|
الدفاع عن شعب الفصل الثاني اللب التاريخي للقيم المشاعية والديمقراطية في المجتمع يتبع
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1080 - 2005 / 1 / 16 - 09:54
المحور:
القضية الكردية
فالوضع الحالي للسوسيولوجيا يجبِر على تحليل حتى أبسط المواضيع. إننا ننوه، وبإصرار، على استحالة تداولنا الصحيح للتطورات اللاحقة للمجتمع المشاعي، ما لم نحلل طبيعة هذا الأخير بشكل سليم. فكيفما أن تحليل أي عنصر لن يكون واقعياً بدون تحليل ذرة الهيدروجين (المكوَّنة نم البروتون والألكترون)، وهو اعتقاد صائب، فمن أجل البنية النواة للمجتمع أيضاً نقول أنه يستحيل فهمنا لتنوع الظاهرة المجتمعية دون استيعاب الجماعة المشاعية. وإلا فسينجم لدينا شرح ناقص، وبالتالي علم خاطئ بشأن المجتمع. فالادعاء بأ، الميثولوجيا والثيولوجيا (النظرية اللاهوتية) أثمرتا عن مفهوم مجتمع وهمي، وإضافة السوسيولوجيا إليهما (كمثال البستان المرقع)؛ إنما لا يذهب أبعد من تشويش العقول وإرهاقها. وهذا ما ينم بدوره عن تصاعد السلطة بتهور وجنون. ذلك أنه لا يمكنك تحليل السلطة ما لم تحلل المشاعية. فالأرضية التي نمت عليها سلطة الدولة والهرمية، هي المشاعية. والهرمية، كمصطلح، تعني إدارة المقدس، أو اكتساب العالِمُ المسن السلطةَ واستحواذه عليها. وقد كانت فاعليتها إيجابية في مرحلة ولادتها. فهداية الشبان اليافعين وتسويق شؤون المشاعة (الكلان) وإدارتها، هي مرحلة متقدمة من التطور. أما الفائدة التي يجنيها العالِم المسن من هذا العمل فهي، تخطي مصاعب الشيخوخة بسهولة. في حين أن الشبان الكفوءين من بين الملتمين حوله، كانوا مدركين إمكانية نجاحهم بشكل أفضل باستفادتهم من تجارب وخبرات ذلك العالِم. والشامان أيضاً – المثال الأول للتفسير الديني – يمكن أن يكون حليفاص مقرباً. وتحوُّل الشامان مع الزمن إلى الناطق باسم الدين، يعني في مضمونه التحول إلى الرهبانية. أما بالنسبة للشبان الذكور، فمهارتهم في الصيد تفضي بهم إلى أن يكونوا نموذجاً مصغراً عن حاشية عسكرية ملتفة حول الزعيم. يعبِّر تحالف "الراهب – الزعيم – العالِم" هنا عن الهرمية المتصاعدة. ولكن لم يُبلَغ بعد مؤسساتية الدولة. فالعلاقات ذات أبعاد شخصية. وفيما يخص القوة المحيطة بالأم الأهلية، فهي في تبعثر طردي. تكافح الأم، القوة الخلاقة للمجتمع المشاعي، بلا هوادة إزاء هذا التحالف الثلاثي الجديد. فكل الآثار التاريخية المتبقية تشير إلى ضراوة هذه المرحلة. والعهد الأمومي الأهلي الذي بلغ أوجه في المجتمع النيوليتي فيما بين (10000 – 4000ق.