نجيب جورج عوض
الحوار المتمدن-العدد: 1080 - 2005 / 1 / 16 - 09:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قراءة سياسية في ضوء كتاب شارل مالك:
"إسرائيل, أمريكا والعرب: تنبؤات من نصف قرن"*
نجيب جورج عوض
كمبردج, 2004
استمراراً بمشروع نشر أوراق ومؤلفات وفكر الفيلسوف والسياسي اللبناني البارز د. شارل مالك, صاحب الإسهام التاريخي اللافت والرئيسي في صياغة الشرعة العالمية لحقوق الإنسان, نشرت دار النهار, وبعد نـشرها لكتاب مالك "المقدمة: سيرة ذاتية فلسفية", الكتاب التالي تحت عنوان "إسرائيل, أميركا و العرب: تنبؤات من نصف قرن". الكتاب عبارة عن تقرير سياسي تحليلي فكري أرسله الوزير المفوض عن لبنان في أميركا ومندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة شارل مالك إلى رئيس الحكومة اللبنانية في صيف عام 1949, يعرض فيه رأيه وتحليله العلمي الكامل حول طبيعة الصراع العربي_الإسرائيلي بكل أبعاده حاضراً ومستقبلاً.
ربما باتت الكثير من نقاط التقرير وقائعاً ملموسة وواضحة للعيان اليوم بعد مرور أكثر من نصف القرن على نكبة عام 1948 وبداية المأساة الفلسطينية. إلا أنَّ ميزة وريادية الكتاب أنه "تقرير_نبوئة", كما يقول عنه الأستاذ الصحفي الكبير غسان تويني في المقدمة, فهو يكـشف بُعد نظر وعمق بصيرة سياسيٍ ومفكرٍ عربيٍ كتب منذ نصف قرن يستـشرف حقائـقاً واحتمالاتٍ لم تكن الأحداث والتطورات التي أدت لوقوعها خلال خمسين عاماً قد حدثـت بعد. في وقت لم تكن فيه الأمة العربية قـد وصلت بعد إلى ما وصلت إليه اليوم من تخبط ووهن أمام هيمنة المشروع الصهيوني وداعمته أميركا.
يستـشرف د. مالك المستقبل الباهت ويحذِّر من حدوثـه ويبين إمكانية الوقوع فيه بنظرة نبوية ثاقبة ورؤية منطقية موضوعية شجاعة قلَّ نظيرها عند الساسة العرب. فكل ما بدا لأبناء ذاك الزمان خطاباً متحيزاً للغرب مليئاً بالوهن والاستسلامية هو ما وعَت له الأطراف العربية السياسية والفكرية والثـقافية واعترفت بحدوثـه اليوم دون أن يتهمها أحد. اليوم يعترف العرب صاغرين بأنَّ الهيمنة الإسرائيلية على القرار الأمريكي والطموح الأمريكي إلى إعادة ترتيب المنطقة أمـرين واقعين جـلَّ ما تسعى الأنظمة العربية حيالها هو محاولة تأخير حدوثه أو الالتـفاف عليه باستراتيجيات نافلة ما عادت شعاراتها وتبريراتها تنطلي بسهولة على المواطن العربي المعاصر.
