|
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ- اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1081 - 2005 / 1 / 17 - 11:10
المحور:
القضية الكردية
شكَّل التضاد مع المجتمع المشاعي، نفسَه كمجتمع فوقي، في النظام التاريخي الجديد للمجتمع، وعظّم من عمقه ونقاط اختلافه. السؤال المصيري بالنسبة لموضوعنا هو: هل هذا التشكل ضرورة اضطرارية أم لا؟ فهناك الكثير من النظريات الاجتماعية تَعتَبر ولادة المجتمع الطبقي شرطاً أولياً للتقدم. ولكن، بالمستطاع تحليل الأجوبة الأقرب إلينا، عبر التمعن في ديناميكيات التطور. ففائض الإنتاج وعمليات الري المتطورة في أطراف المعبد، تربط الإنسان بالإنتاج أكثر فأكثر. والشروط مساعدة كي يعمل آلاف الأشخاص بعطاء أوفر. وكذلك فضخامة أقنية الري، اتساع الأراضي ورحابتها، تصنيع الأدوات الحديدية من البرونز، القنوات والسفن البحرية؛ كل ذلك يساعد على الإنتاج والتجارة بأبعاد شاسعة. واتحاد كل هذه العوامل إنما يعني بدوره توطُّد المدينة. كانت إدارات الرهبان في بداياتها شديدة القرب من الشيوعية البدائية. من هنا نستخلص أنها لا تستوجب بالضرورة دولة المدينة. حيث ستتشكل الدولة بطغيان الطابع السياسي والعسكري أساساً. والسبب في ذلك هو مصاعب إدارة شؤون المدينة من جانب، وجعل الجماعات القبلية في البراري والجبال، من أمن المدينة وحمايتها، مشكلة هامة تفرض ذاتها من الجانب الآخر. وهل يمكن ترسيخ شؤون الإدارة والأمن، بالنسبة لمجتمع ما، دون وجود شكل الدولة؟ يلاحَظ قدرة العديد من المدن – وخاصة مثال أثينا – على إبدائها ممارسات عملية مظفرة بهذا الشأن، عبر الدفاع الذاتي، لا بالدولة، بل بالإدارة الديمقراطية. ويصادَف هذا النموذج في بدايات نشوء المجتمع السومري. فبينما تتشكل الإدارة من المجلس المؤلف من زعماء القبائل البارزين، تتشكل بالمقابل مجموعات الحماية من شبان المدينة اليافعين، عندما تدعو الضرورة. ويُنتَخَب مسؤول عنهم حسب احتياجات المهام. ونرى هذا التطور الحاصل بشكل مرئي وأكثر انتظاماً في مجتمع أثينا. إذن، والحال هذه، لا يتوافق وضع ولادة الدولة في أساس التاريخ، كضرورة لا بد منها، مع الظواهر الواقعة. ويُعَد التعريف الأصح للدولة هو اعتبارها الأداة الإدارية والقمعية، وأداة للاستيلاء على إمكانيات فائض الإنتاج بالأرجح. وهي حينما تفعل ذلك إنما تستخدم مسائل الإدارة الدَّولية (العامة) والأمن العام كأداة تمويه وترقية وتعزيز. وبما أنه من السهولة بمكان تأمين الإدارة الدَّولية – المصالح المشتركة للمجتمع – والأمن العام عب المجلس الديمقراطي، فإن التثبيت الهام الذي يواجهنا هنا هو النظر إلى مسألة استغلال هذه الفرصة بعين الاستيلاء والثورة المضادة، أكثر منه ضرورة لا غنى عنها. وبالمقابل، فتعريف القوة الفارضة نفسها بالتذرع بأعمال الأمن والمصالح المشتركة للمدينة – والتي يمكن تلبيتها عبر الديمقراطية – بأنها قوة متزمتة ومستبدة ومستأسدة؛ إنما هو تعريف واقعي. حتى في راهننا لا يذهب الساسة وقوى الأمن – الفائضون عن الحاجة – أبعد من اكتساب الخصائص الاستبدادية، نظراً لبطالتهم. ومن الجوهري تقييم هذه القوة بالعبء الزائد عن الحاجة، والمتربع على القيمة الزائدة. والمجريات الحاصلة في بداياتها