|
السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع في العراق - الحلقة الرابعة
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1081 - 2005 / 1 / 17 - 11:24
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
من الناحية الفلسفية ليس الخلود سوى حالة وجود الأشياء كلها. بمعنى انه الصيغة الفعلية لتحول وتبدل وتغير واستحالة الأشياء والظواهر بصورة غير متناهية. ذلك يعني أن الجوهري فيه هو التغير والتبدل وليس الثبات. لكن حالما يجري تحجيره في الزمن والأفراد والشعارات، فإنه يؤدي بالضرورة إلى خرق قانون وجود الأشياء نفسها، مع ما يترتب على ذلك من مساع لتثبيته في الزمن والأفراد والشعارات. وهو تناقض لا يمكن حله إلا بالاستعمال الدائم للقوة والعنف والقهر والإكراه والكذب والدجل. بينهما هي قوى مستنفذة. من هنا خطورة "الخلود" و"المقدس" أو توليفهما في "الخلود المقدس" بالنسبة للأيديولوجيا أيا كانت، لأنه يجبرها في النهاية على استعمال أساليب الإكراه والدجل، التي تستنفذ قوة الأيديولوجيا مع مرور الزمن لتحولها إلى هراوة خشنة. فالخلود هو الصيغة المجردة – الملموسة عن المقدس، أي عن مصدر الحرية والحق والإبداع. كما أنه الكيان المتعالي الذي لا يباع ولا يشترى مثلما نراه ونسمعه فيما نصطلح عليه بكلمات متنوعة مثل الله والمطلق وحقيقة الحقائق والروح والخير والجمال. ومن ثم ليس للأيديولوجيا قدرة على احتواه وتمثله، بسبب انتمائها إلى عالم المصالح المتغيرة والمتبدلة. بعبارة أخرى إن مهمتها الحقيقية تقوم في البقاء ضمن عالم المتغيرات وتمثلها بطريقة واقعية تجعل من كل ما تقوله وتفعله جزءا من اجتهاد المعاصرة. إذ ليس إضفاء "الخلود" على الأحكام الأيديولوجية سوى الصيغة المقلوبة لمحاولات التعويض عن نقص الحاضر وإضفاء صفة المقدس على طموح الأفراد والأحزاب. في حين تبرهن التجارب التاريخية للأمم جميعا على أن إضفاء صفة المقدس على المطامع السياسية للأفراد والأحزاب يجعل من "خلودها" هراوة أبدية! من هنا ليست عبارات وشعارات "لزعيم الخالد" و"الرفيق الخالد" و"حزبنا الخالد" أو "شعارنا المقدسة" و"غاياتنا المقدسة" و"مقدساتنا" و"قدس الله سره" وما شابه ذلك سوى الصيغة الأيديولوجية لسلب التاريخ والمستقبل عوضا عن مواجهة الإشكاليات الواقعية والتعامل معها بمنطق المعاصرة المستقبلية. وفيما لو انتقلنا إلى تحليل بعض الشعارات الأيديولوجية الكبرى مثل شعار "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة" عند القوميين (البعثيين) وشعار "الشيوعية" عند الشيوعيين وشعار الخلاص (المهدي) عند الإسلاميين (الشيعة) وشعار "الإسلام المحمدي" عند الإسلاميين (السنة)، فإننا نقف أمام اشتراك جوهري في الرؤية الأيديولوجية، وبالتالي توقع إمكانية الاشتراك في الأعمال والنتائج. فقد كان شعار البعثيين "أمة ذات رسالة خالدة" تعبيرا أيديولوجيا مفرطا يقوم فحواه في تجاهل بل واحتقار قيمة التاريخ الفعلي بالنسبة لوعي الذات القومي. والقضية هنا ليس فقط في انه لا وجود أساسا لرسالة خالدة عند قومية من القوميات أو أمة من الأمم انطلاقا من أن ما تقوم به أية أمة هو استمرار ونتاج لتاريخها الخاص وبالتالي فإن "رسالتها" لنفسها لا لغيرها، بل ولان أية محاولة لإعطائها طابعا شاملا سوف يؤدي بالضرورة إلى التعالي على الآخرين وسيادة عقدة التفوق العنصري. وهو تفوق وهمي يستمد مقوماته من الوهم الأيديولوجي الصرف عن توظيف