يقسم د.مالك تقريره إلى ستة فصول يحلل فيها الصراع العربي_الإسرائيلي فيعود لتاريخ المشروع الصهيوني (الفصل الأول) من ثم يحلل طبيعة الموقف الغربي (البريطاني تحديداً) والأمريكي من الدولة الإسرائيلية والعرب مبيناً الأسباب الجوهرية الكامنة وراء تلك المواقف نافذاً إلى ماهوية العلاقة ذاتها (الفصلين الثالث والرابع),قبل أن يقدم أطروحته السياسية والفكرية لوسائل المواجهة المطلوبة (الفصل الخامس) خاتماً التقرير بتحليل للطبيعة الفريدة للبنان ولدوره في هذا الصراع (الفصل السادس). ومن اعتاد على تضاعيف و منهجية الفكر الفلسفي المالكي لا يستغرب اتباعه لمنهجية تحليل كيانية أنطولوجية تـذهب وراء الكيفيات إلى الماهيات الكيانية لجوهر الصراع وأبعاده وعلاقـاته المتـشابكة. وعلى قاعدة التحليل الأنطولوجي يبني د.مالك نبؤة تتصف بـ "الموضوعية الرؤيوية", كما يقول غسان تويني في المقدمة, الغير مبنية على الغيبيات والتحزُّر والانفعال وإنما على المعرفة العقلية لطبيعة كل من العقل العربي والعقل الإسرائيلي والأمريكي والغربي, فيبين مكمن الـقوة في كلا الطرفين ويحرص على إظهار مكامن الضعف العملية في العقلية السياسية العربية تحديداً. ليس بغرض التـشفي أو الإدانة أو التييئيس بل بغرض وضع اليد على مكمن المرض لمعالجته قبل تـفـشيه. فحين يقول أنَّ أطماع دولة إسرائيل لا تـنتهي عند إشادة دولتها ونيل الاعتراف بها دولياً بل تمتد لمحاولة الهيمنة على العرب على كافة الأصعدة (ص.27-28) في وقتٍ لم تكن فيه إسرائيل قـد وطدت بعد وجودها في فلسطين, فإنه يحاول أن يبين الطبيعة الجوهرية لتلك الدولة ويدعو العرب للتـفكير بهذا المشروع الإسرائيلي وفق حجمه الحقيقي. ولذلك يصرُّ على أنَّ خيار المصالحة والتعاون التام مع إسرائيل لا خير فيه للعرب (ص. 127_128). ولذلك يرى قبل أربعين عاماً من بدء مشروع السلام من مدريد بأنَّ السلام بين إسرائيل ومحيطها العربي لا مكان لقيامه (ص. 142). وحين يقول أنَّ ما تنـظر إليه دول العالم وتأخذه بعين الاعتبار ليس العدل والحق بل قـوة كل من الفريقين المتصارعين وقـدرته على تـنفيذ إرادته وصيانة مصالح حلفائه (ص. 50) يدعو د.مالك إلى إعادة بناء علاقـتـنا مع الغرب على أسس سياسية واقـعية ومتبصرة وفاعلة. وحين يقول أنَّ "التوازن السياسي والصراع الدولي هما في النهاية توازن قـوى واقعية لا صراع حجج" (ص. 36) يبين بالمنطق والعقل أنَّ نقاط الانطلاق المبدأية وذهنية العمل التاريخي وطبيعة التـفاعل مع الوقـائع هو الذي سيحدد نتـائج وتداعيات ومستقبل الصراع العربي_الإسرائيلي, من جهة, وعلاقـة الغرب وأميركا بطرفي الصراع من جهة أخرى.
وبنفس الجرأة المعرفية يبين د.مالك طبيعة الروابط التي تجعل إسرائيل تكسب تأييد الرأي العام الأمريكي, مع وجود إمكانية كبيرة برأييه للوصول إلى قلب المواطن الأمريكي من قبل العرب من خلال تبدُّل حياة الإنسان العربي نفسه. فمكمن نجاح المخطط الإسرائيلي, بعكس الموقف العربي, هو في أنَّ "الإسرائيليين أدركوا أنَّ التاريخ تقرره الأعمال الحاسمة لا الحجج الـقانونية وأنَّ قـيام دولتهم أو تلاشيها يتوقف على قوتهم لإنجاز الأمر المفعول لا على مقدرتهم على المماحكات الشرعية" (ص. 36).
وحول الحلول, يرى د.مالك أنَّ "مصير العالم العربي يتوقف على العمل الحاسم الذي يجب أن يقوم في العالم العربي نفسه" (ص. 102). على العرب تقييم وتحليل الموقف العربي وذهنية الإنسان العربي نفسه. عليهم إعادة التزود بآليات عمل جديدة فاعلة تساعد على فهم الذات وإمكاناتها وبناء مواقـفٍ تـنطلق من طاقات ذاتية وليس من اتكالٍ على مواقـف الآخرين. ويتحقق هذا داخلياً من خلال:1) حرية الفكر (ص.90-96),2) توحيد كلمة العرب وتجديد الجامعة العربية (ص. 96-100) 3) إعداد الـقوة العسكرية العربية (ص. 100-102), 4) تحقيق انقلاب تحرري اجتماعي اقتصادي صحيح وشامل (ص. 102-109).