م)، يتم تجاوزه مع تحالف الشامان – الزعيم – العالِم، والذي يمثل ولادة نظام السلطة الأبوية (البطرياركية). وترمز ثنائيات إينانا – أنكي ومردوخ – تيامات في الميثولوجيا السومرية إلى العصر السابق لهذا التاريخ. فالتفسير الميثولوجي العادي إنما يسلط الضوء على هذه الحقيقة. وإينانا هي رمز الأم المهيبة القوية فيما قبل التاريخ؛ حيث تنوه بلا كلل أو ملل إلى "ما"ءاتها المائة والأربعة، والتي تعني أدوات الحضارة ومصطلحاتها وشرائعها. وتشير كذلك إلى أن أنكي (أول تجريد للسلطة الأبوية) قد سرق منها قيمها الجوهرية التي خلقتها. وما ذهابها من مدينتها إلى مدينة أنكي، من أوروك إلى أريدو، لتستولي ثانية على "ما"ءاتها وتظفر بها بألف كدح وكدح – وهو الفصل الأكثر إثارة وحماسية في الملحمة – سوى تصوير لهذا الكفاح العتيد. في حين أن التناحر المحتدم بين مردوخ وتيامات في الملحمة البابلية يعكس الصراع على السلطة بالأرجح. إن ما يُصوَّر هنا هو مدى ضراوة المرحلة الانتقالية من العهد الأمومي إلى العهد الأبوي، بلغة ميثولوجية. ويمكننا مشاهدة الصور المعدَّلة من هذه الملاحم في ثنائية إيزيس – أوزيريس في الحضارة المصرية، وثنائية زيوس – هرا في الحضارة الإغريقية، وفي ثنائيات مشابهة في الحضارتين الحثية والأورارتية. يمكننا استنباط ما تعلمناه من الميثولوجيا من الأديان أيضاً، وخاصة من الأديان التوحيدية. فقسطاس موسى في تقاليد سيدنا إبراهيم هو تأديب المرأة وضبطها بشكل مطلق. لم تكن المرأة حُطَّت منزلتها كلياً لدى سيدنا إبراهيم. فثنائية إبراهيم – سارة أدنى إلى القوة المتكافئة. أما في ثنائية موسى – ماريام، فالأخت ماريام محكوم عليها بالفشل الذريع المؤلم، حيث تفتقر إلى بقايا قوتها المتبقية أيضاً. وفيما يتعلق بسيدنا داوود وسيدنا سليمان، فالمرأة مادة شهوانية أحادية الجانب، وما من أمارة تدل على وجود سلطة لها. المرأة هنا هي مادة اللذة واللهو والغبطة بالنسبة للمَلَكليات المتصاعدة. وهي أداة لاستمرار النسل. ورغم ظهور بعض الشخصيات بين الفينة والأخرى، مثل أستر ودليلة، إلا إنها لا تذهب أبعد من كونها أداة استثمار واستغلال. وفي ثنائية سيدنا عيسى – مريم لا نسمع مريم تتفوه ولو بكلمة واحدة. وكأن لسانها مبتور. إن الديانة المسيحية هنا تشكل خطوة عملاقة للوصول إلى المرأة الراهنة. أما في ثنائية سيدنا محمد – عائشة، فثمة مأساة تراجيدية. فعائشة الصغيرة السن تشكو بحدة من سلطة الإسلام الإقطاعي المتنامية. حيث ينقل المؤرخون عنها تذمرها قائلة: "يا رب، ليتك صنعتني قطعة حجر، عن أن تخلقني امرأة!". إن هذه الجملة هي لعنة لُفِظَت بحنقة الإدراك باستحالة أخذ النتائج المرجوة، حتى لو كانت الزوجة الأحب إلى قلب النبي في لعبة السلطة. يمكننا ملاحظة أن الهرمية استمدت قوتها أساساً من صراع مجتمع السلطة الأبوية مع القوة الأمومية، وبكثرة، من خلال المجتمعات الإثنية التي لا تزال قائمة. ويشاهَه حدوث الانكسارات الكبرى في الشكل الاجتماعي للمرأة بعد تكبدها هذه الهزيمة. فبينما كانت هي المختارة والمنتقية في الماضي، بات يُنظَر إليها كمُلك في يومنا. ولم يتبقَّ من المرأة المنظِّمة للرجل من حولها، والمقاوِمة مدة طويلة كي لا تُنتَزَع سلطتُها منها، سوى عنصر أو هوية امرأة مفتقرة لإرادتها، وقانعة باختيارات الرجل وانتقاءاته. هذا وبمقدورنا ملاحظة عدم مرور هذه المرحلة بسهولة، من خلال مثال آخر، ألا وهو القرابين المقدمة في المراسيم المقدسة المقامة في