|
الربيع العربي دعوة لنموذج جديد للتنمية
فتحي سيد فرج
الحوار المتمدن-العدد: 3660 - 2012 / 3 / 7 - 15:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أولا : الاحتفال بمرور 20 عاما على تقارير التنمية البشرية عشرون عاما مضت منذ أصدر البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة تقريره الأول عن التنمية البشرية، ففي عام 1990 تضافرت جهود رواد هذا المجال _ الباكستاني "محبوب الحق 1934 . 1998 " والهندي "أمارتيا سن . أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد . الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد 1998" _ مع عدد من خبراء التنمية في وضع دليل جديد لقياس مقدار تقدم الأمم . ويحق لنا أن نحتفي ونحتفل هذا العام بما حققته هذه الجهود من إنجاذات ساهمت في ارتقاء عديد من البلدان، وأظهرت لبلدان أخري مقدار تأخرها عن ركب التقدم بمقاييس محددة وواضحة لا تخطئها العين، فقد خضع المفهوم العام للتنمية لتغير جدى على أثر إطلاق التقرير الأول عن التنمية البشرية، فبفضل صاحب الرؤية الثاقبة محبوب الحق كان لهذا التقرير أثر عميق على الرقي الاجتماعى، فعوضا عن التركيز على بضعة مؤشرات تقليدية لقياس التقدم الاقتصادى مثل (نصيب الفرد من الناتج المحلي اللاجمالي، ومعدلات النمو في الاقتصاد الوطني) اعتمدت حسابات "التنمية البشرية" على تقييم منهجي يتناول وفرة من المعلومات حول مستوى معيشة البشر في مجتمع معين ونوع الحريات التي يتمتعون بها . بدأ التقرير الأول بكلمات موحية " الإنسان هو الثروة الحقيقية لأي أمة" ومبشرا بنهج جديد في الفكر الإنمائي، فقد يبدو من البديهي اليوم أن الهدف من التنمية هو تهيئة بيئة يعيش فيها الإنسان حياة مديدة ملؤها الصحة والإبداع، ولكن لم يكن هذا هو الحال دائما، ففي البداية عرف التقرير الأول التنمية على أنها الفرصة "التي توسع خيارات البشر وتمكنهم من تطوير إمكاناتهم، ليعيشوا حياة منتجة وخلاقة تتوافق مع احتياجاتهم ومصالحهم" وتكرس حقهم في الصحة، والتعليم، وفي الحياة المديدة، لكن في إطار مجريات عمليات التقييم والتطوير خلال السنوات المتوالية وسع التقرير مفهوم التنمية البشرية واعتبر أن الرفاة لا تقتصر حدودها على هذه الأبعاد بل يتجاوزها ليشمل مجموعة من الإمكانات والقدرات، منها الحريات السياسية، وحقوق الإنسان . هذا هو الأساس الذي انبثقت منه رؤية الراغبين في العمل على تطوير وتقدم البشر في كل مكان، والذي استرشدت به تقارير التنمية البشرية على مدى 20 عاما، وكذلك أكثر من 600 تقرير وطني أعدت ونشرت عن التنمية البشرية في بلدان عديدة، وأيضا العديد من التقارير الإقليمية التي أعدت تحت إشراف المكاتب الإقليمية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي . ثانيا : نادر فرجاني يضيف البعد الإنساني لتقارير التنمية البشرية إذا كانت تقارير " التنمية البشرية"الدولية في البداية قد دحضت الفكرة التي تقول بأولوية نمو الدخل باعتباره أساس للتنمية، إلا أنها ظلت تعتبر متوسط دخل الفرد من الناتج القومي الاجمالي أحد العناصر الرئيسية في مقياس التنمية، حيث كانت هذه التقارير تضع ترتيب الدول