أيضاً ليست مختلفة كثيراً عن ذلك من حيث المضمون. ولكن المتعاظم على مر التاريخ لم تكن قوة الإدارة الديمقراطية، بل إدارة القوة الاستبدادية. وكل خطوة طورت الدولة كتراكم للقوة الاستبدادية، ناهيك عن كونها ضرورة لا بد منها للتطور، إنما هي تعبِّر عن فحوى التطورات الأكثر رجعية وتزمتاً وتحريفاً وتضليلاً في التاريخ. والنظر إلى السلطة والحرب بمعناهما الضيق على أنهما الشعف والهوس والعقل والإرادة الأساس لهذه التقاليد التي موَّهَت نفسها بحذاقة داخل الدولة؛ إنما هو تقرب هام وواقعي إلى أبعد الحدود. بهذا المعنى، يستلزم فصل فن السياسة والعسكرتارية عن ظاهرة الإدارة العامة والأمن العام. وكل من يتسم بحدس علمي وعملي، لا يمكنه التغاضي عن هذا الفصل بتاتاً. فالنتائج الناجمة عن عدم الفصل هذا في تحليلات الدولة، سلبية إلى أقصاها. بمعنى آخر، فالفصل بين الإدارة الديمقراطية والإدارة الاستبدادية (إدارة المصالح المزاجية والفردية) بأبعادهما النظرية والعملية على السواء، يجب أن يكون الأرضية الأس لتقرباتنا التاريخية. تتجسد الظاهرة السياسية الأولية داخل أنظمة المجتمعات الهرمية والدولتية، في التناحر والتنافر الموجودين بين العضو الديمقراطي وبين الجناح الخفي للحرب والسلطة. إذ ثمة كفاح وصراع دائمي بين العناصر الديمقراطية المعتمدة على طراز وجود المجتمع (المشاعية) من جهة، ومجموعة الحرب والسلطة المتقمصة قناع الهرمية والدولة من الجهة الأخرى. من هنا، فالقوة المحركة للتاريخ ليست الصراع الطبقي، بل هي الصراع الكامن بين طراز وجود الديموس (الشعب demos) المتضمنة للصراع الطبقي أيضاً، وبين جناح السلطة القتالية (الخفي) الساعية لتغذية ذاتها بالتحامل على ذاك الطراز. أما اكتساب الذهنية، خلق النفوذ وبسطه، النظام الاجتماعي، والوسائل الاقتصادية؛ فتُحدَّد جميعها وفاقاً لمستوى الصراع الناشب بين هاتين القوتين. وارتباطاً بمستوى الصراع ذاك، تبرز أمامنا ثلاث مستويّات متداخلة بالأغلب على مر التاريخ: المستويّة الأولى هي حالة الفشل الذريع لجناح السلطة القتالية. فالفاتحون المدَّعون بأن انتصاراتهم العسكرية المبهرة هي الحوادث التاريخية العظمى، وفرضهم إياها على هذه الشاكلة، إنما فرضوا نظاماً استعبادياً تاماً. وكل البشر، كل الأشياء يجب أن تكون في دائرة قوة القانون، مؤتمرة بإمرة مجموعة السلطة القتالية. ولا مكان للاعتراض أو المعارضة. بل ولا يمكن التفكير بمناقضة الشكل المصوَّر المهيمن، حتى على الصعيد الذهني. فكيفما يُفرَض عليك، ستفكر وتعمل، وتموت! الأساس هنا هو النظام المهيمن الذي لا بديل له. وتندرج كافة الممارسات التوتاليتارية، وعلى الأخص الإمبراطورية والفاشية، ضمن هذا المثال. والمونارشية المَلَكية أيضاً تهدف إلى هذا النظام. إنه أحد النظم الأكثر شيوعاً في التاريخ. المستويّة الثانية، والمناقضة تماماً للأولى، هي نظام الحياة الحرة لمجتمع الجماعات المؤلفة من الشعوب والكلانات والقبائل والعشائر، والمتسمة بلغاتها وثقافاتها المتشابهة، والمناهِضة لأوليغارشية السلطة القتالية المتقمصة لستار الهرمية والدولة. إنه نظام يعبِّر عن طراز الشعب المقاوِم، الذي لم يُغلَب. وكل أنواع الإثنيات المتواجدة في قلب الصحاري والجبال والأدغال، تقاوم