|
سنوات النهضة الكردية: مدرسة الشام
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1079 - 2005 / 1 / 15 - 11:08
المحور:
القضية الكردية
مساهمة في مئوية الشاعر عثمان صبري 1
في عام 1847 ، هُزم بدرخان باشا ، آخر امراء" بوطان " العظام ، وسيق اسيراً الى الآستانة ، لينال من ثمّ عفو السلطان وكرمه . ويقال ان الصدر الأعظم هو الذي رتّب لأميرنا الكردي أمر لقاء خليفة المسلمين في قصره المنيف . يسأل السلطان عبدالمجيد بدرخانَ عن سبب " عصيانه" ، فيجيبه هذا بانشاد عجمي فصيح لرباعية الخيام ، التي تقول عربيتها :
و من الذي لم يشن قط زينك وكيف البريء عاش ،أينك ؟ إذا أنت كافأت ذنبي عقاباً فما الفرق ياربّ ،بيني و بينك؟ (1)
طوال ما يزيد على القرن ، كانت السلالة البدرخانية هي الجذوة التي أضرمت باستمرار كفاح الكرد السياسي والمسلح، وأسهمت بابقاء شعلة حياتهم الفكرية والأدبية. توزع أفرادها في المنافي التي تنقل فيها كبيرهم وأولاده، من اسطنبول الى الشام والقاهرة وبيروت وباريس مرورا بجزيرة كريت: ولكن شجر زيتونهم الذي زرعوه، لم يثمر الا في مدينة صلاح الدين. مثل العديد من احفاد امير بوطان، تحتم على صالح بدرخان(1874-1915)، ان يجرب المنفى ويعاني من عذاب التشرد والأسر. وليست رمية نرد للقدر، ان تبصر عيناه النور في مدينة اللاذقية ، وان تغمضا الى الأبد في ظلمة سجن حربي بجزيرة رودوس :ألم تكن حياته قاربا تقاذفته الأمواج المتلاطمة؟ وبعد ولادته بخمس سنين أخذوه الى الشام لكي يلقي نظرة على امه المحتضرة والتي كانت تسكن مع اهلها في حي "سوق ساروجة" الارستقراطي. واثر وفاتها، اودع جثمانها في تربة مولانا النقشبندي بحي الأكراد، قرب ابيها وزوجها . درس صالح بك في مدارس ابناء الأكابر، الدمشقية. وكان يتعشق مدينة طفولته وصباه ، حتى انه ما كان ليصبر على مفارقتها؛ فيعود اليها سريعا بعد أي زيارة او سياحة او محطة عمل في استانبول وبيروت والقدس وغيرها من الحواضر:"تلك الأيام التي قضيتها في شبابي، تبعثني للتغني بالشام وتوقظ في نفسي الذكريات الحلوة.. ان هذه المدينة تحدد انتهاء النهر الذي يدعى (بردى)، والذي تشع بانحائه الأمواه الزمردية.. وفي اخر النهار وقبل دخولنا الشام ،نجد المدينة محاطة بمكان يسمى (المرجة) ،وهو بقعة من بقاع الجنة ، تحفها الأشجار من كل صوب وكأنها تفتح ذراعيها لأستقبال بردى.. هذه المدينة كانت ومازالت مرتع خيالي واحاسيسي ،كما كانت مرتع حزني و آلامي ". (2) كمنوّرواديب ، لعب صالح بدرخان دوراً فعالاً في تأسيس الجمعية الطلابية الكردية (هيفي:الأمل )،واسهم في تحرير مجلتها الشهرية (روجا كرد:نهار الكرد).وفي عام 1913 اعتقل بتهمة نشر مقالات معادية للحكومة وزج به في السجن . ومن السجن إلى اتون الحرب العظمى ، حيث اسره الأنكليز في قلعة حربية بجزيرة رودوس ، والتي سبق له أن عرفها منفياً عام 1906 (3). ومن شعره هذه المقطوعة الحماسية بعنوان (الوطن ) :
جبلت ذرات ترابك بدماء القلوب ونما زهرك وفاح عطره بالاحمر القاني امتلأت ارجاؤك بالصراخ و الأنين .. سيجعل نفسه قرباناً، كل من يدري بحالك يا وطن. (4)
2