اليوم وبعد مرور عقودٍ على تحليل شارل مالك السياسي للصراع العربي الإسرائيلي مازالت الأنظمة العربية عاجزة عن التصدي لمسألة فهم ذاتها موضوعياً من خلال مواجهة شجاعة مع المكونات الأساسية المشكِّـلة لوجودها السلطوي والسياسي. فإذا ما عرفنا أنَّ معظم, إن لم يكن جميع, الأنظمة العربية التي قـد تـشكلت ما بعد حرب 1967 بغطاء ودعم وموافـقة أمريكية وأوروبية (وسوفياتية حتى سقوط الاتحاد السوفياتي القديم), نستطيع أن ندرك لماذا لا يمكن أن تكون معركة السلام بين العرب وإسرائيل متكافئة لأنها ليست معركة بين طرفين متساويين أو حياديين, بل هي معركة بين إسرائيل المدعومة عسكرياً وسياسياً من أمريكا وأخلاقـياً واقتصادياً من أوروبا, من جهة, وبين أنظمة وضعتها تلك القوى الداعمة وفرضت عليها مساحة القرار اللاذمة في ساحة السلام المزعوم, فرضت عليها طبيعة ماهوية محددة لا يمكن تجاوزها, بل ووضعتها أصلاً لغاية واحدة هي أخذ شعوبها إلى طاولة السلام والاعتراف بالوجود الإسرائيلي في المنطقة بشكل يتلاءم مع طبيعة السلام وطبيعة الآخر التي تـناسب استمرار وديمومة وازدها إسرائيل وتبوءها المكانة الأولى في منطقة مابعد السلام.
الإشارة لهذا الواقع لا تـدل بالضرورة على تبـنيٍ لخطابٍ أصولي, صدامي, إرهابي ينتـشر اليوم في العالم العربي ويشير بعض أطرافه إلى نفس النقطة المذكورة هنا. كما أنَّ الإشارة لهذا الواقع لا تتـنافى بالضرورة مع أساسية التحلي بالواقعية والبراغما في العمل السياسي. الإشارة لتلك النقطة تـنبع, كما يقول شارل مالك في كتابه المذكور, من حرص على التأسيس لمعرفة سياسية عربية غير مبنية على الغيبيات والتحزُّر والانفعال وإنما على المعرفة العقلية لطبيعة كل من العقل العربي والعقل الإسرائيلي والأمريكي والغربي, بحيث يبين الولوج إلى طبيعة الأشـياء مكمن الـقوة في كلا الطرفين ويحرص على إظهار مكامن الضعف العملية في العقلية السياسية العربية تحديداً, بل وأيضاً في بنية الأنظمة العربية التي جلست وستجلس إلى طاولة مفاوضات السلام مع إسرائيل اليوم أو في السنوات القادمة وهي تتمتع بماهية مصنوعة ومقرَّرة أصلاً من من يدعم الطرف الآخر في المشكلة. من يأخذ طبيعة الأنظمة العربية التي تذهب أو تدعو للسلام مع إسرائيل ومن يتـذكر جدياً منشأها وهدفه الأساسي التاريخي لا يمكن إلا وأن يقول أن أي عملية سلم مع إسرائيل ما هي إلا مساومة خاسرة في الجوهر بالنسبة للمواطن العربي ولمصيره ومستقبله الاقتصادي والاجتماعي والثـقافي والمدني, حتى وإن عنى هذا تغيراً جزئياً غير مألوف في الظروف الجيو-سياسية والاستراتيجية وربما السلطوية داخل البلاد العربية نفسها. فما تلك الأخيرة إلا تغيرات قائمة أساساً على نفس الطروحات وتبغي تحقيق نفس الغايات التي من أجلها تم إيجاد كيان إسرائيلي وتم إعطاء ما يوجد اليوم من أنظمة عربية زمام السلطة على شعوبها. ما تلك إلا تغيرات سطحية لا تعيد إنتاج معرفة عميقة للجوهر ولا تعطي هذا الإنسان الحرية والمساحة الوجودية الكافية كي يعيد خلق هويته وطبيعته بنفسه.
