|
ندوة:«دور الدولة في ظل التغيير في المناخ الإقليمي والدولي»
قاسيون
الحوار المتمدن-العدد: 1078 - 2005 / 1 / 14 - 10:25
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أقام المركز العربي للدراسات الاستراتيجية بدمشق بتاريخ 20/12/2004 ندوة بعنوان: «دور الدولة في ظل التغيير في المناخ الإقليمي والدولي»، شارك فيها عدد من الاقتصاديين والباحثين، أدلوا بآرائهم ورؤاهم في هذا الموضوع الهام الذي أصبح «حديث الساعة» لدى المهتمين بقضايا الاقتصاد الوطني، ولدى شريحة واسعة من المثقفين والناس العاديين، وذلك لما يحمله من مضامين أساسية ومحورية، خصوصاً في هذه المرحلة التي ستفرض موضوعياً، تغييراً حاسماً في مفهوم الدولة ودورها وبنيتها ووظائفها، إما باتجاه التخفيف أو الاستغناء كما تريد قوى العولمة وأنصارها وتابعيها في الداخل، أو باتجاه التقوية والإصلاح والتنظيف كما يتمنى السواد الأعظم من الناس، والقوى الوطنية. وفيما يلي مقتطفات من بعض المداخلات التي ألقيت في الندوة والتي أدارها د. منير الحمش: الحفاظ على «الدور التدخلي» للدولة وتطويره ضرورة وطنية سياسية واقتصادية واجتماعية المستثمرون الحاليون: إما برجوازيون مأزومون.. وإما مسؤولون سابقون فاسدون ونهابون
■ مصلحة الشركات العابرة للقارات تتناقض وتتعارض مع مصلحة الدولة الوطنية القوية.. ● د. قدري جميل ■ دور الدولة أساسي.. وخصوصاً في البلدان النامية.. ● أ. حميدي العبد الله ■ لدى القطاع الخاص رغبة جامحة في السيطرة الأحادية على السوق ولا يحمل صفة «الرأسمال الوطني».. ● د. إنصاف حمد ■ «دور الدولة حيوي لتصميم وتنفيذ استراتيجيات التنمية والحد من الفقر».. ● د. حيان سليمان ■ الليبرالية الجديدة وعشوائية السوق، تقودان إلى طغيان قيم الربح السريع والشطارة على المصلحة الوطنية.. ● أ. حسني العظمة ■ الحاجة إلى تخطيط تأشيري، يستفيد من كامل الامكانيات المادية والبشرية.. ● أ. حميد مرعي
اقتصاد السوق.. مصطلح تضليلي ● مداخلة د. قدري جميل تحدث د. قدري عن «علاقة اقتصاد السوق بالدولة» وأكد أن هناك سؤالاً أساسياً يجب أن يطرح عند الحديث في هذا الموضوع: هل هناك اقتصاد سوق واحد؟ والجواب ـ من وجهة نظره ـ أن مصطلح اقتصاد السوق هو من المصطلحات التضليلية التي انتشرت في التسعينات من القرن الماضي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وذلك للابتعاد عن الحديث عن «العودة إلى الرأسمالية» لما تحمله هذه الكلمة، أي الرأسمالية، من شحنة سلبية في الوعي الاجتماعي، وحين جرى السير نحو اقتصاد السوق الذي لم يكن له انطباعات سلبية لدى الوعي الاجتماعي، وجد الماضون فيه أنفسهم متجهين نحو الرأسمالية بأبشع أشكالها، فوقعوا في الفخ (أكلوا كم)!! لذلك فخطورة المصطلح تكمن في تحضير الوعي الاجتماعي لتقبل عملية الانتقال إلى الرأسمالية، وهذا ماحصل مع الدول التي كانت اشتراكية. فهل تتكرر القصة في بلادنا؟ يرى د. جميل أن المسألة ليست بهذه البساطة، ويسأل عن ماهية اقتصاد السوق، ويجيب بأنه في النهاية ماهو إلا العلاقة بين العرض والطلب، وانعكاسات هذه العلاقة على الاقتصاد، وعلى العلاقات بين المنتجين والمستهلكين، وبين السعر والقيمة، لذلك يجب التفكير بأشكال اقتصاد السوق التي وجدت حتى الآن وتحديد ماالذي نريده نحن منها، خصوصاً إذا عرفنا أنها ظهرت بأربعة أشكال: 1 ـ الشكل الأول: اقتصاد السوق الحر الذي لم يعد موجوداً منذ القرن الـ19 وانتهى مع ظهور الرأسمال الاحتكاري، وكان يتميز بالعلاقة العفوية بين العرض والطلب. 2 ـ الشكل الثاني: الرأسمال الاحتكاري لاقتصاد السوق، وفيه جرى تراكم بالسعر من خلال التحكم بالعرض والطلب، وعرف في تلك الفترة مايسمى «السعر الاحتكاري» وساد هذا الشكل في بدايات القرن العشرين. 3 ـ الشكل الثالث: وقدمته ثورة أكتوبر الاشتراكية، وذلك عبر التحكم بالعرض والطلب لصالح المجتمع، وهذا شكل هام جداً من الناحية التاريخية إذ استطاع السوفييت أن يضبطوا السعر، بحيث صار مجموع الأسعار يساوي مجموع القيم، وهذا مكنهم مثلاً، أن يخفضوا أسعار ملابس الأطفال وألعابهم وأسعار اللحوم والأغذية تحت قيمتها، ويرفعوا أسعار الفودكا والمجوهرات فوق قيمتها. هذا اقتصاد سوق، إنه الاقتصاد الاشتراكي السوفييتي. 