أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامى لبيب - ثقافة التشرنق والتحفز - لماذا نحن متخلفون ( 4 )















المزيد.....

ثقافة التشرنق والتحفز - لماذا نحن متخلفون ( 4 )


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 3666 - 2012 / 3 / 13 - 12:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تشهد الوضعية الفكرية الثقافية فى العالم العربى حالة من الردة والإنحدار الشديد أو بمعنى أدق تصعيد لجينات التخلف تجسد أزمة مجتمع لم يكتفى بسكونه وإستاتيكيته ردحاً من الزمان , فعز عليه البقاء هكذا ليسير بخطى حثيثة تأخذ شكل الهرولة إلى التخلف ومعاندة حركة التاريخ والحضارة .

فى الأربعين عاما الماضية تصاعد ظهور وتأثير الإتجاهات الأصولية الإسلامية فى مجتمعاتها لتكلل هذا الحضور بإحتلال أغلبية معتبرة فى برلمانات مصر وتونس بعد إنتخابات لا يمكن القول بأنها مزيفة بل حظيت على ديمقراطية صندوق الإقتراع , ولكن لا يعنى هذا انها ترجمت رغبات ورؤى سياسية وإجتماعية أصيلة لشعبى مصر وتونس بقدر ماعبرت عن هوى ومزاج وأمل فى طوق نجاة للإنقاذ من حالة إحباط وقنوط تسود الشارع من تدهور سياسى واقتصادى وإجتماعى مع حالة فراغ سياسى بإنعدام وجود قوى مدنية حاضرة بعد إنهيار الأنظمة الحاكمة , فكانت القوى الإسلامية هى الحاضرة والعازفة بشكل مؤثر على أوتار العواطف الدينية .

لا يقلق المتابع فوز الإسلاميين فى برلمانات مصر وتونس وتصدرهم لمقاعد السلطة , بل أن فوزهم وحضورهم شئ جيد فهو سيضع كل الأمور على المحك ويُعجل بعودة الوعى للجماهير , فلن تنال الشعوب الحرية والديمقراطية مجاناً فستتعلم معنى وقيمة صوتها الإنتخابى عندما تسقط لتقوم وتدرك أن لا تفرط فى صوتها عن هوى وإستهتار أو تحت شعارات تُخدرها بل ستدقق فى برامج تحقق مصالحها , ليأتى الوعى الطبقى فى الطريق نحو الإصلاح الحقيقى فلا يستبدل الشعب المصرى مثلاً يافطة الحزب الوطنى ذو الرأسمالية الطفيلية بحزب وطنى ذو معاملات إسلامية .

يعنينا بالفعل رصد الحالة الثقافية المجتمعية فالذين إكتسحوا الإنتخابات لم يأتوا من فراغ فلهم حضور وهناك شرائح مجتمعية تدعمهم وتتعاطف معهم , لذا فنحن أمام حضور حقيقى لا يمكن الإستهانة برؤيتهم ونهجهم ومدى تأثيرهم .
سنحاول ان نرصد بعض النماذج من رؤى وفكر الجماعات السلفية فى مصر وتونس ولن يعنينا بعض الصور الساذجة مثل طلب عضو مجلس الشعب المصرى بوقف بث القنوات والمواقع الأباحية فهذا لعب على العواطف وإستهلاك فارغ وإستهتار بحجم المشاكل الهائلة التى يتعرض لها الإقتصاد المصرى الذى يطلب غرفة إنعاش عاجلة .

