|
«ثورة» شبكات التواصل الاجتماعية في زمن الحراك السوري
وسام الناصر
الحوار المتمدن-العدد: 3669 - 2012 / 3 / 16 - 15:24
المحور:
الصحافة والاعلام
ساهمت الأزمة السورية في تعرية وسائل الاعلام الرسمية، و كشفت مدى ضعفها وانحسار مصداقيتها. فعلى الرغم من أنها الوحيدة المحتكرة للعمل الميداني في سوريا و ورغم التغطية الواسعة و الحيز الإعلامي الكبير المخصص للأزمة إلا أن ذلك لم يجعل منها مصدراً موثوقا للمعلومات، و لا عنصراً فاعلاً في تقديم رواية مقنعة للمتلقي، لا بل على العكس فقد تم تجاهلها و التشكيك بها و الاستعاضة عنها بروايات الناشطين والمواطنين العاديين الذين عملوا كمراسلين صحفيين و ناقلين للأخبار بأدوات بسيطة لا تتعدى هاتف محمول مزود بخدمة اتصال دولية، أو كمرا بسيطة مع حاسب بمودم فضائي. و قد تراكضت وكالات الأنباء و القنوات الاعلامية الكبرى وراء هؤلاء الناشطين لتبث أخبارهم، و كل ما تستطيع كمراتهم من تصويره دون أي تدقيق أو تمحيص في ظل حرب وسباق محموم على المعلومة. و سرعان ما تنامى دور شبكات التواصل الاجتماعية عبر الإنترنت منذ اللحظة الأولى للأزمة، لتغدو مصدرا جديدا للمعلومات و جزءاً لا يتجزأ من الحراك و تفاعلاته. فكيف أمكن لهذا المولود الجديد أن يحتل هذه المكانة الهامة في عالم المعلومات ؟ وكيف استطاع تجاوز الإعلام التقليدي السوري وسبقه بأشواط كبيرة ؟ ثم ما هو الدور الحقيقي الذي لعبته تلك الشبكات الاجتماعية على مستوى الحراك في سوريا؟
1
نستطيع القول بأن الإعلام السوري عاش مرحلة ثبات شتوي و صيفي استمرت لعقودٍ من الزمن، ولم يعتد السوريون تناقل الأخبار و روايتها على لسان إعلامهم سواء المكتوب، المسموع، أو المرئي منه. فالثلاثي الخرِف(الثورة، البعث، و تشرين) احتفظ بمكانه على مدار سنوات تحت وجبات الطعام، وعلى رفوف البرادات، و عند بائعي الفلافل. أما التلفزيون السوري كان، و ما يزال، يستيقظ من غيبوبته مرةً واحداةً كل عام على وقع العصف الدرامي في شهر رمضان، ليعود و يكمل هذيانه على أنغام برامج: «الشرطة في خدمة الشعب»، و «خضرا يا بلادي خضرا»... كان في دخول تقنية البث الفضائي و ظهور الفضائيات العربية االمتخصصة تعويضاً للمتلقي السوري حيث وفر له فضاءاً رحباً من المعلومات و الفائدة و التسلية، مما دفعه إلى الإمعان في مقاطع الإعلامه الرسمي ليبقى الأخير معزولا و محروما من أي جماهيرية تذكر، حاله حال عجوز هرم يودع الحياة، بينما نجد مواطننا المسكين يتابع أخبار بلده و أخبار العالم على صفحات جرائد البلدان المجاورة، و على شاشات الفضائية العربية. إلا أن الانقلاب الحقيقي بدأ بدخول التكنولوجية الحديثة من هاتف محمول و إنترنت إلى حياة السوريين، مما فتح لهم آفاقاً جديداةُ نقلتهم من موقع المتلقي السلبي إلى موقع المشارك و المتفاعل. و تحول المواطن السوري من مصغٍ ساكن لقصص الحكواتي (التلفزيون السوري) الذي يبدأ و ينهي القصة متى و كيفما يشاء، إلى كاتب فاعل و محاور منفتح و مساهم في بناء روايته الخاصة و قناعاته المختلفة. مع هذه الثورة المعرفية و التدفق الهائل للمعلومات لم يعد بإمكان النظام السوري عزل المواطن عما يجري حوله، فبالرغم من حجب العدد الأكبر من المواقع التي تعتبر مهددة «للوعي السوري »، إلا أن المهمة أصبحت أكثر صعوبة، حيث لم يعدم السوريون الحيلة للإلتفاف على هذا الحجب سواء بكسر« البروكسي» أو