|
السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع في العراق- الحلقة الثانية
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1079 - 2005 / 1 / 15 - 11:14
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
لم تكن مظاهر الإرهاب في العراق كما تجسدت في مجازر كربلاء والكاظمية والنجف في أيام عاشوراء من العام 2004، على سبيل المثال، سوى الصيغة "المقدسة" لاستمرار تقاليد الإرهاب السياسي الشامل للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وان ما جرى ويجري من انفلات إرهابي الآن ضد المدنيين ورجال الشرطة وقوات الحرس الوطني (النواة لجديدة للجيش الوطني العراقي) سوى احد نماذج التعبير المباشر عما يمكن دعوته بالاستظهار السياسي العابر للأمراض المزمنة الموروثة من بقايا التوتاليتارية والدكتاتورية وتقاليد الاستبداد. إذ نعثر فيها ليس فقط على محاولة إثارة الفتنة الطائفية، بل واستمرار لها. والقضية ليست فقط في انها استهدفت شعائر الشيعة والشيعة أنفسهم، بل ومراكز تاريخهم الوجداني والروحي. وهو الأمر الذي يشير إلى بروز وتبلور ظاهرة جديدة في تاريخ العراق السياسي المعاصر لا ينبغي البحث عن جذورها في "القوى الأجنبية" أيا كانت مثل "المحتل" و"القاعدة" وغيرها. فهي قوى "تشترك" من حيث وجودها السياسي وصراعها "العالمي" في العراق، الا انها لا تحدد مضمون ومسار الصراع فيه. إن جوهر الصراع القائم في العراق اليوم يقوم بين ممثلي تقاليد الاستبداد والدكتاتورية والتوتاليتارية من جهة، وقوى الديمقراطية والدولة الشرعية والمجتمع المدني من جهة أخرى. وإذا كانت القوى البعثية - الصدامية التي تمثل تاريخ الاستبداد والدكتاتورية والتوتاليتارية قد تعرضت إلى هزيمة سياسية ساحقة، فان رصيدها الأيديولوجي والاجتماعي مازال يتمتع بقوة نسبية في العراق. وهو رصيد له موارده القوية على الصعيد المحلي والعربي والإسلامي المتمثل بالقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية التي ارتبطت به سياسيا وتاريخيا طوال وجوده في سدة الحكم. وهي القوى التي أطلق عليها تسمية "الغلاة الجدد" في العراق. انها القوى التي تحاول استلهام فكرة المقدس المزيفة من اجل تحويلها إلى غطاء سياسي لاستعادة بنية الاستبداد والدكتاتورية التي كان العراق البعثي الصدامي "كعبتها المقدسة". بعبارة أخرى، إننا نعثر في هذا النموذج من الأفعال على انحدار وانحطاط المقدس إلى حضيض الرذيلة السياسية! وذلك لان فكرة المقدس هنا لا تهدف لغير استعادة تقاليد الاستبداد التي وجدت نماذجها المتنوعة في صعود الهامشية إلى السلطة وسيادة النزعة الراديكالية. وهي الحالة التي أدت إلى صنع توتاليتاريات دنيوية ودينية، ليس الغلاة الجدد سوى نموذجها الأكثر همجية. بمعنى انها الحالة التي تشير إلى تزاوج وتوليف التقاليد التوتاليتارية الدينية والدنيوية. وهي نزعة لم تكتمل بعد ولا تشبه في شئ تقاليد الحركات الإسلامية(السنية) بدءا بالوهابية وانتهاء بحركة طالبان والقاعدة. الا انها عرضة للزوال السريع مقارنة بأمثالها لأنها تجمع بين قوى متناقضة لا يجمعها سوى العداء العلني والمستتر لفكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، أي ضد التيار الكاسح للتقدم والحرية، أي لحقيقة المقدس في ظروف العراق الحالية. وهو الأمر الذي يضع يدوره مهمة النقد العقلاني العميق لتقاليد المدارس الإسلامية السياسية السنية منها بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. والقضية هنا ليست فقط في أن هذه المدارس اتسمت في التاريخ الحديث بنزوع حاد نحو التطرف والغلو، بل ولوقوفها السياسي الطويل إلى جانب القوى التقليدية وأنظمتها الاستبدادية. وهي تقاليد ميزت تاريخيا الفكرة "السنية" منذ انحطاط المعالم الكبرى للحضارة الإسلامية، وبالأخص بعد سقوط بغداد في منتصف القرن الثالث عشر. ولعل مهزلة المفارقة التاريخية الآن تقوم في محاولة