|
الدفاع عن الشعب الفصل الاول د- المجتمع الدولتي الاقطاعي ومجتمع العبودية الناضجة
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1077 - 2005 / 1 / 13 - 11:02
المحور:
القضية الكردية
د – المجتمع الدولتي الإقطاعي ومجتمع العبودية الناضجة
إن النظر إلى الدولة كتدفق ذهني ومؤسساتي عبر التاريخ، يحظى بأهمية عظمى. أما تعريفات الدولة كظاهرة تنشأ وتخمد، لتتأسس بسرعة على يد طبقة أو مجموعات معينة مجدداً، بالاعتماد على اصطلاحات دينية أو قومية؛ إنما تُقحِمنا في مفهوم ذي مظهر مبهم وعَكِر ومتقطع، أكثر من أن تُقرِّبنا من حقيقتها الظاهراتية. بل قد يكون تشبيه الدولة بـ"الكرة الثلجية والكرة النارية" المتعاظمة تصاعدياً، والمجمِّدة حيناً، والمدمِّرة الحارقة لأطرافها أحياناً أخرى، أكثر تعليمياً؛ باعتبار أن الدولة تشكل النظام الاصطلاحي الأساسي للمجتمع، وتمثل الحقيقة المؤسساتية المتواصلة دون انقطاع. فهي منذ نشوئها وتكوّنها، وحتى يومنا الراهن، تكاثرت وتعددت دون أن يطرأ على مضمونها أي تغيير، ودون أي انقطاع في سياقها. إنها لحقيقة أكيدة بحيث لا يمكننا الحديث عن حصول انقطاع فيها، ولو لمدة ثانيتين فقط. ذلك أنه بمجرد الانقطاع، فإنها تلج مرحة الزوال. إنه أشبه بحالة انفصال الروح عن الجسد. فإذا ما هجرت الروحُ البدن خلال ثانية واحدة، يستحيل على الأخير مواصلة وجودها بعدها. ذلك أننا، وبعد ثانية فقط، لا يمكننا مناجاة الروح وإعادتها مجدداً إلى البدن. والدولة أيضاً كيان حي من هذا القبيل. أما تنوعها وتضخمها، فيمكننا تشبيهه بأنواع الفصيليات الوراثية. فقد يتشكل من نفس فصيلة نبات أو حيوان ما، أنواع عديدة ومجموعة أحجام مختلفة، ولكن الخاصيات الأساسية تبقى ذاتها. والحديث عن الأنواع الأفضل أو الأسوأ لا يدحض هذا النمط التعليلي. عندما قال لينين بـ"الدولة البروليتارية تجاه الدولة البورجوازية" كان يظن أنه صاغ تعريفاً صحيحاً وأميناً. بيد أنه ما من "بروليتارية" الدولة كشكل اجتماعي. وقد جرَّب الكثيرون ذلك، منذ أيام سبارتاكوس، ولكن جهودهم جميعاً ذهبت سدى. حتى التجربة السوفييتية، التي كسحت العالم وغطّته، لم تنجُ – مع ذلك – من الانهيار من ذاتها. ومثلما سنسرد تفاصيل أسباب ذلك في القسم المعني به، فإن الدافع كان شك حياة المجموعات والطبقات القمعية والاستعمارية، والذي يُعد الشكل الأساسي للدولة. هكذا أُسِّست. ولا يمكن لمجموعات وتمايزات طبقية معرضة للقمع والاستعمار، أن يكون لها شكلها الحر والمتساوي. فمثلما أن جوهرها لا ينسجم مع ذلك، فإن شكلها أيضاً مناقض للحرية والمساواة. وتعاظمت تدريجياً كرتنا النارية الثلجية المنطلقة من عند السومريين. والكثير من المعطيات، بما فيها مثالا الصين وأفريقيا الجنوبية، تبرهن على أنها اقتاتت من هذا النموذج، ولكن مع التغذي على لوازم المناطق ذاتها، بلا شك. ولكن المثال المستوحى منه، فكراً ومؤسسة، بنسبة كبرى هو دولة الرهبان السومريين. ويُجمَع علمياً على العموم على أن هذا الأنموذج لعب دور الملهم الإلهي، بشكل مباشر وملتوٍ. إن البحث والتدقيق في هذه الحقبة اعتماداً على المعطيات العلمية، إنما هو من شأن المؤرخين. وما علينا نحن القيام به هو، القراءة الصحيحة والإيضاح السليم لصُلب الموضوع وروحه. إن الأنموذج العبودي البدائي للدولة يبدأ من سومر ومصر، لينتشر بين الحثيين، الميديين، إيران، الهند، الصين، الإغريق، الرومان، والآزتكيين، حسب الزمان والمكان، وبمستويات أدنى؛ يبلغ مرحلة نضوجه – بعد تعاظمه وتكاثره مثل الفصيليات – باتخاذه الشكل الإقطاعي. وحتى بلغ هذه المرحلة، سعى للتسلل إلى كافةى خلايا المجتمع الطبيعي، وشكّل العديد من المساحات الجديدة، واستطاع تحويل الإذعان والخنوع والاستعمار إلى فن مبهر يدل على عظمته. في الحقيقة، ما جرى فعله باسم "فن السياسة والعسكرية"، لم يكن سوى فن القتل المنتظم للإنسان، وقمعه، وتسخيره في كافة الأعمال الاستعمارية، على اختلافها. أما الفنون التي احتُمِي بها أثناء إعداد الأرضية المشروعة لذلك الفن، فكانت أساساً: الميثولوجيا، الملاحم، مضمون الكتب المقدسة نسبياً، التماثيل، الرسوم، الموسيقا، وغيرها من العديد من النشاطات. لا شك في أن ولادة هذه الفنون ليس من ابتكار الطبقة العبودية. ولكن الحقيقة الأخرى المعروفة يقيناً، هي المهارة والكفاءة العظمى التي أبدتها تلك الطبقة في أقلمة تلك الفنون وفق مصالحها هي. إنه فن تغيير ذهنية الإنسان من جذورها. بل وباستخدامها وسائل الحياة المادية والمعنوية الأولية، التي كوَّنتها الإنسانية بجهودها العظيمة وكدحها المرير، طيلة آلاف من السنين. من هذه الزاوية بالذات، فإن لفت الأنظار – ولو بتكرار – إلى الشروحات والتفسيرات الخاطئة الجارية، بل وباسم الحرية والمساواة؛ إنما يُعتَبر واجباً إنسانياً متطلعاً إلى الحرية والمساواة، ويتوجب تأديته في كل زمان. فلنلفت الأنظار، وبإيجاز، إلى ما أُدخِل على مؤسسة الدولة، لدى بلوغنا مرحلة الدولة الإقطاعية. ففي عهود الملوك الآلهة السومريين والمصريين، دفنوا الآلاف من النساء والرجال الخدَم – وهم على قيد الحياة – مع