في الوقت الذي تتجاذب فيه الناس الحديث عن تغيير النظام التوليتاري، لا يجري تسليم الكثير من البيانات الجاهزة بأن الشعب العراقي هو المستفيد الأول من عملية التغيير. وتتصدر هذه البيانات شعارات لا تتنفس الهواء الطلق بل لم تزل حاملة قناني الهواء المعبأ من أيام الحرب الباردة وأوهامها كأن يتم الحديث وبنفس اللغة القديمة عن الاستقلال الوطني ودون معاينة المتغيرات الحاصلة على صعيد العالم وليس من غرائب الصدف ان هؤلاء هم الذين كرّسوا التوليتارية باعتبارها مرحلة من مراحل التطور التاريخي (…)
واليوم يطالب هؤلاء بتطبيق القرار 688 فهو الكفيل بتخليص العراقيين (…) ولا أدري من أي متجر أو جريدة يتحدثون، فقد غادروا العراق في عام 1978 دون إحداث مظاهرة تذكر وقد تم إلغاء صفقتهم مع الدكتاتور بطريقة كاريكاتيرية وهم مَنْ علّم الآخرين عدم الاعتراف بالذنب حيث ارتكبوا جريمة الجبهة الوطنية 1973.
وقاموا بممارسات تماهي ممارسات النظام في منافيهم الجميلة والمجهزة بمعدات الرحلات الحزبية الشهيرة، ويشاطر هؤلاء سائر الذين يدركون بأن التغيير المنشود سيكنس من أرصفة العراق أوبئة خلفتها كراريسهم وممنوعاتهم وحلالهم الغريب.
ان الهم العراقي منصبٌ على التغيير فان تم تغييب البرنامج المستقبلي ينبغي على الجميع ان يسعى لبلورته وليس عيباً ان نتحالف مع القوى الدولية لتخليصنا من نظام لم يسبق للبشرية ان تعاملت معه وليس في ذلك انتقاصاً لنا فلم تزل ألمانيا في مقدمة الدول الصناعية وفي مقدمة الشعوب الباحثة في السؤال الإنساني وهاهي اليابان وصناعتها وقطاراتها وقدرتها على استثمار المكان.
فأين العيب إذا قررت الولايات المتحدة الأمريكية فتح صفحة جديدة مع شعب خذلته في انتفاضته عام 1991 !؟
ان وعي العراقيين وقدراتهم في كافة الاختصاصات وانفتاحهم ستعينهم على رسم صورة حيوية لهذه العلاقة.
أرى العيب في الذين لم تؤخذ بطلباتهم التي تراكمت في سكرتارية الخارجية الأمريكية، ألم تفضح سكرتارية الخارجية الأمريكية ذلك؟
والعيب في سلوك هذا البعض الذي يشتغل في صحافة دولها تحرّم على المرأة قيادة السيارات، أما نغمة النفط والاستعمار فهي لم تأت إلاّ بقديم لا يعادل نفايات عافتها المجاري من شعارات تافهة من نفط العرب للعرب الى النفط سلاحنا في المعركة . . .
ان أبسط مواطن في العالم يدرك مشكلة الطاقة ويدرك بأن مدرسة شيكاغو التي تشم روائح البترول من أقصى الأرض الى أقصى الأرض هي حلقة حيوية في الإدارة الأمريكية، ولا أريد ان أزيد بغير سؤال يمتد من اليوم الذي أستخرج فيه النفط الى يومنا هذا، ما الذي تحقق لنا من مكتسبات؟
لنتحقق من ذلك ونقارن الدولة العراقية المنتجة لـ 10% من إنتاج النفط العالمي بدولة لا إنتاج فيها مثل الأردن، عاينوا أيها العباقرة مستوى الدخل والخدمات والبيوت، المدارس والشوارع. .