هؤلاء الغلاة الجدد استعادة تقاليد المدارس الحنبلية الضيقة والوهابية بشكل خاص بعد ممازجتها بأفكار ونفسية الدكتاتورية الصدامية. والشيء نفسه ينبغي تطبيقه على التشيع، بوصفه التيار الذي لم يخل تاريخه من كثرة الغلاة. لكنه غلو عقائدي وفكري ووجداني في جوهره. من هنا سموه وتسامحه النسبي وعنفوانه البطولي في مواجهة الاستبداد والدفاع عن الحق. بينما لا تجعل الحنبليات ومختلف "الاصوليات" الضيقة من الإسلام سوى تصورتها الفجة وتقليديتها المتحجرة عما تراه "مقدسا". وليس هذا المقدس في الواقع سوى الصيغة الأيديولوجية للتعصب والانعزال الثقافي والاغتراب عن قيم الحضارة الإنسانية وتاريخها الموحد. وهو غلو يقف من حيث الجوهر على هامش الحركة العامة للظاهرة الإسلامية الكبرى بوصفها عملية عالمية لصيرورة المركزية الإسلامية الجديدة. وهو الأمر الذي يجعل من الضروري التصدي للغلاة الجدد ووثنية إرهابهم "المقدس" من جانب التيارات الإسلامية السياسية من خلال النقد العقلاني للغلو الإسلامي السلفي. غير أن التصدي الفعلي للغلاة الجدد وإرهابهم "المقدس" ممكن فقط من خلال بناء أسس ومرتكزات الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. فهو الثالوث القادر على حمل الوحدة الوطنية العراقية وعمرانه الشامل. والعمل في نفس الوقت على بناء أسس ما ادعوه بالإسلام الثقافي، أي الإسلام الذي تتحدد ماهيته بقيمة المرجعيات الثقافية العقلانية والإنسانية المتراكمة في تاريخه الكليّ، وليس بمفاهيم وتصورات وأحكام فرقه المتنوعة والمختلفة. فهي العملية القادرة على تقديم بديل إيجابي وفعال يولف بين التيار الديني والدنيوي في العراق في مواجهة سبيكة التوتاليتارية الدينية والدنيوية للغلاة الجدد ووثنية إرهابهم "المقدس". ولعل الصيغة الأكثر استجابة لتوليف الرؤية العقلانية والوجدانية من جانب الحركة الدينية (الإسلامية) والدنيوية (العلمانية) في العراق الآن، ورفعها إلى مصاف الحدس الثقافي، هي الفكرة القائلة، بان المقدس هو المتجرد عن الابتذال. وليس هناك مقدس من هذا القبيل في ظروف العراق الحالية والعقود القليلة القادمة اكثر من وحدة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي والمجتمع المدني. وهو الأمر الذي يفترض بدوره صياغة الرؤية الواقعية والعقلانية للبدائل. بمعنى تجريدها من ابتذال المقدس العقائدي مهما كن شكله ولونه. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ الدولة الحديثة ونماذج الفكرة السياسية والأحزاب والأيديولوجيات في العراق، والذي يجد انعكاسه النموذجي في تاريخ ونوعية الشعارات المرفوعة بوصفها الصيغة الوجدانية المشحونة بكلمة المقدس. وهي وجدانية تقترب من حيث مقدماتها الفكرية من الأوهام وتتمازج بها في الهتاف والتوجه العملي. **
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع في العراق-ال
...
-
التيار الإسلامي ومهمة تأسيس البدائل العقلانية في العراق
-
الحلقة الثانية-البروتوكولات الصهيونية-الماسونية اليهودية الص
...
-
الحلقة الاولى - البروتوكولات الصهيونية - تقاليد قواعد العمل
...
-
الفساد والإرهاب توأم الخراب في العراق المعاصر
-
(4) الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي 3
-
2.الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
(1)الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
-
الشعر والشاعر وإشكالية الحرية
-
فلسفة السيادة وسيادة الدولة في العراق المعاصر
-
الغلاة الجدد وأيديولوجيا الجهاد المقدس
-
التصوف الإسلامي وفكرة وحدة الأديان
-
محاكمة البعث ورموزه
-
استئصال البعث ومهمة البديل الديمقراطي في العراق
-
العراق وإشكالية المثلث الهمجي
-
القضية الكردية وإشكاليات الوطنية العراقية
-
العراق وعقدة الطائفية السياسية
-
الغلاة الجدد وأيدبولوجية الإرهاب المقدس
-
زمن السلطة
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|