من خلال ثلاثة عوامل أساسية هي أولا : متوسط العمر المتوقع باعتباره دلالة عن الحالة الصحية، ثانيا : مؤشرات التعليم باعتبارها دلالة عن الحالة التعليمية، ثالثا : متوسط دخل الفرد باعتباره دلالة عن الحالة الاقتصادية، ولهذا فإن هذه التقارير كانت تقتصر على تنمية الموارد البشرية دون أن تهتم بالجوانب الإنسانية، ولكن استطاع نادر فرجاني المفكر الاجتماعي المصري أن يبدع مقياسا جديدا سماه "مؤشر التنمية الإنسانية" وذلك عندما كان المحرر الرئيسي لتقرير"التنمية الإنسانية العربي الأول 2002" ورئيس الفريق المركزي لتقارير عامي 2003،2004 فقد ادخل مفاهيم جديدة واضاف مؤشرات نوعية كانت انطلاقة جيدة لبناء مؤشر أكثر إنسانية، فهو بالإضافة إلى القدرتين الأساس : الصحة والتعليم، قد اضاف أربعة مقاييس ذات أهمية بالغة للمنطقة العربية هي التمتع بالحرية، وتمكين النوع، والاتصال بشبكة الانترنت، وإنبعاث ثاني اكسيد الكربون، كما استبعد مؤشر متوسط دخل الفرد، فليس التمكن من السلع والخدمات هو الوسيلة الوحيدة للتمتع بالحياة الكريمة، ولكن التمتع بالحرية وتمكين النوع باعتبارها نواقص في البلدان العربية تشكل أساس لفهم صحيح لتنمية إنسانية ترتقي بالفرد والمجتمع في السياق العربي . وفي هذا الإطار صدرت عدة تقارير عربية ناقشت الواقع العربي من جوانب متعددة، كان التقرير الأول 2002 تحت عنوان "خلق الفرص للأجيال القادمة" الذي أهتم بالتغلب على ثلاث عقبات رئيسية : احترام الحريات الإنسانية، تمكين المرأة، واكتساب المعرفة، أما التقرير الثاني لعام 2003، فقد وقع تحت عنوان " إقامة مجتمع المعرفة"، ليؤكد على أهمية المعرفة بالنسبة للبلدان العربية كمحرك قوي للنمو الاقتصادي من خلال تحقيق إنتاجية أعلى و يشدد على أن المعرفة تساعد بلدان المنطقة العربية على توسيع مساحة الحريات الإنسانية، ويطرح التقرير الثالث لعام 2004 والذي كان بعنوان "دعوة للحرية وللحكم الصالح في العالم العربي"، ويقدم _ التقرير الرابع لعام 2005، تحت عنوان "نحو نهوض المرأة في الوطن العربي"_ برهاناً قاطعاً على أن التحقيق الكامل لطاقات المرأة العربية مطلب جوهري لازم للتنمية في البلدان العربية كافة، وفي عام 2009 صدر تقرير ليعالج قضية بارزة في حياتنا العربية المعاصرة ألا وهي "أمن الإنسان". ليؤكد أنّ أمن الإنسان شرط ضروري لتحقيق التنمية البشرية، وأن إنعدام الأمن يزعزع خيارات الناس الذين يعيشون في أي مكان . ثالثا : الربيع العربي .. هل حان وقت التحول عن الدولة الريعية؟ في الذكرى السنوية الأولى لثورات الربيع العربي كان الموعد مع صدور تقرير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة الذي صدر في القاهرة يوم الأحد 19 فبراير 2012 بعنوان "تحديات التنمية في الدول العربية 2011: نحو دول تنموية في المنطقة العربية" مؤكدا أن الحراك العربي الذي اكتفى بتغيير وجوه النظام دون إحداث تغييرات جوهرية - اجتماعية أو اقتصادية أو بنيوية - مواكبة لهذا التغيير "السياسي" مدعو الآن في أكثر من بلد عربي إلى مراجعة ما تحقق وتم إنجازه، إلى استكمال ثورته ومعطياتها . وقد بين هذا التقرير أن موجة التغيير التي بدلت الخريطة