كل ذكرى سنوية للزيجات المقدسة للرجال الملوك المرشحين للزواج من الإلهة الأم. فهذه المراسيم، التي طالما صادفنا ذكراها في العديد من المجتمعات، إنما ترمز إلى مقاومة المرأة الطويلة الأمد في سبيل عدم فقدانها سلطتها. فمراسيم تقديم القرابين تُرتِّب بشكل رمزي إعاقة حظي الرجل بالسلطة أو تحكمه بالمرأة. ولكن الصراع المحتدم بين مردوخ ويتامات، في أعوام الألفين قبل الميلاد في المجتمع السومري، يصوِّر كيف انتهت هذه المرحلة على حساب المرأة. ونصادف أمثلة مشابهة لها في السياق الحضاري في كافة المجتمعات ذات الأصول الشرق أوسطية، خلال المراحل اللاحقة لأعوام الألفين ما قبل الميلاد. رغم لعب المجتمع الهرمي دوراً إيجابياً في التقدم في بداياته، إلا إنه غدا مع مرور الزمن وجهاً لوجه أمام التبعثر أو التدوُّل. إنها مرحلة العبور بين المجتمع المشاعي البدائي والدولة. ولكنها تستنهل قوتها من مجتمعيتها. وبعد مواجهة هذه المرحلة وتجذرها في غضون مدة طويلة، وصل هذا الشكل من السلطة ذروته، خاصة في المجموعات الإثنية. فالمجتمع الذكوري السلطوي والهرمي هو الذي حقق أساساً خنوع وإذلال النساء والشبيبة والأعضاء الآخرين من الإثنية. والأهم في الأمر هو طراز تحقُّق هذه السلطة. فالسلطة هنا لا تمارَس بالشرائع، بل بالأخلاق. والأخلاق تفيد بقوة الأحكام والقواعد التي يتوجب على المجتمع الامتثال لها. وهذه القوة بدورها لا تُفرَض عنوة وإكراهاً، بل طواعيةً، انطلاقاً من دورها المصيري في تأمين سيرورة الوجود المجتمعي. أما وجه الخلاف فيها عن الدين، فينبع من الحاجة الدنيوية، عوضاً عن القدسية. لا شك في أن الدين أيضاً دنيوي، ولكن الجانب السحري للمصطلحات، وتكوينه الأقدم على الإطلاق، إنما يحيطه بهالة من القدسية. وهو طقسي، وأكثر تجريداً. في حين أن الأخلاق هي القواعد اليومية والدنيوية والعملية اللازمة. وإلى جانب التداخل والتشابك، فبينما تنظِّم الأخلاق على الدوام إدارة الشؤون الدنيوية، يسعى الدين للتجاوب مع مستلزمات استيعاب العقائد والعوالم الأخرى. أي، بينما يكون الدين نظرية المجتمع البدائي، تصبح الأخلاق ممارسته العملية. تفي هاتان المؤسستان بالغرض في إدارة شؤون المجتمع حتى مرحلة التدول. ويمكن تسمية هذه الحقبة بمرحلة تسيير المجتمع بالعادات والتقاليد والأعراف والعقائد. إذ لا تزال السمة المشاعية هي الطاغية في المجتمع، لا الشخصانية. والالتزام بالمشاعية يتحقق بالامتثال لبنيتها الدينية والأخلاقية بالأغلب. أما عدم الامتثال لها، فيعني الخلل والتشوش والأزمة. وهذا ما يعني التشتت والإبادة. من هنا، فالدين والأخلاق في هذه الحقبة عقيدة وممارسة وطيدتان للغاية. وأي شخص لا يمتثل للدين والأخلاق يفيد بأنه يرتكب أفظع سوء بحق المجتمع القائم. ومن الصعب على المجتمع تحمل ذلك، بل هو مضطر لمواجهته بأشد أنواع العقاب. فإما أن يطرده خارج المجتمع، أو يُلحِقه بتدريب قاسٍ. فالمهم هنا هو عدم إفساد الخاصية المشاعية. ولا يزال اعتبار عدم تأدية بعض العبادات أو القواعد