصحاب "الذهنية الأمنية" عبر مراسل جريدة "النهار" في 7/9/2002 للقول: لا، لكل المعارضة. لا، للجمهورية الديمقراطية. بل على معارضة الداخل أن تصدر "فرمانات" التخوين ضد مؤتمر الحوار الوطني: "هل هي راضية عن قيادتهم؟" (الاعتذار .. لا يعفي من ضرورة التعبير ..)، ولتستعد أيضاً منذ الآن "للبصم" بالأصابع العشر على قانون الأحزاب المبرمج، المزمع إصداره بعد حوالي ثلاثة أشهر، الذي ينص على "الموقف النهائي من الإخوان المسلمين". والمراد من هذا "القانون" هو "تعميد" الإجراءات الأمنية القمعية، ضد الشعب والطيف السياسي الذي يمثل الشعب، بمزيد من "الأغلفة" التسويغية المكشوفة. فالنقابيون المعارضون (كالمحامين) تعاقبهم نقابتهم المزيفة، والناشطون العشرة، يحكم عليهم القضاء "المدجن" لا عصي المخابرات، ورجال القلم يكبلهم "قانون الصحافة"، وهكذا دواليك في سلسلة الحيل الاستبدادية المقنعة.
في الحقيقة ليس "المؤتمر الوطني الأول للحوار" وحده الذي تناصبه "الذهنية الأمنية" العداء، وليس وحده الذي أربك هذه الذهنية، فصارت تتعثر بالتفكير والتعبير. فعلى الرغم من وأدها لـ "ربيع دمشق"، وحكمها الجائر على الناشطين العشرة، وإغلاقها "منتديات الحوار المدني" .. ما زال نبض المعارضة السورية، يدق بقوة وعنف، ويفتق البراعم، والنوافذ للهواء الطلق. آخر هذه الإرباكات كانت شهادات الأدباء والمفكرين السوريين في العدد الأخير الممتاز من مجلة "الآداب" اللبنانية عن "الرقابة في سورية"، أي هو بيان تضامني أدبي سياسي معارض من الدرجة الأولى ضد "الذهنية الأمنية"، بأقلام بضعة عشر أديباً ومفكراً سورياً، في مجلة قومية علمانية. وصدمتان أخريان على "رأس" هذه الذهنية في يوم واحد، 25/8/2002: الأولى صدور البيان الختامي للمؤتمر الأول للحوار الوطني السوري. والثانية: صدور "ملحق النهار" الثقافي بملف ضافٍ، عنوانه "هل انتهى ربيع دمشق؟"، تحدث فيه ثلاثة عشر أديباً ومفكراً من رموز المجتمع الوطني والمعارضة السورية. جوهر حديثهم، كان منصباً على إدانة هذه الذهنية الأمنية، والتنديد بعرقلتها للنهضة السورية، وقتلها "ربيع دمشق" في مهده.
إن مؤشرات تخبط "الذهنية الأمنية"، لا ينبع من طبيعتها "العصابية" وحسب! بل من تقاطر الحراك الوطني، واجتماع الكلمة الوطنية ضدها، ومن شعورها المتعاظم بالعزلة والحصار المستمرين.
بالإضافة إلى إخفاق إجراءاتها ضد "ربيع دمشق" والنشطاء المدنيين والحقوقيين، تكشف عن تخبطها في التعاطي مع خطاب جماعة الإخوان المسلمين الانفتاحي الديمقراطي:
أ- فمن الناحية الشكلية: كان أول جواب لأصحاب "الذهنية الأمنية" على "مشروع ميثاق الشرف الوطني" الذي طرحه الإخوان في 3/5/2001 جاء على شكل تصريح "مسئول أمني رفيع" لمراسل "النهار"، أي مواجهة رسمية أمنية لمشروع سياسي مدني! وكانت "خبطة" مكشوفة جداً لسيطرة الذهنية الأمنية على القرار السوري، وعلى الكيفية الحضارية التي تتعامل بها المؤسسات الرسمية مع فصيل شعبي مدني. ولما اقترب موعد انعقاد مؤتمر الحوار الوطني .. توارى "المسئول الأمني" خلف مقال للمراسل نفسه في جريدة "الرأي العام" الكويتية، يكرر حروف المسئول الأمني الرفيع مجدداً، لكن بحذف كلمة "الأمني"، ليحل محلها لفظ "مسئول كبير". أما المقال أو "التقرير" الأخير المنشور في جريدة النهار (7/9/2002)، فليس فيه مسئول أمني ولا غيره، لكنه "تقرير رسمي". من أين جاءت هذه الرسمية؟ ومن صاحب الرأي الحصيف وراءه؟ إن الألفاظ هي هي في المقالين السابقين، لكن التراجع واضح في إغفال الجهة صاحبة التصريح هذه المرة للتعمية والتمويه .. علامة عجز وارتباك، فيما نقدر!