السياسية في المنطقة العربية منذ بدايات 2011 تستدعي ضرورة التحول من "الدولة الريعية" التي تعتمد على العائد من إيجار الموارد الطبيعية وبيعها، إلى "نموذج الدولة التنموية التي تعطي أولوية لتحقيق التحول الديمقراطي، والعدالة الاجتماعية، وأن مثل هذا التحول يعتمد على تصميم وتنفيذ إطار جديد للمساءلة ينهض على الفصل بين السلطات، ويعترف بالحق في المعلومات . كما أكد التقرير أن الدولة التنموية قادرة على تحويل الإمكانيات الهائلة والموارد الطبيعية في المنطقة إلى قاعدة يتأسس عليها النمو الاستيعابي الذي يحترم حقوق الإنسان، ويحد من الفقر ويخلق فرصاً للعمل اللائق، وينظر إلى الانفاق الاجتماعي على أنه استثمار حقيقي في المستقبل، مشيراً إلى أن إدارة استخدام الموارد الطبيعية بصورة مستدامة تشكل أخطر تحديات التنمية طويلة الأجل في المنطقة العربية . وأشار التقرير إلى أنّ القضايا الاقتصادية لعبت دوراً محوريّاً في الانتفاضات العربية، ولكن عوامل عدة أثرت سلباً على العلاقة بين المجتمع والدولة في البلدان العربية، فقد اعترف التقرير أن المنطقة فشلت عموماً في تحويل ثروتها النفطية الهائلة إلى تحسين مستوى رفاهية الإنسان وخفض الحرمان البشري، وبين أن شدة الفقر في الريف والتفاوت الكبير بين التنمية الريفية والحضرية يدلان على فشل سياسات التنمية بصفة عامة، فحيث يقطن 50 % من السكان العرب في المناطق الريفية، وتعتبر الزراعة النشاط الاقتصادي الأساسي في الريف، إلا أنها لا تسهم بما لا يزيد على 15 % من الناتج المحلي الإجمالي العربي. واعتبر التقرير أن المنطقة العربية هي الأكثر تعرضاً لزيادة الفقر نتيجة للصدمات، مثل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والركود الاقتصادي الذي يشهده العالم الرأسمالي خلال العقود الأخيرة . التقرير أشار أيضاً إلى أنّ مسار التنمية الذي انتهجته المنطقة العربية لم ينجح في تحويل ثروتها الطبيعية إلى مكاسب مستدامة لتحسين مستوى رفاهية الإنسان العربي، فلقد أضعفت سياسات الولاء للدولة آليات الضبط اللازمة لتنظيم العلاقة بين دوائر الاقتصاد والسياسة، وادت هذه الاوضاع الى "عمليتين يفرز بعضها بعضا... انعدام في المساءلة العامة للدولة والتركز المتزايد للسلطة السياسية والاقتصادية في ايدي قلة قليلة". فالنموذج السائد للعقد الاجتماعي العربي قائم على مقايضة المواطنين حريتهم في مقابل تلقي خدمات معيّنة، مثل العمل الحكومي والرعاية الصحية والتعليم والإعفاء من الضرائب. والغريب أن بعض الدول اعتبرت طول فترة الحكم معياراً للاستقرار، على رغم أنه كان استقراراً قوامه القهر والقمع تدعمه قوى خارجية التي لها مصالح جيو - إستراتيجية، ما أبقى اقتصادات المنطقة قائمة على بيع السلع الأولية واستيراد مستلزمات الحياة من مواد غذائية وسلع وسيطة. وأدى السعي إلى تحقيق نمو يقوده النفط في بعض الدول إلى ضعف الأسس الهيكلية للاقتصادات العربية، إذ كانت عملية النمو شديدة التقلب، فشهدت تلك الدول سنوات من النمو تلتها أخرى من الركود ذلك كله اقترن باهتمام متزايد بالاستهلاك وتوزيع العوائد الريعية الناتجة من أصول الدولة بدلاً من الاهتمام بتعزيز