فى البرلمان المصرى طالب النائب السلفى محمد الكردي خلال جلسة مجلس الشعب في واقعة غريبة من نوعها بإلغاء تدريس مادة اللغة الإنجليزية قائلا : "أن تدريس اللغة الإنجليزية مخطط خارجي .. فماذا يراد بتعليم اولادنا للغات الكفره".!!
بالطبع عندما نسمع هذا الخبر فستنتابنا الدهشة من هكذا طلب غريب وشاذ لا يعى أن إلغاء اللغة الإنجليزية يعنى بالفعل الإجهاز والنهاية الحتمية لأى أمل فى التقدم ومواكبة العصر فكل العلوم والأبحاث الهائلة القديم منها والحديث باللغة الإنجليزية كلغة عالمية تنتقل بها العلوم ... هذا الطلب الشاذ سيتحول على لسان النخب إلى السخرية وتبادل النكات ولكن من الخطأ ان نتوقف عند هذا الحد فنحن أمام عضو لمجلس الشعب لا يتحدث كفرد بقدر ما يعبر عن توجه وفكر قوى سلفية هكذا بدأ زخمها فى الظهور لتُصدر توجهاتها البائسة .

تونس الخضراء الجميلة نالت من الحظ جانب ولم يشفع أن لها ميراث من تقدم المنظومة الإجتماعية المدنية التى دشنها بورقيبة فيبدو أن القواعد واهية أمام تجذر التراث لنجد " البحري الجلاصي " رئيس حزب الانفتاح والوفاء التونسي في تصريح نشرته صحيفة الصريح التونسية يطالب المجلس الوطني التأسيسي منذ ايام بأن ينص الدستور التونسي الجديد على حق كل تونسي في اتخاذ جارية إلى جانب زوجته، والتمتع بما ملكت يمينه , ودعا إلى إلغاء أى فصل قانوني يُجرم هذه العلاقة التي وصفها بـ الشرعية ، مشدداً في الوقت ذاته على ضرورة تقنين الجواري، واعتبار ذلك حقا متاحا للرجال المتزوجين بواحدة، وتصنيف الجارية ضمن خانة ما ملكت أيمانهم .!!
بالتأكيد سنندهش من هكذا دعوات شاذة تظهر فى تونس وبعد مرور عام من ثورة الياسمين ولكن يبدو ان الياسمين يُداس فى أرض الياسمين بنعال ثقيلة , ولكن لا يجب ان نتوقف عن الدهشة والسخرية من هكذا عقول وأفكار فالأمور أعمق من هذا بكثير.

نرجع مرة ثانية إلى مصر حيث دعا عبد المنعم الشحات " المتحدث باسم الدعوة السلفية بالإسكندرية" إلى تغطية وجوه التماثيل الفرعونية المصرية بالشمع مشيرا إلى أنها تشبه الأصنام التي كانت موجودة بمكة في العصر القديم!!، بما يعني ضمنياً الدعوة لهدمها، وطالب الشحات بأن يتم النظر في أمر هذه التماثيل وعلاجها بتغطية وجهها بالشمع وقد أردف فى نفس التصريح بنعت الحضارة المصرية القديمة بأنها عفنة .!!
تستغرب بالطبع من وصف هذا السلفى التماثيل الفرعونية بالأصنام فأى طفل صغير لن يفهمها على هذا النحو بل سيراها آثار لأجداده ولا مجال لعبادتها فهى تشير لحضارة عظيمة من آلاف السنين مازال العالم يقف مبهورا أمامها .. حضارة مازلت تحمل عظمتها وأسراراها وتقدم صورة مشرقة لحضارة شعب مصر القديم .