4 ـ الشكل الرابع: اقتصاد السوق المشوه ويسود في البلدان النامية، وهو مزيج بين الشكلين الثاني والثالث، إذ يجري الحديث و (الادعاء) عن تبني الشكل الثالث، بينما يطبق عملياً الشكل الثاني، فجهاز الدولة البيروقراطي الذي يدعي التحكم بالسعر لصالح المجتمع، يقوم بإحداث خلل مصطنع بين العرض والطلب لمصلحته الخاصة، ولمصلحة من يتواطأ معهم في السوق. من هنا، يجب البحث عن شكل جديد للدولة، لأن اعتماد الشكل الرابع المشوه أوصل معدلات النمو إلى الصفر، ورفع معدلات الفساد إلى حدها الأعلى، وكذلك الفاقد الاقتصادي، وجرى توزيع سيئ للثروة. لذلك فهذا الشكل استنفد نفسه، وسمح لبعض القوى أن تتشدق بالمطالبة والعمل (للانعطاف) إلى اقتصاد السوق بشكله الأول بدعم (معولم)، وهو شكل لايمكن تطبيقه مع تفاقم أزمة الرساميل الكبيرة، ولا أحد يستطيع تخمين آثاره الوخيمة علينا. إذن يتوجب علينا أن نرسم ملامح جديدة لاقتصاد السوق ولدور الدولة في ظروف بلادنا، وهذا يحتاج إلى نقاش عميق وجدي وأخذ ما يلي بعين الاعتبار: 1 ـ تأمين نسب نمو عالية للاقتصاد الوطني. 2 ـ إيجاد دور جديد للدولة يسمح لرفع وتائر النمو من 7 ـ 10% وهنا يجب الانطلاق ليس مما هو ممكن، بل مما هو ضروري للأمن الوطني بمعناه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب إلغاء الفاقد الاقتصادي الذي يصل إلى أكثر من 20% لدى المتفائلين و 40% لدى المتشائمين. والفاقد الاقتصادي نوعان: 1 ـ فني: سببه تخلف بنية الدولة وقوانينها. 2 ـ تجاريك سببه النهب. 3 ـ الدور الاجتماعي للدولة، وخاصة في مجال التعليم، لأنه أحد مجالات الاستثمار الهامة والبعيدة المدى. إن تعقد العملية الاقتصادية والاجتماعية يتطلب من الدولة دوراً تدخلياً للمحافظة على التناسبات الأساسية في الاقتصاد الوطني، وعدم ترك المسألة لقوى السوق، لأن هذا يعني الفوضى والخراب. فالنمو يحتاج إلى تراكم وادخار، وبالتالي لابديل عن دور الدولة لتنظيم التراكم والاستهلاك وضبط قضايا الأجور والأرباح. إن مصلحة الشركات العابرة للقارات تتناقض وتتعارض مع الدولة الوطنية الممسكة والضابطة للتناسبات الوطنية، لذلك تسعى إلى إلغاء كل دور لها، وهذا خطر كبير يجب التنبه له، والسعي لخلق وصياغة دور جديد للدولة قادر على مواجهة التحديات. لا يمكن الاستغناء عن دور الدولة ● مداخلة الأستاذ حميدي العبد الله وتحت عنوان: دور الدولة تاريخياً وحاضراً ومستقبلاً، قدم الأستاذ حميدي العبدالله مداخلة قال فيها: منذ أن وجدت الرأسمالية كان للدولة دور بارز في رعاية وجودها، وتسهيل تقدمها وتوسعها. وعلى امتداد القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لعبت الدولة دوراً بارزاً في تحقيق التقدم والتنمية بصورة شاملة، وكانت الرأسمالية المستفيد الأساسي من هذا الدور. وفي بداية القرن العشرين، وتحديداً بعد انتصار ثورة أكتوبر تعاظم دور الدولة ليس في البلدان التي سارت على طريق الاشتراكية، بل وأساساً في البلدان الرأسمالية حيث أظهرت ولادة نظام اشتراكي حدود النظام الرأسمالي والعيوب والنواقص التي تعتري النظريات التي تروج لدور محدود للدولة، وتسعى إلى إطلاق يد الاقتصاد الخفية للقيام بما لايتوجب على الدولة القيام به. لقد برهنت تجربة الاشتراكية في دول عديدة ودور الدولة المتعاظم أن الرأسمالية العفوية واقتصاد السوق الحر، لن يستطيعا مجاراة النظام الاجتماعي الجديد، ولن يستطيعا مواجهة التحديات في ظل السعي لتقليص دور الدولة، وهكذا توسع دور الدولة في الدول الرأسمالية ليخرج عن نطاق سن القوانين وحماية الأمن العام والاضطلاع بدور مهم في بعض القطاعات الخدماتية، وخصوصاً التعليم والصحة، لتمارس الدولة دوراً مباشراً في توجيه الاقتصاد وحتى الاشتراك في إدارته وتملك وسائل الإنتاج كما حدث في عقدي الستينات والسبعينات في دول أوروبية عديدة بينها فرنسا، وظهرت نظريات كثيرة في هذا الصدد، ففي ألمانيا تم اعتناق نظرية مايسمى باقتصاد السوق الاجتماعي، وفي دول أوروبا الأخرى تراوح تعريف الدولة بين دول اشتراكية، كما كان عليه الحال في بعض الدول الاسكندنافية، أو دول الرعاية الاجتماعية كما هو الحال في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وغيرها من