من خلال شبكة علاقات و صداقات خارج سوريا يُرسل من خلالها كل ما هو ممنوع عبر الإيميل، و هناك الكثير من الصحف الالكترونية كانت، و ما تزال، توزع على المشتركين من خلال الإيميل بحكم انها محجوبة. و هكذا، بعد أن كان الرقيب يقف بكل بساطة على الحدود السورية ليمنع دخول صحيفة معينة أو ليقص مقال منها(المثير للسخرية أن بعض الصحف بقيت ممنوعة كنسخة و رقية بينما موقعها على الإنترنت غير محجوبا)، أصبحت مهمته أكثر تعقيداً مع تقنية الإنترنت و فضائه الرحب، خاصة مع مواهب السوريين في الالتفاف و التحايل على كل ما هو ممنوع، بالإضافة إلى وجود العديد من المتخصصين في فك الشيفرات و الحجب و غيرها( أعتقد أننا من الشعوب الفريدة في العالم التي تتابع كأس العالم لكرة القدم مجاناً).
2
تزامن ولوج السوريون في عالم الشبكات الاجتماعية (فيسبوك، تويتر، يوتوب و غيرها) مع بداية الحراك. و قد كان قرار رفع الحجب عنها مفاجئاً للكثيرين و خاصة أن أول دعوة للتظاهرة أعلن عنها عبر الفيسبوك كانت في الأول من شباط 2011، أي قبل رفع الحجب عنه في 8 شباط. و لكن ما تنيّن فيما بعد هو أن النظام السوري قرر استغلال هذه التقنية و تحويلها لىسلاح يحارفيه مواليه، بدلا من أن تبقى محتكرةً من قبل خصومه. و هذا ما تجسد من خلال إغراق الشبكة بعدد كبير من الصفحات الفيسبوكية الموالية و غيرها من الصفحات التي أخذت على عاتقها مهمة التصدي للحملة الإعلامية المنظمة للمعارضة السورية على الإنترنت. يرى الباحثون أن شبكات التواصل الاجتماعية قد ساهمت إلى حدٍ واسعٍ في إدخالِ آلياتٍ جديدةٍ في عمل وسائل الإتصال السياسي، لا بل أصبحت إحدى القنوات الهامة لهذا الاتصال. و قد ظهر دورها سابقاً في ثورات التغيير التي حصلت في كل من: صربيا (2000)، و جورجيا (2003)، و الثورة البرتقالية في اوكرانيا(2004)؛ و كما استخدمت على نطاق واسع أثناء الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي باراك أوباما(2008) لتصبح من أهم وسائل الحصول على المعلومة و أداة هامة من أدوات الدعم و حشد المناصرين، و اُعتبرت حملة الانتخابات هذه من أنجح الحملات التي استطاعت أن توائم بين الشكل التقليدي للحملات و بين استخدام التكنولوجيا الحديثة فيها؛ و تلعب حاليا دورا فاعلا في الحملات الانتخابية لمرشحي الرئاسة في فرنسا(2012). تنامى دور هذه الشبكات في سياق «الربيع العربي»، و سيكون هذا الدور موضوعاً للكثير من الأبحاث التي بدأت في العديد من جامعات أوروبا و أمريكا. و لكن ما أصبح مؤكداً هو اختلاف هذا الدور من دولة لأخرى و حتى اختلافه ضمن الدولة الواحدة تبعا لانتشار خدمة الإنترنت و درجة التعليم و غيرها من العوامل المؤثرة. و من المؤكد أيضا أن المبادرات الأولى لاستخدام هذه الشبكات و تسخيرها لخدمة الحراك الثوري بدأ من قبل الشباب المتعلم و الميسور الحال نسبياً و ناشطي حقوق الانسان، و في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى العلاقة التي جمعت العديد من الناشطين المصريين في حركة «6 نيسان» و مركز للتطبيقات غير العنيفة واستراتيجيات العمل «CANVAS» في صربيا و الذي عمل على تدريب هؤلاء الناشطين على الاستخدام الأفضل للتكنولوجيا والشبكات الاجتماعية في الفعل الاحتجاجي و عمليات الحشد الجماهيري. أما في سوريا، وإن كان من الإستحالة ارجاع الحراك بمجمله إلى دور التكنولوجيا الحديثة