إذا كنا تناولنا أراء وتوجهات شخصيات بارزة تمثل تيارات سياسية لها وزنها فى الشارع المصرى والتونسى فالسلفيين فى مصر مازالوا يتحفوننا بفتاويهم فالشيخ ياسر البرهامى يرى أنه ليس من حق المسيحيين تولى الوظائف القيادية لأنهم كفرة، ويرفض الهدايا منهم أو العمل معهم , كما أن الشيخ برهامى يُحرم ويُكفر أى علاقات إنسانية مثل التعاطى مع أعيادهم وموتاهم , ويبلغ به الشطط ليختم فتاويه عن سؤال جواز علاج القبطى فكان رده : الاقباط كفرة فلا يداوى النصارى لانهم أحط منزلة من البهائم لشركهم بالله وقولهم على غير الحق وفى فتوى اخرى على نفس المستوى من العنصرية القذرة يرى بتحريم نقل دم المسلم للكافر (القبطى وغيره) ولكنه لا يجد غضاضة فى ان يُمارس التناقض والنفعية والإزدواجية فيُحلل نقل الدم الكافر للمسلم لان المسلم لابد من إنقاذه .!!!
فتاوى مثل تلك سيشجبها أى إنسان يمتلك قدر يسير من الإنسانية والتحضر فهى تحمل فى طياتها كل سمات العنصرية والتمايز البغيض علاوة على ما تصدره من كراهية سوداء تمارس فعلها فتنال من وجود وتماسك مصر لتحقق فى النهاية ما تأمله أى قوى معادية فى الإجهاز على مصر شعباً ووطناً وأرضاً ولكن للأسف ستأتى بأيادى مصرية جاهلة ومتخلفة .

يأتى فى السياق مشهد للقيادي السلفي ورئيس جمعية أنصار السنة المحمدية الشيخ "محمود عامر" الذى أفتى بتحريم التصويت في الانتخابات للمرشح المسلم الذي لا يصلي، والقبطي والعلماني والليبرالي الذين لم يتضمن برنامجهم تطبيق الشريعة الإسلامية، وفلول الوطني، واستثنى من وصفهم بالشرفاء من رجال الحزب المنحل !! ليصرح عامر قائلا: "التصويت لهؤلاء حرام شرعاً، ومن يفعل ذلك فقد ارتكب إثما كبيرا، وتجب عليه الكفارة " ، وطالب الناخبين بالتصويت لمرشحي القائمة الإسلامية أو أي مرشح دائم التردد على المساجد ومشهود له بحسن الخلق لتكوين برلمان إسلامي .. وحتى لا ننسى أن عامر وسلفيين آخرين كانوا من أشد المعارضين للثورة المصرية ، وعبروا عن رفضهم للإطاحة بالرئيس السابق حسنى مبارك وحرموا الأتباع بعدم المشاركة فى ثورة 25 يناير ، لأن ذلك وفقا لرأيهم يعد خروجاً على الحاكم .

* ثقافة التشرنق والتحفز هى القضية .
هذه نبذات ومقتطفات من حصاد ظهور السلفيين فى المشهد السياسى والإجتماعى بمصر وتونس بالرغم أن حضورهم ليس طاغياً ولا نستطيع القول أنه يُهمش ويسحق الإنجازات المدنية التى تمت فى البلدين على مدار عشرات السنين ولكن من الواضح ان هناك هرولة فى هذا الطريق والبشائر تدعو للقلق .
لسنا بالفعل معنين بالسلفيين وفتاويهم ولن نستهلك أقلامنا فى الإعتناء بمن لا قيمة حضارية له , ولن نقف عند باب السخرية والتنكيت على هذه العقول لأننا بذلك نكون قد إنصرفنا عن جوهر القضية إلى محاولة تنفيس الغضب عن طريق الصراخ والتنديد والإستنكار أو التنكيت وإستحضار السخرية والطرفة فى ظل وضع مأساوى بطعم العلقم .