الهجمات المحدقة بها. وكل المجموعات الدينية والفلسفية غير المرتكزة إلى الأوليغارشية، إنما تمثل في الأساس طراز الحياة الاجتماعي ذاك. وتتشكل القوة الأس للصراع الاجتماع في سبيل الحرية والمساواة من الحياة المقاوِمة، ذات الذكاء العاطفي الذي يغلب عليه الجانب الفيزيائي الطبيعي للإثنيات من جهة، ومن الحياة المقاوِمة التي يطغى عليها الذكاء التحليلي للمجموعات الدينية والفلسفية من جهة ثانية. والتدفق الحر للتاريخ ليس سوى محصلة لطراز الحياة المقاوِمة هذا. وترتبط المصطلحات والظواهر الهامة في المجتمع، من قبيل الفك المبدع، الشرف والكرامة، العدالة، الفلسفة الإنسانية المثالية، الأخلاقية، الجمالية، الحب والود؛ بهذا الطراز من الحياة بالأرجح. المستويّة الثالثة في نظام المجتمع هي طراز النظام المسمى بحالة "السلم والاستقرار". تتواجد في هذه المستويّة حالة من التوازن الذي تشكله كلتا القوتين فيما بينهما على مختلف المستويات. فحالة الحروب والاشتباكات والتوترات الدائمة، تُقحِم إمكانية سيرورة المجتمع في المخاطر. وقد لا ترى الأطراف المعنية في حالة المخاطر والحروب الدائمة ما يناسب مصالحها بشكل متبادل. فتتوجه فيما بينها نحو الوفاق بموجب معاهدة "السلم والاستقرار"، من خلال مختلف أنواع الاتفاقات المجمَع عليها. وهكذا يسود الوفاق والتحالف، كشرط لا مفر منه، انطلاقاً من الشروط القائمة، وإن لم يكن حسب المستوّية التي يطمح إليها كل من الطرفين المعنيَّين. ويُدار الوضع على هذا المنوال حتى اندلاع حرب جديدة. إن النظام المسمى بالسلم والاستقرار يفيد أصلاً بحالة شبه الحرب بين قوة السلطة القتالية، وبين مقاوَمة الشعب وقوته غير المهزومة كلياً، والتي تقبع في قعر ذاك النظام. من الأصح نعت حالة التوازن في ثنائية الحرب – السلم بـ"شبه الحرب". أما المستويّة الرابعة الخالية من مشكلة "الحرب – السلم"، فلا تتكون إلا بزوال الشروط التي أبرزت الطرفين إلى الوسط. والسلم الدائمي يمكن أن يتحقق في المجتمع المشاعي الناضج الذي، إما أنه لم يشهد مثل تلك الشروط والظروف أبداً، أو أنه تجاوز نظام ثنائية "الحرب – السلم" عبر نظام المجتمع الطبيعي المشاعي البدائي. وفي الحقيقة، لا مكان لمصطلحات من قبيل "الحرب، السلم" في مثل هذا المجتمع. فالنظام الذي تغيب فيه ظواهر الحرب والسلم، لا مكان لأفكارها ومصطلحاتها أيضاً فيه. لدى سريان مفعول أنظمة المجتمعات الهرمية والدولتية، يشهد التاريخ المستويّات الثلاث فيما بينها بشكل مختل ومضطرب. حيث لا يمكن لأي مستويّة بمفردها أن تكون فاعلة كنظام تاريخي بحد ذاته. وحينها، بالأصل، لا يكون التاريخ. لنفكر في مستويّة "الهيمنة المطلقة" ومستويّة "الحرية والمساواة المطلقتَين" كنقطتَي ذروة، ولننظر إليهما كمستوى مثالي واصطلاحي بالأرجح. سنشهد حينها أن كلتا الذروتين لا يمكن أن تنشطا كلياً، في أي وقت من الأوقات، في حالة توازن المجتمع، مثلما هي في وضعية التوازن الطبيعي. فالمطلقية لا يمكن أن تسري في مضمون الطبيعة، إلا على المستوى الاصطلاحي، وفي غضون زمان ومكان محدودَين للغاية. وإلا، ففي حال العكس، لا يمكن أن يحيا النظام الكوني. وإذا ما تخلينا غياب مصطلحَي "التوازن" و"التناسق"، لرأينا أنه لا بد حينها من نهاية الكون