أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد العليمى - جذور الراديكالية الدينية المعاصرة فى الفليبين















المزيد.....



جذور الراديكالية الدينية المعاصرة فى الفليبين


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 3655 - 2012 / 3 / 2 - 22:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لاهوت تحرر اسيوى فى عهد ماركوس

1986

(إن الكنيسة لن تتردد فى أن تدافع عن قضية الفقراء وأن تصبح صوت هؤلاء الذين لا يصغى لهم أحد حين يتكلمون لا ليسألوا احسانا وانما يطلبون العدالة ) – هكذا خاطب البابا يوحنا بولس الثانى عمال مزارع السكر فى جزيرة النجروس خلال زيارته الكهنوتية للفلبين عام 1981 . ورغم أن الكنيسة الكاثوليكية بصفة عامة – والكنيسة الفليبنية بصفة خاصة قد حاولت فى ظل حكم الرئيس ماركوس أن تكون بمنأى عن الصراعات السياسية المباشرة الا أن الأخيرة قد دفعت دفعاً الى ذلك بحكم عمق المعارضة السياسية وشمولها لقوى اجتماعية تقليدية ، كانت تعتبر من أعمدة النظام ولها روابطها السياسية والاقتصادية والثقافية بالغرب وبالولايات المتحدة الأمريكية .

لقد كان من شأن عمق المعارضة اذن أن يكون عنصرا ضاغطا يولد شتى التناقضات بين الكنيسة والدولة من جانب ، بل وأن يولد مجموعة من التناقضات داخل المراتب الكنسية ذاتها . فقد بات من الصعب على رجال الاكليروس أن يساندوا الأوضاع القائمة ، وتبنت بعض القوى الاجتماعية الشعبية مواقف رافضة من قسس الأبرشيات الريفية عندما لم تجد دعما ومساندة لمطالبها الاقتصادية والاجتماعية . ولا شك أن قوة الضغط هذه كان من الممكن ان تؤثر على بنية الكنيسة ذاتها على المدى البعيد .

مهما يكن من شئ فقد كانت احدى مشاكل النظام الأساسية هى تنامى نشاط الكهنة والقسس الذين ساندوا جيش الشعب الجديد وهو أمر لقى الترحيب من الفئات الاجتماعية المسحوقة ، وان كان قد لقى الاستنكار من رجال الكنيسة الرسمية وعلى رأسهم الكاردينال سين أسقف مانيلا . وقد كان من آثار التوجة الراديكالى لهؤلاء الكهنة الذين التحقوا بصفوف جيش الشعب الجديد ، أن دفع الكنيسة الرسمية ذاتها لأن يكون لها صوت فى بعض القضايا ، فمنذ بضع سنوات قبلها اتخذت مواقف معارضة حول قضايا عدة فى ظل حكم ماركوس . وانتقد قادتها علنا الحد من حرية الصحافة وانتهاك حقوق الانسان واستغلال العمال من قبل الشركات الكبيرة وبناء محطة توليد الطاقة النووية فى باثان ، وصرح أسقف مانيلا آنذاك بأن الكنيسة تتبع سياسة تعاون انتقادى مع الحكومة وأن انتهاك حقوق الانسان وزيادة الطابع العسكرى للحكم هى من الظواهر الأساسية التى تنتقدها الكنيسة . وشدد على أن الكنيسة لا يعنيها ( شكل نظام الحكم ) وأنه على الرغم من أنها تضطر للتدخل أحيانا فى السياسة مدفوعة برغبتها فى توجيه رعاياها الا أنها لن تصبح قط فريقاً محاربا ، من جانب آخر انتقد أسقف مانيلا الرهبان الذين ينخرطون فى الكفاح المسلح منضمين لجيش الشعب الجديد قائلا: ( أنا لا أفهم كيف يصبح رجل الدين ماركسيا ، لأنه يكف عن أن يكون رجل دين فى هذه الحالة ، والأمر يحدث نتيجة الاصغاء المتواصل الى مشاكل الناس, انه نوع من غسيل المخ ) وتزايد احساس عديد ممن ينتمون الى المراتب الكنيسة بتخلفهم عن ( الدفاع عن الفقراء ) مما مكن للمد اليسارى من أن يحتل مواقع متقدمة على صعيد النضال الشعبى .