ألسنا أفقر شعب في العالم؟
بماذا يضيرنا الاستثمار . .أليس عصرنا عصر الذكاء في تطبيق العلوم وعصر استثمار القدرات في معالجة اشكالات الوجود؟
ليست للعراقيين قدرة على تجديد عقد التصفيق للشعارات، انهم يريدون فقط سمع خطى الطاغية وهو يغادر حتى مقابر العراق. ويريدون برنامجاً واضحاً فالحضارة وضوح.
ويريدون إعادة لعبة (غميضة الجيجو) الى الأطفال بعد ان صادرها الحزبيون ومارسوها بمختلف البهلوانيات "التاريخية".
المثقف العراقي والتغيير:
تتفق الغالبية بأن تغييب دور المثقف العراقي هو الذي أدى الى هذه الكوارث وهذه الفضاعات والفقدانات . فالمثقف العراقي ليس مكتبياً أنه ابن الشارع العراقي ونبضه من متاحف العراق الى أرصفته وصولاً الى جامعاته، انه الروح الصاخبة في رتابة الثبوت وهو جرس الحقيقة في تعطيله تسود النمطية والأحادية، الشارع يدرك ذلك والذين أقصوه يدركون ذلك، والمثقف العراقي ليس محافظاً أو يصبح محافظاً حين يحل لاجئاً على بريطانيا مثلاً، ليس بيننا المثقف المحافظ الذي لا يتوانى عن ممارسة كل ما يحمله النقيض. ولقد رأيت أولئك الذين ينصحون بعضهم بالابتعاد عن الناس أو ترك مساحة بينهم وبين الناس، ربما هي المساحة التي تكتب فيها عرائض مزيفة تدّعي "تثمير الثقافة العراقية بميزانية النفط مقابل الغذاء" (…)!
انهم بعيدون عن هاجس الحرية والعدالة والمستقبل وهم ليسوا من طراز المثقف الحيوي، انهم مجرد قرطاسية في مكتبة مهجورة.
ان المثقف العراقي في الداخل وفي المنافي مارس الفعل الحيوي في المتابعة والتفاعل في التأثر والتأثير، الأمر الذي يجعله أكثر الفئات قدرة على مراقبة الأداء الجديد نتيجة لما وقع على هذا المثقف من ضيم وإجحاف مصدره الفعل المسمى "سياسياً" وفي حقيقته لا يتعدى الممارسة العشائرية والمناطقية والمذهبية والفئوية، عداك عن الولاء الأعمى الذي تحكمه غريزة كلبية تنبح على أقمار التجديد والإبداع.
وتقع على القوى والشخصيات السياسية تطوير مصادرها في المعرفة التي تجيز لها ممارسة الفعل السياسي الجديد والتمرن على قبول المختلف بدءاً من العائلة وصولاً الى الشعب فليس عيباً الاعتراف بصعوبة الانتقال من السلوك الفردي، العشائري، المناطقي الى السلوك الديمقراطي فأولى سماة هذه السلوك قبول الآخر ليس بصفته مادة سابحة في محيط الجذب بل بصفته المعادل الإنساني الذي يعمق الشعور الراقي بنبل الأنا ويدفع شروط الحياة الحرة الكريمة الى التحقق وعلى السياسيين إدراك حقيقة جوهرية تتمثل باختلاف الإيقاع بين المنفى وبين الوطن واختلاف اللغة بين التحريض والتأسيس وعليهم ان يدركوا بأن حركة التغيير وخصوصاً بعد ثلاثين سنة من حالة الطوارئ ستنتج لغة جديرة بحمل هموم التغيير الأساسية في وحدة البلاد والديمقراطية ودولة القانون، وهذه هي المساحة الحيوية للمثقف العراقي إذ اشتغل عليها مبشراً فاعلاً في اعتراضه "ومنذ اليوم الأول" على الوسائل غير السوية وغير الشرعية التي أوصلت صدام الى الحكم.