أولئك الملوك الآلهة لدى وفاتهم، كي يخدموهم في حياتهم الآخرة أيضاً. وشغَّلوا مئات الآلاف من العبيد لبناء قبر واحد من تلك القبور، حتى قضوا نحبهم عليها. وبينما تُبنى زاوية من جنات النعيم لأجل حفنة من أصحاب السلطة وجوارهم، عومِل الآخرون معاملة أسوأ من القطيع. وعَرفوا إبادة الكيانات الاجتماعية المتمردة على العبودية، كالكلانات والقبائل، سياسةً أولية لديهم. واعتَبروا نسج القلاع والأسوار من جثث الناس عملاً مجيداً. وأوجدوا فن القتل المنظم للإنسان، والذي يخلو من أي جانب طبيعي، داخل المجتمع الإنساني، لأول مرة. هذا وتفوقوا بمهارة في حبس النساء داخل الأقفاص. وقاموا بطلاء كل أحلام الأطفال الطبيعية بالنشاء. وأكرهوا الناس على اللجوء إلى أعماق البراري وذرى الجبال وقلب الغابات الموحشة، باسم الحرية. أما العبيد، فقد حُوِّلوا إلى أداة إنتاج اقتصادية، ليس بكدحهم فحسب، بل وبأبدانهم بكل ما فيها. وألَّفوا من الذكاء التحليلي ميثولوجيا مهيبة تعتمد على الكذب والزيف. وكأن العنف المحض الذي يمارسه الأسياد لا يكفي، فجعلَ الرهبان – إضافة إلى ذلك – من القمع والاستعمار المعنوي لعالَم الآلهة، عنصر عقيدة وعبادة أساسي، ونقشوه في ذهن البشرية. واتخذوا من إعلاء الأخلاق والفن من شأنهم وقدرهم هم، وإضفائهما صفة الجمال عليهم باستمرار، عملاً أولياً. وعوضاً عن مفهوم الكون الحي المؤلف من البيئة الطبيعية والمجتمع البشري، وطدوا مفهوم آلهة السماء وآلهة الأرض، التي لا روح لها، والتي تحاسِب وتعاقِب. وبينما يستحيل التفكير بالعَوَز والفاقة لأجل زمرة الأسياد، فإن المجموعات الأخرى عانت التصدع والتخدش باستمرار، بسبب المجاعة وتفشي الأمراض. حتى في أوقات لهوهم ولعبهم، اتخذوا من الألاعيب والمراسيم المعتمدة على قتل الناس، أساساً لهم. ويمكن توسيع هذه اللوحة أكثر، ولكنه واضح أمام أعيننا والذي وعينا وإدراكنا، أن الدولة العبودية مُلِئت على هذا النحو بكل ذكرياتها وبقاياها. جميع الدول التي ظهرت في كل الفترات الزمنية، على اختلافها، ومن أصغرها إلى أكبرها دون أي استثناء، لم تتوانَ عن القيام بمتطلبات هذه اللوحة العامة، وإضافة بعض الأشياء الأخرى التي ارتأتها هي، واعتَبرت ذلك من دواعي الفن السياسي والعسكري. وإذا ما وضعنا نصب أعيننا ما فعله الأباطرة الروم والبيزنطيون فقط، وإذا ما استذكرنا ما لا يطيقه ضمير الإنسان ولا يحتمله عقله إزاء متوسط ما يبدو في اللوحة المذهلة البارزة إلى الوسط جراء ذلك؛ سنكون بذلك سلَّطنا الضوء على الحقيقة المستترة، ولو قليلاً. وحين نعت الكتاب المقدس ظاهرة الدولة العبودية بأنها "اللوياثان"، فإنه بذلك صاغ تعريفاً صائباً لها. إن التدقيق في انهيار هذا الشكل الاجتماعي للدولة، ليس محط دراستنا، ولكننا على علم بأن قواها خارت وتفككت حصيلة مقاومات وهجومات القبائل المسماة بـ"البربرية" الخارجية، والتي لا تزال تتحلى بخصائص المجتمع الطبيعي. أدت مقاومات وهجومات مختلف الأقوام والقبائل، وفي مقدمتها الجرمانيون والخونيون والإسكيتيون في الشمال، والبرابرة والعرب في الجنوب؛ إلى إقحام الإمبراطوريات الصينية والهندية والإيرانية في الشرق، والرومانية في الغرب – والتي تُعرَف بأنها مراكز الحضارة الأوروبية – في حالة عجزت فيها عن مواصلة وجودها بأشكالها القديمة. أما تسمية تلك المجموعات بـ"البرابرة" فهو من دواعي الآداب العبودية. ومن الأكثر واقعية تسميتها بالقوى الثورية الأساسية المؤدية إلى حدوث تطورات أقرب في مضمونها إلى الحرية والمساواة. ويتسم تقييم تقليد زعماء القبائل ورؤساء الأقوام لأسيادهم العبوديين، وتشبههم بهم، على نحو منفصل من الجماهير الساحقة، بأهمية قصوى حقيقية. وفي الداخل، عملت التيارات الدينية الغنوسطية (أي الروحية) (Gnosticizm: الروحية أو الغنوسطية: مذهب العرفان، وهو مذهب بعض المسيحيين الذين اعتقدوا بأن المادة شر، وبأن الخلاص يأتي من طريق المعرفة الروحية – المترجم) المعتمدة بالغالب على الفقراء والمتطلعين إلى الحرية والمتوجهين إليها، في مقدمتها الديانات المسيحية والمانوية والإسلامية؛ عملت على حفر قعر نظام المجتمع العبودي، وشلَّته عن مواصلة وجوده. ورغم صعوبة الزعم بأن هذه الحركات اعتمدت على تيارات متطلعة بوعي إلى الحرية والمساواة، فمن المؤكد بما لا شائبة فيه، أنها سعت في مضمونها للخلاص من العبودية. "الخلاص" و"المنقذ" هما المصطلحان البارزان للعيان هنا. فالاسم الآخر لسيدنا عيسى هو "المسيح" أي "المنقذ". و"ماني" بذاته هو كالحواري الذي ينادي بالسلام والتعددية، بكل معنى الكلمة. والإسلام، بمعنى الكلمة، يعني "التسليم بالسلام". والمطاليب الأولية التي لعبت دورها في انهيار النظام هي السلام والتحرر، أي الخلاص. أما طراز صياغتها على نحو ديني، فلا بد منه لأنه من دواعي البنية الذهنية السائدة الذي تلك الحقبة. من هنا، يمكن استيعاب تمهيدها السبيل لاستتباب السلام والتحرر (الخلاص) بشكل محدود. واضح أن هذه المدارس الدينية والمذهبية والفلسفية الغنوسطية (الروحية) المتعاظمة في ظ الإمبراطوريات، ستتأثر بالنظام من النواحي الذهنية