نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1079 - 2005 / 1 / 15 - 11:27
المحور:
اخر الاخبار, المقالات والبيانات
وهل انتهت الفورة الإصلاحية الإعلامية بذاك الخبر الموحش اليتيم ,وانتهى بها يوم العسل الخاطف القصير, لتعود حليمة لعادتها القديمة ؟ فكما هو معلوم, وبالطبع لايتم تحويل المريض إلى المشفى والإعلان عن وضعه الصحي, وإدخاله غرفة العمليات لتبدأ أيادي الجراحين إعمالا في جسده النحيل المتهالك الهزيل, إلا بعد وصوله إلى حالة مزرية ومتردية وبحاجة لرصاصة الرحمة أحيانا أكثر من حاجته إلى طبيب وترياق , ومهما كان ماهرا أو خبيرا وصاحب اختصاص, لأن الأعمار آجال , وإذا حل القضاء ضاق الفضاء. والإعتراف بحد ذاته إنجاز وفضيلة تضاف إلى قائمة الفضائل التي بدورها تحتاج للمزيد والكثير.وأيضا وبنفس الوقت إن مجرد التشخيص الصحيح للحالة ,هو قطع لنصف المشوار العلاجي, وخطوة في الإتجاه الإستشفائي السليم,ولكن بشرط توفر الدواء المناسب على رفوف الصيدليات. وإن كانت بعض الأبدان أحيانا تتعايش مع الأمراض, وتستمر في الحياة كما هو الحال هنا,فإن الصحيح أيضا أن كثيرا منها سرعان ماينهار ويتعرض للموت والفناء. فهل سيستطيع "الإعلامي العطار" أن يصلح ما أفسده الدهر التوتاليتاري القهار؟
لقد كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن بعض الخبطات "البريسترويكية الإعلامية" الإستعراضية هنا وهناك, في محاولة للخروج من ذلك الثوب الرث البالي الذي لبسه ذاك الإعلام البدائي من أيام الديناصورات الحمراء.وإن كان سنونو واحدا لايصنع الربيع,كما يقول المثل الإنكليزي,فإنه وفي المقابل, فإن طريق الألف صحيفة حرة تبدأ بخبر شفاف صادق ولو كان يتيما. وإذا كان "غوربي الساحر" ,كما كانت تطلق الصحافة الغربية على آخر القياصرة الحمر, قد بدأ مشروعه "الغلاسنوستي"لإعادة البناء,ببعض اللقطات المثيرة ودخول جريء إلى أقفاص المحرمات,ولا أدري لماذا أرى تشابها كبيرا ,وفي أكثر من وجه, بين الرجلين,فإنني أرجو وبصدق ألا تنهار امبراطورية الثاني الإعلامية كما انتهت الإمبراطورية العسكريتارية الأولى بأنقاض وركام من الفضائح و"البهدلات",وفناء وتحلل واندثار,والتي بدت ,في لحظة ما, منيعة وعصية على الزوال.