لقد لعبت الكنيسة الرسمية الفليبنية بقيادة أسقف مانيلا الكاردنيال سن فيما بعد دورا أساسيا فى الاطاحة بنظام ماركوس ، متحالفة مع العسكريين المناوئين للنظام من جانب ، ومع الولايات المتحدة من جانب آخر ، فى محاولة لحصار القوى الراديكالية ولوضع القوى الشعبية فى مسار يهدف الى خدمة مصالح الرأسمالية الفليبنية المتحالفة مع الغرب . ولم تكن كورى أكينو تمثل آنذاك تلك القوة السياسية التى أصبحتها فيما بعد . لقد كان اغتيال زوجها الذى كان له وقع الصدمات الدرامية هو البؤرة التى تجمعت حولها مشاعر الرأى العام ومثل نموذجا ورمزا لكل انتهاكات النظام السابق . ( لقد خلق الاغتيال شهيدا ورمزا وأضفى هالة مغالى فيها على مبادئه وسياساته وأفكارة . ) وقد لخص أحد الرهبان اليساريين وقائع ما حدث فى فبراير 1986 بما يلى : ( ان ثورة فبراير كانت ثورة بورجوازية قادها العسكريون بصفة أساسية بدعم من الطبقة الحاكمة وأحزاب المعارضة المعتدلة ، لقد كانت ثورة مناهضة للشيوعية ارتدت قناع معاداة الفاشية ) – وذلك على حد تعبير الأب المومانابات . لقد دعت الكنيسة الفليبنية أثناء أحداث فبراير86 الى ثورة سلمية ، وعادت كل مظاهر العنف الشعبى واستخدمت كل طاقاتها ونفوذها وأساليبها حتى لا تتحول حركة الجماهير الى ثورة تطال أسس النظام ذاتها .

كيفما كان الأمر فان التغيير الذى حدث بتولى كورى أكينو الرئاسة لم يغير شيئاً من أوضاع الطبقات الشعبية وقد وصفت سياستها من قبل قادة جيش الشعب الجديد بأنها ( ماركوسية بدون ماركوس ) من جانب أخر فقد تمتنت العلاقات بالولايات المتحدة على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية والعسكرية ، كما جرى الاحتفاظ بالقواعد العسكرية الأمريكية . ورغم محاولة أكينو تصفية جيش الشعب الجديد بوسائل غير مباشرة ، باطلاق سراح بعض قياداته ممن اعتقلوا حسب قانون الطوارئ فى ظل نظام ماركوس واجراءهم لبعض الحوارات مع قادة القوى الراديكالية بهدف أن يكفوا عن المعارضة وأن يلقوا السلاح ، وسعيها الى شق صفوف هذه القوى باستغلال التناقضات بينها ، بل ومحاولتها تصفية القوى الشعبية المسلحة باغراء كل من يسلم سلاحه بأن يتسلم قرضا حكومياً طويل المدى ... نقول أن كل هذه المحاولات لم تجد فى تصفية جيش الشعب الجديد ، وإن كانت قد أثرت على فعاليته بشكل مؤقت حيث راود البعض وهم امكانية التعاون مع النظام الجديد وإحتمال استجابته للمطالب الشعبية خاصة الفلاحية ، فشهد ارتداد وانسحاب عدد قليل من قادته وانفصال بعض الوحدات عنه . أصدرت كورى أكينو دستورا جديد فى فبراير 1987 وقانونا للإصلاح الزراعى عوض كبار ملاك الأرض بمبالع طائلة ولم يسهم فى حل المسألة الزراعية ، وبدا أن هذه المحاولات الإصلاحية غير مجدية أمام التدهور اليومى المتزايد للأوضاع الاقتصادية . وكان من المحتم أن يكشف النظام الجديد عن وجهة وأن تسقط هذه ( الهالة الملائكية ) ، مع أول مواجهة حقيقية . وهكذا لم يتورع النظام الجديد فى مايو 1987 على أن يطلق النار على آلاف الفلاحين الذين أتوا من المقاطعات الريفية الى العاصمة مانيلا متوجهين الى مقر الرئاسة ليعلنوا احتجاجهم على قانون الاصلاح الزراعى الجديد وهى المذبحة التى عرفت باسم مذبحة فلاحى منديولا . كما شرع النظام فى خلق ميليشيات على الطراز الفاشى فى المقاطعات من المرتزقة المأجورين والتى عرفت باسم (الفيجلانته ) وذلك لمواجهة الاحتجاجات الفلاحية .

لقد كان من المنطقى بعد أن أسهمت الكنيسة الرسمية بدور فيما أسمى بثورة فبراير أن تسعى لاستعادة الرهبان الذين انضموا الى جيش الشعب الجديد وأن تحاول على حد تعبير بعض ممثليها أن تخلق ( لاهوت تحرر فلبينى متميز وبعيد عن النفوذ الماركسى ) . وهكذا ظهرت تيارات عديدة تحت راية لاهوت التحرر ذاته ، وعكست مصالح قوى اجتماعية متباينة تتراوح بين أقصى اليمين الى أقصى اليسار . لقد حاول رجال الكنيسة من ممثلى الرأسمالية الفليبنية أن يوظفوا ( لاهوت التحرر) لخدمة مصالح الطبقة الحاكمة وحاول بعض الرهبان الراديكاليين أن يوظفوه لخدمة الجماهير المسحوقة بطرح المطالب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى تتوافق مع مصالحها .