الإنتاج ذي القيمة المضافة الأعلى، في حين هيمن النفط على تمويل سلع الرفاهية والخدمات في الاقتصادات الغنية بالنفط، وأفضى النمو الاقتصادي القائم على النفط إلى التراجع المبكر للتصنيع، وعزّز تبعية المنطقة العربية في التسلسل الهرمي للإنتاج العالمي، وتسببت التنمية العربية غير المتوازنة بضعف قطاعي التصنيع والزراعة، ما أدى إلى ترك شرائح كبيرة من المجتمعات العربية خارج إطار منظومة النمو، وتوثق الشواهد الدرجة الرهيبة التي آلت إليها الفوارق الاقتصادية والاجتماعية . أن كل هذه العوامل ألقت بظلالها على اليد العاملة، فسجلت المنطقة العربية خلال العقدين الماضيين أعلى معدل نمو لليد العاملة بين المناطق النامية، ونجحت في تقليص معدل البطالة الكلي من 12 % عام 1990 إلى 9.3 % عام 2010، إلا أن المنطقة لا تزال تحتفظ بأعلى معدل للبطالة بين المناطق النامية. وزادت معدلات البطالة في الدول العربية الأقل نمواً (من 8 إلى 11 %)، وكانت نسبة الشباب العاطلين عن العمل أكثر من 50 % في معظم الدول العربية. وتتحمل المرأة العربية العبء الأكبر من البطالة واليد العاملة الهشة، وتتسّم حصة النساء العاملات في وظائف غير زراعية بالانخفاض الشديد، إذ تقل عن 20 %، وهي النسبة الأدنى بين المناطق النامية .
رابعا : التأثير المفسد للسلوك الريعي أن نمط الإنتاج السائد فى أى مجتمع والمستوى التكنولوجى له، من أهم المحددات للبنى والتكوينات الاجتماعية التى تولد توجهات الأفراد والجماعات وتحدد أفعالهم وخصائص حضارتهم، وليس من المبالغة القول أن العمل الذى يقضى فيه المرء أيامه المتعددة يوما وراء يوم، لابد وأن يؤثر ابلغ الأثر فى تشكيل عقـليته، وأن الموقع الذى يحتله المرء فى العملية الإنتاجية يحدد نظرته إلى كافة الأشياء، وموقعه من كل الأمور، وكيفية تصرفه وسلوكه العام . فنمط الإنتاج بمعنى اسلوب الحصول على الدخل القومى، وكيفية توزيعه، هى التى تحدد مستويات المعيشة ومعدلات التقدم فى هذا المجتمع، فالدخل المتحقق من خلال العمل الاجتماعى المنتج وما يترتب عليه من توزيع فى صورة مرتبات وأجور وأرباح وفوائد من خلال نشاط استثمارى يقوم على بناء أصول ومشروعات إنتاجية وخدمات متقدمة دافعة للقدرات التنافسية، هى التى تتبني الأفكار المبدعة والتقنيات المبتكرة، وهو نمط الحياة المحفز للنمو الاقتصادى، وبناء مجتمع المعرفة، والدافع لتطوير العلوم والفنون من خلال النظريات العلمية، والعمل على تطبيقها بما يحقق أعلى مستويات التقدم العلمى والمعرفى، وفتح آفاق الإبداع فى شتى المجالات، وزيادة الكفاءة فى الارتقاء بنوعية الحياة بصفة عامة، كما أن هذا النمط يؤدى إلى تشكيل كيانات وطبقات اجتماعية تحرص على تحقيق مصالحها من خلال خوض صراعات اجتماعية وسياسية بأساليب عادة ما تكون ديمقراطية لتحسين فرص حصولها على أفضل عائد من الاستثمار المنتج . أما نمط الاقتصاد الريعى والذى يعنى الاستغلال البدائى للموارد الطبيعية دون الوصول إلى العمل الاجتماعى المنتج، فأنها على العكس من ذلك تتوجه إلى استثمارات عقيمة كامتلاك العقارات وأساليب الاستهلاك الترفى والتفاخرى التى لا أثر لها فى بناء القدرات الإنتاجية أو تحقيق نمو اقتصادى حقيقى . وقد ناقش عدد من مفكري وعلماء الاقتصاد مفهوم الريع وتعريفه، حيث يرى سمير أمين أن الريع ينبع من السيطرة الحصرية على وسائل طبيعية ليست بذاتها حصيلة العمل الاجتماعى ويرى د.