والسياسية والعسكرية على السواء. إنها لا تسعى لبناء عبودية كلاسيكية أخرى مجدداً، وهي تلعنها بكل حدة، لأنها تعرفها جيداً. ولكنها من ناحية أخرى عاجزة عن حسم ما تريد بناؤه، وكيف. بيد أن العديد من الشخصيات المتقبلة للنظام العبودي على الصعيد الفني، قبلت بهذه الديانات سياسياً، بحيث لم ترَ صعوبة في تحويلها إلى أرضية مشروعة لها من هذه الناحية. فـ"قسطنطين" الأكبر مثلاً اعتنق الديانة المسيحية في 312م، ودخل روما على إثرها، ليعلن نفسه إمبراطورها الجديد، وينقل عاصمتها إلى المدينة المسماة اليوم بـ"استنبول"، ويعلن المسيحية ديناً رسمياً في عام 325م. أي أن الدين الذي حارب ضد العبودية طيلة ثلاثة قرون، قد دخل في وفاق مع النظام العبودي بذلك. و"ماني" بذاته دخل في حماية "شابور" الإمبراطور الكبير الثاني للسلالة الساسانية. في حين أن سيدنا محمد (ص) الأكثر راديكالية، رسخ أسس نظامه على ميراث كل من النظرية اللاهوتية (الثيولوجية) اليهودية والمسيحية بنسبة عظمى من جهة، وميراث الإمبراطوريتين البيزنطية والبرسية من جهة أخرى. جميعهم تحدوا النظام الكلاسيكي للعبودية، عن وعي وإدراك. وكافحوا ضده، وأبدوا قدرتهم على تخطيه. ولكن القوالب التي دخلوها كانت من إيجاد دولة الرهبان السومريين. فقاموا بتمرينها قليلاً ليحولوها إلى أداة تقدر الإنسانية على تحملها. وإلا، فتحديث المجتمع الطبيعي ضمن الظروف الجديدة، لا يخطر ببالهم بتاتاً. بل إنهم يدحضون هذا النظام، بذريعة أنه "وثني" أكثر من النظام العبودي ذاته! هذه الجوانب المذكورة كافية لوحدها لتبين لنا أن ظاهرة الدولة الجديدة التي ستظهر أمامنا ليست سوى الحالة المعدَّلة لشكلها القديم. أما إذا أتينا على ذكر الجماعات البربرية الأقرب إلى المجتمع الطبيعي، فهي أيضاً لم تنجُ من الرضا بشكل الدولة الجديد الممكن احتماله، وذلك بوساطة رؤسائها الفخورين بالنظام العبودي، والمكرَّمين من قِبَله منذ أمد بعيد. وتحصل هذه المرحلة، التي شهد التاريخ الإنساني خلالها انقلاباً جذرياً رأساً على عقب، في الفترة ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين. وقد شهد التاريخ مرحلة مشابهة لها في الانطلاقات الأخلاقية والفلسفية، التي قام بها كل من بوذا وكونوشيوس وزرادشت وسقراط، تجاه الذهنية العبودية الكلاسيكية، في القرنين السادس والخامس ما قبل الميلاد. والمحصلة كانت أن برزت صياغات وأشكال أكثر تقدمية، في الأنظمة الاجتماعية لدى الإغريق وروما وإيران والهند والصين. تُولي الماركسية الدور البارز إلى أدوات وعلاقات الإنتاج في حصول هذه التطورات التاريخية، في حين تنيط الصراع الذهني بدور ثانوي. هذا إلى جانب عدم إيلائها الوزن الكافي لكفاحات المجموعات الإثنية والدينية. ويبرز هنا الاستيعاب البعيد عن التكامل بشأن التاريخ، عبر هذه المواقف، التي ليست سوى تعاليل دوغمائية للأسلوب الجدلي. ذلك أنه لا مناص من الفهم المحدود للحقائق عبر التفسير الاقتصادي لها، دون رؤية التحركات العظمى للمجتمع، والتي تفيد في ماهيتها بالذهنية والسياسة. إن التركيز على البنية التقنية والإنتاجية كقوة دافعة للتطور، دون إيلاء المعنى اللازم لتحركات الجماعات العظمى؛ إنما يفضي إلى البقاء ضمن إطار الدولة دون الإحساس بذلك. ومن جانب آخر، فتفسير التاريخ دون تحليل الحركات الكبرى للأديان والإثنيات (واقع القبائل، العشائر، والأقوام)، يمهد السبيل لأخطاء وخيمة والتغاضي عن الكثير من الأمور، سواء من ناحية الأسلوب، أو المضمون. ولهذه الحقيقة النصيب الأوفر في بقاء التفسيرات التاريخية الجارية بالأسلوب الماركسي، سقيمة وعقيمة، وإفساحها المجال لنتائج خاطئة. ذلك أنها، وبينما ناشدت بتخطي المثالية المعتمدة على السمو بالمجتمع الفوقي التقليدي، وقعت – على النقيض من ذلك – في المادية البحتة، بحلولها المعتمدة على البنية الطبقية والاقتصادية المحدودة جداً. المعضلة التاريخية والاجتماعية الأخرى، التي تستلزم إنارتها، هي ما يجب فهمه من المناداة بتخطي الماضي. يتمثل قانون التغيير في الطبيعة، والتحول الذي برهن عليه سياق التطور الطبيعي في البيولوجيا، في استمرارية الظاهرة السابقة ضمن أحشاء اللاحقة لها. على سبيل المثال: إذا ما التحمت ذرّتان من الهيدروجين تتحولان إلى الهيليوم. إن الهيدروجين مستمر في الهيليوم. فإذا ما تفككت ذرّة الهيليوم يظهر الهيدروجين ثانية. ولكن هذه الحقيقة تُعتَبر ظاهرة مختلفة في التغير النوعي الحاصل على شكل ذرة الهيليوم. وتراكم الحلقات فوق بعضها في البيولوجيا، إنما هو مرحلة مشابهة. فالحلقة السابقة مندمجة مع اللاحقة لها. وثمة تغير مشابه لهذا في المجتمع أيضاً. فالمجتمع الفوقي يحمل السفلي في أحضانه. ولكن العكس غير صحيح. أي أن المجتمع السفلي لا يتضمن العلوي. ذلك أنه ما من ظاهرة جديدة هنا. وبالتالي، يتشكل المجتمع الإقطاعي بتطور النظام العبودي وتَضَمُّنِه تحميلات جديدة، حصيلة الهجمات الآتية عليه من الداخل والخارج. ويتضمن في أحشائه العديد من قيم النظام العبودي، ولكن ليس بأشكالها القديمة كما كانت عليه. بل يحملها بأشكال جديدة تتشكل حصيلة التركيبة