بتدفقه الأحادي الجانب. وبما أن نهاية كهذه لم تتحقق، فهذا ما مؤداه أن "المطلقية" تواجدت في طراز التفكير فحسب، وأنها غير دارجة في عالَم الظواهر. إن التدفق المستمر للثنائيات الجدلية القريبة من حالة التوازن، إما بزيادة غناها ووفرتها أو فقرها وجدبها، إنما تشكل لغة ومنطق النظام الكوني، بما فيه المجتمع أيضاً. إن وضعية النظام المجتمعي الشائعة والمقبولة والمعقدة، هي وضعية "السلم والاستقرار"، كحالة من شبه الحرب والسلم، والتي تُعتبَر المستويّة الدارجة والناشطة في العديد من التجمعات. وكافة القوى، الشعبية منها والسلطوية القتالية، تسعى بنضالاتها الأيديولوجية والعملية الدائمة، إلى تسخير هذه الوضعية لصالحها بالأغلب، لتتطور بذلك من وضعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية والفنية والذهنية. والحرب هي الحالة الأكثر حرجاً وتوتراً في هذه المرحلة. والحرب تُفرَض أساساً من قِبَل السلطة القتالية. ذلك أنها تنفرد لذاتها بالمدخرات والتراكمات الموجودة في حوزة الشعب، عبر هذه الطريق المختزلة، باعتبارها – المدخرات – دافع وجودها وسببه. في حين أن الشعوب والطبقات ترد على هذه الممارسات النهّابة بحرب المقاومة، مرغمة، كي تعيش وتصون وجودها. أي أن الحروب ليست من خيارات الشعوب، بل هي حالات إرغامية واضطرارية، تلجأ إليها لصون وجودها ومستويات حياتها الحرة وكرامتها وعزتها. إن النظر إلى وضع الديمقراطية في الأنظمة التاريخية ضمن هذا الإطار، يلقننا دروساً تعليمية مهمة. كل بحوثات التاريخ المهيمن الموجودة حتى يومنا الراهن، هي من ترتيب براديغمائية مجموعة السلطة القتالية أساساً. حيث عُلِّقَت مقبضة الحرب المقدسة على كل أسفار المجازر، وبكل سهولة، بغرض النهب والسلب والغنائم الكبرى. وطُوِّرت مفاهيم "الإله الآمر بالحرب". وسُرِدَت الحروب كأبهى الظواهر وأعظمها. وساد موقف، وكأن كل شيء مستَحَق بالحروب، ليصر إلى يومنا هذا. وبإيجاز، كل ما يُحظى به بالحرب مستحَق. إن ترسيخ مفهوم الحق والحقوق في أساس الحرب، إنما هو ضرب من طرازات الوجود المهيمن للدول. وبالتالي، غدا منطق "حقك بقدر حربك" أسلوباً عاماً متَّبَعاً. هذه الذهنية التي تفيد بأن "الباحث عن الحق فليحاربْ من أجله"، هي صُلب "فلسفة الحرب". وقطعت هذه الذهنية أشواطاً ملحوظة من الرقي في كافة المدارس الدينية والفلسفية والفنية، لتبلغ نقطة نُعِتَت فيها عمليات حفنة من النهّابين المغتصِبين بأنها "العملية الأقدس على الإطلاق". وأضحت البطولة والقدسية عنواناً لعمليات النهب تلك. وهكذا نُظِر إلى الحروب كأداة حل لجميع المشاكل الاجتماعية، بعد السمو بها إلى منزلة المفهوم المهيمن. وقُيِّد المجتمع بمفهوم أخلاقي كهذا، وكأن الحلول خارج نطاق الحرب مستحلية، وحتى إن أمكنت فهي غير مجدية! والمحصلة، العنف أسمى وسائل الحرب وأقدسها! وبدون تحطيم مفهوم التاريخ هذا، من العصيب تداول الظاهرة الاجتماعية بعين واقعية، أو البحث عن حلول لمشاكلها خارج دائرة الحرب. إن عدم صون حتى أكثر الأيديولوجيات سلماً نفسَها من الحرب، يدل على مدى قوة هذه الذهنية. والبرهان الآخر على هذه الحقيقة هو عدم صون الأديان الكبرى المتطلعة دائماً إلى السلام, والحركات الطبقية والوطنية المعاصرة – أيضاً – نفسَها من الانجرار وراء الحرب حسب طراز جناح السلطة القتالية. السبيل الأكثر تأثيراً للتغلب على ذهنية السلطة القتالية، هي بلوغ الشعوب طراز السلوك الديمقراطي. إننا لا نتكلم في هذا المصطلح عن مفهوم "العين بالعين والسن بالسن". فالحالة الديمقراطية، وإن امتلكت نظاماً دفاعياً يتضمن العنف أيضاً، تعني بالأساس اكتساب ثقافة تكوين الذات بحرية، وبالذات عبر الصراع مع الذهنية الحاكمة. إننا نتطرق إلى موقف أبعد بكثير من حروب المقاومة والدفاع. إنه التعمق في مفهوم حياة غير متمحورة حول الدولة، وإدراجه حيز التنفيذ. فانتظار كل شيء من الدولة، أشبه بالتعلق بصنارة جناح السلطة القتالية. قد تمنحك طُعماً، ولكنه بغرض اصطيادك، لا غير. الخطوة الأولى الديمقراطية هي تنوير الشعوب في موضوع الدولة. والخطوات اللاحقة لها هي التنظيم الديمقراطي الشامل والعمليات المدنية. ولا تُطرَح حروب الدفاع الديمقراطي في الميدان ضمن هذا الإطار، إلا عند الضرورة. أما الحرب دون خطو الخطوات الأولى، فتؤول في النهاية إلى التحول إلى آلة بيد حرب النهب والسلب، مثلما شوهد في الكثير من الأمثلة عبر التاريخ. أحد أهم أهدافنا في التحليلات هو مرحلة تطور الوجود الديمقراطي ضمن سياق التاريخ. فنضال الدمقرطة الصحيح ممكن بالمفهوم التاريخي الصائب. كنا قد نوهنا سابقاً إلى الوجود المجتمعي، الذي سعينا لتعريفه حتى المثال السومري، وتَقَمُّصه سمات متناقضة مع تداخُل ظواهر الهرمية والطبقية والمدنية والدولة. إنه مجتمع مختلف كل الاختلاف، بدءاً من الاقتصاد وحتى الذهنية والخِصال. لقد برز جناح ملتحف بستار آلة الدولة، ومطوِّر نظامها عبر العنف والحروب الدائمة، بحيث جعل من الاستيلاء على الغنى الوفير المتراكم في الداخل والخارج فناً سياسياً أساسياً له. علاوة على أنه اعتمد أساساً على إقناع كافة شرائح المجتمع المعنية بأنه نظام إلهي راسخ من الأزل إلى الأبد، عبر ابتداعاته الذهنية والأدبية (الميثولوجيا) المقدِّسة للحرب. ولكننا نلاحظ بوادر الاعتراض والمقاومة تجاه هذا النظام السائر بحالته النقية حتى الفترة المتراوحة بين (4000 – 2000ق.م). فمجالس المدن المؤلفة من الأعضاء البارزين في القبائل، أصرت على مواقفها الديمقراطية في بداية الأمر. حيث لم تتخلَّ بسهولة عن الطراز الديمقراطي إزاء جناح الراهب – المَلك – المسؤول العسكري. واحتملوا معاً مدة طويلة ضمن نظام مختلط من ثنائية الدولة – الديمقراطية. ومع الزمن يُسخَّر الكثير من الأشخاص كموظفين أو جنود أو عبيد عاملين داخل الإدارة أو داخل حياة المدينة الغنية والأكثر ملاءمة، بحيث أُتي بهم إما من الخارج – نستذكر هنا أنكيدو (النائب المقرَّب إلى كلكامش) في ملحمة كلكامش، والمكتَسَب عن طريق المرأة. إنه أول مثال لعمالة المرأة – أو من الداخل، من الأناس المنقطعين، أو المقطوعين، من قبائلهم. لكن هذه التطورات تُفسِد توازن "الدولة – الديمقراطية" المعتمد على القبائل، لتنهيه على حساب مجلس المدينة، وتتم تصفيته وإفناؤه مع تقدم هذه المرحلة. تصادَف مثل هذه التطورات في العديد العديد من فترات تشكُّل الدول الحديثة العهد، تقريباً. لقد انتهى الصراع في الداخل بهزيمة قوى الديمقراطية. ورغم ذلك، لا يمكن بتاتاً تصفية توازن القبيلة داخل