محمد دويدار أن مفهوم الريع يتمثل في الدخل الذى يحصل عليه مالك الأرض، حيث يتوزع الناتج الزراعى الصافى بين الأجور أى ما يحصل عليه العمال، والريع أى ما يحصل عليه مالك الأرض، أما ماركس فيرى الريع فى علاقته المباشرة بالملكية الخاصة للتربة من خلال احتكار طبقة اجتماعية معينة للأرض، ويعرف الريع بأنه : الجزء من فائض القيمة الذى يحصل عليه مالك الأرض الذي لا يسهم فى عملية العمل الاجتماعى . وأيا كانت نظرة هؤلاء المفكرين للريع فأنهم يجمعون حول إدانة طبقة ملاك الأراضى، حيث أنها طبقة غير منتجة، وأن مصالحها تتناقض مع مصالح الطبقات التى تعمل على تطوير قوى الإنتاج : الطبقة العاملة التى تخلق القيمة المضافة، وطبقة الرأسماليين التى تراكم رأس المال، وفى وقت أزمة الاقتصاد الرأسمالى يستعير جون كينز فكرة الطبيعة الريعية ليسحبها على الجزء من رأس المال الذى لا يستخدمه صاحبه فى زيادة الطاقة الإنتاجية فى المجتمع، وإنما بالمضاربة فى امتلاك وسائل الإنتاج لندرة رأس المال، وهكذا فأن كينز ينبهنا إلى أنه جاء دور رأس المال، لا الملكية العقارية وحدها، لأن يصبح تاريخيا ذى طبيعة ريعية . ومع تبلور اتجاه الفكر العلمى الذى يدين الريع وسعت المدرسة النيوكلاسيكية مفهوم الريع بحيث أصبح لا ينتمى إلى المجال الزراعى فقط، بل هناك انواع من الريع تدفع لكل عناصر الإنتاج إذا ما كان عرضها منعدم المرونة، وبذلك وسع الفكر العلمى الطبيعة الريعية لكل طبقة اجتماعية تحصل على دخول من خلال سيطرتها على قوى الطبيعة دون أن تنشغل بتطوير القوى الإنتاجية، بل تتفرغ فقط للقيام بتبديد ما لدى المجتمع من طاقة مادية فى الصناعة والزراعة، وسلب جهد الطبقة العاملة، وضم ما يحلبه عرقها إلى دخولها الريعية الأخرى . ويكاد تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003 أن يتفق مع ما سبق حول تعريف الريع : بأنه فى الأصل عائد على استغلال أرض أو مبنى، ولكنه يضيف إلى أنه عندما يكون العائد ناتجا عن الخصائص الطبيعية للأرض أو موقعها، يكون الريع فائضا صافيا يعود للمالك الذى لم يبذل جهدا أو يقدم فعل يسهم فى خلق هذا العائد، من هذا المدخل فأن التقرير يرى أن أنماط الإنتاج فى الدول العربية تتسم باعتمادها الرئيسى على استنضاب المواد الخام، وهو ما يسمى بنمط اقتصاد الريع . على رأس هذه المواد الخام يأتى استخراج النفط، الذى يكاد يكون كاملا فى دول مجلس التعاون الخليجى وليبيا والعراق والجزائر، بينما تعتمد بلدان عربية آخرى على النفط كمصدر رئيسي للدخل القومي، وان لم يكن وحيدا، مثل مصر وسوريا واليمن والسودان، كما يظهر اعتماد البلدان العربية التى لا تنتج النفط على نطاق واسع، عبر تحويلات مواطنيها العاملين فى البلدان النفطية، والمعونات التى تمنحها البلدان النفطية لها، ويزيد مصدر الدخل الريعى لمثل هذه البلدان من خلال معونات الدول المتقدمة لها . وفى إطار مؤتمر الإصلاح العربى الثالث مارس 2006 