بالتمعن فى هذه المشاهد سندرك سبب جوهرى من أسباب تخلف شعوبنا العربية فنحن نعيش حالة شرنقة تتحصن وتتقوقع داخل نفسها كوسيلة هروب وأمان أمام حضارة عصر نكون فيها المهمشين والبائسين فليس لنا من سبيل حضارى لنشاركهم الحياة والتطور لنرتمى داخل الشرنقة القديمة ننسج خيوطها حولنا , ويصاحبها تصعيد لحالة من التوجس والريبة والعداء للآخر كمشروع مواجهة يمنحنا الوحدة والتجمع أى خلق العدو الوهمى الذى يريد النيل من الشرنقة للمزيد من الإحتماء داخل الشرنقة وأعتقد أن الحالة الدينية فى شرقنا العزيز تستمد وجودها من هذه الوضعية فنحن دائما فى خطر داهم .
يظهر هذا فى طلب النائب "الكردى" بإلغاء مادة اللغة الإنجليزية من المدارس لأنها لغة الكفار .. فليس من المعقول أنه لا يدرك بأن تعليم اللغة الإنجليزية لن تنال من الموروث الدينى وأن إلغاءها يعنى بالضرورة التجمد والإرتداد لعصور التخلف كون اللغة الإنجليزية هى التى تقدم كل علوم العصر ... هذا النائب السلفى يترجم بالفعل حالة الثقافة المتشرنقة داخل ذاتها والتى لا تتورع فى سبيل ان يكون لها الهيمنة وتجييش الجماهير فى ثقافتها القديمة أن يناصب العداء لعلوم وثقافة وفكر الآخر لخلق حالة إستقطاب حادة لا يعنيها أن تهدم المعبد على رؤوسها كما فعل قذافى ليبيا .

دعوة " البحري الجلاصي " رئيس حزب الانفتاح والوفاء التونسي بطلب التصريح بإقتناء الجوارى وملكات اليمين للرجال التونسيين ستثير اندهاشنا وسخريتنا بالطبع وخصوصاً أن المجتمع التونسى له تاريخ محترم فى المدنية وحقوق المرأة والسعى نحو العلمانية والحداثة , ولكنه يعبر بالفعل عن حالة تشرنق داخل النص وإغتراب عن الواقع , ولا تعرف من اين يأتى بالجوارى إلا من عاهرات رومانيا مثلا فهو هنا يتحايل ليمرر رغبات مستعيراً نهج قديم مطالباً بحضوره لتحقيق بحبوحة جنسية للرجال التونسيين ولكن كما نرى أن معطياته غير متواجدة .. إذن فما الداعى لقصة الجوارى إلا لكى تنسجم مع نص يراد ان يتواجد ليمرر رغبات بمظلة شرعية مخاصماً بالضرورة نهج مجتمعه المعاصر ومؤكدا عن حالة عداء وإغتراب مجتمعى تعيشه المنظومة السلفية .

عبد المنعم الشحات ونعته للحضارة المصرية بالعفنة وطلبه بتشويهها بالشمع الاسود ( ولا تعلم ما القادم فقد نشهد نسفها كما نسفت طالبان تمثال لبوذا ) يعنى ويؤكد ثقافة التشرنق أيضا فالرجل يتعامل مع التماثيل كأنها أصنام ولم يحاول الخروج من شرنقة النص ليؤكدها بنعت حضارة عظيمة بأنها عفنة فهو هنا يتحصن داخل شرنقته رافضاً أى وجود آخر بغية خلق مناخ شيفونى يعتز وينفرد بالنهج الإسلامى محقراً فى الوقت ذاته من أى فكر ومنجز حضارى آخر حتى ولو قديم بغية خلق وضعية شرنقة ومواجهة .

فتاوى عامر بعدم انتخاب القبطى والعلمانى والليبرالى بل رفض أدبيات التيارات الإسلامية للديمقراطية ووصفها بالكفر نموذج آخر للتشرنق الذى يحصن نفسه فلا يقبل أى تواجد فكرى آخر يهدد شرنقته , فالديمقراطية تعنى إمكانية تحطيم شرنقته وصعود أصحاب مشاريع اخرى كما يعنى أيضاً ان الأفكار الأخرى تهدد كيان الشرنقة ..فالشرنقة هنا تحاول الإحتماء مع رفضها التام لأى افكار أو وجود آخر .
فتاوى ياسر البرهامى حول رفض مداوة الأقباط وعدم جواز تبرع المسلم بدماءه الطاهرة للقبطى بينما يحل ان تنقل دماء القبطى النجسة للمسلم لإنقاذ حياته فتاوى بشعة مقززة تثير الفتنة والعنصرية فهل يمكن رده لموروث تراثى دينى حافل بهذه النهجية المتعالية , ولكن اين ذهب منهج المواطنة والمساواة وكيف تبدد سريعا .. يمكن القول بأنه مشروع تعبوى للجماهير المسلمة وتفعيل حالة إستقطاب عالية تُعبر عن حالة إحباط وغياب للبوصلة والهرولة نحو المزيد من الإنطواء داخل حالة ثقافية متشرنقة تُسيج نفسها بمشروع متعالى عنصرى يحمل للآخر النبذ والكراهية لخلق حالة هوية تتواجد فى التماهى داخل شرنقتها ولو على حساب مشروع عنصرى متعالى ليتعزى المهمشون الذين يتحسسون هوانهم بتفريغ طاقة غضبهم وإحباطهم فى الآخر .