ان أولى مهمات السياسيين والمثقفين العراقيين هي توفير المساحة المقبولة للتوافق بين مصالح القوى الدولية والقوى الإنسانية من جهة وبين مصالح وتطلعات الشعب العراقي، ولا بد لكل من ينشد التغيير أحزاباً ومنظمات وشخصيات التسليم بأن التغيير هدفه الأساس فك أسر الشعب العراقي وان هذا الشعب ومنذ اليوم الأول للحكومة الانتقالية يجب تكريمه بهواء الوضوح من خلال حكومة انتقالية يؤمن أعضاؤها بأن العراق الجديد دولة ديمقراطية حرة تتيح للجميع العمل السياسي السلمي.
ان أولى المهمات الراهنة للقوى والأحزاب والشخصيات المؤمنة بالتغيير العمل على احصاء الطاقات والاختصاصات العراقية في دول الشتات والتواصل معها ليس على طريقة الكسب الحزبي بل وفقاً لأوراق العمل ذات الطابع المستقبلي وينبغي توفير إحصاء نسبي للاختصاصات ومراكز العمالة في الداخل ايضاً.
من شأن التسليم " واعيدها للمرة الثالثة " بأن التغيير ليس لصالح حزب ما أو جماعة أو فرد انه لمصلحة شعب مُعتقل لأكثر من ثلاثين سنة ومن يؤمن بذلك عليه ان يغير من سلوكه بالاتجاه الصحيح فلا يحق للبعض استثمار الأموال لتأسيس اتحادات على طريقة النظام وحصل هذا في الأردن حيث لجأ طرف عراقي ( حركة الوفاق – اياد علاوي) الى تأسيس اتحاد للأدباء وهذه ممارسة مرفوضة ولا تختلف عن ممارسات النظام يجب الإقلاع عنها وعن التفكير بمثيلاتها.
وحده التسليم بجوهر التغيير يمثل وحدة القوى ويدل على حيويتها ومن التسليم يبدأ التعامل مع القوى الدولية ومن ثم البدء بصياغة برنامج لحكومة "تكنوقراط" انتقالية نرى ان أولى مهامها الضرورية العمل على توفير الهدوء الإيجابي والذي نرى إمكانية تحقيقه بالأتي:
- البدء بتنفيذ الوحدة الإدارية للبلاد من شماله الى جنوبه.
- حلّ الجيوش الخاصة – الحرس الجمهوري، الجيش الشعبي وجيش القدس وتسليم مواقعها للجيش النظامي.
- حل الأجهزة الأمنية والمخابراتية الخاصة والإبقاء على الأمن العام وجهاز الشرطة.
- البدء بتنفيذ نظام الضمان الاجتماعي الذي يجب ان يوفر لكل العراقيين من عاطلين عن العمل وشيوخ ونساء مرتبات كافية وبالإمكان استثمار الطرق الغربية في هذه الاجراء الحيوي.
- البدء بتشغيل التعليم وتوظيف كل الطاقات الثقافية من أجل تسييره بطرق ملائمة للوضع الانتقالي.
- استثمار كل التحالف الدولي والإنساني من أجل النهوض السريع بالمؤسسات الصحية وتأمين أقصى ما يمكن من المستوصفات المتنقلة.
- إعادة المياه للأهوار عبر تهديم كل السدود والموانع التي شيدها النظام.
- الصحافة الحرة والمؤمنة بالتغيير تمثل سلطة مراقبة للأداء الحكومي .
هكذا تتوفر المساحة الحيوية لعمل حكومة تكنوقراط انتقالية تنهض بالبنى التحتية وتهيء الشارع العراقي لانتخابات حرة ترسم مستقبل البلاد.
الشاعر غيـــلان
سيدنــي 8/9/2002
Joussour magazine
www.joussour.com
Email: [email protected]
P.O. Box : 211 Hazelbrook
NSW 2779 Australia
Tel: (02) 47589965