صدر كتاب عن مرصد الإصلاح العربى . قدم فيه د. محمد السعيد إدريس دراسة عن معوقات الإصلاح السياسى من خلال مدخل الخصوصية العربية، موضحا أن كـثـرة الحديث عن الخصوصية العربية مجرد مبرر للعزوف عن التحول الديمقراطى، وهو في سبيل شرح فكرته قدم نظم الحكم فى الدول الخليجية كنموذجا لما تمثله الخصوصية من تحديات لعملية الإصلاح السياسى وفق النموذج الغربى، وأن ذلك يعود لمجموعة من الأسباب هى : • إذا كان الإسلام هو دين أبناء الدول الست ، فهو أيضا أقدم قوة موحدة بين هذه الدول، كما أنه مصدر الشرعية للنظم السياسية القائمة . • دول مجلس التعاون الخليجى لا تربطها روابط الدين والعرق واللغة والثقافة والتاريخ والجوار، بل ترتبط قبليا، وتستند أنظمة الحكم فيها إلى تحالفات تقليدية قبلية . • تتسم هذه الأنظمة بأنها تعيش فى حالة انتقالية، تمر عبر سلسلة من عمليات التحول، المتسارع فى المجال الاقتصادى، وشديد البطء فى المجال السياسى، نتيجة لمجموعة من العوامل تتعلق بظاهرة السلطة السياسية، التى اكتسبت خصوصيتها من ثلاث مرتكزات أساسية هى : القبلية، والميراثية، والريعية . أ – القبلية السياسية : أنظمة الحكم فى دول الخليج العربى تستند الى تحالفات تقليدية قبلية، والشرعية لا ترتبط بشخصية الحاكم إنما ترتبط أساسا بالقبيلة، وبمقارنة التطور الاقتصادى المتسارع، نجد بطء شديد فى المجال السياسى، حيث لا يشعر الأفراد بالموطنة بل كأعضاء فى تحالفات قبلية واسعة يظهر فيها الولاء للشيخ مقابل حصولهم على نصيب من الغنائم، وأن التحولات السياسية ليست إلا نجاح تحالف فى الإطاحة بتحالف آخر، لتبدأ عملية جديدة من عمليات النهب وتقسيم الغنائم . ب – الميراثية : تتمتع نظم الحكم بالاستمرارية الناتجه عن ميراثية الحكم، وهذا الترابط بين حكم القبيلة وقاعدة توريث السلطة جعل الحكم يتحول الى مؤسسة عائلية، وأداتها فى ذلك الدولة التسلطية، التى تحتكر السلطة والثروة عن طريق اختزال المجتمع المدنى، ويتسم نظامها السياسى بالخصائص التالية : • عدم وجود حكومات ممثلة لمصالح السكان . • الدساتير ملغاة أو معلقة أو مؤقتة أو غير معمول بها . • عدم وجود تنظيمات مستقلة عن الدولة كالأحزاب، والنقابات، والمنظمات المهنية أو الأهلية . • لا وجود لانتخابات، أو حقوق مدنية . • نسبة عالية من الإنفاق يستأثر بها الجيش وأجهزة القمع، والتى تستخدم لأغراض الأمن الداخلى . ج _ الريعية : فى ظل التطورات الهائلة بتحول دول مجلس التعاون الخليجى الى مجتمعات منتجة ومصدرة للنفط والغاز بكميات كبيرة، ومن ثم تحولت الى دول ريعية أثرت فى نظم الحكم وفى العلاقة بين الدولة والمجتمع، فهى دول لا تفرض الضرائب والمكوس على الأفراد، بل على العكس من كل دول العالم تدفع لهم، والأفراد هنا لا يرون أهمية للفوارق فى توزيع الثروة، ولا تمثل هذه الفوارق حافزا كافيا لمحاولة تغيير النظم السياسية، يكمن الحل بالنسبة الى الفرد الذى يشعر بالغبن فى المناورة لحيازة منافع أكبر، وليس فى التعاون مع آخرين يعيشون حالته لأجل التغيير، وينحط الحراك السياسى ولا يتطور الى حوار سياسى حقيقى، والنتيجة أنه مع عدم وجود ضرائب فان الأفراد يكنون أقل إلحاحا