دول أوروبا الغربية. وهناك مايشبه الإجماع على أنه لولا هذا الدور الكبير والواسع الذي اضطلعت به الدولة في الأنظمة الرأسمالية لما تمكنت هذه الرأسمالية من الصمود في وجه التحديات التي واجهتها على امتداد القرن العشرين. ولكن في بداية العقد التاسع من القرن الماضي، وبعد انتهاء الاتحاد السوفييتي، وتفكك منظومته الاشتراكية التي انتشرت في دول أوروبا الشرقية، انتعشت من جديد الليبرالية، وفي الحقيقية بدأت هذه النظريات المتطرفة تشق طريقها منذ بداية الثمانينات في كل من بريطانيا والولايات المتحدة، ولكن تطبيقها ظل حذراً ومحدوداً، وبعد انتهاء الاتحاد السوفييتي، وضعت هذه النظريات موضع التطبيق بقوة كبيرة، حيث سادت الرؤية التي توصف بالألتراليبرالية والتي تنكر أي دور فاعل للدولة خاصة على صعيد التنمية الاقتصادية. وفي هذا السياق سادت رؤى التخصيص وتحرير الأسواق والتجارة، وشملت الدول المتقدمة والدول النامية، وأشرف على تطبيق هذه الرؤى صندوق النقد الدولي، وبعد مرور أقل من عقد تم اكتشاف أن النظرية التي تزدري دور الدولة هي نظرية غير صحيحة إطلاقاً. وجاء هذا الاكتشاف تحت ضغط الظروف وتحت تأثير الانهيار المدوي الذي عاشته الأسواق في نمور آسيا وروسيا، وقد سبقهما إلى ذلك المكسيك، وكان سقوط الأرجنتين وليبراليتها المعروفة المثل الساطع على الآثار التي يتركها تهميش دور الدولة. وفي محاولة لمراجعة النظريات التي سادت في الثمانينات والنصف الأول من عقد التسعينات أصدر البنك الدولي لأول مرة عام 1997 أول مراجعة واسعة له على هذا الصعيد، فقام بإعداد ونشر وثيقة هامة تجاوز عدد صفحاتها 276 صفحة، كرست لعرض وشرح الدور الهام الذي لعبته الدولة ماضياً وحاضراً، مؤكدة أنه الذي لايمكن الاستغناء عن هذا الدور في أي وقت وفي أي ظرف كان، وحملت الوثيقة عنواناً معبراً هو «الدولة في عالم متغير» وتوقفت الوثيقة عند الدور الذي لعبته الدولة في القرنين الماضيين، وبينت كيف أنه لولا دور الدولة لما نما الاقتصاد العالمي على هذا النحو، ولما نمت الاقتصادات الوطنية، ولما صمدت الرأسمالية في مواجهة الأزمات المنبثقة عن التناقضات الكامنة في طبيعتها. يقول ستيغليتز عن الدور التاريخي للدولة«الأسواق لم تكن تتطور بصورة تلقائية، بل إن الدولة قامت بدور حيوي في توجيه الاقتصاد. وقد اكتسبت الدولة في الولايات المتحدة حرية عمل واسع في الحقل الاقتصادي». ويؤكد ستيغليتز «أن كثيراً من نشاطات الدولة موجودة لأن الأسواق لاتؤمن الخدمات الأساسية، فاليد الخفية تعمل بصورة ناقصة تماماً كلما كان الإعلام ناقصاً والأسواق غير كاملة» وينتهي إلى خلاصة جوهرية مفادها «هناك تدخلات من جانب الدولة مرغوب فيها ويمكنها، مبدئياً، أن تحسن فاعلية السوق، فالكثير من النشاطات الأساسية للدولة ينبغي اعتبارها ردودا ًعلى إخفاق السوق». ويضيف ستيغليتز أن البنك الدولي عندما حلل أسباب نجاح تجربة نمور آسيا اكتشف أن الدور الحاسم كان للدولة، وكان هذا بعيداً جداً عن المفاهيم التي تلحظ دوراً محدداً لها. بل إن ستيغليتز يؤكد أن «الفرضية القائلة إن السوق تفضي تلقائياً إلى أكثر النتائج فاعلية ولى زمانها» وبالتالي ولى زمان الأفكار التي تزدري دور الدولة. إن دور الدولة مطلوب وراهن ولايمكن الاستغناء عنه في الدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء، ولكن دور الدولة يكون أكبر وأعظم وأوسع في البلدان النامية، ذلك لأن التشريعات القانونية ضعيفة، واحترام المصلحة العامة يكاد يكون منعدماً، والتداخل بين القطاعين الخاص والعام شديداً، واستغلال المسؤولين لوظيفتهم من أجل محاباة القطاع الخاص، وتقبل الرشاوى في البلدان النامية أعلى من البلدان المتقدمة، والقطاع الخاص عاجز عن الاضطلاع بالتنمية الشاملة، ويبحث عن الربح السهل والسريع، وهذه كلها عوامل تفرض على الدولة النهوض بأعباء أكثر اتساعاً من الأعباء التي تواجهها الدولة في البلدان المتقدمة، وإذا كان لايمكن الاستغناء عن دور الدولة في الدول المتقدمة، بل إنها تضطلع بدور متزايد الآن وفي المستقبل، فإن الحاجة إلى هذا الدور أكبر وأقوى في الدول النامية، وبهذا المعنى فإن الدولة هي حقيقة لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال.