ومن بين هذه التيارات العديدة ظهر تيار تحت تأثير المفكر الكنسى الأسبانى هوسية ميراندا ، وقد عبر عن أفكارة الأساسية فى كتاب أسماه ( الشيوعية فى الانجيل ) الذى وصفة باعتبارة ( مانفستو انجيلى ) موجه الى فقراء العالم . وينطلق الكاتب من أنه شيوعى مسيحى ، وأن أحد ( فضائح العمر ) أن يعلن المسيحى أنه معاد للشيوعية حيث ( لم يأت أحد بتعريف للشيوعية أفضل مما فعل لوقا فى أعمال الرسل ) ولكن المؤسسة الكنسية الرسمية قد أخضعت رعاياها لغسيل مخ منتظم وروجت لتناقض الشيوعية والمسيحية ، وأن العالم الغربى قد ناضل ضد المشروع المسيحى كما لو كان أعدى أعداءه ، وأن الماركسيين قد أسدوا معروفا حين روجوا للشيوعية حال غياب المسحيين . ورفض الكاتب فكرة مطابقة الشيوعية للماركسية وبين أن هذا الادعاء يتضمن جهلاً بالتاريخ ، وأن المؤسسه الكنسية التى تزعم أنها تناضل ضد الالحاد المادى تساند فى الواقع مصالح الأقوياء لأن النضال القمعى يعود الى وقت سابق امتد عبر قرون حين لم يكن هناك شيوعى ماديا أو ملحداً بعد .

وأعتبر أن البابا لا يحارب الالحاد وأنما يحارب المسيحيين الذين يريدون أن يجعلوا الأنجيل حقيقة وانتهى الكاتب الى طرح السؤال التالى : ( كيف نستطيع أن نعطى الطعام للجائع اذا كانت وسائل الانتاج مملوكة ملكية خاصة وتوظف لصالح ما لكيها ؟ ( لابد من اقامة مملكة العدل هنا على الأرض ).

لقد اتهم هذا التيار الذى يمثلة هوسية ميراندا من قبل الكنيسة الرسمية بأنه مادى وملحد وأنه يروج لموضة جديدة ، فضلا عن افتقارة للنزعة الروحية واهتمامة بالبشر اكثر من اهتمامة بالله ، وبالهياكل الاجتماعية أكثر من الأشخاص ، واذا كان الرسول لوقا قد جعل شرطا لدخول عصبة المؤمنين أن يبيعوا ممتلكاتهم وأن يوزع عائدها على المحتاجين فان هذا يمثل وجهة نظر شخصية ، وأن ذلك لم يكن عملا الزاميا واجبارياً ، وأن هذه الواقعة لم ترد فى الأناجيل الأخرى ، وأنه فى كل الأحوال فان شيوعة المسيحيين الأوائل قد فشلت .

مهما يكن من شئ فقد استمرذلك التيار الراديكالى الذى مثله الرهبان والقسس الذين انضموا لحركة الكفاح المسلح التى يقودها جش الشعب الجديد وهم قد عبروا عن أكثر المطالب الجماهيرية جذرية سواء على صعيد رفض العلاقة بالامبريالية الأمريكية وانهاء القواعد العسكرية التابعة لها ، أو أجراء اصلاح زراعى جذرى ، واطلاق الحريات الديمقراطية واقامة استقلال الاقتصادى حقيقى .

فماهى الجذور الاقتصادية والسياسية التى أدت لبروز ظاهرة رجال الدين الثوريين ؟

كمدخل منهجى الى هذه القضية يمكن القول بأنه ما من حركة دينية اجتماعية يمكن وصفها مبدئيا بأنها ظاهرة ثورية أو رجعية بشكل مطلق ، فهى تكتسب مضمونها الواقعى من الأوضاع الاقتصادية – والاجتماعية خارجها ، انها مشروطه تاريخيا بكونها تقع فى زمان معين ، ومكان معين ، وان ارتدت رموزها قوالب المقولات الدينية .