الجديدة المؤلَّفة مع القيم الجديدة. أي أنها – القيم القديمة – لا تزول، بل تستمر في وجودها بتعديل شكلها. بيد أن النظام الروماني العبودي وجد في نفسه القدرة على تجديد ذاته بدماء البرابرة والمسيحيين الطازجة المسفوكة. لا يمكننا تطبيق الديالكيتيك على المرحلة التاريخية، والخروج منه بفهم صحيح له، إلا بهذا الطراز، بشرط عدم خنق الدياليكتيك في الدوغمائية. ويتجذر التحو الذهني تجاه المجتمع الطبيعي، ليستمر في نظام المجتمع الإقطاعي أيضاً. لقد تحققت انفتاحات عظمى عن طريق الذكاء التحليلي. وألَّف شكل التفكير الديني والفلسفي على السواء، الذهنيةَ المهيمنة للمجتمع الجديد. ويهيمن هذان الشكلان من التفكير مجدداً في العناصر المتحولة للمجتمع القديم. وكيفما قام المجتمع السومري بتشكيل تركيبة جديدة مع قيم المجتمع النيوليتي داخل نظامه الجديد، كذلك قام المجتمع الإقطاعي بتشكيل تركيبة جديدة مؤلفة من القيم المعنوية الموجودة في البنى الداخلية للنظام القديم من جهة، ومن القيم المعنوية للطبقات المسحوقة والإثنيات المقاوِمة، والموجودة في الجوار الخارجي من جهة ثانية. إن تدفق السياق العملي هو المحدِّد في هذه المرحلة. فالسياق العملي، بمعنى من معانيه، هو الوجود المشكِّل للزمان كقوة بحد ذاتها. والزمان هو السياق العملي المتكون. تقوم الذهنية بتحديث الخصائص الميثولوجية عبر الاصطلاحات الدينية والفلسفية. فعوضاً عن وجود آلهة متعددة، هزيلة وخائرة القوى، تنعكس قوة الإمبراطورية المتسامية على صورة تطور طبيعي يتجه نحو الاعتقاد بإله واحد أعظمي، يمثل القوة العالمية. إن أحداث الحياة اليومية ومجرياتها تجد مرادفاتها في الذهنية أيضاً. ثمة تغذية وتعزيز متبادل بينهما. ويتعلق إحلال الإله الواحد محل تعدد الآلهة في الأديان، بهذه المرحلة. ذلك أن الممارسة العملية للدولة على مر آلاف السنين، قد أبطلت مفعول مصطلح المَلك الإله، وأصابته بالعطب. ونخص بالذكر هنا ظهور تركيبة "الشرق – الغرب" كفترة هامة ابتدأت مع عصر الإسكندر. فهذا الأخير، الذي تلقى تعليمه وترعرع بذهنية أرسطو، منتبه تماماً لفكرة المَلك الإله، ومدرك إياها. ويقوم بذاته بإشعار الكاتبين الملتفين حوله بزيف هذه الفكرة. ومقابل ذلك يستمر في الانتفاع من ذلك لصون سلطته، فيعلن إلهيته هو. ويفرض على أثينا المتحدية إياه، ذلك عنوة. وغدت قوة المَلك الإله تعيش أيامها الأخيرة في عهد الأباطرة الروم. ونلاحظ اتساع الهوة في الفروقات، مع القول: "سما الإمبراطور إلى طابق الإله" لدى موت أحد منهم. أسفرت الخاصية الثلاثية للألوهية لدى سيدنا عيسى، عن ارتجاجات عنيفة في التاريخف إن هذه الثورة الذهنية المبتدئة مع سيدنا عيسى، تعتبر تطوراً عظيماً. إنها تشكل فترة انتقالية كبرى بين المَلك الإله والمَلك الإنسان. فبينما كان الملوك يعلنون أنفسهم آلهة حتى ذاك اليوم، يتحرك سيدنا عيسى المتطلع (Öykünen) إلى مَلَكية القدس، بناء على أنه ابن الرب، وإن لم يكن الرب ذاته، بتأثير من ذاك المفهوم. وفي الحقيقة، يتسم مصطلح "ابن الرب" الوارد في الكتاب المقدس، بمعناه السوسيولوجي العميق. فعوضاً عن أن يكون الربَّ ذاته يكون ابنه. إنه تطور جديد. والروح القدس، إنما تعني نسل الرب. إن سيدنا عيسى الناشئ المولود في البنية الذهنية لعصره، حاول بمضمونه تجربة إطراء الإصلاحات على تلك البنية. وبالتالي فقد مهَّد السبيل لظهور الفروقات في القوة الدينية لدى كل من الروم واليهود على السواء. وما تواطؤ مَلَكية يهوذا ووالي روما على صَلب سيدنا عيسى، سوى بدافع من الخصائص الثورية للانطلاقة الحديثة العهد. تميل الكتلة الإنسانية الفقيرة والعاطلة عن العمل، المتعاظمة في ذاك الزمان، وكذلك رجال الدين وموظفو الدولة من المستويات الدنيا، إلى سيدنا عيسى. وبالأصل، لم يظهر سيدنا عيسى بين ليلة وضحاها. إن ظهوره مرتبط بطريقة "الأسنيين" ذات الأهمية الملحوظة في تلك الأثناء. هذا وقد استلم الخلافة من سيدنا يحيى الذي طالما كانت ذكراه حية كنبي. قُطعت رأس سيدنا يحيى قبل صلب سيدنا عيسى. وكانت جماهيره العاطلة عن العمل والفقيرة، تتعاظم بوتيرة عليا ودائمية. وباقتضاب، كان النظام العبودي يشهد أزمة حقيقية. والثورة الذهنية البارزة في صورة الديانة المسيحية، ما هي سوى ثمرة سياق التطور الطبيعي على مر قرون عدة. إنها، بمعنى من معانيها، أشبه بالحركات الماركسية المسيحية والديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية البارزة في الماضي القريب. وأبدت الديانة المسيحية انتشاراً يقتفي أثر روما ويطاردها، وكأنه ظلها. ويمكن رؤيتها كأول حزب شمولي معني بالفقراء في التاريخ. وقد اتخذ الفلسفة الإنسانية المثالية (humanism: الفلسفة الإنسانية المثالية. وهي فلسفة تؤكد على قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق الذات عن طريق العقل. وكثيراً ما ترفض الإيمان بأية قوة خارقة للطبيعة. كما أنها تعني الحركة الإنسانية. أي إحياء الآداب الكلاسيكية والروح الفردية والنقدية، والتأكيد على الهموم الدنيوية، كما تجلى ذلك في عصر النهضة الأوروبية – المترجم) أساساً، لا