الدولة بشكل تام في أي وقت من الأوقات، حيث يصون وجوده ضمنها بنِسَب مختلفة. مقابل ذلك يُطوَّق نظام المجتمع الدولتي بضغوطات كبرى من الخارج. إنها شروع حركة البدو الرحَّل في الحركة تجاه المستوطِنين. من الأهمية القصوى النظر إلى هذه الحركات – المنوَّه إليها كثيراً في الأدبيات الهيلينية – الرومانية تحت اسم حركة "البرابرة" – ضمن تكامل دياليكتيكي. يُزيد المجتمع الاستيطاني على الدوام من استثمار كدح العبيد داخل المدينة، ومن الغنى في الخارج عبر التجارة والقمع المختلَّين المضطربَين. إنه بذاته مَن يخلق التناقض. تماماً كتصنيف الإمبريالية – البلدان المتخلفة، القائم في يومنا الراهن. إن المعتدي البربري هو المدينة، لا البدو الرحّل. ولكن، كم هو مؤسف، وبسبب طغيان المدينة على نظامنا الاصطلاحي، أن تنعت المدينة نفسها بـ"المدينة، الحضرية"، بينما تصف من هو خارجها بالوحشيين، وتصرخ: إنهم "البرابرة"؛ وتكتسب بالتالي المدينة مشروعيتها. بالإمكان تشبيه الحركة الكبرى للرحّل تجاه المدينة، بالحركات الوطنية الديمقراطية الراهنة. فبما أن شكل المجتمع البدوي يتألف من مختلف مراحل الإثنية، سيكون بالمقدور تداول الحركات التي خلقها بأنها – مضموناً – المقاومة والموقف وطراز الوجود الديمقراطي. بيد أنه من الضروري البحث في "مَن اعتدى على مَن؟" بكل دقة وعناية. فبما أن دولة المدينة (ومن بعدها الإمبراطورية)، صاحب وسائل العنف والاستعمار والاستغلال الأقوى، هي التي اعتمدت التعاظم والاستيطان والتوسع أساساً؛ فالمعتدي إذاً، وموضوعياً، هو دولة المدينة بالذات. في حين يمكن نعت حالة الإثنية بالدفاع والمقاومة المناقضة لسالفتها كلياً. وبمعنى آخر، يمكن تداول حالتها كمرحلة لحركة الحرية الأولى، تجاه الاستعباد الأول. لقد بقي المجتمع السومري، وربما منذ تأسسه (المؤسسون أيضاً كانوا أتوا من الطريق ذاتها)، وجهاً لوجه أمام القبائل ذات الأصول الآرية القادمة من الجبال شمالاً وشرقاً من جهة، وأمام القبائل العمورية – ومن ثم العربية – ذات الأصول الساميّة القادمة من الصحاري جنوباً وغرباً من الجهة الثانية. فيبدأ نسج الأسوار وبناء القلاع المحصنة حول المدن في هذه المرحلة. واستمرت موجة من الاعتداءات والاعتداءات المضادة التي لا تعرف السكون أو الخمود، طيلة قرون مديدة. ويُظهَر التاريخ من الحضارات المتطورة من هذه الثنائية الجدلية الأولى والأكبر على الإطلاق، ومن قوة الإثنيات المتعززة. ونرى أن هذه الثنائية المذهلة الناشئة والمستمرة حتى الآن على أرض العراق (بشكل مرئي)، قد تشكلت في الجماعات اللغوية والإثنية الأولى، ضمن الثورة الزراعية ومجتمعها الناشئ حوالي أعوام الألف العاشر (10000ق.م) قبل الميلاد، في أحشاء الثقافة الشرق أوسطية. ونصاف أن الإثنية قد تغلفّت وتحصّنت جيداً مع حلول أعوام (4000ق.