في الأديان أكبر ذنب على الإطلاق في راهننا، يعكس قوة المشاعية تلك. إنه يشيد بقدسية خاصية العلاقة المشاعية. ثمة تقييم متعلق بالدين في يومنا الحاضر، ويُعمَل به بكثرة رغم خطئه. ألا وهو اعتبار الدين مسألة شخصية. فالدين ليس بمسألة شخصية، بل هو الشكل الاصطلاحي والأخلاقي والإداري الأول للظاهرة الاجتماعية. وتعبِّر الهرمية عن هذه الحقيقة، باعتبارها إدارة المقدس. الصراع دائمي بين المجتمع المشاعي والهرمية. وتبدأ التفرعات والتشعبات بالظهور في القواعد الدينية والأخلاقية بشأن عودة القيم المادية والمعنوية المتراكمة إلى المجتمع ثانية أم احتكارها. فبينما يُشاهَد التطور قُدُماً صوب مصطلح الإله الواحد المجرد في الظاهرة الدينية المصوِّرة لقيم مجتمع النظام الأبوي، تقاوِم سلطة النظام الأمومي للمجتمع الطبيعي بمفهوم تعددية الإلهات الإناث. الشريعة الأساسية في نظام الأم الأهلي هي الكدح والإنتاج، ومنح ما هو ضروري لإحياء الجميع. وبينما ترى أخلاق النظام الأبوي السلطوي مسألة الادخار والتكديس مشروعة، وتفتح الباب أمام المُلكية؛ تُعِيب أخلاق المجتمع المشاعي موضوع الادخار، وتنظر إليه بعين السوء، وتحفِّز على توزيعه. وهنا يكمن أصل مصطلح "الجود والسخاء". في هذه الظاهرة. حيث يُسعى لصون المُلكية الجماعية إزاء المُلكية الخاصة. ولكن التواؤم والتناغم في المجتمع يفسد تدريجياً، ويزداد التوتر والاضطراب. ويُرى حل هذا التناقض إما في العودة إلى القيم القديمة، أو في تصعيد القوة في الداخل والخارج. وهكذا تتكون الأرضية الاجتماعية للعنف والحروب المرتكزة إلى القمع والاستعمار. وتباشر المجموعات الهرمية المتعاظمة حول القيم المادية والمعنوية بتقديس السلطة وبذل المحاولات المنظمة بصدد أحقية المُلكية، بكل دَأْب وغيرة؛ كي لا تتشتت وتتبعثر. ومن الصعب على الجماعات الأصغر والأكثر تفككاً الصمود أمام هذه القوة. ولم يتبقَّ أمام الكلانات والقبائل المسحوقة سوى صون وجودها الحر عبر الهجرات الدائمة. وتبدأ الجماعات النازحة بالتنقل في قلب البراري المجدبة والغابات الموحشة والجبال الشاهقة، لا بغرض الصيد أو جمع الثمار فحسب، بل كي لا تتهدم القيم المشاعية أو تنهار بالأغلب. وتخط بذلك مسار المسيرة التاريخية الكبرى. هذه المسيرة الدائمية المحتضنة بين طياتها حب الحرية وعشقها، تعد إحدى أهم الحركات في التاريخ. وانطلاقاً من ضرورة حماية الذات، تضطر الكلانات والقبائل للتحول إلى عشائر. فالعشيرة ليست مجرد تضخم بيولوجي فحسب، بل وضرب من ضروب المقاومة تجاه الهرمية أيضاً. كانت السلطة في بنية العشيرة تتميز بماهيتها الإيجابية في الفترات الأولى، لتُمدَح وتُمجَّد أخلاقياً، وبالملاحم والموسيقا على الدوام. ورئيس العشيرة هو في منزلة الرمز المشير إلى وجود العشيرة وحريتها، بحيث تتجسد في شخصيته ذهنيتها وكرامتها وأمنها واستقرارها. المرحلة التي ستؤول إليها هذه الحقبة المليئة بالتناقضات، هي الدولة كسلطة مؤسساتية معتمدة على العنف الراسخ. تشكِّل ولادة الدولة