التنظير الدينى يصبح صياغة لاهوتية الى هذا الحد أو ذاك من المباشرة أو عدم المباشرة لمصالح دنيوية أرضية . وهذا النسق المفهومى فى حالات معينة هو النسق الذى يمكن من خلاله ، بحكم الميراث والتقليد والنمط السائد من الوعى – خاصة فى بعض مجتمعات العالم الثالث – أن يكون اللغة التى يمكن لطبقات أو فئات اجتماعية أن تستشعرها ، أن تفهمها ، وأن تجسد فيها أمانيها وأحلامها فى التحرر ، سواء اتخذ هذا التحرر مسالك وهمية أم واقعية . وبنفس القدر يمكن لهذا التنظير الدينى ذاته ومع استعمال ذات النسق المفهومى الجامع ، ولكن انطلاقا من مقولات أخرى مختلفة ، أن يكون تكريسا لواقع وتأبيدا له ، ومحاولة لابقاءه مغلولا فى القيود ، مغرقا فى الماضى، ومحجوزا عن المستقبل .

وفى مفترق الطرق بين التحويل الجذرى للواقع وبين تأبيده تبرز مختلف التلاوين والتنويعات لتقترب حسب عدد من العوامل ترجع للظروف المحيطة ، من هذا القطب أو ذاك .

هكذا يشهد العالم الراهن حركات دينية تمتد من الغرب الرأسمالى الى الشرق مرورا بالعالم الثالث ، وهى تكتسب خصائصها من واقع البلدان التى ظهرت فيها . الا أن ما يميز بعض الحركات الدينية فى العالم الثالث هو توجهاتها الاجتماعية والسياسية المتقدمة ، ومواقفها من قضايا الديكتاتورية السياسية ، والتمايز الطبقى ، والتبعية للقوى الاستعمارية الجديدة .

الرهبان فى مطاردة قومية



والى هذا النمط الأخير من الحركات الدينية ينتمى هؤلاء الرهبان والراهبات الذين هجروا صفوف الكنيسة فى الفليبين – الدولة الأسيوية الوحيدة ذات الأغلبية الكاثوليكية – وتركوا أبرشياتهم ، وأنطلقوا فى الغابات والجبال لاليقوموا بالتبشير المسيحى ، وانما ليقدموا نماذج لتطبيق ( العدل الاجتماعى ) فى بعض القرى التى يسيطرون عليها وليقاتلوا ضد الديكتاتورية البوليسية والوجود الأجنبى .

لم يكن من الغريب اذن أن يعلن أعمدة النظام عن البدء فى اجراء حملة ( مطاردة قومية ) للرهبان والراهبات المنضمين للمقاتلين من رجال العصابات وأن تخصص مكافآت ضخمة لمن يتمكن من اعتقالهم .

ويبدو أن تصاعد الحمية للقيام بهذه ( المطاردة القومية ) يرتبط بصفة خاصة بالقلق الذى تبديه الولايات المتحدة نحو تنامى حرب العصابات التى يخوضها جيش الشعب الجديد ، وتهديده للقواعد الأمريكية ، والشركات متعددة القومية فى الأرخبيل الفلبينى . وبصفة أخص لأن هذه العصابات المقاتلة – فيما يقال – كانت خاضعة لتأثيرات الماركسية الصينية – والفكر الماوى ، بما كان يمكن أن يؤدى فى المدى البعيد لقلب موازين القوى فى غير صالح التواجد الأمريكى سياسيا وعسكريا واقتصاديا فى منطقة جنوب شرق أسيا .

لقد كان لنضال جيش الشعب الجديد أثره العميق على رجال الاكليروس ذوى النفوذ فى المقاطعات والقرى الريفية حيث اعتاد رجال الكهنوت على اختلاف مراتبهم أن يقوموا تاريخيا ومنذ الغزو الأسبانى فى القرن السادس عشر بدور مؤثر فى الحياة السياسية والاجتماعية ، يتغلغل حتى أصغر وحدة ادارية قروية : الباريو .

ولا شك أن من أعمق أسباب القلق الذى تبديه الدوائر الحكومية الاستعمارية مرجعة تزايد عدد الرهبان المنضمين لرجال العصابات الماويين ، خاصة وأن بعضهم قد تحول الى قادة بارزين ، يحملون الانجيل فى يد والبندقية فى اليد الأخرى، مثل الأب كونرادو بالويج وزاكرياس أجاتب . وقد أستطاع الأخيران أن يلهما الجماهير الفلاحية والعمالية المؤمنة – مازالت – بالمذهب الكاثوليكى .