نلاحظ أن ثقافتنا العربية الإسلامية هى الثقافة الوحيدة فى العالم التى تتعسف وتصادر وتمانع أى فكر وثقافة مغايرة فلا تسمح بالإلحاد أو بالتبشير لأى دين أومعتقد آخر , لتصل فى تعسفها إلى ملاحقة الدعوة للمذهب الشيعى فى بلدانها بينما لا نجد هذا فى شعوب العالم المختلفة , وهذا يبين أن ثقافة الشرنقة ترفض بعناد وصلادة أى إقتراب من الشرنقة وتؤكد لنا أن الثقافات البائسة تتوحش أمام أى فكر مغاير .

ثقافة التشرنق تحمى نفسها فى خلق وتضخيم قوى خارجية تريد النيل منها , لتجد فكرة المؤامرة المزيد من الإستحواذ على العقل العربى بل تدخل فى لحميته من تأثير الفكر الدينى الذى يؤسس لفكرة المؤامرة والتى تبدأ بالشيطان كمتآمر على الإنسان لتتسع الدوائر لتضم تمظهرات لقوى شيطانية أخرى متمثلة فى الصليبية والإلحادية والوثنية والماسونية التى لا تتوانى فى التخطيط والتآمر للنيل من الإيمان والرخاء والإستقرار .. ولعل آية " ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع ملتهم " هى المُؤسسة والمُكرسة لفكرة المؤامرة والتوجس ورفض وكراهية الآخر فهو متآمر يريد النيل من إيماننا ليتم تجييش المؤمنين فى جبهة مُتحفزة ومُستنفرة مما يعنى الإلتصاق التام بالمشروع الدينى كحصن للمواجهة والتصدى , غافلة أن واقع العالم لا يحفل بقضية الإيمان من عدمه .!

دعونا نتسائل عن سبب حالة التشرنق هذه ولماذا تنفرد ثقافتنا العربية عن ثقافات العالم بهذه الوضعية ولماذا تحظى هذه المنظومة الثقافية القديمة بالحضور والتأثير فى واقع مغاير .؟
لا نستطيع ان نعزى حضور الثقافة القديمة المتمثلة فى التراث الدينى لكون الشعوب العربية متدينة ومهتمة بالحفاظ على تراثها وحالمة بحضوره وهيمنته ثانية , فهنا نحن نرصد المشهد ونغفل العوامل الموضوعية التى أنتجته بمعنى أن هناك حالة موضوعية محددة تخيم على الواقع العربى تجعل من إستدعاء التراث والتمرغ فى جنباته أملاً يراود البعض .

لا نستطيع أن نغفل حالة الإحباط السياسى والإجتماعى والإقتصادى الذى يخيم على المجتمعات العربية بإنعدام وجود مشروع حضارى بديل يبدد هذا الإحباط فيصبح الإرتماء فى حضن التراث والتشرنق داخله هو طوق النجاة وأمل مرجو وتعزية عن حالة تدنى لا سبيل للخروج من النفق المظلم سوى المزيد من التشرنق مع الذات .