المرحلة الثانية الكبرى في تاريخ المجتمعات، حيث تجلب التغييرات الجذرية للإنتاج والحياة الاجتماعية وبنى السلطة والبنية الذهنية برمتها. وبما أن الصراعات غير المنتظمة بين العشائر والقبائل أسفرت عن مضغ واستهلاك الادخار والمُلكية وتعريتهما باستمرار؛ فقد كان الحل مقابل ذلك هو تمأسس السلطة المرتكزة إلى القوة. وتولَّد الراهب من الشامان، والمَلِك من العالِم، والمسؤول العسكري من الزعيم. والشخص في الظواهر الثلاث مؤقت، بينما المؤسسة راسخة دائمة. وبلغت مرحلة الاستقرار والاستيطان مستوى بناء المدينة، بتجاوزها نموذج القرية. كان النظام المشاعي هو الحاكم في البداية في مجتمع القرية. فالقرية هي موطن الحياة الأساسي للمجتمع النيوليتي. وهي الموطن المقدس للثورة الزراعية المستمرة في الفترة ما بين (11000 – 3000ق.م). علاوة على أنها تمثل تماشي المجتمعَين المشاعي والهرمي مع بعضهما مدة طويلة من الزمن. لم يكن ثمة آغاوية أو بيكاوية بعد. إنها الأثر الخالد المشرِّف الذي تتباهى به الأم الأهلية. ذلك أن كل القيم المعنية بالبيت تتمخض عن ذهنها هي. فالحيوانات التي تستأهلها من حولها، والنباتات التي تستنبتها، إنما تمنح حياة معجزوية لا ند لها. والآلاف من الاكتشافات في هذه الحقبة هي من إيجاد المرأة. الحقبة هي "حقبة اكتشافات المرأة" التي لا أحد يعرف مَن أوجدها هي. ولكن المجموعات الهرمية الماكرة المعزِّزة من شأن ذاتها، ستضع عيونها على هذه الاكتشافات وغنى المحاصيل، وستنهبها وتسلبها. وستولِّد الدولة لتوطيد مكانتها. تلك المرحلة التي لا تزال معاشة على الآلاف من النتوءات والتلال الموجودة على حواف سلسلة جبال طوروس وزاغروس، ترتقي بقروتها لتؤسس المدن في السهول الخصيبة المروية بمياه أنهر دجلة والفرات والنيل والبينجاب من ناحية، ولتمهد السبيل لظهور نظام الدولة (البوليس) معها من ناحية أخرى. ولدى تشكُّل القرى والمدن تضاف ثنائية الترحال – الاستيطان كعنصر هام ثانٍ إلى الانقسام الحاصل في المجتمع. وبينما يكون الانقسام الهرمي عمودياً، فإن الترحال – الاستيطان ينقسم أفقياً. وتتشكل الأنظمة التاريخية للمجتمعات بعد ذلك وفقاً للتناقضات المتمخضة عن هذين الانقسامين. تعكس الثورة الذهنية المبتدئة مع القرية، والمتجذرة مع المدينة، ذاتها في ثقافة المعتقدات الدينية أولاً. ويسعى النظام الإلهي إلى فصل نفسه تماماً، وبكل إصرار، عن نظام الطبيعة والإنسان. ويضفي الآلهة صفات خاصة على ذاتهم، من قبيل العمر المديد، السكن في كبد السماء، أو الارتداد أحياناً إلى جوف الأرض، وأنهم لا يُقحِمون الناسَ فيما بينهم، ويعاقِبون البشر إن شاؤوا. وتتعدد هذه الصفات طردياً في الآلهة الميثولوجية السومرية. وتتكون جماعة (كوادر) غنية من الآلهة، بدءاً من الآلهة الحامية للمدن، وحتى آلهة النهر، الزرع، البحر، الجبل، السماء، وآلهة تحت الأرض. ويمثل هذا النظام الاصطلاحي تداخل القوى الطبيعية مع القوة الطبقية المتنامية داخل المجتمع. وتتسم هذه الصياغة الدينية وشبع