فكرة "الخلود" و"المقدس" على متطلبات السياسة. إذ ليست "الرسالة الخالدة" في الواقع سوى الصيغة الأيديولوجية عن أن ما تقوم به هذه الأمة هو فعل "مقدس" يتسامى على ما تقوم به الأمم الأخرى. أما النتيجة فهي التخريب الدائم للرؤية الواقعية والنقدية والعقلانية، وبالتالي احتقار كل القيم الإنسانية والاكتفاء بالهراوة والإكراه والعنف المنظم في التعامل مع المجتمع والدولة والأفراد والفكر. ولعل تاريخ تجسيد هذا الشعار في العراق هو الصيغة النموذجية لذلك. أما شعاراته العملية المكملة له عن الوحدة والحرية والاشتراكية، فقد تجسدت في تجزئة شاملة للفرد والمجتمع والدولة والقومية، واستبداد لا مثيل له، واشتراك منظم لسرقة الماضي والحاضر والمستقبل والثروة والروح والفكر والأخلاق. أما "شعار الشيوعية" في العرف الأيديولوجي، فإنه لا يتعدى التصورات الدينية الإيمانية العادية عن الجنة والجنان، أي الهدوء الخالد والأبدي. من هنا قيمتها غير المباشرة في استثارة الخشوع الفردي والجماعي أمام محرابها السياسي في الحزب والقادة. ولا يغير من ذلك شيئا كون الشيوعية من حيث رؤيتها العقائدية الكبرى تناهض الفكرة الدينية بحد ذاتها وتقف إلى جانب نقيضها النظري المباشر. إذ ليس الدين من وجهة نظر الماركسية سوى الانعكاس الوهمي للواقع بعد إضفاء صفة التقديس عليه. وبالتالي، فان إرجاع الأمور إلى نصابها الواقعي وإدراكها بصورة علمية وموضوعية هو ضمانة القضاء على "الأوهام المقدسة" أيضا. وهي رؤية نقدية متجانسة. إلا أنها تعيد إنتاج هذه "الأوهام المقدسة" بصورة غير مباشرة أو مقلوبة الفروة حالما تحاول تجسيدها في رؤية سياسية لها حدودها الصارمة عن "الحقيقي" في التاريخ والمعاصرة والآفاق. كما هو جلي في محاولاتها الأيديولوجية تقديم رؤية شاملة للماضي والحاضر والمستقبل، قادرة على تمثل تجارب جميع الشعوب والأقوام والثقافات. وهو أسلوب يؤدي بالضرورة إلى صنع "أيديولوجية مقدسة" تقف خارج التاريخ، مع أنها الأكثر اندماجا به من الناحية المجردة. مما يضعها في نهاية المطاف ضد المسار الواقعي للتاريخ والثقافة والحق أيضا. وهو أمر جلي في تجارب العالم المعاصر بأكمله! أما بالنسبة لشعار الخلاص (المهدي) الشيعي، فإنه التمثيل الأيديولوجي النموذجي للعقائد الشيعية القديمة عن الغيبة الكبرى والصغرى ونماذج التأويل اللاهوتي "للمنتظر" و"صاحب الزمان" و"الظاهر والباطن". بعبارة أخرى، إننا نقف أمام نفس ظاهرة "التجريد" المتسامي للقيم التاريخية عبر رفعها إلى مصاف الخلود، ومنه إلى التقديس الدائم. إذ ليست "الغيبة" و"المنتظر" وربطهما في "الصاحب" و"الإمام" في الواقع سوى الصيغة الساعية لأنسنة المطلق (الخالد - المقدس). أي أنها تربط الزمن الدائم (والدائر) بالفكرة المتسامية ومن خلالها تحاول أن تعطي للمعاصرة قيمتها الجزئية في كل شئ، بما في ذلك في الأفعال السياسية. وهي صيغة مقلوبة لما ينبغي أن تكون عليه. إلا أن لها مبرراتها في الفكرة اللاهوتية التي لم تتحرر بعد من ثقل الماضي. فهي تعيد نفس مزاج الفكرة الفلسفية عن الحقيقي وغير الحقيقي، من خلال جعل التاريخ مسارا لا قيمة له ما لم يكن جزءاً من فعل الخلاص المنتظر (كما هو الحال بالنسبة للتاريخ الماضي قبل الشيوعي بالنسبة للشيوعية)، أو انه في افضل الأحوال "مقدمة" للخلاص ومجيء "المنتظر". وهي صيغة وجدت انعكاسها في الدعوات والهتافات الرنانة عما يسمى بتأسيس "جيش المهدي". مع أن الصيغة البسيطة