ومن لايقول بأنه كان لذاك الإعلام خبطات مدوية,وهزات مزلزلة خلال المسار, وسمات مميزة في يوم من الأيام ,فهو ,ومع الإحترام الشديد, واهم وغفيان وخرفان. أفلا يعتبر بث برنامج قدري وسرمدي ونمطي وممجوج,في نفس الوقت الذي كانت فيه طائرات "شيخ المجاهدين" الأخيار تدك الأبراج العولمية في مدن الأحلام , صرعة وضربة إعلامية كبرى لم تخطر على بال روبرت مردوخ في يوم من الأيام ؟ولم يجد دهاقنة الإعلام وملوك صناعة الكلام media tycoons حتى اللحظة تفسيرا لهذا الفتح الإعلامي المبين, في الوقت الذي كانت فيه محطة تلفزيون غينيا الإستوائية تبث الحدث وعلى الهواء.وهو نفس الإعلام الذي استمر فيه مذيعون وكتبة قدريون من أصحاب الشوارب الغليظة والعبسات المكشرين القرفانين,ومذيعات متأتئات ملولات أميات ومتذمرات, ولعشرات من السنوات,يعزفون بتناغم مدهش سيمفونيات الثوابت والملل والتكرار, ويرددون نفس الجمل والعبارات حتى حفظتها الجماهير العريضة عن غيب و"استظهار", وصارالصغار والكبار, يجترون يوميا معهم مطالع نفس نشرات الأخبار في سابقة إعلامية أممية فريدة ويرتلونها ببلاغة صماء في عملية تحفيظ وتلقين جماهيري جماعي شامل لنفس المقامات و"اللزوميات" من "العقد الفريد". فلم يحدث يوما ,وعند أرقى شعوب الأرض وأكثرهم ثقافة, أن حفظت الشعوب معلقات الأخبار صما وغيبا ومن "الألف إلى الياء",وبالمناسبة هذا اسم لبرنامج عاصر ثمانية رؤوساء أمريكيين فقط لاغيربالتمام والكمال.أليس ذلك تفردا وتميزا مثيرا؟وكم كنت أتذكر تلك الطرفة عندما يقع نظري على واحدة من تلك الجرائد المحنطة حين صرح "نابليون" ,متندرا طبعا, بأن أحدا ما لن يسمع بهزيمة و"اترلو" النكراء لو كان عنده نفس هذه الصحف ,إن صحت تسميتها بذلك.
ويتساءل المرء في نفس الوقت كيف استطاعت إذاعة أوروبا الحرة ,التي لم يتجاوز أعداد موظفيها العشرات في أحسن الأحوال ,أن تخترق الستار الحديدي ,وتحطم جدار برلين بعد أن حطمت أسوار الخوف والرعب والصمت القابع وراء تلك الجدران.أهو التوق الأبدي للتحرر والتجديد والإنعتاق؟أم سيادة منطق الأشياء وناموس الطبيعة الخالد في نهاية المطاف؟أم أن القبضات الفولاذية والحديدية , ومن منطق فيزيائي ,تتعرض ومع الزمن للتأكسد والصدأ والإهتراء؟أم أنه ومهما طالت الليالي الحالكات ,فإن الفجر قادم لامحال؟ولماذا لم تستطع هذه الشواخص المفبركة الشهيرة بكوادرها الجرارة أن تتجاوزتأثيراتهاالخطابية دوار "كفر سوسة" حيث المقر التاريخي للإشعاع الإعلامي وحيث كان لي ,ولوهلة خاطفة, شرف الدوام في يوم من الأيام الغابرات.
ولعل أهم مايواجه المشروع "البرويسترويكي" هو المصداقية التي هي رأسمال هكذا أعمال بالدرجة الأولى بعد أن أشاح الجمهور العريض وجهه المنهك التعبان أصلا عن هذه الصحف و الشاشات,ورموزها القدرية المومياءاتية الخالدة المخلدة, ,وترك الصحف المستنسخة على الأرصفة تناجي ربها في ليل "التعتيم" الطويل.وإن من أصعب المهام "البرويستروكية الجديدة" الآن هي كيف سنعيد المشاهدين للتسمر مرة أخرى أمام الشاشات المهجورة,كما كانوا يتسمرون في يوم من الأيام لمتابعة أبوفهمي وغوار وصابر وصبرية وأبو جندل وحسني البورظان في سنوات الرومانس والصفاء والأحلام, وكيف سيقبلون ,قبل تناول قهوة الصباح, لشراء تلك الصحف وهو ما لا يفعلونه ,وبصدق وأسف معا ,الآن؟