و شبكات التواصل الاجتماعية، إلاأنه لا بدّ من الإقرار بأن استغلال هذه التقنيات و استثمارها ساهم إلى حد بعيد سواء من خلال نقل المعلومة و بسرعة كبيرة داخل و خارج سوريا، أو بالتأثير عاطفيا و وجدانيا في نفوس المنتفضين. إلا أن دور هذه التكنولوجيا في بناء شبكات تواصل على الأرض مرادفة لنظيراتها من علاقات و شبكات اجتماعية وعائلية قوية و متجذرة في المجتمع؛ و بالتالي أثرها في تنظيم التظاهرات و انزال الناس إلى الشارع يبقى موضع تساؤل و نقاش.
3
أولى الدعوات للتظاهر في سوريا ظهرت على صفحة الفيسبوك المسمات « الثورة السورية ضد بشار الأسد 2011»، و التي لعبت فيما بعد دورا أساسيا خلال الحراك. إن إنشاء هذه الصفحة خارج سوريا و استفادتها من التطور التقني و إدارتها من قبل ناشطين متمكنين من تقنيات المعلوماتية و الإنترنت أعطاها هامشاً واسعاً من المرونة و حرية الحركة. إلا أن العمود الفقري لهذه الصفحة هو ارتباطها بمجموعة من الناشطين في مختلف المناطق السورية، و المزوديّن بتقنيات متطورة جعلت منها جسراً لعبور المعلومات بين الداخل و الخارج، وقد أكد الكثير من الناشطين أمثال( أسامة المنجد، فداء السيد، رامي نخلة) تمكنهم من ادخال أجهزة اتصال عبر الأقمار الصناعية و هواتف نقالة دولية و كمرات و غيرها من التقنيات اللازمة للتواصل، و توزيعها على مجموعات صغيرة من الناشطين في الداخل «مجموعات الثقة»، كما أكدوا قيامهم بإعداد هؤلاء الناشطين و تدريبهم على تقنيات الاتصال و دور التكنولوجيا في الثورات السلمية من خلال تنظيم دورات تأهيلية في الدول المجاورة مثل الأردن و تركيا.
اذاً، المجموعات في الداخل أخذت على عاتقها مهمة البحث عن المعلومة كتصوير التظاهرات و تحميلها بأقصى سرعة على الشبكة، ليتلقاها أصدقائهم في الخارج و ليتم توزيعها و نشرها على نطاق واسع. في البداية لم تحظى هذه الشبكات و ما تبثه من معلومات برواج كبير، و لكن بعد إغلاق الحدود السورية أمام أي إعلام خارجي لفترة طويلة، و تبني القنوات الكبرى لكل ما ينشر على هذه الصفحات و إعادة بثه كما هو دون أي تدقيق ( أو حتى عدم إمكانية تدقيق) للمعلومة، مما جعل هذه الشبكات مصدراً رئيسياً للمعلومات و الفيديوهات، و تحولت إلى ما يشبه وكالة أنباء مزودة بمراسلين موزعين على طول البلاد و عرضها، تلهث ورائها معظم الفضائيات لتنال قسطاً من الأخبار علها تعوض به غيابها عن الأرض . وقد شكلت قناة الجزيرة رافعة أخرى لهذه الشبكات من خلال تلقفها لكا ما تنشره لتعيد بثه بسرعة كبيرة. و لا بد من الإشارة إلى أن تسارع الأحداث، و التدفق الهائل للرسائل الإعلامية، و المعارك المحمومة على المعلومة؛ إضافة إلى التداخل بين الأجندات السياسية و الإعلامية جعل معظم الوسائل الإعلامية تتخلى عن الكثير من قواعد المهنية و الموضوعية في العمل الإعلامي. وكما استفادت الشبكات المعارضة من دعم مجموعات كبيرة من الناشطين عبر الإنترنت كمجموعة «تيليكوميكس»، و هي عبارة عن تجمع من الناشطين من جنسيات مختلفة، عملت على تأمين قنوات اتصال آمنة عبر الشبكة، و إخفاء هوية الناشطين السوريين عبر الإنترنت و أنشأت لهم موقعا خاصا يرشدهم إلى أساليب الالتفاف على الرقابة الحكومية المفروضة على الشبكة؛ و بهذا فإن المجموعة ساعدت الناشطين السوريين على التواصل المستمر فيما بينهم، وحافظت أيضا على اتصالهم الدائم مع العالم الخارجي.