الإثنية. أي أنه حذا حذو كوسموبوليتية روما بجانبه هذا. وأهم مزاعمه في تحديده لأباطرة روما، تمثلت في قوله باستحاله أن يكون أولئك الأباطرة آلهة. حيث أنه ثمة الرب الأب، وسيدنا عيسى هو ابنه. يكمن تفكيك وتشتيت الذهنية الإمبراطورية الرومانية في هذه الجملة أساساً. والحرب الدينية ظاهرياً، ليست في مضمونها سوى حرب سياسية. ويتحقق "فتح" الذهنية المعنوية لروما، عبر التضحيات الجسام التي أبداها الحواريون أولاً، وأعقبهم في ذلك العديد من القدّيسين والقدّيسات والرهبان والراهبات. ومع قسطنطين الأكبر يكتمل هذا "الفتح" السياسي. وغدت المسيحية الأيديولوجية الرسمية للدولة الجديدة، بيزنطة. وقد شهدت هذه المرحلة، من بداياتها وحتى نهايتها، صراعاً مذهبياً ضارياً. إنها رقابة ومنافسة، لا تزال مستمرة في يومنا الراهن أيضاً، ولكنها – مضموناً – عبارة عن حرب المصالح لمختلف الطبقات والبنى الإثنية. كثيراً ما نشاهد في الميثولوجيا المواضيع القائلة بأن المسيحية تطورت كمذهب من مذاهب الموسوية، وأن الموسوية تنبع في أصلها من النبي إبراهيم، الذي يعد من أقوى التقاليد النبوية المتمردة على الملوك الآلهة السومريين والمصريين؛ وأنها – أي الموسوية – أصبحت انطلاقة مع سيدنا موسى، لتستمر في وجودها مع سيدنا عيسى، بعد مرورها بحلقات كبرى أخرى، كسيدنا داوود، وسيدنا أشعيا. وآخر مذهب لها هو الإسلام. إلى جانب طغيان الجانب الذهني في تقاليد النبوة، فهي أيضاً حركات تتسم بقوة ورصانة جانبها المجتمعي السياسي. وهي تتطلع إلى نظام مناهض للعبودية بشكلها الأولي (الملوك الآلهة)، بحيث يكون أكثر مرونة، وأكثر تحملاً. كما أنها تأثرت حتى النخاع بالميثولوجيات السومرية والمصرية. ولكنها تَعتَبر أن الكثير من التصورات ومفاهيم الألوهية التي تتضمنها الميثولوجيات لم تعد ناجعة، وذلك بتأثير من الفارق الزمني. إنها ترى استحالة تحمل العبودية مثلما هي عليه في شكلها البدئي الأصلي. هذا علاوة على مآربها في إفساح المجال أمام تشكل التجار والحِرَفيين ليلتقطوا أنفاسهم، وتأمين مساحات خاصة (ذاتية) لتطورهم الطبقي. ولهذا الغرض فهي تجد اللوازم الأيديولوجية اللازمة لها في الميثولوجيات القديمة. وبما أن العاملين عليها يتأتون من الشرائح السفلية للمدينة، فإن لهم مكانتهم في المجتمع الطبيعي في المنطقة الجبلية. إنهم يشبهون بذلك الشرائح البورجوازية الصغيرة الراهنة. إذ من غير الممكن أن يكون لهم أيديولوجيات متمفصلة. إن الذهنية التي صوَّروها أشبه – بمعنى من معانيها – بأيديولوجية الطبقة الوسطى. إنها أيديولوجية "انكشارية" مجمَّعة من الشريحتين العلوية والسفية معاً. أي أنهم حوَّلوا أنظمة ذهنيتهم إلى تقاليد بحد ذاتها بإضافتهم مصطلحات الحرية والمساواة للمجموعات الإثنية من الطبقة السفلى، إلى المصطلحات الإدارية للطبقة الإدارية العليا؛ ونجحوا بذلك في تحويلها إلى ثقافة مغايرة. يولي الشكل الإسلامي للتقاليد حيزاً واسعاً للذكاء التحليلي. أي أنه ثمة انقطاع كامل عن مزاعم "الملوك الآلهة". ويُعرَّف فيه سيدنا عيسى بأنه رسول الإله، لا ابنه. ويتطرق بشكل قوي وقدير إلى الفارق بين الإنسان والإله. إن ما يدَّعيه الكتاب المقدس هنا، أي القرآن، ويعتقد به أساساً، هو مفهوم الإله الكوني. ثمة تصوير تجريدي للغاية للإله هنا. وينظر إليه نظرة أشبه بطاقة الكون. ولكن الجانب الكاسح في هذا المصلطح هو عنايته بالواقع الاجتماعي القائم. ونجد هنا أواصر كثيبة بين وحدوية مصطلح الدولة المجرَّدة والمتمركزة، وبين مفهوم الإله المجرَّد. وتطوُّر اصطلاح "أل" يبلغ ذروته ومنزلته المرموقة مع مصطلح "الله". لقد بلغت النظرية اللاهوتية (الثيولوجيا) السومرية مرحلتها الأخيرة هنا. فمغامرة الآلهة الناشئة كموجودات ميثولوجية في بداياتها، وصلت نهايتها مع وجود "الله" الذي يُعد كل حُكم رسمي منه قانوناً مطلقاً. إذن، والحال هذه، يمكننا استيعاب دوافع ادعاء سيدنا محمد (ص) بأنه آخر الأنبياء والرسل، لدى إمعاننا فيها. ذلك أن الميثولوجيا السومرية أُفرِغت من محتواها بنسبة لا يمكن الإفادة منها بعد ذلك لأجل أديان جديدة. وستتطور بعد ذلك ميتافيريقية المرحلة. فالسياق العملي المتزايد أصبح يدرك الطبيعة أكثر فأكثر، وشرع بتعريف المراحل الطبيعية بعين علمية. وبالتالي، بلغت البنية الذهنية للنظام الإقطاعي نقطة، تتخذ فيها من مقولة "عمل الدنيا شيء، وعمل الدين شيء آخر" أساساً لها. واصطلاحات "رُسُل الإله على وجه الأرض، ظل الإله" غدت الأنسب من أجل ذهنية البشرية. فإقناع الإنسان بذاته بالإله، أمر شاق. والنتيجة الأخيرة التي توصلت إليها كافة الأديان التقدمية هي، استحالة أن يكون الإله إنساناً، أو الإنسان إلهاً. وستتطور بعدها مصطلحات العقل، لا المصطلحات الإلهية، في إيضاح الطبيعة وتفسيرها. وستُفصَل الحياة الدنيا عن الحياة الآخرة بشكل قاطع. ولكن لا يزال مفهوم الإله المراقِب لكل تصرفات الإنسان، والمعاقِب أو المكافئ إياه على أعماله؛ يصون وجوده بشكل وطيد آنذاك. لقد تداخل هنا مصطح الإله مع مؤسسة الدولة المجرَّدة المركزية، كانعكاس لها، وتشابكا بشكل معقد. ينوِّه "هيغل" إلى هذه الحقيقة على نحو أكثر جلاء، عندما قال في القرن التاسع عشر: "الدولة هي الحالة المجسَّمة للإله على وجه الأرض". إذ ثمة أواصر وطيدة وكثيبة بين مصطلح الدولة المنقطعة تماماً عن الملوك الشخصيين، والمجردة، والمستحوذة على بنية مركزية راسخة ومتينة من جهة، وبين مفاهيم الدين المتحولة من الآلهة المتعددة إلى الإله الواحد ذي المكانة المركزية الراسخة والمتينة من الجهة الثانية. والإسلام والمسيحية على السواء، طوَّرا بجانبهما هذا نظرية الدولة المركزية. بيد أن هذه النظرية دخلت حيز التنفيذ العملي، وسيدنا محمد (ص) كان لا يزال على قيد الحياة، لتظهر الدولة الإسلامية المتنامية، وتظهر إلى جانبها الدولة الإلهية للبابوية. تداخلت التحديثات التي قامت بها الذهنية الإقطاعية في العديد من المواضيع الأخرى، مع الميثولوجيات ذات الدوغمائيات القديمة، ومع الفلسفة والأخلاق اليونانية والزرادشتية. إنها متمفصلة من ثلاثتها. فبدءاً من تصويراتها حول جهنم والجنة وحتى مفهومها حول الكون ومن عالَم الخير والشر إلى تصويراتها بشأن الجِن والملاك، ومن أشكال عبادتها وحتى أحكام قوانينها؛ مصادرها الرئيسية جميعاً هي: الميثولوجيا السومرية، الفلسفة الإغريقية، وأخلاق الحرية لدى زرادشت. ولعبت هذه الذهنية دوراً أيديولوجياً بارزاً منذ قرابة القرن الرابع الميلادي وحتى القرن الخامس عشر، لتبسط نفوذها على المناطق الحضارية الأساسية، وتنتشر في كافة القارات، وعلى رأسها أوروبا. ومع بدء شرارة الثورة الذهنية الجديدة بالتزامن مع النهضة المبتدئة في القرن الخامس عشر، بدأت تعيش مرحلة التراجع والجزر. ولكن من غير الممكن الادعاء بتخطي ذهنية العصور الوسطى تلك، بشكل كلي، حيث أنها تسعى لمواصلة وجودها، وبمظاهر جديدة، في العديد من المناطق، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط. وجسَّد مجتمع الدولة الإقطاعية أيضاً مرحلة مشابهة في نضوجها من حيث تمأسسه السياسي والعسكري. الدولة واثقة من نفسها ومعتَدّة لأبعد الحدود. فهي أقدس ما أنزله الإله على وجه البسيطة. وجنودها هم جنود الله. أي أن قناع القدسية متوطد تماماً. القوة الأولى فيها هي القوة السياسية، والثانية هي المفوضية الدينية، والثالثة هي العسكرية. في حين أن البيروقراطية تشكل القوة الرابعة. لقد ترسخت مؤسسات الدولة، كلٌّ في مكانها.. ولا تفقد الدولة من قيمتها المؤسساتية إلى جانب توالي السلالات في استلام دفة الحكم. فالأساس هنا هو المؤسسات، لا السلالات. والأمر عينه على مستوى الأشخاص أيضاً. ويُرى في وجه الأرض – مرة أخرى – أنه هبة منحها الإله لحكامه عليها. وعلى العبيد أن يُبدوا رضاهم بذلك، بل وأن يشكروه دائماً على هبته تلك. والحروب غُلِّفَت بهالة من القدسية، فهي تُشَن باسم النظام الإلهي. ورغم أنها تناشد الإنسانية جمعاء وتنادي بالحرية والمساواة، إلا إن جباية الضرائب وجمع الغنائم هم المؤسستان الاستغلاليتان الأساسيتان فيها. أي أنها تواصل العبودية القديمة بجانبها هذا. في حين يتم إعداد جيوشها على نحو أكثر نظاماً ودائمية. لقد انتقلت منذ زمن بعيد من المحاربين المشكِّلين لحاشية الأمير إلى الجيش كمؤسسة بحد ذاتها، بحيث اعتمدت أنظمة الجيوش البرسية والهيلينية والرومانية أساساً، مع تأسيسها جيوشاً أضخم عدداً وعُدّة في العصور الوسطى. ويشكِّل الخَيل والسيف رمزَي الجيش لهذه الحقبة، حيث تشهد مؤسسة الفرسان أوج ازدهارها، بلك أُبَّهَتها وعظمتها وأهميتها. لم تتمأسس البيروقراطية بعد، وإنما حُدِّدَت مكانة الوزراء والموظفين، وعُيِّنَت أحوالهم. وفُصِلت الطبقات العسكرية عن رجال العلم. وأُلحِقت الجبايات بأسس وأحكام صارمة. وشاعت الاستخبارات والمراسلة كمؤسسة بحد ذاتها. ويُنظَر إلى الحروب كشكل من أشكال الإنتاج. ذلك أن الفتوحات هي موارد ربح وفير وهام. وبمعنى آخر، ففتح الأراضي الجديدة يعني إنتاجات فائضة أخرى. والدولة الأقوى هي الدولة الأفضل في حربها وفتحها. التغذي على الدماء المراقة والاستغلال لا يأبه بأية حدود. فالجهاد في سبيل الله لا يمكن أن يكتمل إلا بفتح العالم أجمعين. وهذا بدوره ما مؤداه الجهاد الكوني والأبدي. لا يمكن أن ينفتح النظام الدولتي، وبالتالي أن ينتعش وينضج، أكثر من ذلك. لقد بلغ حدوده الأخيرة في التضخم والتعاظم. وهذا ما معناه بلوغ مؤسسة الدولة عهد النضوج ضمن سياق المراحل التاريخية. وما بعدها، لا يمكن أن يكون ثمة شيء، سوى الأزمة. تُعتَبر العبودية حالة طبيعية متأتية من الله، في الحياة الاجتماعية. أي أن اصطلاح " العبودية" هو حالة فطرية منذ بداية الحياة، وليس حالة مكتسبة فيما بعد. فالناس يولدون ويموتون وهم عبيد. ويستحيل التفكير في شكل حياة أخرى عدا العبودية. إذ، ثمة الله، وثمة عباده. أما الملائكة والأنبياء، فهم الرسل المبلِّغون بأوامر الله. إذا ما حوَّلنا ذلك إلى اللغة السوسيولوجية، فالله هنا يمثل سلطة الدولة المجردة المتمأسسة. في حين ترمز الملائكة إلى جيوش الموظفين، ويشير الأنبياء والملائكة الأساسية إلى الوزراء وزمرة البيروقراطية العليا. أما إدارة شؤون المجتمع، فتتم