الثورة ...... والأنموذج

منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن ، أى فى منتصف الستينات من القرن الماضى ، برز اتجاه فى الفكر الفرنسي المسيحى ، عبر عنه الفيلسوف الفرنسى ايمانويل مونيه ، هذا الاتجاة رفض ادانة الفكر اليسارى من وجهة نظر مسيحية ، ونادى بفتح حوار بين الماركسيين والمسيحيين ، وتنبأ بفشل الأحزاب الديمقراطية المسيحية الأوروبية لانها : ( عاجزة عن ادراك السمة الاجتماعية للمسيحية ) وجوهر الرأى الذى يقول به ( مونيه ) ( هو نشدان، التقدم نحو ملكوت الله من خلال المساهمة فى كفاح أفضل أبناءه : الفقراء والجوعى والمسحوقين ) ، وهو يرى أن التزاما كهذا لا يكون ممكنا الا بواسطة تجسيد مسئولية الانسان الاجتماعية ازاء أخية الانسان ، أى بواسطة الاشتراكية . وقد أكد هذا الاتجاة ضروة الثورة باعتبارها الوسيلة الفعالة الوحيدة لتحقيق العالم الأخوى الذى بشرت به المسيحية .

وتردد صدى المفاهيم السابقة فى أمريكا اللاتينية حتى رأينا بعض الرهبان يخاطبون أبناء كنيستهم – فى البرازيل – قائلين : ( أنكم تربون عنزة لتعطوا حليبها لصغاركم ، واذا اقدم المالك على قتل عنزتكم فانه يهدد حياة صغاركم ، فلا تتركوه يقتل عنزتكم ، اقتلوه أولاً ) .

وجدير بالذكر أن الأدب السياسي الأمريكى اللاتينى يحظى بالإنتشار فى أوساط قوى المعارضة السياسية الراديكالية فى الفليبين ، بحكم مواريث الاحتلال الأسبانى المشتركة ، ولتماثل مراحل التطور الاجتماعى ، وللطابع المشترك فى بعض القضايا ، وأهمها بالطبع قضايا الاستقلال الاقتصادى والتبعية للإستعمار الجديد ، والفوارق الطبقية الفادحة ، والديكتاتورية السياسية ، وأخيراً لأن هناك ظاهرة عامة تتمثل فى أن الاكليروس الكاثوليكى على الصعيد العالمى حريص على متابعة تطورات النضال الاجتماعى التى يخوضها الكادحون ، وان كان هذا الاهتمام ينحصر فى الأغلب فى اطار تقديم المعونة والمساعدة للطبقات الفقيرة ، الا أنه تجاوز فى بعض الأحيان نزعات الاحسان الخيرية لترقى أقلية ثورية من رهبان وقسس الكنيسة الكاثوليكية الى مستوى التوجه لممارسة الكفاح المسلح . وقد بات هذا التوجه معبرا عن ( تيار عميق متزايد القوة ، يتطور الى الأمام على الرغم من المعارضة ، ويدل بوجه عام على نضج الأزمة الثورية ).

ومصداقية ذلك أيضاً أن أعمال رجال الدين الكولومبى الراحل كاميللو توريزتلقى رواجا واسعاً فى أوساط الكهنة فى الفليبين . وقد كان الأخير واحداً من قادة المعارضة الثورية التحق بالعصابات المسلحة واستشهد فى فبراير 1966 . ان توريز هو نموذج يحتذى من قبل الرهبان المنخرطين فى العملية الثورية ، سواء فى مواقفة النظرية أو ممارساته العملية .

وقد كان الدافع الذى حدا بتوريز الى الالتحاق بجيش التحرير الوطنى ذى الميول الكاستروية هو ادراكه لاستحالة حدوث أى تغيير راديكالى فى الاطار الشرعى ، وغياب أى بدائل ممكنة عدا الكفاح المسلح . كما أنه كان يرى أن تغيير النظام الاجتماعى يتطلب اتحاد وتضافر جميع القوى الراغبة فيه والداعية اليه دون أى استشناء يفترض نمطا من الوحدة العقائدية والأيديولوجية أيا كانت .

لقد كان توريز يعطى معنى خاصا لما سبق وأن أعلنه البابا يوحنا الثالث والعشرون فى رسالة ( السلام على الأرض ) من أنه لا يعتبر أن ( النظريات الفلسفية ،، الخاطئة ،، عن الطبيعة وأصل مآل الانسان والعالم شيئاً واحداً مع الحركات التاريخية المؤسة لهدف اقتصادى ، واجتماعى ، وثقافى وسياسى ) وهو يتقبل هذه الحركات ويرى عناصر ايجابية جديرة بالتأييد بقدر ما تتوافق مع العقل السليم وتبحث عن ( التطلعات المشروعة للشخصية الانسانية ) .

وطبق توريز من جانبة المبدأ السالف تطبيقا دقيقاً ، فتحقيق الثورة يستلزمه ويفترضه.