لفكرة المهدي نفسها هي بحد ذاتها نفيا "للجيش" وقضاءا عليه، لان "ظهور صاحب الزمان" هو نفي للزمان أيضا! انه ملكوت الحرية الشامل وتحقيق الوعد والوعيد "السماوي" في الأرض! وهي فكرة تشاطرها الكثير من الأديان والعقائد، بمعنى اشتراكهم جميعا في صنع "الأوهام المقدسة" عوضا عن توجيه الطاقة الاجتماعية لسكان المدن الفقراء والأرياف المنهكة صوب العمل البنّاء من اجل "طائفة" هي في الواقع حقيقة العراق، تعرضت في غضون عقود وقرون لأعنف أشكال الاضطهاد والتدمير، وحملت بين جوانحها وجنانها أنبل القيم وأكثرها سموا. إذ ليس "جيش المهدي" في الواقع سوى صيغة أيديولوجية لا قيمة عملية لها، مما يشرك الاتباع في عملية تفريغ للزمن وبعث العسكرة الريفية والمدن المتخلفة والسيوف المتكسرة عوضا عن المساهمة الفعالة في بناء روح العدالة والنظام. بعبارة أخرى، إن حقيقة المهدي لا ينبغي أن تكون "نهاية العالم"، بل بداية الحرية والنظام العادل ونهاية الدكتاتورية والاستبداد. ولا تختلف فكرة الرجوع إلى الإسلام المحمدي عند التيارات السنية الراديكالية عن سابقتها، مع أنها ترجع إلى الماضي اكثر مما تنتظر المستقبل. وهو خلاف ظاهري فقط من وجهة النظر التاريخية والسياسية. لكنه يصب في نفس مجرى الابتعاد عن مواجهة إشكاليات المعاصرة بمقاييسها ومعاييرها ومتطلباتها. وذلك لان افتراض "نقطة" أو "مرحلة" في التاريخ على أنها نموذجه المطلق هو خروج على التاريخ نفسه. فهي رؤية أسيرة لمزاج التقديس المزيف للماضي، ولا تتعظ بفكرة الإسلام الوحدانية نفسها ومضمونها الثقافي. فما هو جوهري في تاريخ الإسلام ليس "الإسلام" بل إبداعه الثقافي. إضافة إلى انه الكيان الفعلي الوحيد في التاريخ والذاكرة والحقيقة. كل ذلك يوصلنا إلى استنتاج يقول، بان البحث عن فعل أو حالة أو شخص أو رمز مقدس في التاريخ وجعله نقطة البداية والنهاية هو سجود أمام أوهام أيديولوجية، لا تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى خلود بلا مستقبل! والشيء نفسه يمكن قوله والتدليل عليه في حال تناول عشرات بل المئات من المفاهيم والشعارات الواسعة الانتشار في ماضي وحاضر الحركات السياسية العراقية المعاصرة. ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع في العراق -
...
-
السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع في العراق- ا
...
-
السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع في العراق-ال
...
-
التيار الإسلامي ومهمة تأسيس البدائل العقلانية في العراق
-
الحلقة الثانية-البروتوكولات الصهيونية-الماسونية اليهودية الص
...
-
الحلقة الاولى - البروتوكولات الصهيونية - تقاليد قواعد العمل
...
-
الفساد والإرهاب توأم الخراب في العراق المعاصر
-
(4) الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي 3
-
2.الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
(1)الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
الشعر والشاعر وإشكالية الحرية
-
فلسفة السيادة وسيادة الدولة في العراق المعاصر
-
الغلاة الجدد وأيديولوجيا الجهاد المقدس
-
التصوف الإسلامي وفكرة وحدة الأديان
-
محاكمة البعث ورموزه
-
استئصال البعث ومهمة البديل الديمقراطي في العراق
-
العراق وإشكالية المثلث الهمجي
-
القضية الكردية وإشكاليات الوطنية العراقية
-
العراق وعقدة الطائفية السياسية
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|