4
وكان لموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» الدور الأكبر على الساحة السورية مقارنة مع غيره من المواقع الأخرى، وازداد عدد الصفحات المعارضة بشكل كبير لدرجة أنه أصبح لكل حي أو شارع صفحة خاصة به تنقل أخبار الحراك فيه. كما ظهرت بعض الصفحات التي اهتمت بالدعابة المستوحاة من رحم الحراك، مثل صفحة «مغسل و مشحم حمص الدولي للدبابات ...» وغيرها ،التي بداية لاقت رواجاً كبيراً، ولكن ما لبثت أن فقدت بهجتها بعد انحرافها عن هدفها الأول و انخراطها في أجندة إعلامية معينة. بالتوازي مع تكاثر صفحات المعارضة ظهرت مجموعة كبيرة أيضا من الصفحات الموالية، و التي عملت منذ البداية على تفنيد و تكذيب كل ما يصدر عن نظيراتها في المعارضة، فكانت صفحة «الجيش السوري الإلكتروني» التي قامت بنشاط واسع من خلال الاعتماد على مجموعة تقنيين متخصصين نفذوا الكثير من عمليات «تهكير» للعديد من كبرى صفحات و مواقع المعارضة. إلا أن إنشاء الصفحات الموالية منذ البداية كان رد فعل و ليس فعل، فحتى على مستوى اسم الصفحة كنا نجد الموالات تنشىء صفحات بنفس أسماء الصفحات المعارضة (صفحة شام الأخبارية)، و هذا النهج عموما استمر طوال فترة الحراك، فمعظم ما تقوم بنشره صفحات الموالات من مواد و أخبار و فيديوهات كان رداً على فحوى ما تنشره المعارضة. كما أننا لم نشهد انشاء صفحات موالية «إخبارية» على نظاق واسع، بمعنى أنها لم تستطع أن تقدم نفسها كمصدر قوي للمعلومات ولم يكن لديها مختصين بتصوير فيديوهات خاصة فيها أو «مواطنين مراسلين» يزودونها بالمعلومة، فلم تتمتع لا بجذب المتلقي و لا باحتكار المعلومة، بل اعتمدت على الأخبار التي يكتبها أبناء الحي الواحد، كلُّ في منظقة سكنه، أو على ما يحصل عليه مدراء هذه الصفحات من بعض مصادرهم الخاصة. فعلى العكس من بعض صفحات المعارضة التي شكلت مصدراً غزيراً للمعلومة ( الحديث عن المعلومة في سياق هذا المقال لا يعني أبدا مصداقيتها أو موضوعيتها) بالنسبة للقنوات الإعلامية الكبرى، لم تلعب الصفحات الموالية هذا الدور، بل كانت هي الناقل و المروج لمعلومة الإعلام الرسمي السوري و ليس العكس. بكل الإحوال استطاعت الشبكات الموالية بمجملها أن تشكك بالرسالة الإعلامية للمعارضة وحالت دون مرورها و ترسّخها بسهولة في ذهن المتلقي، كما نجحت في إثبات وجود كتلة متماسكة تدعم النظام السوري و تقف إلى جانبه.