ولهذا كانت الثورة من وجهة نظرة هى تحقيق لفعل ( المحبة ) فى الحياة الدنيوية اقتصاديا واجتماعياً عبر النضال ضد كافة اشكال الطغيان . ولهذا – على حد تعبيره – ليست الثورة مسموحا بها بل انها الزامية بالنسبة للمسحيين الذين يرون فيها الوسيلة الفعالة الوحيدة لتحقيق محبة الجميع– على حد تعبيره .

ان الدوافع الى حدت بالكاهن الكولومبى للإنضمام الى صفوف العصابات بغض النظر عن توجهاتها الايديولوجية والتى مازالت تحدوا عديدا من الرهبان فى امريكا اللاتينية الى الالتحاق بصفوف الثوار ، هى ذات الدوافع التى حدت بالأب كونرادو بالويج الى الالتحاق بصفوف جيش الشعب الجديد ، وهو على كل حال ليس بالمثال الوحيد .

لقد رفض بالويج أن يقتصر على ممارسة الطقوس الاحتفالية للكنيسة ، وآثر أن ينضم لصفوف جيش الشعب الجديد ، مختاراً أن يمارس رؤيا مسيحية اجتماعية . ومهما يكن من شئ فان بعض رجال الدين المسيحيين قد لعبوا فى هذا الجزء من العالم ، دورا تاريخيا قوميا كان أداة الوصل بين ماضى البلاد وحاضرها . فكيف بدأ هذا الدور ؟

الجذور ...... تعميد بالدم

تبدأ القصة فى فبراير 1872 عندما اتهم ثلاثة من رجال الاكليروس الفليبينى من قبل السلطات الأسبانية بأنهم خططوا وشاركوا مع بعض رجال البحرية فى مقاطعة ( كافيته) للإستيلاء على قلعة سان فيليب ، وقتل حاكمها الأسبانى ، فتم اعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة حيث أدينوا بتهمة الخيانة العظمى ، ومن ثم تم الحكم عليهم بالاعدام وكان الكهنة الثلاثة ينتمون الى الاكليروس المحلى . وربما يبدو غريبا، ولكنها حقيقة واقعة أن الاكليروس الفليبينى المعاصر مازال يحتضن ذكرى هؤلاء الكهنة الثلاث : هوسية برجس ، ماريانو جوميز ، ، هاكينتو زامورا . ومهما يكن من شئ ، فقد كان هؤلاء هم ( مثقفوا العصر ) ، فقد بقى التعليم فى ظل الحكم الأسبانى معدوما ، ان لم يكن محدودا فى حالات معينة وفى فترات متأخرة . وكان التعليم السائد هو التعليم الدينى خاصة للاهالى وفضلا عن أن هذا النمط كان خاضعا للتوجية السياسي من قبل السلطات الأسبانية ، من أجل مواطن مٌستَعمَر متكيف مع أوضاع الاحتلال ، فان المناهج قد خضعت لرقابة صارمة على الأفكار ، نقول فضلا عن ذلك كان الكاهن من أبناء البلاد فى مرتبة أقل من رجال الاكليروس الاسبانى الأصل .كانت الملكية الأسبانية ، ورجال الدين الاسبان الذين سيطروا على كافة مظاهر الحياة فى البلاد ، - وكانوا أقوى بنفوذهم المباشر من أية سلطة سياسية – يخشون من ظهورسلك كهنوتى من أهل البلاد الأصليين ، له مواقف معادية للدولة الأم ، قد ينزع الى الاستقلال بالبلاد .

كان الكهنة الثلاثة اذن – الذين ينتمون الى الاكليروس المحلى – قد حاولوا ان يجدوا مواضع لأقدامهم فى ظل السيطرة الأسبانبة ، وعبروا عن العداوة الحادة بين كل من الكهنة الأسبان والكهنة المحليين وكان الأخيرون يتهمون الأولون باهمال واجباتهم الكهنوتية ، وبمراكمة ثرواتهم العقارية ، وبالمقابل كان الأسبان يعاملونهم باحتقار عنصرى صامت فى معظم الأحيان ، وصاخب فى بعضها.

لقد كانت جذور العداوة ذات طابع قومى ، فالهوية القومية لم يكن ليعيها أو يدركها الاهؤلاء ( المثقفين الدينيين ) وقد تمثلت وأتخذت فى البداية شكل مطلب مساواة الاكليروس المحلى بالأسبانى الذى رأى فيهم جنسا منحطاً . وظهر مطلب المساوة بالمحتل كأول بادرة من بوادر الوعى القومى ، ولم يكن ممكنا الا رفض هذا المطلب الذى رأت فيه المراتب العليا للكنيسة خطرا يؤدى لوقوع ( الادارة الروحية ) فى يد الاكليروس المحلى ( الشئ الذى لا يمكن وصفة بالحكمة السياسية ) . على حد تعبير أحد الأساقفة الأسبان ، والذى يتنافى مع وضع أسبانيا كقوة مسيطرة .