نحو المشاركة السياسية، فتاريخ الديمقراطية ترتبط بدايته بنوع من الارتباط المالى ( لا ضرائب بدون تمثيل سياسى) . والجدير بالذكر أن العائد الاقتصادى فى نمط اقتصاد الريع لا يرتبط بالضرورة بالعمل والاجتهاد، كما أن نشأة هذا النمط ارتبطت تاريخيا بدور الخبرة الأجنبية فى اكتشاف واستغلال هذه الثروات الطبيعية، إضافة إلى تهافت منظومة المعرفة وضعف شروط تحقيقها فى مثل هذه البلدان، من هنا فأن هذا النمط يحفز استقدام الخبرة، بل وكل أصناف العمالة من الخارج خاصة وأنها تعتبر بلدان غير كثيفة السكان، لسهولة ضبط وتوظيف هذه العمالة، فقوة العمل الأساسية يتم استيرادها كسلعة من الخارج للاستخدام لفترة محددة دون أى حقوق سياسية ، وبأقل أجور، وهى معرضة للترحيل حينما تنتفى الحاجة اليها، وهذه الوضعية تمكن هذه الدول من الانتفاع بقوة عمل ماهرة دون التعامل معها كجزء من المجتمع، بالمقابل فان هذه الأعداد من قوة العمل الوافدة تهمش المجتمع المحلى سياسيا أمام نظام حكمه وذلك عبر إزاحتة عن مواقع الإنتاج التى يمكن أن ينشب حولها صراع اجتماعى أو سياسى . كما تتمتع هذه الدول بقدر كبير من الاستقلال السياسي والاقتصادي، يتمثل فى أن العلاقة بين الدولة وأفرادها تم اختزالها الى مجرد أسر حاكمة تحتكر السلطة مقابل عقد اجتماعى تقوم بمقتضاه بضمان الوظائف والخدمات الاجتماعية، وأفراد تستقبل هذه الخدمات لا كحقوق مواطنة ، بل كهبات تقوم مقابلها بالصمت عن إطلاق يد الحاكم ليتصرف على هواه، وساهم العامل الثقافى فى تعزيز العقلية الريعية التى تكسر الارتباط بين العمل والمكافأة، إذ تصبح المكافأة كسبا وليس ثمرة عمل منتج، وهذه الحالة تخلق نوعا من الخضوع لدى الأفراد لسلطة الدولة، مما يضعف حالة الانتماء لمعنى الوطن والمواطنة، ويزيد من سيطرة الدولة على حساب حريات الأفراد الذين يعتمدون عليها بالرغم من أنها قد تكون أكثر استغلالا لهم، وربما أكثر استغناء عنهم . وكذلك تتمتع هذه الدول بقدر من الاستقلال الأمنى والعسكرى فعلى عكس العلاقات الطبيعية فى كل المجتمعات التى تجعل من مواطنيها أساسا لتوفير الحماية الوطنية، فان خصوصية دول الخليج النفطية أدت الى ان يصبح توفير الأمن الذى هو فى الأساس أمن النظام الحاكم على عاتق الدول الكبرى المستوردة للنفط خاصة الولايات المتحدة الأمريكية للدفاع عن مصالحها، كما أن امتلاك هذه الدول لقدرات مالية ضخمة، وافتقارها الى القدرات البشرية يجعلها قادرة على شراء مستلزمات الأمن وتوظيف الخبرات الأجنبية فى القواعد العسكرية الكبيرة والمتطورة، ومن ثم فان الاعتماد على أفرادها فى تحقيق الأمن يصبح أمرا قليل الأهمية، ومن الواضح أن الحاكم الذى لا يستمد وضعه وشرعية حكمه من الرضا الداخلى، يعيش علاقة فريدة مع شعبه، والأدبيات السياسة تجمع على أنه من التعذر أن يستمر حاكم دون دعم داخلى من طبقة اجتماعية أو طائفة تسند حكمه، يقابل ذلك قيام الحاكم بأداء واجبه تجاهها، وهذا التوازن غالبا ما ينهار حينما تأتى قوى خارجية لتضمن للحاكم وجوده رغم انف مجتمعه . أن هذه الدول البالغة الاستقلال تظهر قوية جدا أمام شعبها، وليست فى حاجة الى نيل الشرعية ، وغير قابلة