الميثولوجية، المعتمدة أساساً على تقديس وتوطيد وجود الطبقات المهيمنة التي تتشاطر وجه البسيطة فيما بينها؛ بأهمية مصيرية من أجل مشروعية النظام الجديد المتأسس. ويبرز هذا التباين بالأغلب لدى الانتقال من النظام الديني الذي تغلب عليه الإلهات الإناث، إلى النظام الديني الذي تغلب عليه الآلهة الذكور. وهنا تكمن أهمية مفارقة كل من إينانا – أنكي، ومردوخ – تيامات. لا يمكن لأي ميثولوجيا أن تبلغ قدرة الشرح الشفاف والأصلي الشعري للتباين الطبقي البارز وتكوُّن الدولة، بقدر ما هي عليه الميثولوجيا السومرية. إننا وجهاً لوجه أمام سرد مذهل وخارق خلاب. وبالمقدور ملاحظة كل "البدايات" للمصطلحات والمؤسسات الدينية، الأدبية، السياسية، الاقتصادية والاجتماعي في المجتمع السومري. وبالمقدور القول أن هذه الأصالة تتصدر المستجدات التاريخية المكوِّنة بالأغلب لبنية المصطلحات والمؤسسات الأولية في المجتمع. من هنا، فحلول المجتمع السومري تتميز بمزاياها العالمية. يُخَمَّن بأن تشكُّل المدينة والدولة قد تطور امتداداً للثورة الزراعية القروية الحاصلة على حواف جبال طوروس وزاغروس. ويتم نقل المصطلحات النظرية والوسائل العملية لهذه الثورة الأشمل والأطول في تاريخ البشرية، إلى ميزوبوتاميا السفلى، على يد الفئات الهرمية التي يغلب عليها الرهبان. ومن المحتمل بنسبة كبيرة أنهم أخذوا معهم التقنيات الجاهزة لزراعة الأراضي وحصدها، ولبناء المنازل وحياكة النسيج وتأمين الاتصال؛ وعلى رأسها نماذج من كل الحيوانات والبذور وأشجار الفواكه الضرورية. لكن، لا يمكنهم تأمين ذلك في شروط المناطق البرية المقحلة، ما لم يتم ريّها. تشير اللقى والآثار المعثور عليها إلى خارطة الطريق التي سلكتها الثقافة مع تلك الجماعات القادمة، بكل سطوع. وتمكنت هذه الجماعات النازحة حوالي (6000 – 5000ق.م) من تأليف وحدات القرى المحتوية على خمسة آلاف شخصاً، اعتباراً من أعوام 4000ق.م. ومدينة أوروك المشهورة في التاريخ، والتي بنتها الإلهة إينانا، تُكَرَّم إلى البشرية كدولة في أعوام 3200ق.م. وتدخل أوروك عالم الخلود – كما تستحق – مع ملحمة كلكامش، بعد أن كانت أول مثال مدوَّن عن ثورات المدينة؛ كهدية موهوبة من قِبَل الإلهة الأم. وكلمة كلكامش ذات أصل آري – حسب علم الصَّرف والاشتقاق – مثلما هي حال الكثير من الألفاظ السومرية. فحتى في لغتنا الكردية الراهنة: (كل = Gıl = Gır)، ومعناه "الكبير، الضخم، العملاق". أما (كامش = Gameş = Gamej)، ومعناه "الجاموس، كبير الثور". ولا يزال التشبيه "مثل الثور، مثل الجاموس" دارجاً في الثقافة المحلية في وصف الرجال الأقواء الأشداء. وفي هذه الحالة، فكلمة "كلكامش" تعني "الجاموس العملاق" مشيرة بذلك إلى الرجل الأقوى والأشد بأساً. وتعريف كلكامش في الملحمة يتميز بماهية تصادق على هذا التقرب. وسيفيدنا اقتفاء أثر القيم التاريخية في خرائط طرق الكرد، في التعلم واستنباط الدروس جيداً منها. والحكاية المصوَّرة في ملحمة كلكامش، هي حكاية ولادة المَلَكية، وبالتالي