هناك غياب تام للبوصلة لعوامل التجهيل وسياسات الإلهاء التى تمارسها الأنظمة العربية فلم يحاول أى نظام عربى سحق الأمية والجهل فهو أدرك أن وجودهما يعطى حصانة لإستمرار هيمنتها وتغييب اى قوى للمقاومة كما أن سياسات الإلهاء تهدف إلى الدفع بالمجتمعات العربية فى ملعب بعيد عن الملعب الرئيسى حيث تستنزف قوى المقاومة فى مشاريع وهمية حتى ولو كانت ذات حجم كبير مثل حضور المشروع الإسلامى فهو لا يختلف شيئا عن طبيعة الأنظمة والطبقات المسيطرة سوى أنه سيمسك سبحة فى يديه ويبسمل ويستعين ويحولق بين كل عبارة واخرى ولتبقى الطبقات السائدة كما هى .

تخلف علاقات وقوى الإنتاج لتتقارب أنماطها مع نفس المضمون لعلاقات وقوى الإنتاج السائدة وقت ظهور التراث جعل حضور وحظوة التراث ماثلة , بمعنى ان علاقات الإنتاج فى جزيرة العرب على سبيل المثال هى نفس نهج علاقات الإنتاج فى زمن الرسالة فمازالت تدور فى إطار من الإقصاد الريعى الرعوي وإن تغيرت الأشكال والصور ليحل راعى آبار النقط بديلاً عن راعى الأغنام ولتبقى بنية المجتمع الأساسية مانحة للثقافة القديمة الحضور والفاعلية .. وهكذا الحال فى بقية الدول العربية وإن تغيرت الصور بشكل أو آخر .
أرى أن القوى الأصولية والسلفية هى الطابور الخامس والأخير للبرجوازية العربية البائسة التى تعيش على الإقتصاد الرعوى الريعى فهى الحصن الأخير لها بعد أن فشلت فى أن تبنى مجتمعاً مواكباً للعصر فأرادت ان تمد فى عمرها بالإرتماء فى الشرنقة الدينية كسبيل حماية وإطالة لعمرها الإفتراضى .

تطوير علاقات الإنتاج سيستدعى بالضروة ثقافة جديدة تفى الحالة الجديدة وتنسجم معها وهذا ما حدث فى أوربا ويمكن ملاحظته فى بزوغ مفردات ثقافية فى مجتماعاتنا العربية التى حظت على قسط بسيط من التطور والحداثة كما فى مصر والعراق وتونس ولكن للأسف هى تتعرض الآن للتآكل والإنهيار لهشاشة هذه العلاقات الإنتاجية .

لا سبيل من الفكاك من أسر التخلف إلا بكسر الشرنقة وإستنشقاء هواء جديد يبث الحيوية فى الجسد العربى المتهالك , فلن تجدى عمليات التحفيز والتوجس والإنعزالية فى الخروج من مستنقع التخلف بل بمنهجية التعايش والإنخراط فى المجتمع الإنسانى وإدراك معادلاته ومصالحه والسعى للحصول على الحقوق بندية وشجاعة , ولن يجدى أن ننعزل عن منظومة العصر وتنفير شعوبنا برفض علومه وثقافته ومنجزاته الحضارية فى العلوم والتطور والقوانين والحريات .. ولن يجدى إستدعاء خيوط الشرنقة القديمة فى الإحتماء فهى شديدة الوهن .