البرجوازية.. تأزم وعُقد ● مداخلة د. أنصاف حمد وقدمت د. انصاف حمد مداخلة هامة قالت فيها: فيما يتعلق بدور الدولة، بادئ ذي بدء، أريد أن أعبر عن اعتقادي بأننا لم نمتلك دولة قوية بالمعنى الشامل، لقد كانت الدولة عندنا رخوة خاصة فيما يتعلق بمكافحة الفساد، لقد كان السكوت على آليات الفساد ورجاله آفة حقيقية نخرت جسم الدولة، لابل يمكن القول إن هذا السكوت كان عبارة عن «سياسة إفساد»،وهذه واحدة من الأسباب التي ادت إلى وصول القطاع العام إلى ماهو عليه الآن من مشكلات وأزمات. أما فيما يتعلق بما يسمى ـ اقتصاد حرية السوق ـ الذي هو مفهوم مشوش وملتبس كما أشار الزملاء، أعتقد أنه يسود الآن تصور غير واقعي عن دور القطاع الخاص في ظل المفهوم المذكور، تصور يقدم القطاع الخاص بوصفه المخلص من آثام وشرور القطاع العام وبوصفه الرافع المحتمل لعملية التنمية والذي باستطاعته تحقيق ماعجز عنه القطاع العام (والأصح مامنع من تحقيقه). وهذه نظرة غير دقيقة، فحتى الآن لم نلمس من القطاع الخاص سوى رغبته الجامحة في السيطرة الأحادية عل السوق وفي الوقت نفسه الاستمرار بحصد مكاسب حماية الدولة له فالناظر المتفحص لبنية القطاع الخاص في سورية، سيجد أنه من الصعوبة بمكان ـ باعتقادي واجتهادي الشخصي ـ أن نوّصفه على أنه رأسمال وطني، إنه لم ينم بالشكل الطبيعي والقانوني النمو المعتاد للرأسمال الوطني في الدول الأخرى وبالتالي لاينطبق على أصحابه كلهم صفة البرجوازية الوطنية. فقلة قليلة جداً من أصحاب الرساميل السوريين يستثمرون في سورية هم من البرجوازية الوطنية الذين يأخذون بعين الاعتبار دورهم التنموي، ويقومون باستثمارات حقيقية تخدم عملية التنمية، وتخدم تنمية رأسمالهم في الوقت نفسه. والبقية من أصحاب الرساميل الموجودين الآن في ساحة القطاع الخاص هم نوعان: فئة تتمثل في أولئك العائدون للاستثمار بما استطاعوا النجاة به من قرارات التأميم، وهؤلاء مازالوا واقعين تحت سيطرة عقدة التأميم وتحكمهم علاقة عدم ثقة بالدولة ويفتقدون إلى الإحساس بالأمان، إضافة إلى شيء من نزعة انتقامية تريد من خلالها حصد أكبر كم من المكاسب، وهذا لايتوافق مع الاستثمارات الاقتصادية التنموية ذات المردود الأقل والبعيد المدى، وذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، وتكفي نظرة سريعة على بعض الاستثمارات الآن لاكتشاف طبيعتها البعيدة جداً عن ماذكرناه، والتي لاتهدف إلا إلى تحقيق أكبر ربح ممكن بأقل وقت وأقل جهد وأقل تكلفة مادية، وأي تكلفة اجتماعية أو وطنية. أما النوع الثاني من المستثمرين الموجودين الآن في الساحة فمنهم إما مسؤولون سابقون أو أبناؤهم، أو أبناء مسؤولين حاليين والمال المستثمر هو مال منهوب فاسد ومفسد، لم يأت من مصدر طبيعي، ولم يتراكم أيضاً بشكل طبيعي ونتيجة لدورات اقتصادية حقيقية مر بها، وبالتالي فهو لايمتلك أخلاقيات الرأسمال الوطني. من ثم من الصعب الوثوق بهكذا رأسمال أو بأصحابه ومن السطحية بمكان التعويل عليهم لأداء دور تنموي حقيقي فمعظم هؤلاء ليسوا إلا أداة ومخلباً للعولمة المتوحشة ولشركاتها العابرة للقارات بعد أن أصبحوا وكلاء لها وتماهت مصالحهم مع مصالحها، وهم بالتالي لن يستثمروا في مجالات إنتاجية، ولن يكون لهم دور أبداً في التنمية المستقلة المعول عليها بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهم بحكم نفوذهم السابق والحالي بالسلطة أولاً وبالمال ثانياً، عقدوا شركات «ملعونة» مع بعض المتنفذين الفاسدين في إدارات الدولة، هدفها الأول والأخير إفراغ خزينة الدولة وجيوب المواطنين، وملء جيوبهم وجيوب المتعاقدين معهم. أود أن أشير في النهاية إلى مايسمى بالجمعيات الأهلية أو مؤسسات المجتمع المدني والتي تقدم حالياً من قبل البعض بوصفها الخير المطلق المقابل للشر المطلق الذي هو مؤسسات الدولة والتي أخذت مؤخراً تنبت كالفطر في سورية، ليس لتدعم مؤسسات الدولة بل لتستولي على الدعم المقدم من قبل الدولة ومن قبل المنظمات الدولية لبرامج معينة، ومن الدول الغربية التي لها مصلحة في ذلك. ماأريد أن أقوله أن معظم هذه الجمعيات لم تأت تلبية لحاجات المجتمع السوري،أو لتكمل دور مؤسساته القائمة والعاملة من زمن طويل، بكل عجرها وبجرها. إن المتتبع لآليات تشكيل هذه الجمعيات وعملها، سيفاجأ بأنه أمام جمعيات سرية، يحوط الغموض مصادر تمويلها ومجالات عملها وآليات الانتساب إليها، حيث سيجد الأبواب مقفلة، لأنها تعتمد الشللية والمصلحية، وفي النهاية ولاأريد أن أصادر على المطلوب هنا، لكنني أعتقد أن هذه الجمعيات تحمل كل سلبيات مؤسسات الدولة وأكثر وهي أحياناً وسيلة لتعويض النفوذ.