إنَّ دعوة د.مالك إلى إعادة بناء علاقـتـنا مع الغرب على أسس سياسية واقـعية ومتبصرة وفاعلة هامة جداً في إطار النقطة السابقة. فالإنسان يفهم ذاته في عينها, بل ويعيد تكوينها, من حلال العلاقة بالآخر في اختلاف هذا الآخر عنه. العلاقة البناءة والمنفتحة والإيجابية بالغرب هي إحدى طرق وصولنا إلى فهم طبيعتـنا وإعادة تكوينها من خلال التلاقي والتضاد. وهي قـد تساعدنا على الدخول في علاقـة سلام فيها بعض التكافؤ في الـقوة, إذ أنَّ تلك العلاقـة تساعدنا على تأسيس بنية تحتية اقتصادية واجتماعية وثـقافية متينة تصلح الفساد والتهتك والانهيار الفاضح الذي تعاني منه المجتمعات العربية نتيجة تخبط أنظمتها واستـشراء ثـقافة التخوين والخوف والقمع والمؤامرات التي تضع الآخر في صورة العدو البغيض. تلك الثـقافة تقصينا عن مسألة فهم طبيعة الذهن العربي إذ تجعل من الشارع الفكري والثـقافي يتدافع ضد السماح لأي تدخل خارجي بعمليات الإصلاح المعاصرة وينادي خاطئاً إلى التقوقع والخوف, مبشراً بأنَّ الحل يكمن بالاعتماد على القوى العربية المحضة الداخلية للنهوض من الـهوة, متـناسياً أن ماوضعنا في تلك الهوة في الدرجة الأولى هو تلك القوى الداخلية بما احلّت به من لاواقعية ولامنطقية في قراءتـها للصراع العربي الإسرائيلي وللعقل العربي السياسي برمته. ما هذا العجز العربي السلطوي المعاصر عن إيجاد رؤية متـزنة لا تـنظر فقط إلى المكاسب والخسائر التي تترتب على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بل تكوِّن رؤية تستطيع أن تتصور مرحلة مابعد-السلام, مرحلة التواصل والتلاقي المجتمعي والاقتصادي والثـقافي والحضاري بين العرب وإسرائيل, ما هذا العجز المعاصر عن امتلاك تلك الرؤية نقول إلا دلالة أخرى إلى ما قاله شارل مالك عن ضرورة تقييـم وتحليل ذهنية الإنسان العربي نفسه. بدون تحليل هذه الذهنية وإصلاحها لا يمكن أن يقوم إصلاح حقيقي في العالم العربي. فالإصلاح المصيري للعالم العربي يتوقف, كما يقول شارل مالك محقاً, على العمل الحاسم الذي يجب أن يقوم في العالم العربي نفسه, على العمل الحاسم لفهم طبيعة هذا العربي الذي يقف أمام الإسرائيلي في محاولة سلام.
"التقرير_النبؤة" وثيقة تاريخية هامة جداً ونبوية بعمق وشجاعة وعقلانية وجرأة قـل نظيرها بين أهل السياسة. يصيب الأستاذ غسان تويني حين يتسائل في مقدمة الكتاب "هل نتجنى على أحد إذا قـلنا أننا لم نجد في تاريخنا الدبلوماسي ما يدل على أنَّ أحداً قرأ هذا التقرير في حينه بالعناية المطلوبة؟ ...وإذا قرأه أحد فهل فهم مداه؟" (ص. 11). و لهذا من الأهمية بمكان أن تـتاح لأجيالنا اليوم فرصة النظر ثانية إلى أوراق شارل مالك السياسية علّنا نجد حقائـقاً فوتـتها عقول البارحة. وعلّنا نتوقف عن ظلم قضيتـنا الكبرى سياسياً وتاريخياً.
ً
#نجيب_جورج_عوض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