الدولة. وباعتبارها الملحمة الأولى، فهي المصدر الأساسي القدوة. وبالإمكان القول أن الآثار التاريخية العظيمة قد حذت حذو هذا الأثر، بدءاً من "إلياذة" هوميروس وحتى "آينيسا" فيرغيليوس" ومن ملاحم المَلك أرتخور وحتى "الكوميديا الإلهية" لدانتيه. والله أعلم كم هي الملاحم الشهيرة البارزة في الثورة الزراعية الكبرى الأولى، ولم يتم تدوينها. ويمكننا مصادفتها على شكل بقايا أثرية من خلال السرود المدوَّنة لدى السومريين والحثيين والإيونيين. كما بمقدورنا الإحساس بها من خلال ضوابط الموسيقا وآلاتها السائرة حتى يومنا هذا. إن القسم الأعظمي منها يصور ثقافة العشيرة. ولا يزال الشبه ضارباً للنظر بين قيم العشيرة الحية، والآثار الموجودة لدى السومريين. لقد سردنا هذا التجوال التاريخي المقتضب بغرض التعرف على النظام الاجتماعي الجديد عن كثب. فقد اقتفينا أثر المجتمع الدولتي عبر التاريخ أيضاً، ولاحظنا كيف وُلِدَت مؤسسة الدولة والمدينة بشكل متداخل حول قوة المعبد الكبرى. وصار بالإمكان، من خلال المثال السومري، إعطاء تعريف للدين أصح من ذاك الذي أفادت به الماركسية بأنه مؤسسة البنية الفوقية التي صوَّرت النظام الاقتصادي فيما بعد كبنية تحتية. فالمعبد بحد ذاته هو ساحة خلق مصطلحات الإله (الطابق العلوي للزقورة إلهي، والطابق السفلي بشري وإنتاجي) من ناحية، ومركز الإنتاج الاقتصادي من ناحية أخرى. فالطابق العلوي مؤلَّف من مجمَّع الآلهة، في حين أن الطابق السفلي معبَّأ بأدوات الإنتاج ومخزوناته. ويلعب دوراً أساسياً كمركز للذهنية الجديدة والإنتاج المادي في عهد الولادة. والمعطيات التي بحوزتنا تدل على صحة هذه المعالجة بكل جلاء. وعلينا ألا نغفل عن أن مؤسِّس المعبد هو الراهب الشخص. وحتى هذه الظاهرة تشير إلى أن الإنتاج أيضاً تضمَّن الذهنية أولاً في ثورة بنيته التحتية، بقدر ما هي عليه المدينة والدولة. فالمعبد مؤسسة تعتمد الذهنية أساساً. أي البراديغما الأساسية. وما هو ملفت للنظر أن الزقورات (المعابد السومرية) تحمل بين طياتها نموذجاً مصغراً عن المدينة التي ستتطور لاحقاً، باعتبارها مراكز نظرية وسياسية من جهة، وتقنية واقتصادية من الجهة الأخرى. الزقورات هي بذرة المدينة والدولة. ففيها تتركب منافع المجمع الهرمي، في عقل الراهب الذي يؤلف نموذجاص نظرياً لإحراز تطورات أعظم وأشمل، ليُدخِله حيز التنفيذ على أرض الواقع عبر الوسائل العملية الجاهزة. وتتولد مدينة من المعبد، وحضارة من المدينة، ودولة من الحضارة، وإمبراطورية من الدولة، وعالَم بأكمله من الإمبراطورية. فهل ثمة معجزة أعظم من هذه؟! لم تسمى هذه الأراضي بـ"ديار المعجزات" هباء وعبثاً. التاريخ أيضاً يدوِّن أن الملوك الأوائل للمجتمع السومري، ترجع أصولهم إلى الرهبان. ومن المحال انتظار ورود نظرة أخرى في نظامنا التصوري. وطاقة الراهب – المَلك الكامنة يُحَد من نطاقها كلما تمأسست الدولة وطورت بيروقراطيتها. وتبرز السياسة، أي مشاكل إدارة شؤون المدينة المتعاظمة، إلى الأمام. وتحصل