م)، لتعكس ذاتها في ثقافتها ولغتها الخاصة بها. وبمستطاعنا التخمين بأن الحركة الإثنية كانت في صراعات ونزاعات متالية، قبل ثورة المدينة، بغرض الاستحواذ على الأراضي الخصيبة والمعادن وموارد الحجر. وبينما برزت مجموعة الثقافة "الآرية" إلى المقدمة في سلسلة جبال طوروس وزاغروس، نرى في البلاد العربية – التي كانت أكثر ملاءمة آنذاك – بروز مجموعة الثقافة الساميّة إلى الأمام. والتّماسّ الحاصل بين هاتين المجموعتين الثقافيتين على تخوم الجبال والصحاري، تمخض عن أنظمة مختلطة ومزيجة، كالسومريين والعبريين والهيكسوسيين على سبيل المثال. أما العرب والكرد، فاستمروا في مواصلة وجودهم كمجموعتين شعبيتين جذريتين للثقافتين الساميّة والآرية. واضطرت الكثير من الجماعات الثقافية اللاحقة للانصهار والذوبان في بوتقة هاتين المجموعتين النواة. ونجد أن القوى المعنية بالعلاقات والتناقضات الكردية – العربية التي لا تزال قائمة في العراق اليوم، تسعى لتأسيس دولتين ثقافيتين مختلفتين، بنظام وترتيب ربما يماثل ما كان عليه أيام تأسيس دولة للسومريين. يَعرِف السومريون كل المعرفة الجماعاتِ الساميّة الآتية من الجنوب والغرب، والآريين القادمين من الشمال والشرق. حيث نصادف إشارتهم إلى هاتين المجموعتين بكثرة في أدبياتهم وميثولوجياتهم. وهنا نستخلص بطريق غير مباشرة، معرفتهم اليقينة لتلك الثقافتين. وتشهد المرحلة المستمرة حتى غزو الإسكندر الكبير لبابل واحتلاله إياها في أعوام 330ق.م انتشار الحضارة السومرية المدينية الأقوى آنذاك، داخل هاتين المجموعتين الثقافيتين، على نحو أساسي. وبمعنى من المعاني، يتشكل التاريخ عبر التطور الدياليكتيكي الحاصل بين الاستيطانيين من تلك المجموعتين الثقافيتين من جهة، وبين البدو الرحّل منها من جهة أخرى. وتنتشر الاكتشافات والاختراعات على موجات متوالية من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، ومن براري الصحراء الكبرى إلى تخوم سيبيريا. وبقدر ما تُصدَّر حضارة المدينة صوب الخارج، يُستورَد المجتمع البدوي أيضاً من الخارج نحو الداخل بنفس القدر. ولهذا السبب بالذات، فالتقربات التاريخية المهمِّشة للبداوة والداحضة إياها، والمرتكزة فقط إلى المستوطِنين في المدينة؛ إنما تتضمن نواقص لا يستهان بها. وفي مرحلة الحضارة المستقرة يتماشى الموقف الديمقراطي مع تطور الدولة ويحاكيها فيه. ومثلما سنتداول بشمولية في الفصل اللاحق؛ يتميز الاستيعاب الصحيح للعلاقة الكامنة بين الديمقراطية وظاهرة الدولة بأهمية قصوى. فالديمقراطية هي طراز إدارة الذات للشعب غير المتدوِّل، بل والمناهِض للتدوُّل. له علاقاته مع الدولة، ولكنه لا يذوب في هذه العلاقات، ولا ينكر ذاته بتاتاً. تتصدر مسألة الحدود الفاصلة بين الدولة والديمقراطية، قائمة المشاكل السياسية الأكثر حرجاً وحساسية. إن تعريف النقطة البينية التي لا تهمِّش فيها الدلةُ الديمقراطيةَ، ولا الديمقراطيةُ الدولةَ، هو أساس "السلم والاستقرار". فإنكار إحداهما للأخرى كلياً يعني الحرب. من هنا، فالكثير من المفاهيم المعاصرة التي ترى في الديمقراطية امتداداً أو غطاءً للدولة، إنما تسير وراء دراسات وتثبيتات خاطئة إلى أبعد الحدود. إذن، والحال هذه، قد يُسأل "أين هي الديمقراطية في التاريخ؟". بالإمكان الرد على هذا السؤال بأنها موجودة أولاً في المقاومة والمواقف والسلوكيات التي اتبعتها الإثنية تجاه الدولة والحضارة، بغرض صون سماتها المشاعية والحفاظ على حريتها. وعجزُ السوسيولوجيين عن تحديد هذه الحقيقة منوط بانطباخهم ونضوجهم آلاف المرات داخل بوتقة ثقافة المدينة. فالعلماء هم الرهبان الحديثون للبورجوازية، أكثر بكثير مما يُتَصوَّر. فهم متشبثون