وفي ظل منافسة شديدة ووفرة كبيرة لفضائيات وصحف حرفية محترفة وترفيهية قطعت شوطا بعيدا في استقطاب الكثيرمن الزبائن الباحثين عن "المتعة الإعلامية" المرموقة؟وكيف سنخاطب جمهورا عريضا من المثقفين وحملة الشهادات والمهتمين بالشأن العام الواعين, والمتمرسين وبلغة مقنعة ومنطقية, والكف عن لغة التسطيح والتعميم والتجهيل والإستهبال والتقريرية المفرطة والمسلمات والمحرمات التي لاتقبل النقاش والمبالغ فيها في كثير من الأحيان؟ ولماذا الإصرار على الشللية والمحسوبية و"الدعم"والبنى المترهلة والمتآكلة التي أكل الزمان وشرب و......و.......عليها,والتنكر للموهبة والجدارة والشهادة والإختصاص؟ فلقد أصبح واضحا وللجميع أن العالم عوالم ,وأن العرب عربان وأعراب ومستعربون ومتبرقعون بالعروبة والضاد,وأن اللوحة الوطنية الساحرة فيها الكثير من الفسيفساءات, وأن هناك وقائع ومعطيات وحقائق جديدة على الأرض,لابد من أخذها في الحسبان.لكن, ومن غير الواضح والمفهوم معا, كيف يتم التعامي والتغاضي عن بديهيات يدركها الجهال والبلهاء والإصرار على اجترار نفس النفايات والبذاءات السياسية, وبعناد وتناحة متعمدةفي بعض الأحيان؟ وإحياء لتراث الكيانات و"الأنتيكات" التي أصبحت في ذمة الله ومع المرحومين في مقابرالتاريخ ومكبات الأوساخ؟
وكم كنت أتألم وأتحرق وأشعر بالغيظ والغضب حين كان المغرضون الحاقدون ينهشون من هذا الجسد الطاهرالرائع,ويشوهون بنبالهم السامة تلك اللوحة الجميلة المقدسة, فضائيا وأرضيا وإليكترونيا, ودون أن يرد أحد ما عليهم ويخرسهم "ويسد بوزهم" بالنعال, وهو أضعف الإيمان, وميسر وسهل المنال لو توفرت المنابر والأدوات والشاشات,ولاتزال هذه المعضلة قائمة حتى الآن,ولو حصل, ورد أحد المعنيين وهو أمر نادر بطبيعة الحال, فإنه يلجأ إلى محطات أخرى, وللأسف, لإيصال صوته الباهت الخافت, وهذا أمر مخجل ومحزن بكل الأحوال,تماما كما ذهب مسؤول بارزللعلاج خارج البلاد في ظل وجود أطباء ومستشفيات مختصة في الوطن بنفس الإختصاص.في الوقت الذي لايستطيع أحد أن ينكر وجود مواهب وخبرات أصبحت, وبحق, عالمية في كل المجالات وتخطت حدود الأوطان , وتلقفها أخرون "يتباهون" بوجود تلك الطواقم الماهرة والفذة التي أغنت وأثرت تجارب تلك الهيئات والمؤسسات والمحطات.ولاتزال هناك الكثير من المواهب والخبرات والأقلام اللامعة الهامشية والمهمشة والمبعدة وِقادرة على إحداث نقلات نوعية لو تم التعامل معها من منطق الكفاءة والموهبة والجدارة والمعايير الصحيحة , ونسيان ونبذ الماضي بكل مآسيه وأفعاله الشنيعة السوداء التي جعلتنا بجدارة في القاع ,ودون نقطة بيضاء, وفي كافة النشرات والإحصاءات الصادرة هنا وهناك وعن مختلف المؤسسات والهيئات.وأن يواكبها "برويسترويكات" أخرى في السياسة والإقتصاد والمجتمع وخاصة الأدمغة المتخشبة و"المتشرنقة" في بوادق من الفولاذ.
إنها ملاحظات بسيطة ومتواضعة ,ولكن بنوايا طيبة وصادقة ومخلصة,وبرغبة جامحة لرؤية الألق والنور والضياء يتغلغل في كل الزوايا المظلمة التي أهملتها قرون من التعتيم والنسيان,والتي عشعشت فيها العفونة والطحالب والإشنيات ,والعودة إلى مضمار السباق مرة أخرى ,والإثبات وبالبرهان القاطع بأن الآخرين لايمكنهم التفوق علينا أومنافستنا في أي ميدان ومهما أوتوا من جبروت وقوة ومال ودهاء وصولجان.
البريسترويكا.............إلى الأمام.
نضال نعيسةكاتب سوري مستقل
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