ب- أما من ناحية المضمون: فأصحاب "الذهنية الأمنية" يضطهدون معارضة الداخل، بل يتهمونها بالخيانة، ثم يحتكمون إليها لمقاطعة الإخوان المسلمين أو المؤتمر الأول للحوار الوطني! ألم يصرح نائب رئيس الجمهورية خدام ووزير الإعلام عمران بتهم العمالة لأنصار المجتمع المدني؟ ألم يحكم على الناشطين العشرة بالسجن، وبحزمة اتهامات من "العيار" الثقيل، تخل بالشرف والوطنية؟ وحتى المواطن الصالح الناشط في حقوق الإنسان المحامي هيثم المالح، هو الآن مطلوب أمام محكمة عسكرية بمذكرة جلب لدى النيابة العامة العسكرية .. أي مطعون بنزاهته، يحتج أصحاب الذهنية الأمنية باعتذاره عن حضور مؤتمر الحوار الوطني "حرّ وبرد على سطح واحد"!
واستشهادهم بمقال فراس قصاص، فيه انتقائية وتناقض أيضاً، حين يغفلون تجريمه الشديد للسلطة التي يمثلونها بقوله: (1 - إن النظام السوري هو المسئول المباشر عن نسف أية إمكانية حقيقية لديمقراطية عادلة وصائبة، برفضه فتح الملفات المضبوطة تراثياً، وقمعه لكل الفعاليات الحراكية السورية، وبمفاقمته للغم التعصب الديني سياسياً وثقافياً - أخبار الشرق 23/8/2002)، وهذا ينسجم مع توصيف الطيف السياسي كله، لدور السلطة وأجهزتها الأمنية في مأسسة العنف والتمييز الطائفي، وليس التيار الإسلامي، المشهور تاريخياً بالتسامح، ونبذ العنف.
أصحاب الذهنية الأمنية بتخبطهم يورطون القيادة السورية في ارتكاب تناقض آخر، ألا وهو التوجه إلى الإدارة الأمريكية بسلوك وخطاب ينددان بإرهاب الإخوان المسلمين، ويؤكدان جدارة السلطة السورية للاشتراك في الحملة الأمريكية الدولية على ما تسميه الإرهاب، ويقدمون لها 30 ألف وثيقة أمنية، ضد مواطنيهم السوريين وأشقائهم العرب، ويفخرون بجهودهم بإنقاذ أرواح أمريكية، كانت معرضة للإزهاق، وبذلك يكونون هم الطرف السوري الوحيد الذي يتعامل مع المخابرات الأمريكية .. ثم يتوجهون إلى الشعب السوري باتهام المعارضة والمؤتمر الوطني للحوار بالأمركة؟! (رمتني بدائها وانسلت!)
في مقالة الدكتور برهان غليون المنشورة في ملحق النهار (هل انتهى ربيع دمشق؟) تحت عنوان "نظام الحزب الواحد فقد مبرر وجوده"، يلخص استراتيجية أصحاب الذهنية الأمنية في سورية بتطويرهم "استراتجيتين متوازيتين ومتكاملتين: الأولى تهدف إلى وقف حركة الاحتجاج وتفتيت النخب القيادية الوليدة وتشتيت شملها .. أما الاستراتيجيا الثانية الموازية، فتهدف إلى تحصين الموقف الداخلي خارجياً وذلك بالالتصاق بشكل أكبر من أي وقت مضى بالاستراتيجيا الأمريكية العالمية والإقليمية، وهي اليوم مواجهة الإرهاب أو الحرب على الإرهاب، والاستفادة من واجهة هذه الحرب أو شعاراتها لتبرير الاستراتيجيا الداخلية وإمرارها، وهي الرامية إلى تصفية فرص التحول الديمقراطي، والحصول على التغطية الدولية لهذه التصفية".