بقيم المدينة كالتشبث بالكتاب المقدس. ومادام طراز وجود الإثنية لم ينهزم، يمكننا تعريفه بأنه شبه ديمقراطية. هذا ويجب علاوة صفة "البدائية" عليه أيضاً. أي، الإثنية ديمقراطية بدائية. فالالتزام بالقيم المشاعية في الداخل، ومقاومة الدولة الاستبدادية في الخارج، يحث مجموعات الشعب على سلوك علاقات ديمقراطية وحرة ومتساوية. وبدون هذه السمات للعلاقات، لا يبقى أي معنى للمقاومة. ثمة خطأ فادح يُرتَكَب لدى تعريف الدمقرطة في الشرق الأوسط. ألا وهو، وكأن الإثنية حجر عثرة أمام الديمقراطية. إن الديمقراطية المرتكزة إلى الفرد في الحضارة الغربية، لا تفي بتحديد التعريف لوحدها. فإسناد الديمقراطية إلى الفرد فحسب، يحتوي أخطاء حقيقية بقدر إسنادها إلى الدولة فحسب. الجماعة والفرد الحر في المجتمع هما من دواعي الديمقراطية المتعددة. فمفهوم الأفراد المتماثلين والجماعات المتطابقة، لا هو ضروري من أجل الديمقراطيات، ولا هو ضمان لها. إن الامتياز والميزة الأساسية التي تتميز بها الديمقراطيات هي بلوغ تركيبات (جميعات) جديدة بصون التعددية. إن النظر إلى الجماعات الإثنية على أنها امتياز تتميز بها الديمقراطية، منوط بتطبيقها العملي بحق. إذا اعتَبرَت إدارة الدولة أن اصطياد الأصوات وعمليات التصويت بموجب معاييرها أنه سباق ديمقراطي، فالنظام الذي سينمّ عنها هو الديماغوجية. من المهم بمكان النظر إلى غنى الإثنية على أنه فرصة وحظ وفير للديمقراطية. والانطلاق من الفرد الحر يخدم الديمقراطية أكثر. يندرج توحيد مواقف الشعب الهاضمة لثقافة المقاومة على مر آلاف السنين مع المقاييس الديمقراطية المعاصرة، ضمن أعمال الساسة الديمقراطيين اليومية. والخطأ يكمن في رؤية الطاقة الكامنة لديمقراطية المجتمع الشرق أوسطي بأنها حجر عثرة.
يتبع
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني اللب التاريخي للقيم المشاعية والد
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ - اللب التاريخي للقيم المشاعية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع ال
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجت
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا
...
-
الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة
...
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول
-
الدفاع عن شعب
المزيد.....
-
إسرائيل تقصر الاعتقال الإداري على الفلسطينيين دون المستوطنين
...
-
بين فرح وصدمة.. شاهد ما قاله فلسطينيون وإسرائيليون عن مذكرات
...
-
عشرات آلاف اليمنيين يتظاهرون تنديدا بحرب الإبادة في غزة ولبن
...
-
2024 يشهد أكبر خسارة في تاريخ الإغاثة الإنسانية: 281 قتيلا و
...
-
خبراء: الجنائية الدولية لديها مذكرة اعتقال سرية لشخصيات إسرا
...
-
القيادي في حماس خليل الحية: لماذا يجب علينا إعادة الأسرى في
...
-
شاهد.. حصيلة قتلى موظفي الإغاثة بعام 2024 وأغلبهم بغزة
-
السفير عمرو حلمي يكتب: المحكمة الجنائية الدولية وتحديات اعتق
...
-
-بحوادث متفرقة-.. الداخلية السعودية تعلن اعتقال 7 أشخاص من 4
...
-
فنلندا تعيد استقبال اللاجئين لعام 2025 بعد اتهامات بالتمييز
...
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|