اذا كانت اسطنبول المهد الأول للنهضة الكردية، فان الشام سرعان ما احتضنتها وحدبت عليها. فنشوب الحرب العظمى وما اعقبها من انهيار دولة بني عثمان ، اجبر معظم المتنورين الأكراد على مغادرة عاصمة الخلافة و التبعثر في المنافي. وابتداءا من الربع الاول من القرن المنقضي، غدت دمشق مركزا رئيسا للثقافة الكردية، وذلك بفضل اولئك المنفيين ، وابرزهم الأمير جلادت بدرخان. وما كانت مدينة صلاح الدين بالغريبة على البدرخانيين، ففيها مراقد جدهم الكبير و العديد من اقاربهم. وفضلا عن ماثره الأدبية ، فان أبرز أعمال جلادت بك ، كان تأسيسه لمجلة (هاوار:الصرخة) عام 1932 ، والتي استمرت تصدر في دمشق الى عام 1943 . وقد التف حول المجلة النخبة الكردية المتنورة ، والتي تعرف تاريخيا باسم "مدرسة الشام" (5) . وعلى صفحات (هاوار) ظهرت نتاجات أبرز الأصوات الشعرية في كردستان النصف الأول من القرن العشرين.
3
قدم قدري جان (1916-1972) من كردستان وهو صغير السن ، فأقام بدمشق معظم سني حياته وفيها توفي. بالرغم من حداثة سنه ، شارك قدري جان في الكتابة لمجلة (هاوار) ، فنشر أشعارا وأقاصيص وحكايات تراثية ومقالات وترجمات. تميز شعره بالتجديد والروح الوطنية والانسانية وايمانه بالمصير المشترك للكرد والعرب ، و بما يتماشى مع فكره التقدمي. وقد ساعد اتقانه لعدة لغات ، ومنها الفرنسية ، على اطلاعه على الآداب الأوروبية الحديثة. وفي هذا الصدد ، يقول المستكرد الفرنسي المعروف روجيه ليسكو :"فيما يخص ميدان تجديد الشعر الكردي ، على مستوى الشكل والمضمون واللغة ، يمكن اعتبار قدري جان من مؤسسي الشعر الكردي الحديث" (6). هنا مقطع من قصيدته (الوردة الحمراء):
الورد ة الحمراء ، كانت لنا فرحا وفكرا اسكرتنا بأريجها، نتغنى بها لنتحرر رقيقة ، خفرة ، مزركشة:وردة بلا جرح متسامقة في جنة ( ارم )،الوردة الحمراء.
4
يعتبر جكر خوين (1903_ 1984 )، من اهم شعراء الأدب الشعبي الكردي الحديث.. هذا الأدب المتميز بتجسيده لقضايا اجتماعية و قومية وانسانية باسلوب سهل وبلغة خطابية جماهيرية،خالية غالبا من العمق، ناهيك عن المدلولات الرمزية والاسطورية. وهذه الواقعية لدى الشاعر تفسرها حياته المنطبعة بالمعاناة والحرمان والتشرد، حتى لقد غلب عليه الاسم الذي أطلقه على نفسه( جكر خوين: القلب الدامي)، على اسمه الحقيقي. اجبرته ظروف ما بعد الحرب العظمى على الرحيل من موطنه، والاقامة في منطقة الجزيرة. أخذ دروس الفقه في الحلقات الدينية المتناثرة بين عامودا والقامشلي. ولكن سرعان ما خلع عنه جبة رجل الدين، ليصير شاعرا جوالا وداعية ثوريا يتنقل بين القرى والقصبات ، مهاجما الاقطاع والظلامية والجهل. فلا غرو اذن انه تعرض للاضطهاد والتنكيل والملاحقة. غير ان اتصاله بصاحب مجلة( هاوار) غير مجرى حياته، وجعله يكرس أغلب وقته للكتابة الأدبية. اخذ يتردد على دمشق، واثر الاقامة فيها مع عائلته فترات مطولة ، كما وأصدر هناك كتبه الخمسة الاولى . ثم ما لبث ان صار من ابرز وجوه النخبة الكردية الملتفة حول الأمير جلادت بدرخان، فيما صارت تعرف ب" مدرسة الشام". اضافة للشعر، ابدع جكر خوين في مجال القصة الشعرية، وأسهم بدراسة التراث والتاريخ واللغة، كما وخلف لنا مذكراته الشخصية ذات القيمة التاريخية. في المقطع التالي، تبدو نبرة الشاعر الجريئة في طرح آرائه:
كأس ماء من احد ينابيع وطني لا اعطيه بماء زمزم وكوثر الجنة، ولا أبدل حجرآ من صخور وطني بالماس والياقوت والذهب والجواهر، لا، ولا أبدل فتيات ونساء كردستان بحوريات الجنة أبدا. (7)
5
عثمان صبري(1905-1993)، هو آخر رواد النهضة الكردية. وشان رفيقيه قدري جان وجكر خوين، نزح في شبابه الى سورية فاستقر بدمشق، كمنفي، منذ بداية ثلاثينات القرن المنصرم ، وبقي فيها حتى توفي. عرف كمنوّر وسياسي أكثر منه أديبا؛ ويرجع ذلك الى انخراطه مبكرا في صفوف التنظيمات القومية ، وقيامه على تأسيس النوادي الثقافية والاجتماعية، وقضائه فترات طويلة من عمره بالسجون والمعتقلات. وعنه قالت الأديبة روشن بدرخان:" ناضل ومازال يناضل في سبيل أمته وبني قومه. متفائل لاتفارق البسمة ثغره حتى في أحرج الساعات. له اشعار حماسية قومية وغزل رقيق سلس الألفاظ والتعابير" (8). وهذا مقطع من قصيدته ( دجلة والفرات):
هذان النهران متحدرين من الشمال، كبلدين احدهما يذهب حتى (بيرجك)، والآخر يمر خلال ديار ( زين) كان (ملاي جزيري) يستحوذ منهما الهامه، و(أحمد خاني) ارتوى من مياه النهر وعلى ضفافه، كتب آلام ( مم) المدنف.
هوامش ومصادر:
1- مالميسانيج ، بدرخانيو جزيرة بوطان / الترجمة العربية لشكور مصطفى ـ اربيل 1998، ص 48 والترجمة العربية للرباعية اخترناها من كتاب: ابراهيم العريض، رباعيات الخيام ـ بيروت 1969 2- صالح بدرخان، مذكراتي / ترجمة روشن بدرخان ـ دمشق 1991، ص 60 3- روشن بدرخان ، صفحات من الأدب الكردي ـ دمشق 1954،ص56 4- الترجمة العربية لروشن بدرخان، من كتاب " مذكراتي "، ص 71 5- مالميسانيج، مصدر مذكور، ص 6 6- د. كمال معروف ، الحركة التجديدية في الشعر الكردي الحديث ـ ستوكهولم 1990،ص46 7- د. معروف خزندار ، موجز تاريخ الادب الكردي المعاصر / الترجمة العربية للدكتور عبد المجيد شيخو ـ حلب 1993،ص26 8- روشن بدرخان، مصدر مذكور ن ص 56
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المصادر الاسطورية لملحمة ياشار کمال ..جبل آ?ري
المزيد.....
-
عضو بالكنيست الإسرائيلي: مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وجالانت
...
-
إسرائيل تدرس الاستئناف على قرار المحكمة الجنائية الدولية الص
...
-
وزير الخارجية الأردني: أوامر اعتقال نتنياهو وجالانت رسالة لو
...
-
هيومن رايتس ووتش: مذكرات المحكمة الجنائية الدولية تفند التصو
...
-
الاتحاد الأوروبي والأردن يُعلنان موقفهما من مذكرتي الاعتقال
...
-
العفو الدولية:لا احد فوق القانون الدولي سواء كان مسؤولا منتخ
...
-
المفوضية الاممية لحقوق الانسان: نحترم استقلالية المحكمة الجن
...
-
المفوضية الاممية لحقوق الانسان: ندعم عمل الجنائية الدولية من
...
-
مفوضية حقوق الانسان: على الدول الاعضاء ان تحترم وتنفذ قرارات
...
-
أول تعليق من -إدارة ترامب- على مذكرة اعتقال نتانياهو
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|