أما سؤال "التقرير الرسمي" الأمني: (أين كان الإخوان؟ وماذا يفعلون في الخارج؟ إنه في العشرين سنة المنصرمة من العمل السياسي كان الإخوان غائبين تماما عن الواجهة ..)، فهو أقل ما يقال فيه: إنه سؤال من يقتل القتيل، ويمشي في جنازته! أليس أصحاب الذهنية الأمنية يعلمون دون غيرهم أسماء الآلاف من ضحاياهم في المجازر والقبور والسجون والمنافي، ومن بقي منهم يتهدده حتى اليوم القانون 49 القاضي بإعدامه. وقد قال في ذلك الباحث السوري محمد جمال باروت في مقالته "إخوان سورية .. الحاضر الغائب ...الأكبر" (أخبار الشرق 6/9/2002).
نزولاً منا جدلياً عند منطق "الذهنية الأمنية" التشتيتية، في الرد على الاعتراف بتنظيم الإخوان المسلمين فصيلاً سورياً وطنياً، بأن ذلك يفتح الباب لليزيدية والمرشدية والعلوية والدرزية والإسماعيلية والطوائف المسيحية لتؤسس أحزاباً لها .. نقول: إن هذا مردود تاريخياً وموضوعياً وواقعياً، لأنه لم يحصل من قبل، ولأن كل حزب يحتاج إلى جماهير تشمل القطر كله في الأقل، وأن يكون برنامجه جديراً بالحياة. وإذا حصل هذا الاحتمال الموهوم نتساءل: أيهما أفضل .. أن يصل هذا الحزب إلى السلطة عبر تمثيل شعبي ديمقراطي سلمي تحت ضوء النهار، أم أن يقفز إلى السلطة في ظلام الليل، ويتستر بحزب قومي عربي علماني، لينفرد بالسلطة ويقصي الآخرين؟ والمعلوم أن فصيل الإخوان ليس شأناً سورياً، بل هو تيار شعبي منظم، ممتد عبر الأقطار العربية كلها، وعبر معظم أقطار العالم الإسلامي وغيرها، مما هو شائع متداول! والحكومة السورية نفسها، تتعامل مع الفصائل الإخوانية غير السورية، بفتح مكاتب لها، أو تبادل الزيارات معها وما شاكل ذلك؟!
وبالمناسبة نروي طرفة معبرة من التاريخ السياسي السوري: في عهد الانفصال قفز العسكر إلى السلطة، وعطلوا "المجلس النيابي"، وأحلوا محله حكومة الدكتور بشير العظمة، فتصدى لهذه الحكومة غير الشرعية الإخوان المسلمون، بقيادة مراقبهم العام الأستاذ عصام العطار، واستطاعوا إسقاطها، وإعادة الشرعية للبلاد باستعادة البرلمان لدوره الدستوري. وهذه واقعة تميز طريق الإخوان المسلمين السلمية من طريق غيرهم الانقلابية حتى هذه اللحظة، كما توضح أن حالة الثمانينات الدموية من صنع الذهنية الأمنية الممسكة بخناق البلاد والعباد حتى الآن.
أما الطرفة، فهي أن الدكتور العظمة أصدر قانوناً للأحزاب، يحظر فيه قيام حزب على أساس ديني، فهاجم الأستاذ العطار هذا القانون بشدة من على منبر جامعة دمشق، فاستدعاه الدكتور العظمة ليهدئه، كما تروي مجلة "المضحك المبكي" المعطلة بقرار أمني طبعاً، فقال العظمة للعطار: ليس المقصود بهذا القانون جماعة الإخوان المسلمين يا أستاذ عصام، وإنما المقصود أبناء الطوائف الدينية .. (وكان العظمة محسوباً على اللون الأحمر سياسياً)، فرد عليه العطار قائلاً: أنا أفضل مائة مرة أن أمدّ يدي إلى حزب ذي دين من أن أمدّها إلى حزب ليس ذا ..
__________
* عضو المؤتمر الأول للحوار الوطني في سورية - لندن