الفوضى الاقتصادية.. ضبابية الرؤية ● مداخلة د. حيان سليمان أما د. حيان سليمان فقد أكد في مداخلته على النقاط التالية: 1 ـ إن الرأسمالية في صعودها وإخفاقها تخضع الأشياء لمصلحتها، ورغم أن الدولة نشأت في أحضان الرأسمالية من خلال ثورتها على الإقطاع إلاّ أن النظر إلى دور الدولة قد اختلف. وعن هذه المرحلة لنا عدة ملاحظات منها: ـ تغير النظرة إلى دور الدولة الاقتصادي من مرحلة إلى أخرى. ـ رغم أن مفهوم الدولة السوفييتية قد سيطر على أركان المجتمع ومؤسساته إلا أن أكبر معدلات النمو حققت في تلك الفترة رغم الضغوط الخارجية. ـ أن الليبرالية وخاصة السورية تنطلق من عدم التنمييز بين القطاع العام والاشتراكية وبين القطاع العام والحكومة من جهة أخرى، علماً أن هذا القطاع هو ظاهرة اقتصادية وليس أيديولوجية بدليل تواجده في أكثر الدول عراقة بالرأسمالية وظهر مع ظهور الدولة. 2 ـ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودول الكوميكون وتوحيد أوروبا والامتداد الأمريكي الاستيطاني في العالم خيل للبعض أن هذا يعني انتصار الفكر الرأسمالي بشكل مطلق، وهذا ماعبر عنه فوكوياما في كتاب «نهاية التاريخ» وكذلك جوزيف ستيغلتز الذي صاغ الوثيقة الشهيرة المسماة (الدولة في عالم متغير) وهو الحائز على جائزة نوبل ومن أكبرالخبراء في البنك الدولي ومستشار في الإدارة الأمريكية وقال: «إن الدولة تثبت فشلها في إدارة مرافق الاقتصاد سواء أكانت هذه المرافق هندسية أم إدارية». وساعد في انتشار الموقف العدائي في هذه الفترة كل من (صندوق النقد والبنك الدوليين) رغم فشل وصفاتهم الاقتصادية وهذا ما عبر عنه الرئيس الأرجنتيني وأشار إليه وزير الخارجية الأمريكية الأسبق (هنري كيسنجر) وكذلك تراجع معدلات النمو الآخذة للدول التي اعتمدت مبدأ عدم تدخل الدولة (روسيا ـ البرازيل...إلخ) ورغم هذا بقيت الساحة السورية تشهد تأكيداً مستمراً على ضرورة اعتماد مبدأ (اقتصاد السوق) وفق الطريقة الأمريكية من قبل الليبراليين السوريين، ودعواتهم المتكررة لإنهاء القطاع العام ورفع الدعم ودعم الخصخصة وتراجع الإنفاق الاجتماعي..إلخ. وهنا لنا الملاحظات التالية: ـ أنه مع الفوضى الاقتصادية العالمية بدا مفكرو الغرب الرأسمالي يغيرون من وجهة نظرهم إلى دور الدولة وتدخلها. ـ بدأوا يروجون أن مفهوم اقتصاد السوق هو مصطلح رأسمالي وقناعتنا أن الأسواق وجدت قبل الرأسمالية (سوق عكاظ ـ هجر ـ البحرين ـ درعا....إلخ) صحيح أن الرأسمالية طورت السوق وولدت في حضنه لكن العكس ليس صحيحاً، فاقتصاد السوق هو حلقة بين (الرأسمالية) و (الاشتراكية). ـ إن ضبابية الرؤية حول اقتصاد السوق امتدت إلى الساحة السورية وأصبح التعبير عن ذلك وكأنه اكتشاف واختراع جديد، وكأن الاقتصاد السوري كان لايطبق مبادئ (اقتصاد السوق) برأينا أن اقتصاد السوق يعبر عن اللقاء بين البائع والشاري أو المنتج والمستهلك في سوق محددة، وأن التعددية الاقتصادية هي أساس اقتصاد السوق وهذا موجود عندنا، لذلك نرى ضرورة إعادة الاعتبار العملي إلى هذا المصطلح. 3 ـ بعد أحداث 11 أيلول والسيطرة المزعومة لمكافحة الإرهاب دون البحث في أسبابه تراجع الكثير من المؤلفين عن مواقفهم، ويقول فوكوياما رداً على اجتماع وفاق واشنطن وحكومة «الحد الأدنى» يقول: «إن حقبة الليبرالية الجامحة قد انتهت وولت إلى غير رجعة». ويؤكد بأن غياب دور الدولة الفعال أدى إلى انتشار الفساد (شركة أنرون ـ الخصخصة للسكك الحديدية في بريطانيا وشبكات الكهرباء في كاليفورنيا) وإضافة إلى هذا فإنه يربط بين الإرهاب وضعف دور الدولة الاقتصادي وعدم تدخلها، ويشاركه في هذا الرأي العالم السويدي (ميروال) حيث وصّف الدولة الضعيفة بأنها الدولة (الرخوة التي تصدر قوانين ولاتطبقها) وملاحظاتنا على ذلك مايلي: ـ هل استطاعت الشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقارات أن تتخلص من هويتها القومية ودعم دولها لها ومثالنا على ذلك دعم الحكومة الأمريكية لشركاتها وفرض القوانين الأمريكية عليها. ـ هل أزيلت الحدود بين الدول وحتى المتقاربة نسبياً (أمريكا، كندا ـ المكسيك) ورغم وجود اتفاقية NAFTA. ألا نستطيع أن نرى تأثير الحدود القومية على توزيع الاستثمارات والأسعار ومراكز النمو. ـ ألم يكن من أهم مقومات الانطلاقة اليابانية هو النمط الثقافي الياباني. ـ هل يمكن أن يخرج إلى الوجود اقتصاد كوني بلا ناظم ـ اقتصاد سوق تنظم الأسواق نفسها بنفسها ـ بدون وجود قوة ناظمة لها. ـ لهذه الاعتبارات فإننا ندعو إلى مزيد من تدخل الدولة لكن بشرط أن يكون تدخلاً عقلانياً اقتصادياً. 4 ـ إن رؤيتنا لتدخل الدولة إضافة إلى كونها «إمكانية» فهي«ضرورية» بغية الاستثمار الأفضل للموارد وإعادة توزيع الدخل وتحريض الاستثمارات ورسم السياسات الاقتصادية ودرء الأزمات قبل وقوعها، وقناعتنا أن غياب الرقابة الحكومية من جنوب شرق آسيا هو من أهم عوامل الانهيار الاقتصادي. وآن الأوان لمراجعة الكثير من الطروحات الليبرالية ورد الاعتبار إلى الدولة وإلى التخطيط وإلى ضرورة إجراء ربط بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية ونتفق مع ماقاله (الأونكتاد) الحادي عشر في بيانه الختامي في سان باولو في البرازيل 2004 (دور الدولة حيوي بالنسبة لتصميم وتنفيذ استراتيجيات التنمية، والحد من الفقر وتوزيع الدخل توزيعاً منصفاً وإنشاء البنى التحتية والبشرية والمادية ومعالجة أوجه القصور في عمل الأسواق حيثما تنشأ وتهيئة أوضاع اقتصادية كلية مؤاتية وإطار تنظيمي سليم). وبأن الدولة الاقتصادية هي التي تؤمن شروط وسبل الانطلاقة الاقتصادية لقطاعاتها دون التمييز بينها على اساس العطاء والمردودية ودعم خزينة الدولة وإذا كان قطاعنا العام ونتيجة لتحمله الأعباء الاجتماعية والاقتصادية قد تعرض لبعض الخلل منها ماهو موضوعي ومنها ماهو ذاتي، فإنه يجب أن نبتعد عن الفكرة القائلة (إن قص الحبل أسهل من فك العقدة) لأنه قد نحتاج الحبل مرة ثانية). 