عبر نظام "رموز" مريع حقاً. وثمة أواصر وطيدة بين الإدارة الظاهرية والإدارة الرمزية. وبدون فك رموز العلاقة الكائنة بين جانبَي الإدارة الملموس والرمزي، يستحيل بلوغ فهم وإدراك سليم للمجتمع. بمعنى آخر، إذا كنا نود استيعاب ماهية إدارة المجتمع بوجهها الحقيقي، فعلينا وقتئذ نزع الستار البانتيوني (النظام الألوهي) (وهو القائل بوحدة الوجود. ويسمى بالوَحْدِوُجُودِيّ – المترجم). وحينها سنرى أن الوجه الظالم والقبيح للقمعيين والاستعماريين الاستغلاليين مستتر تحت غطاء القدسية منذ آلاف السنين. إن العبودية الاجتماعية ليست مجرد ظاهرة طبقية، فالطبقات والشرائح الاجتماعية برمتها مُلحَقة بها، عدا الاستبداديين (وهم أيضاً في الحقيقة أسرى النظام). وما من نظام تَبَعي مستتر بعمق أكثر من النظام العبودي. والمرونة فيه دليل على مدى تجذر النظام وتوغله. والبراديغما الأساسية هي، نظام عبودي أزلي وأبدي، لا بداية له ولا نهاية. فالنظام سيستمر إلى الأبد كيفما هو عليه منذ الأزل. وهذان المصطلحان (الأبدية والأزلية) يعودان بالأرجح إلى دولةِ عهدِ النضوج. الامتحان وتبدُّل المكان متعلق بالدنيا الآخرة. لذا، فمناهضة النظام، حتى على الصعيد الفكري أو الروحي، تُعد أكبر ذنب. فما بالك بالتمرد الفعلي عليه! العبودية المثلى هي الفضيلة والقُدرة الكفؤ عينها، بالنسبة لكل من يعرف كيف يذعن له ويطيعه بشكل مطلق. والمبدعون المبتكرون القائمون على خدمة الجماعة بأفضل الأشكال في عصر البطولة والبطولات، في المجتمع الطبيعي وعهد الهرمية الإيجابية؛ غدوا الشخصيات الشيطانية الأخطر على الإله (الأسياد) في عصر العبودية، بحيث تستحق العقاب واللعنة. وقد طُوِّرت "الشيطانية" كاصطلاح، تجاه مجموعات الناس الرافضة للعبودية. وهذا المصطلح ذو الجذور الشرق أوسطية، أُطلِق على المجموعات الشعبية المتنافرة مع النظام. من هنا، يُطلَق اسم "عُبّاد الشيطان" على الشرائح الكردية المتشبثة بتقاليد الحياة الطبيعية لديها، وغير المعتنقة للأديان التوحيدية. إن تقديس تلك الشرائح الكردية للشيطان، ذو معاني عظيمة. الدنيا في عين النظام العبودي لعصر النضوج، هي مكان مفتوح لارتكاب الآثام في كل لحظة. لذا، يجب تجنب الحياة الدنيا. وبقدر ما تود العيش، بقدر ما تقترف الذنوب. والشكل الأمثل والأكمل للحياة، هو إعداد الذا للموت، بكل جوانبها. وبينما يرى هذا التقرب أن الطبيعة مجرد مادة ميتة يجب عدم الدنو منها أبداً، فهو بالمقابل يَحكِم باستحالة الخلاقية والإبداع مسبقاً. إذ يستحيل التفكير بمفهوم الطبيعة الحية من أجل العبيد. في الحقيقة، ثمة آثار مروعة من القمع والاستعمار في ولادة هذا الانتظام والترتيب. ويكمن السبب الروحي الأولي في عدم لملمة المجتمع الشرق أوسطي أشلاءه وقواه حتى اليوم، في هذا النواع من التقرب إزاء الطبيعة. ومقابل ذلك، ثمة عالم براق ومبهر على وجه البسيطة بالنسبة لدنيا الأسياد، بحيث لا يذكِّرهم بالبحث عن جنات نعيم أخرى. إنهم، وآلهتهم الملقبة بنفس اللقب – الرب – (مصطلحات الإدارة) يعيشون حياة رغيدة ومحظوظة للغاية، إلى أن تبلغ "حكايات ألف ليلة وليلة"، التي ما هي سوى سرود ميثولوجية لنظام الدولة الناضجة (المزدهرة) في العصور الوسطى. أما حالة المرأة المحبوسة في القفص، فثمة تغييرات طرأت عليها، بما يفيد بتمرين صوتها وتطوير زينتها، لا غير. ثمة عبودية غائرة ومتوارية بأبعاد لا تصدق. لقد تعرضت امرأة العصور الوسطى للانكسار الثقافي الكبير الثاني الجاري للمجتمع الجنسوي. فبينما نشاهد حصول الانكسار الثقافي الكبير الأول في ثقافة الإلهة إينانا – عشتار – في فترة ولادة الدولة العبودية؛ يمكننا مشاهدة الانكسار الثقافي الذي عاناه النظام الناضج (المستوي) إزاء المرأة، متثملاً في مثال "ماريام" الأخت الكبرى لسيدنا موسى، وفي "مريم" أم سيدنا عيسى، و"عائشة" زوجة سيدنا محمد (ص)؛ بشكل ضارب للنظر. بالتالي، ومثلما لم يَعُد هناك أي أثر للألوهية الأنثوية، بات يُنظَر إليها كالمكان الأدنى إلى الشيطان. وأي اعتراض بسيط من المرأة، قد يجعلها الشيطانَ بعينه. وقد تبيع روحها إلى الشيطان في أية لحظة. وقد تُضِل الرجل وتحرفه عن هُداه. وفي حالة سوء أخلاقها، يتوجب حرقها وهي حية، تلتهمها الألسنة الحمراء. ثمة ثقافة مجازر تمتد إلى حد وأد البنات وهن صغيرات، اغتصابهن وقمعهن جنسياً، ورجمهن بالحجارة حتى الموت. لقد تسللت حالة العبودية الغائرة في الأعماق، داخل المجتمع منذ آلاف السنين، إلى أن بلغت أبعاداً لا تطاق. حقيقةً، لا يمكن استيعاب أبعاد مستوى عبودية النظام، ما لم تحلَّل المرأة. فما الحلقات المدورة المعلقة في كل طرف فيها (يُقصَد هنا الحلق والخلخال والأساور وغيرها – المترجم) والمهر وأشياء الزينة، سوى انعكاس لثقافة العبودية. وقد حُرِمَت من التفكير وكأنها خرساء مبتور لسانها. إنها أم جافة مجدبة، وحقل يستطيع الرجال استخدامه كما يشاؤون. وقد خرجت من كونها "جوهر، ذات" منذ أمد بعيد، فغدت "مادة، شيء". لم يعد هناك أثر من الألوهية الأنثوية للمجتمع الطبيعي. لم يعد ثمة أي أثرإطلاقاً للمرأة الحكيمة، مديرة شؤون الأطفال