لقد أدى القهر القومى اذن أن يكون الكهنة المحليون أول من ينادى بالاستقلال . وكان برجس أشد من هاجم النزعة العنصرية ، وطرح مطلب المساواة .

وفى17 فبراير 1872 وبعد قراءة الحكم على كل من برجس ، وجوميز ، وزامورا ، من قبل المحكمة العسكرية فى قلعة سانتياجو ، تم تنفيذ حكم الاعدام ، وقد احتشد ما يقرب من أربعين ألفا من مواطنيهم جاءوا من مقطاعات بعيدة مثل بولاكان ، بامبانجا ، ولاجونا .

ان مهابة جوميز وهو يبارك الأهالى أثناء صعودة الى المقصلة ، ومشهد الناس وقد جثوا عند أقدامه وهم يصلون ، قد بقى عميقا فى الذاكرة . وشكل أحد الوقائع الأساسية التى أسهمت فى تشكيل وبلورة الوعى القومى .

الكهنة والثورة



حين تفجرت الثورة فى عام 1896 ضد الاحتلال الأسبانى فى الفليبين انخرط عدد من الرهبان فى صفوف العصابا المقاتلة ، منهم الأب دندان ـ والأب دلاكروز ، اللذان هربا الى الجبال وألتحقا بالثوار . وقد علق جنرال أسبانى على ذلك قائلاً: ,, طالما يشارك الأب دندان فى هذه الانتفاضة فلن يكن سهلا أو ممكنا أن يطلب القادة الثوريون العفو بسبب وجوده معهم . كما ظهر فى صفوف الثوار قادة راديكاليون علمانيون كان لهم رغم علمانيتهم أثر بارز على رجال الكهنوت .

كان الجنرال ما بينى أحد أصلب قادة الثورة ضد السيطرة الأسبانية ثم فيما بعد كان من الرعيل الأول الذى قاتل ضد السيطرة الأمريكية وكانت له اراءه المميزة فيما يتعلق بالدين . فقد كان يرى ، أن صالح الديانة الكاثوليكية ، يتطلب تغييراً جذريا فى مواقف الكهنة والقسس الذين يديرون الأبرشيات ، ورغم تصريحاته بأن هناك استثناءات شريفة ، الا أن معظمهم – أى الكهنة والقسس (لا يفكر فى رعيته الا وقت جمع العشور وأن معظم رجال الدين يفضلون الجدال بالعصا أو بالسوط ليؤكدوا رهبة الديانة الكاثوليكية ) .

وتأثر بأراء ما بينى كبير الأساقفة جريجوريو أجليباى ، وسرعان ما انضم الاخير الى القوات المقاتلة ، وبرزكقائد حرب عصابات فى شمال لوزون ، ولكن نجح نائب البابا فى الفليبين فى أن يحرض بابا روما عليه – أى على أجليباى – فقام بعزله من منصبه . ولكن الاكليروس الفلبينى عامل القرار وكأنه لم يكن ، وسعى أجليباى الى خلق كنيسة قومية تدعم روح النضال القومى ، وواصل كفاحه فيما بعد ضد الاحتلال الأمريكى .

وقد كان للكنيسة التى أسسها أجليباى طابع فريد ومميز . فقد كان ( قديسها ) البطل القومى هوسية ريزال الذى أعدم من السلطات الأسبانية بتهمة التآمر وكذلك القسس الثلاثة الذين أعدموا بنفس التهمة . وكانت فنونها الكنسية تصور مريم العذراء ترتدى زى المرأة الفليبينية فى المقاطعات الريفية وقد كتب تحتها : ( يا الله نتوسل اليك أن تمنحنا الحرية ) وفى كنائسهم كانت الأيقونات الملونة والتماثيل الصغيرة تحمل رؤوس الأبطال والمناضلين الفلبينين يحيطون صور المسيح كما كتبوا على مذبح الكنيسة : ( العلم والانجيل والحب والحرية ) .