المستجدات بالانتقال من النوعية المقدسة للدولة نحو نوعيتها الدنيوية اللامبالية بالدين. فبينما ينهمك الراهب في الأعمال النظرية بالأغلب، ينشغل العنصر السياسي بالأعمال العملية. هذا الوضع المشحون بالتداخل الكثيف، سيُبرِز السياسي إلى المقدمة مع الزمن. فالمدينة المتعاظمة تعني سياسياً متعاظماً. وفي الخطوة اللاحقة لها، خاصة عندما يكتسب الأمن الخارجي للمدينة أهيمته، يبرز دور المسؤول العسكري إلى المقدمة. وهكذا تغدو المَلكية مقتاتة من هذه المنابع الثلاث. وثلاثتها تعتمد الألوهية أساساً. وما تطوَّر من حينها وحتى الآن، ليس سوى تكاثر هذا النموذج مع قليل من التعديل والتنوع. الخلية النواة للدولة هي المعبد. وما بعده تأتي الخلايا الجديدة والنسج والأعضاء والأجهزة والأنظمة. تماماً كالإنسان. محصلة الكلام، كل هذا الكيان يعبِّر عن الدولة كبنية فوقية. تُشبَّه الدولة في الميثولوجيا، على الصعيد المؤسساتي، بالعرش الذهبي. ويتربع عليها الملوك كآلهة خالدة، ليفصلوا أنسابهم (طبقاتهم) عن بقية البشر، وكأنهم لن يغادروا هذه الحياة أبداً. ويعلنون عن خلود أنسابهم، بما أنهم يواصلون شؤون الإدارة كسلالة. وهكذا يعتلي الملوك القمم العليا في التاريخ كآلهة خالدة أبدية. والجانب الغريب في الأمر هو مشاهدتنا لبوادر كل الانقسامات اللاحقة من هذا الانقسام الاجتماعي بالذات. هكذا تظهر الأديان التوحيدية والأدبيات أولاً، وكافة الفنون والسياسات والانطلاقات الأصلية الأخرى، كمحطات أساسية في المسار، لتبرز على صحن التاريخ. وإذا ما تفحصنا منبع سلطة الدولة بإمعان، سندرك على نحو أفضل لماذا تتسم هي بالسيرورة الدائمة، ولماذا وجب أن تكون على نحو غامض مبهم.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب الفصل الثاني آ - اللب التاريخي للقيم المشاعية
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول / ه- الدولة الراسمالية والمجتمع ال
...
-
الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجت
...
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا
...
-
الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة
...
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول
-
الدفاع عن شعب
المزيد.....
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دمر تماما
-
عاصفة انتقادات إسرائيلية أمريكية للجنائية الدولية بعد مذكرتي
...
-
غوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
سلامي: قرار المحكمة الجنائية اعتبار قادة الاحتلال مجرمي حرب
...
-
أزمة المياه تعمق معاناة النازحين بمدينة خان يونس
-
جوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا بشكل رسمي
-
مقرر أممي: قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت تاري
...
-
جنوب السودان: سماع دوي إطلاق نار في جوبا وسط أنباء عن محاولة
...
-
الأمم المتحدة تحذر من توقف إمدادات الغذاء في غزة
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|