5 ـ إن حدود تدخل الدولة عن طريق مباشر (قطاع إنتاجي أو خدمي) أو غير مباشر (سياسة مالية واقتصادية) يجب أن يستمر إلى الحد الذي يترافق مع المردودية والإيجابية في العمل، وفق مبدأ تخطيطي قائم على معرفة ماذا نريد وكيف نحقق مانريد بتوفر شرطين أقل تكلفة وأقصر زمن ممكن. وأن نخطط لأنفسنا وإلا فسيخطط الآخرون لنا وفق ما يريدون، فها هو الاقتصاد يحقق معدلات نمو سنوية بمقدار 8.5% علماً أن مقولة اقتصاد السوق تستخدم ضد الصين كشعار سياسي أكثر منه إجراء اقتصادي. ولهذا فمساهمة القطاع العام ضرورية في اقتصاد السوق وكذلك تحسين مستوى التعليم والمستوى الاجتماعي واستقراره وتأمين مستوى جيد من الخدمات الاجتماعية...إلخ وهذه من مهام الدولة وخاصة التركيز على مردوديته. 6ـ يجب أن لانستعجل لأنه لاشيء يكلفنا خسارة كاتخاذ القرار الخاطئ في الوقت غير المناسب وكما قال السيد الرئيس: «أي تغيير يجب أن يكون له هدف ونتائج معروفة تخدم هذا الهدف، وكل تبديل في الدولة سيتم عندما تكون هناك ضرورة وفي الوقت المناسب».
الدولة الهزيلة.. وتحديات التنمية ● مداخلة الأستاذ حسني العظمة وقدم الأستاذ حسني العظمة مداخلة بعنوان: مخاطر «الدولة الهزيلة» على البيئة في البلدان النامية، قال فيها: تطرح الظروف الداخلية والدولية في عصرنا على البلدان النامية جملة من التحديات على صعيد الشأن البيئي تكمن جذورها في عاملين أساسيين هما: ـ الانفجار السكاني الضاغط على الموارد الطبيعية من جهة والمتسبب بمخرجات تلوث كبيرة جداً من جهة ثانية. ـ الحاجة الملحة إلى معدلات عالية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية لردم فجوة التخلف واستلحاق ما فات من أسباب التقدم. ولكي تنجح الدول النامية في تجنب أو اختصار الطريق المؤلم الذي عبرته البلدان المتقدمة في الشأن البيئي واتباع المنحى السليم في التعامل مع مسألة البيئة ومواجهة التحديات والالتزامات البيئية الداخلية والإقليمية والدولية التي يفرضها العصر، يتطلب الأمر شرطاً «أساسياً» لازماً هو وجود دولة قوية قادرة على قيادة وتوجيه عملية التنمية حماية البيئة معاً، الأمرالذي يتناقض مع محاولات فرض أنماط اجتصادية (اجتماعية ـ اقتصادية) وتنموية ملائمة لمصالح الرأسمال العولمي مثل «الدولة الهزيلة» Slim Government ووصفات الصناديق الدولية. فالدولة الهزيلة (وهي جزء من أيديولوجية الليبرالية الجديدة، وتروج تحت عنوان«تقليص النفقات الحكومية» أو تزييناً «ترشيق» الدولة) لن تكون قادرة على التأثير في المجتمع لجهة خفض معدلات النمو السكاني وترشيد التوزع السكاني الجغرافي مثلاً، أو لجهة تأمين وتطوير الخدمات الأساسية لمواطنيها بأسعار يمكنهم تحملها مثل مياه الشرب النظيفة والصرف الصحي الآمن والري والمواصلات والاتصالات والكهرباء والتعليم والصحة والثقافة وغيرها، وكل هذه الأمور عوامل مباشرة بالغة الأثر في الواقع البيئي، كما يلزم أساساً وجود دولة قوية لكي تضمن الأمن والنظام العام وتربية الأجيال المتزايدة على الانصياع للقانون وبناء المواطنة الإيجابية الواعية والفاعلة ونشر الوعي البيئي، وهذه الجوانب من أهم مقومات النجاح في التصدي للمسألة البيئية. والأهم أن الدول النامية لايسعها الاستجابة لتحديات التنمية الشاملة إلا بوجود ليس فقط دور قيادي فاعل للدولة كسلطة وإدارة وجهة تقوم بتأمين الخدمات العامة فقط، بل أيضاً باستثمارات حكومية مباشرة في قطاع اقتصادي عام نشط وفاعل لاغنى عنه، ليأتي دور القطاعات الخاص والمشترك والتعاوني والفردي الصغير مكملاً متناغماً مع هذا الدور، أما انسحاب الدولة من مسؤوليتها التنموية المباشرة فيعني في الجوهر انسحاب البلد النامي من التحدي التنموي والحضاري والسير نحو المجهول. والملاحظ أن أصحاب مقولة«الدولة الهزيلة» لايطبقون هذه الفكرة في بلدانهم إلا بصورة محدودة، لكنهم يصرون على تصديرها إلينا في جملة مايصدرون إلينا من سلع مغلفة بألوان براقة، والأسوأ أنهم يجدون دوماً من يستوردها ويسعى لترويجها. لايقتصر خطر هزال الدولة في البلدان النامية على النهج الاجتصادي الليبرالي ـ الجديد المستورد العامل على الإضعاف المتعمد للدول فحسب، بل إن الضعف موروث تاريخي محلي نظراً لحداثة الدولة المستقلة من جهة ولتأخر البنى الاجتماعية واتخاذها أشكالاً قبل ـ دولتية. وكثيراً مايأخذ الأمر في الدولة النامية شكل دولة قوية ظاهرياً لكنها هشة سهلة الاختراق بآليات المحسوبية والفساد وبالتخلف التشريعي والمؤسساتي والإداري وضعف إيمان وثقة القائمين بالوظائف العامة على اختلاف مستوياتهم بها (الدولة). تقود الليبرالية الجديدة وعشوائية السوق إلى طغيان قيم الربح السريع والشطارة على المصلحة الوطنية والعامة وعلى حساب سلامة البيئة وترشيد استخدام الموارد، فالليبرالية في جوهرها منطق فردي يوافق مصالح طبقة اجتماعية ضيقة، أما البيئة فهي أساساً مسألة اجتماعية