للمحاسبة، لهذا فان المشكلة التى تواجه اغلب الدول الحديثة وهى مكابدة أزمة الشرعية تصبح لا وجود لها، ورغم توافر كل الشروط لوجود أزمة فى دول الخليج إلا أن ذلك لا يظهر على السطح، والسبب فى ذلك أن السلطة الخليجية لا تملك شعبا، كما أن الشعب الخليجى لا يملك سلطة، لهذا فان ظاهرة الإقصاء السياسى تقدم توضيحا لما تمثله خصوصية دول الخليج من عوائق وتحديات لعملية الإصلاح السياسى، وتفسر حالة الاستعصاء الديمقراطى فى العالم العربى، كما تجسد بوضوح شديد حالة استعصاء التداول السلمى للسلطة وإذا كانت دول الخليج العربي تمثل النموذج الأمثل للنمط الريعي، فإن أغلب الدول العربية تندمج بشكل أو آخر مع هذا النمط، فالاقتصاد المصرى لا يبعد كثيرا عن النمط الريعي، حيث يعتمد بشكل رئيسى على تصدير البترول والغاز الطبيعى، وأيرادات قناة السويس والنشاط السياحى، وتحويلات العاملين فى الخارج، وما تحصل عليه مصر من منح وإعانات، كل ذلك يمثل النسبة الغالبة من الدخل القومى، وهكذا فأن النمط الريعى يكاد أن يكون متحقق بدرجة عالية فى مصر، هذا بالإضافة إلى درجة التأثير والتأثر بين البلدان العربية وسطوة النمط السائد فى المنطقة من خلال تعاظم القوة الاقتصادية لدول الخليج فى العقود الماضية، إضافة إلى سطوتها الثقافية والتراثية من خلال اعتبارها موطن الدين الإسلامى الذى يشكل الإطار الايديولوجى لتبرير هذا النمط من الاقتصاد . سيظل النمط الاقتصادي الريعي منتجا لنسق ثقافي متخلف يتخذ من مشروعية الغطاء الديني مبررا لاستمرار حالة الجمود السياسي والاجتماعي وعائقا أما أي تحول جذري في الواقع العربي، حيث أنه بطبيعته يحجز إمكانية التطور، ويجمد الصراع الاجتماعي، لعدم قدرة هذا النمط على تبلور طبقات اجتماعية فاعلة، لها مصالح حقيقية ولديها مشروع نهضوي، ينبع من تفاعلات عمل اجتماعي منتج، يتطلب تطوير البني الاجتماعية والاقتصادية القائمة على العمل الزراعي المتخلف، وغلبة الأنشطة الخدمية والتجارية، إلى توسيع دور الصناعة لتشمل مجالات التصنيع الزراعي، وحسن استخدام الموارد الأولية بأساليب علمية تحقق تقدم اقتصادي واجتماعي وتطور فكري وثقافي يواكب ما يحدث في بلدان العالم المتقدم .
#فتحي_سيد_فرج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذكري إنتفاضة 18/19 يناير 77
-
كيفية اكتشاف ورعاية المبدعين؟
-
استطلاع الرأي الثالث
-
تقييم انتخابات حزب الجبهة الديمقراطية
-
استطلاع الرأي الثاني
-
مواطنون لا رعايا
-
استطلاع رأي
-
الدولة المدنية
-
الدولة المصرية : تطورها ومستقبلها
-
مجالس الأمناء النموذج الأمثل لتطبيق اللامركزية في مصر
-
النانو تكنولوجيا .. علم وصناعة القرن الجديد
-
وداعا محمد عابد الجابري
-
رأس المال الاجتماعي مدخل حديث للتنمية
-
المواطنة ممارسة
-
العلم وشروط النهضة
-
هدم العقارت كارثة للملاك الفقراء وإهدار للثروة القومية في مص
...
-
العالم بدون كلود ليفي شتراوس
-
الطرق إلى الحداثة
-
لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 2 من 3
-
لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 1 من 3
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|