5
من جهة أخرى، ترافق الحراك الاجتماعي و السياسي الذي نَبت في التربة السورية منذ آذار 2011 بحراك موازٍ على شبكات التواصل الاجتماعية، فاندفع السوريون بشغف كبير لاكتشاف خبايا هذا العالم الافتراضي و الولوج فيه، و عادت الحياة لتنبض من جديد في المجال العام السوري؛ لتذيب جليد السلبية و اللامبالاة المتراكم منذ سنوات. وقد شهدت الصفحات الخاصة للشخصيات السورية المعروفة من سياسيين و مسؤولين و فنانين و غيرهم رواجاً كبيراً لدى السوريين، بداية كان الاقبال مميزاً على صفحات الشخصيات المعارضة ( وهذا ما كان غائبا عن اللوحة الاعلامية السورية لسنوات طويلة) اللذين تصدروا شاشات الكبرى منذ اليوم الأول للحراك؛ مما فتح نافذةً حواريةً بين النخب السورية المختلفة و الشباب السوري المتعطش للتعرف على معارضته و أفكارها و توجهاتها، و دارت حوارات غنية و متنوعة على تلك الصفحات التي أصبحت أشبه بصالونات سياسية أو ندوات فكرية مفتوحة في هذه الفضاء الافتراضي الواسع. و الحقيقة لم يكن تعطش الشخصيات المعارضة لهذه المناخات الحوارية أقل من المتابعين و المهتمين العاديين، لا بل على العكس فقد أبدى الكثير منهم اهتماماً كبيراً بصفحاتهم، لدرجة أن البعض كان يقدم اعتذاراً اذا تغيب لفترة طويلة عن أصدقائه الافتراضيين، كما وَجدوا فيها فرصة مناسبة لتقديم أنفسهم كفاعل أساسي و كرافعة للحراك الثوري. إلا أن هذا المشهد لم يدم طويلا، فسرعان ما انصرف المعارضين إلى محاولات العمل على تنظيم صفوفهم و الانخراط في تكتلات و تيارات مختلفة، مما أدخلهم في صراع و تنافس كبير، و أصبح الظهور على المنابر الإعلامية الكبرى، أو الكتابة في الصحف المشهورة، والانخراط في اللعبة السياسية الهم الأول لهم، لتخبوا بعد ذلك جذوة هذا الحراك الراقي فاسحةً المجال لحراك سلبي من نوع آخر.
6
كان لتدهور الأوضاع و انزلاقاتها الخطيرة على الأرض أثراً واضحاُ في انحراف العمل على الشبكة الافتراضية، فسرعان ما انقسم الشارع السوري إلى شارعين و بدأت عمليات الفرز الحادة ما بين الموالات و المعارضة. الانطلاقة كانت من خلال انشار ما سمي ب «قوائم الشرف و العار» و تكاثرت الصفحات المماثلة كالفطر في ليلة ضبابية ممطرة، لتقود حرباً إعلاميةً بعيدة عن أي قواعد أخلاقية أو إنسانية، وانتشرت حملات التخوين و الاتهام و التشهير بطريقة ممنهجة و بشحنات عاطفية و غرائزية لم نعهدها في سوريا من قبل. و راحت هذه الصفحات تمارس نوعاً من أنواع التنويم المغناطيسي، ليغدو أيُّ شكل من أشكال الحوار العقلاني مجردَ مقامرة خاسرة، فأنت إما «منّدس» أو «شبّيح»، و لا خيار آخر. دخل الطرفان في حربٍ إعلاميةٍ شرسةٍ و مفتوحة، اُستخدمت فيها مصطلحات و مفاهيم خاصة منتقاة بعناية و خبث ( العراعرة: نسبة إلى عدنان العرعور، الخونة، عبدة بشار، و كل ما رافق ذلك من فديوهات و رسومات حملت رسائل إعلامية خطيرة) لما تحتويه من إهانة و تحقير، و لقدرتها على تفكيك المجتمع و إعادة تركيبه و فرزه شاقولياً. امتدت هذه المعركة لتشمل شرائح