جماعية متناقضة مع المصالح الآنية الفردية أو الضيقة غير الواعية، لذا ترتبط مسألة البيئة في البلدان النامية ارتباطاً وثيقاً متعدد الأبعاد بمسألة بناء الدولة القوية القادرة على قيادة المجتمع نحو الحداثة الحقيقية، ربما تنجح السياسات الليبرالية الجديدة في ظروف خاصة ـ لاتنطبق على معظم البلدان النامية ـ بتحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة وامتصاص جزء من البطالة على المدى القصير والمتوسط، لكن أثرها العام على المدى البعيد، وخاصة على البيئة، سيكون كارثياً، أما الاحتجاج بـ«نجاح» الليبرالية في البلدان المتقدمة متزامناً مع النجاحات المتحققة في مجال البيئة فهو خارج البحث لأن هذا «النجاح» هو مسألة خلافية في تلك المجتمعات أساساً، وأن تأسيس النجاحات البيئية المتحققة (على تواضعها وجزئيتها وأنانيتها المحلية) يعود إلى ماقبل الطغيان الليبرالي الجديد، كما أن مقارنة ظروف هذه البلدان مع ظروف البلدان النامية غير واقعية لندرة أوجه التشابه في السياق التاريخي وفي الواقع الراهن. ولعلنا لاننسى في هذا السياق مخاطر «إمبريالية التلوث» المتمثلة بتزايد نقل الصناعات الأكثر تلويثاً للبيئة إلى البلدان التي تفتح أبوابها عشوائياً للاستثمارات وتتساهل في تطبيق المعايير البيئية، مايحول هذه البلدان مع مرور الزمن إلى مكبات واقعية للنفايات الصناعية التي تبدو عندها محلية الإنتاج فتتخلص الشركات العالمية من الأعباء البيئية المرهقة في بلدانها الأم مستفيدة من التسهيلات الممنوحة لها في البلدان النامية. وكذلك «التجارة الحرة» بالنفايات الخطرة المستوردة «شرعياً» من البلدان المتقدمة، إذ يجري سنوياً على سبيل المثال نقل ملايين الحواسب المستهلكة من الولايات المتحدة (حيث يمنع القانون دفنها، ويفرض تدوير مكوناتها السامة والخطرة، وهذا أمر مكلف جداً) إلى بعض المناطق «المتخصصة» في الباكستان والهند والصين حيث تقوم مجاميع من العمال (وجلهم من النساء والأطفال) بنزع وحرق التوصيلات من هذه الأجهزة وتحطيم أنابيب الشاشات للحصول على المعادن، وكذلك صب الحموض على شرائح الدارات الألكترونية لاستخراج المعادن الثمينة منها، وقد سجلت هذه المناطق درجات مرعبة من تلوث المياه العامة والتعرض للمسرطنات، والمتوقع أن يبلغ العدد التراكمي للحواسب المنسقة في الولايات المتحدة وغيرها إلى 500 مليون جهاز بحلول عام 2007 سيجد معظمها طريقه إلى البلدان النامية باسم حرية التجارة وانفتاح الأسواق، ولنا أن نتخيل حجم الأثر البيئي والصحي على هذه البلدان من هذا البند وحده الذي هو على أي حال «أنظف» من غيره كنفايات المصانع الكيميائية مثلاً، النفايات الخطرة الأخرى كاليورانيوم الناضب الذي يكلف دفنه النظامي أموالاً طائلة أكبر بما لايقاس من تدوير مكونات الحواسيب، فيجري «تصديره» إلى البلدان النامية بوسيلة مبتكرة تتمثل باستخدامه في شن الحرب عليها، على نفقتها، بهدف نزع أسلحة الدمار الشامل منها!. تبين الدراسة الواسعة والمعمقة للمسألة البيئية في سورية أنه إلى جانب العناصر الأساسية الأخرى وهي: ـ الطبيعة: مناخ جاف / شبه جاف ـ موارد مائية وأرضية (ملائمة) محدودة ـ هشاشة النظم البيئية. ـ السكان : إنفجار سكاني ـ سوء توزيع للسكان ـ اكتظاظ عشوائي في المدن الكبرى وضواحيها. ـ المجتمع: اتساع الفجوة الاجتماعية ـ تفشي السفه التبديدي والفردانية الذئبية تجاه مكونات البيئة. ـ الآلة: دخول وانتشار الآلة ذات القدرة التدميرية والتلويثية الهائلة للبيئة. ـ التنمية: الحاجة التنموية الملحة المترافقة باستخفاف الاعتبارات والتوازنات البيئية. تمثل الدول أحد أهم القوى الفاعلة والمتفاعلة في المسألة، وقد قمنا في الجدول التالي (بناء على مانزعم أنه مقاربة نحو مثل هذه الدراسة) بتكثيف شديد لأهم التحديات الماثلة أمام قيام الدولة بدورها المنظم والضابط في هذا المجال، ووضعنا مانراه أهم التوجهات الاستراتيجية الضرورية من أجل نجاح الدولة في التصدي لهذا التحدي البيئي الذي نؤكد على خطورته ووجوب عدم التقليل من شأنه. التحدي * ضعف وتخلف تاريخي موروث، وتعثر مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة تجاه عظم التحديات الماثلة أمامه. * تدني سيادة وفاعلية القانون خصوصاً مع تخلف التشريع والإدارة عن استباق ومواكبة المتغيرات في عمق البنية الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الثقافية ـ البيئية. * تآكل موازنة وهيبة الدولة ومؤسساتها بما فيها تلك المولجة أو المتعاملة بأشكال مباشرة أو غير مباشرة بالمسألة البيئية، سلباً بالمنع والمحاسبة، أو إيجابياً بالتطوير والإنماء. * اتساع وتعمق الفساد الإداري والاقتصادي والقضائي مافاقم الطغيان المتزايد للمصالح الخاصة على المصلحة العامة، وبالتالي على البيئة بما هي دوماً قضية عامة. التصدي * مواصلة وتسريع عملية بناء الدولة الوطنية الحديثة، وتحريرها من آليات الهيمنة والفساد وتسلل المصالح الخاصة، وزيادة مداخيل العاملين في الدولة. * رفع حصة الموازنة العامة من الاقتصاد الوطني عن طريق الإصلاح الضريبي، وإصلاح وتطوير القطاع العام، وتوسيع الاستثمار الحكومي. * رفع حصة الوزارات والمؤسسات المعنية بالشأن البيئي والشأن التعليمي والبحث العلمي من الموازنة العامة. * الإصلاح الإداري والتشريعي الواسع، وتطوير البيئة الشريعية والأذرع التنفيذية القمعية والإنمائية المولجة بجوانب المسألة البيئية.