واليافعين، المرأة التي يلتف حولها الرجال ويدورون في مدارها. لم تكن حال الأطفال والشبيبة اليافعين مغايرة لحال المرأة، بل شبيهة بها. فنظام العبودية العام، وكأنه بتَر روح الطفل الطبيعية، قبل أن يطأ عنقوده السابع. أما فترة الشباب والمراهقة، فهي تنتج شخصية مصطنعة بالكمال والتمام، عبر الأساليب التعليمية الخارقة للنظام، بحيث ضُبِطَت كل تصرفاتهم وسلوكياتهم سلفاً. ولا يمكن التفكير بالحرية بتاتاً، حتى على مستوى الألفاظ. يمكننا اعتبار هذه المرحلة بكاملها، مرحلة محو المجتمع وإفنائه، فكراً وروحاً. إذ لا يوجد سوى صوت المجتمع الفوقي الصاخب بصوت "الله" وقرقعة "السيوف" وطقطقة "النعال". كل الملاحم تتميز بالدراما المبنية على الاقتتال والفتح. قد تكون هذه اللوحة مبالَغ فيها، ولكن الحقيقة الروحية لتلك المرحلة، تنعكس بما يتناغم وجوهرَ هذه اللوحة. لقد احتل النظام العبودي الكلاسيكي الأكثر استقراراً وثباتاً، محله بدل العبودية بشكلها البدائي الأولي. وتعيش الدولة، والمجتمع الذي تمثله، ذروة مراحلها، مرحلة النضوج التام. هذا ووُطِّدَت كافة المصطلحات والمؤسسات الأساسية المعنية بالنظام، بحيث تعلن الجوامع والكنائس والكنيسد (مكان تعبد اليهود – المترجم) واجب تقديس النظام كل يوم، عبر الأذان ودقات الأجراس. وما بعد ذلك ليس في مضمونه سوى المدة الأخيرة من مرحلة الأزمة العامة، التي سيلجها المجتمع، وإن بدى ظاهرياً بأنه قوي ومتماسك؛ لتبدأ الدولة الرأسمالية بإبداء قدرتها وكفاءتها في التطور. فمن المعلوم أن أكثر المراحل عظمة وأبّهة، إنما هي مرحلة الانحلالات والتفككات المتأزمة، والمتوالية. هذا القانون العام للطبيعة، إنما يسري مفعوله أكثر فأكثر بالنسبة للمراحل الاجتماعية أيضاً. لم نلجأ كثيراً إلى مصطلحات "القنانة، القرية، المدينة، العصور الوسطى" كاصطلاحات أخرى لهذه المرحلة. ولم نعمد إلى تكرار الأسلوب المسمى بالتحليل الطبقي ونتائجه، لأنها أمور معروفة. لا شك في أنه بالإمكان إبراز بعض الحقائق بهذا الأسلوب، بحيث تُصطَلَح مختلف شرائح المجتمع على النحو: القن، القروي، التاجر، المديني، المِهَني، والمعنيون بالفن والعلم. كما أن الأرض كأداة إنتاج، وعلاقات المُلكية المبنية عليها، والقانون المتطور؛ كلها تستلزم المعالجة الشمولية. فكون الأرض أهم وسيلة للإنتاج، وكون الحروب والفتوحات والنزاعات والصراعات اتخذت الأرض أساساً لها، وأن الطبقة الوسطى تنامت وتوطدت بما يؤهلها للعب دورها الهام في التطورات الاجتماعية؛ كل هذه الأمور تستحق الدراسة بعناية ودقة. لكن، وبما أن هدفنا هنا قد اتخذ من التعريف العام للدولة أساساً، فكان من الأنسب طرح الجوانب المعنية باللوحة، بخطوطها العريضة. إن العوامل المؤدية إلى انهيار نظام الدولة العبودية للعصور الوسطى، داخلية بالأساس. ولأجل انهياره لا داعي لوجود هجمات إثنية جديدة من الخارج، أو ظهور أديان جديدة من الداخل. ذلك أن طاقات الكمون لأجل الانهيار متراكمة في الداخل بما في الكفاية. فالمستوى الراقي للإثنيات المدرَجة داخل حدود الدولة، الشريحة البورجوازية الوسطى المتصاعدة حديثاً، المذاهب الدينية، والشرائح المتمردة باسم مختلف الأقوام؛ إنما هي القوى الأساسية المتمردة على المونارشية، والتي تُعتَبر بأنها الدولة المطلقة. ولدى تطابق مطاليب الحركة الإثنية في الدولة القومية، مع مطاليب الطبقة الوسطى المدينية، وخاصة البورجوازية التجارية، في الحدود القومية؛ تمخضت عنه ولادة الدولة القومية والمجتمع الرأسمالي كإحدى أهم المنعطفات وأعظمها في التاريخ. هذه المرحلة المبتدئة منذ القرن الخامس عشر الميلادي – على وجه التقريب – وحتى يومنا الحالي، ستشكل المرحلة الأخيرة للدولة بصفتها المجتمع البنيوي الفوقي. ذلك أن المستوى الذي بلغته الذهنية وأحرزه التطور التقني المادي، سيعتبر أن طراز التنظيم على شكل دولة – على الأقل بشكلَيها البدائي الأولي والكلاسيكي – لم يعد ذا نفع أو جدوى بالنسبة للمجتمع، بل وسيعتبرها مرحلة مؤسساتية مكبِّلة للأرجل ومقيِّدة إياها.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب الفصل الاول ج- المجتمع الدولتي وتكون المجتمع ا
...
-
الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة
...
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول
-
الدفاع عن شعب
المزيد.....
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دمر تماما
-
عاصفة انتقادات إسرائيلية أمريكية للجنائية الدولية بعد مذكرتي
...
-
غوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
سلامي: قرار المحكمة الجنائية اعتبار قادة الاحتلال مجرمي حرب
...
-
أزمة المياه تعمق معاناة النازحين بمدينة خان يونس
-
جوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا بشكل رسمي
-
مقرر أممي: قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت تاري
...
-
جنوب السودان: سماع دوي إطلاق نار في جوبا وسط أنباء عن محاولة
...
-
الأمم المتحدة تحذر من توقف إمدادات الغذاء في غزة
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|