أوسع من الشعب السوري، محدثاً اصطفافا و شرخا تجلى في أبشع صوره في مدينة حمص. كما أنَّ العزلة و الانكماش و الابتعاد عن الآخر على أرض الواقع انعكست تقوقعاً و انغلاقاً حتى في الفضاء الإلكتروني، فبين متابع لقنوات الاعلام الرسمي و ما يدور في فلكه من شبكات إلكترونية؛ إلى مواظب على قناة الجزيرة و أخواتها العربيات؛ و بين من يتابع الأزمة السورية عبر صفحة «الجيش السوري الالكتروني»؛ إلى متحلق حول صفحة «الثورة السورية» و غيرها من وسائل إعلام المعارضة، بُني حاجزٌ محصنٌ يمنع ارتشاح أي معلومة أو خبر إلا بعد تفكيكه و إخضاعه ل«بروباغندا» الطرف المتلقي. فلا يصدر خبر عن طرف حتى يُكذّب بسرعة من الطرف الآخر، فكل رواية، أو صورة، أو فيديو له نسخته الأخرى والتي تختلف كلياً عن نسخة المصدر، و لا طريق للتحقق بسبب غياب أيّ مصادر «حيادية و موضوعية» للمعلومات ( فمثلا حمزة الخطيب لدى صفحات المعارضة هو سيد شهداء الثورة، أما على صفحات الموالات فقد ذهب مع رفاقه في رحلة سبي لنساء في مساكن الضباط في درعا.. و ما إلى ذلك من تكرار الرواية و نقيضها كل يوم). وهكذا، أصبح متعذرا الأخذ برواية أحد الطرفين واعتمادها كنسخة متكاملة و متماسكة لكل ما يجري. فالأزمة بالنسبة للموالات أنتهت في شهر أيار 2011، و عادت لتنتهي مرة أخرى في نهاية شهر رمضان، و اليوم لا تزال تنتهي (سمفونية خلصت)؛ و النظام بالنسبة للمعارضة سقط و يسقط كل يوم، و جنود احمدي نجاد و حسن نصر الله ينصبون الكمائن للمتظاهرين العزل- المسلحين بأغصان الزيتون- كل يوم في حمص و حماه و إدلب و غيرها.
إذاً، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، فصل كل هذا الحراك على صفحات الشبكات الاجتماعية عن ال«بروباغندا» الإعلامية و السياسية لكل طرف، إلا أن الفضاء الإلكتروني اللامحدود، و نقص الخبرة و المهنية و غياب المركزية وغيرها من الأسباب الذاتية و الموضوعية جعل المهمة صعبة و معرضة للكثير من الفشل و الاخفاق، وهذا ما قد يكون سبباُ في تراجع و انحسار دور هذه الشبكات في المرحلة المقبلة.
#وسام_الناصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المجلس الوطني السوري و المعارك الانتخابية المبكّرة
المزيد.....
-
رجل يُترك ملطخًا بالدماء بعد اعتقاله بعنف.. شاهد ما اقترفه و
...
-
وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده و
...
-
مايوت: ارتفاع حصيلة ضحايا الإعصار شيدو إلى 39 شخصا وعمليات ا
...
-
2024.. عام دام على الصحافيين وعام التحديات الإعلامية
-
رصد ظاهرة غريبة في السحب والعلماء يشرحون سبب حدوثها
-
-القمر الأسود- يظهر في السماء قريبا!
-
لافروف: منفتحون على الحوار مع واشنطن ولا نعول كثيرا على الإ
...
-
زيلينسكي يدين ضربات روسية -لاإنسانية- يوم عيد الميلاد
-
بالأرقام.. في تركيا 7 ملايين طفل يعانون من الفقر وأجيال كامل
...
-
استطلاع: قلق ومخاوف يطغى على مزاج الألمان قبيل العام الجديد
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|