ولكن هل هناك من أمل ؟
أعتقد أن هناك أمل بالرغم من تجذر الثقافة وتواجد أدواتها ومعطياتها فكما ذكرت فى مستهل المقال أن تواجد التيارات الإسلامية فى الواجهة سيضع الأمور على المحك فالتحديات كبيرة والتركة ثقيلة وهموم وتطلعات المجتمعات العربية نحو الحرية والعدالة الإجتماعية لن يشبعها ثقافة التشرنق ولن يفى حاجاتها .. لذا فليس أمام القوى السلفية إلا التخلى عن خطابها رغما ً عنها ومصالحة العصر بمنظومته الحضارية والفكرية والسلوكية أو الوقوف بعناد ووضع العصا داخل عجلة التطور والحداثة لتنكسر حتماً .
أرى أن نسمات الحرية التى هبت على المجتمعات العربية ستتشبث بها ولن تغفلها إلا إذا حصلت على حياة كريمة وعدالة إجتماعية وإنسانية لتكون هذه الحرية هى الفاعل فى مناهضة قوى التخلف , لذا الطريق لن يكون سهلا ولكن من المؤكد انه سيجرف المصالح البرجوازية التى تتستر بثقافة التشرنق وستصحب معها مراجعة للتراث فالعالم الإنسانى لم يعد يتحمل هيمنة ثقافة قديمة .

دمتم بخير
"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " - حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المنطق الدينى بين الهشاشة والسذاجة والهراء - خربشة عقل على ج ...
- البحث عن قضية إهتمام - الله مهتماً - لماذا يؤمنون وكيف يعتقد ...
- المرأة العربية بين جمود الثقافة والتراث وهيمنة مجتمع ذكورى
- الأديان بشرية الهوى والهوية -خيالات إنسان قديم (3)
- ثقافتنا ومعارفنا البائسة بين التلقين والقولبة - لماذا نحن مت ...
- حكمت المحكمة - يُقتل المسلم بكافر ! (4)
- عذراً لا أريد أن أكون إلهاً - خربشة عقل على جدران الخرافة وا ...
- مَخدعون و مُخادعون - كيف يؤمنون ولماذا يعتقدون (18)
- حصاد عام على إنتفاضة المصريين فى 25 يناير
- زيف الفكر وإزدواجية السلوك وإختلال المعايير - لماذا نحن متخل ...
- ثقافة وروح العبودية - لماذا نحن متخلفون (1)
- الأديان بشرية الهوى والهوية -نحن نتجاوز الآلهة وتشريعاتها (2 ...
- قطرة الماء تتساقط فتسقط معها أوهامنا الكبيرة - خربشة عقل على ...
- الأخلاق والسلوك ما بين الغاية ووهم المقدس - لماذا يؤمنون وكي ...
- نحن نخلق آلهتنا ونمنحها صفاتنا -خربشة عقل على جدران الخرافة ...
- الحجاب بين الوهم والزيف والخداع والقهر - الدين عندما ينتهك إ ...
- هل هو شعب باع ثورته ويبحث عن جلاديه أم هو اليُتم السياسى .. ...
- مراجعة لدور اليسار فى الثورات العربية ونظرة إستشرافية مأمولة
- مشاركة القوى اليسارية والنقابات العمالية والاتحادات الجماهير ...
- فى داخل كل منا ملحد !..إنه الشك يا حبيبى - لماذا يؤمنون وكيف ...


المزيد.....




- “سليهم ودلعهم” خلي أطفالك يتمتعوا بكل أغاني وأناشيد قناة طيو ...
- حرس الثورة الإسلامية: حزب الله سيخرج منتصرًا ويحبط مخططات ال ...
- هجوم إلكتروني في محطة القطارات بالمملكة المتحدة يعوق شبكة -و ...
- قائد حرس الثورة الإسلامية اللواء حسين سلامي: سيخرج حزب الله ...
- مصر.. فتوى حول فيديوهات يتربح منها عدد كبير من الأشخاص
- -رباعية البردة-.. ملحمة شعرية غنائية مغربية تستذكر أشهر القص ...
- “ثبتها الآن”.. ضبط تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 للأطفال ...
- أمر قضائي لمؤسسة إسبانية بحذف تعريف لكلمة -يهودي-
- فرنسا: اتهام شخص ثالث في قضية مخطط إيراني لاغتيال يهود
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجمة هدف حيوي في الاراضي ...


المزيد.....

- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامى لبيب - ثقافة التشرنق والتحفز - لماذا نحن متخلفون ( 4 )