القطاع الخاص.. عاجز ومتردد ● مداخلة الأستاذ حميد مرعي وقدم الأستاذ حميد مرعي مداخلة أكد فيها أن السوية الاقتصادية تختلف من بلد إلى آخر، وبالتالي فإن الحديث في الشأن الاقتصادي يجب أن يراعي الخصوصيات المحلية. ثم سأل عن النمو الذي حققه الغرب إن كان قد تم في إطار حرية السوق، أم في تدخل الدولة؟ ليجيب بأن ذلك النمو، إنما تحقق في ظل الدولة لا بالسوق الحر. ثم انتقل إلى الحديث عن الاقتصاد السوري، فأكد أن القطاع الخاص غير قادر على تحقيق نسب النمو المطلوبة، والتجربة الماضية تثبت أنه رغم التسهيلات الكبيرة التي قدمت له، لم يحقق أي تقدم أو نمو. وتجربة مصر وغيرها من الدول تظهر بوضوح، أن النمو يحتاج إلى عمل القطاعين العام والخاص، وإلى تخطيط تأشيري، بحيث يستفاد من كامل الإمكانيات البشرية والمادية. وقال الأستاذ مرعي: إنه في ظل التكتلات الاقتصادية الكبيرة الموجودة في العالم الآن، لايمكن تحقيق التنمية في بلدان صغيرة كبلدنا، ويجب العمل على تحقيق وحدة اقتصادية عربية، وضرب مثالاً على ذلك السعودية وبعض دول الخليج، والتي رغم ثرواتها النفطية لم تستطع إنجاز نمو حقيقي، وهي تعاني من مشاكل كثيرة، خاصة في مجال البطالة. وهكذا، فمن دون التوجه لبناء وحدة اقتصادية عربية، سيجد القطاع العام، والقطاع الخاص صعوبات كبيرة في تحقيق التنمية. ■■
#قاسيون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النص الكامل لتقرير هيئة الرئاسة بين جلستي المؤتمر الاستثنائي
-
هايل أبو زيد حراً... ولكن!
-
كلمة اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين
-
في الجلسة الثانية للمؤتمر الاستثنائي: التعديلات على النظام ا
...
-
بلاغ عن الجلسة الثانية للمؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي السو
...
-
الليبرالية الجديدة في سوريا والحَوَل السياسي
-
الليبرالية الجديدة في مواجهة الشعوب. معارضة وموالاة
-
الشيوعيون السوريون يختتمون احتفالات الذكرى الـ 80 للتأسيس تظ
...
-
ليبرالية جديدة وستالينية جديدة ؟ أم صفقة سياسية جديدة ؟!!
-
سورية المستعجلة إلى اقتصاد السوق: تنعطف يمينا أم تتأزم؟
-
بلاغ سكرتاريا اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي
-
الورقة التنظيمية
-
البيان الدولي ضد الإرهاب: بيان ديكتاتوري من مواطن ديمقراطي ي
...
-
الليبرالية بين الماضي والحاضر!
-
الفساد والخائن هما عدوان للوطن والوحدة الوطنية
-
الوطن يدعونا للإئتلاف بدل الخلاف
-
رأي في أسباب ميثاق شرف لوحدة العمل الوطني لمواجهة الإمبريالي
...
-
من أجل دور جديد للدولة
-
محطة العمل الوطني الانتقالية ستكون مسرحاً لاختبار مصداقية كل
...
-
الوحدة الوطنية أكثر إلحاحاً من أي وقت آخر
المزيد.....
-
ترامب يكسب 500 مليون دولار بتدوينة واحدة على منصة -تروث سوشا
...
-
حلوى زفاف الملكة إليزابيث والأمير فيليب بيعت بمزاد.. إليكم ا
...
-
الكويت.. فيديو حملة أمنية اسفرت عن القبض على 13 شخصا
-
مقتل 20 شخصاً في تفجير بمحطة قطار كويتا جنوب غرب باكستان
-
لوحة بورتريه آلان تورينغ باستخدام الذكاء الاصطناعي تباع بـ 1
...
-
ظهور مستكشف جديد.. -معلومات موثوقة- تعيد الطائرة الماليزية ا
...
-
قتلى وجرحى بانفجار في محطة للسكك الحديدية في باكستان (فيديو)
...
-
وسائل إعلام: ترامب قد يسعى للانتقام من خصومه السياسيين على م
...
-
وزارة الإعلام الأفغانية تنفي التقارير حول إغلاق بعض وسائل ال
...
-
-بيلد-: انتقادات للرئيس الألماني على موقفه تجاه روسيا تثير غ
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|