وفى مواعظة وخطبة وكتاباته استبعد أجليباى تماما مااعتبره المعجزات والأساطير الواردة فى الانجيل واعتبرها نتاجا للخيال الشعبى . وقد حدد هدف الكنيسة ( الأجليبايية ) بأنه : ( اعادة تأسيس الهوية الانسانية الجوهرية لعيسى فى التاريخ بلا خداع أو تزييف وبدون مرشد سوى المنطق والحقيقة ) كما أضاف ( ان يسوع الذى يقدرونه هو شخص تاريخى قاد ثورة ضد القياصرة الرومان ، ضد الأغنياء المتكبرين لصالح الفقراء المتواضعين . وأن أتباع يسوع كانوا ( أول المسيحيين وأول الشيوعيين والثوريين ) وقد علق أحد مندوبى الكومنترن الى الفلبين آنذاك وهو جيمس . اس ألن فى كتابه : ( اليسار الراديكالى عشيه الحرب ) قائلا: ( يعلم الأجليباييون ديانة فريدة ، عقلانية ، قومية ، راديكالية ) . وقد أهدى الأخير مجموعة من الكتابات الماركسية الى جريجوريو أجليباى فعلق على بعضها بعد قراءتها قائلاً :( ان الكتاب الأول الذى قرأته قد أكد تماما قناعاتى عن الشيوعية وأن خلاص الانسانية بين يديها . لقد أعنت دائما أننا يجب أن نركز جهودنا على أن نجعل عالمنا أفضل دون تضييع شئ فى أوهام خاوية حول ما بعد هذه الحياة . ويدهشنى للغاية أن لينين وماركس وستالين وأصدقاء البروليتاريا الحقيقيين متفقين جميعا معى فى ذلك )

ولم يكن الأب أجليباى مثالا مفرد ، بل تعددت الحالات التى ظهرت فيها توجهات راديكالية دينية على الصعيد العملى ، حيث هجر كثير من الكهنة أبرشياتهم والتحقوا بالعصابات فى الجبال .

ويمكن القول بأن العناصر الفقيرة من الكهنة قد لعبت دورا فى استمرراية الوعى القومى للشعب الفليبينى خاصة قطاعه الفلاحى .

السوبريمو والديانة الشعبية

فى أحد أيام الأحاد فى مايو 1967 استيقظ سكان مانيلا ليجدوا انتفاضة غريبة فى وسطهم . فقد اندلع قتال الشوارع بعد منتصف الليل على طول احدى الطرق الرئيسية بين الشرطة ومئات الأتباع لجمعية دينية سياسية تسمى لابيانج مالايا ( حزب الحرية ) ، وكانوا مسلحين بسكاكين البولوالطويلة الحادة وبالتعاويذ السحرية . وكان زعيم هذه الجماعة فالنتين دى لوس سانتوس قد لخص أهدافها فى اقامة العدالة الحقيقية ، والمساواة الحقيقية ، والحرية الحقيقية فى البلاد . وطالب فى نفس الوقت باستقالة الرئيس ماركوس لأنه ضليع مع القوى الأجنبية المعادية للبلاد .

كيفما كان الأمر فان ما يهمنا هنا هو أن ( حزب الحرية ) يشبة كثيرا الأخويات الفلاحية التى ظهرت فى أواخر القرن 19 وأوائل القرن الماضى ، فالأزياء الملونة والرموز المثلثة ، وخاصة فكرة ( الأخوية ) التى يترأسها ( سوبريمو) أى زعيم ، نابعة من فكرة الأخوية التى شكلها أحد أبطال النضال القومى ضد أسبانيا ثم ضد الولايات المتحدة : أندرياس بونيفاشيو .

لقد شهدت فترة الثورة ضد أسبانيا ثم الاحتلال الأمريكى ظهور عدد كبير من الحركات الشعبية فى منطقة لوزون شمال الفلبين بعضها قادة المهديون المحليون ، وبعضها قادة قطاع الطرق الذين عبروا عن الطبقات الريفية المضطهدة ، وأحلامها فى الغاء الضرائب واصلاح نظام حيازة الأرض ، وتطلعوا لاستعادة تناغم القرية فى ظل مشاعيتها القديمة .

وقد لوحظ فى هذه الحركات البدائية أنماطا معينة من المفاهيم والسلوك ، اعتبرها البعض متعصبة ، وغير عقلانية ، بل وحتى اقطاعية ، وان كان يمكن تفسيرها كمحاولات فلاحية لاعادة بناء العالم وفق نماذج اجتماعية مثالية يتحدد محتواها بتناقضها مع السيطرة الأجنبية والاقطاع المحلى .

وبينما اعتقد بعض الكاثوليك ليس فقط ممن ينتمون للمتروبول الأسبانى ، بل أيضا من أهالى البلاد أنهم ينبغى أن يقفوا ضد فكرة الثورة كلية باعتبارها مؤامرة ماسونية لتدمير الايمان الكاثوليكى الذى تم الحفاظ عليه بفضل التبشير ، والبعثات التبشيرية الاسبانية ، فان معظم الفلاحين قد انخرط فى الجمعيات السرية الدينية التى نشأت خارج الأطر الكنسية ، بل وضد ارادتها ، وأضفت رؤاها الخاصة على المسيحية . وظهرت أولى المحاولات لاستخلاص بعض المفاهيم من الانجيل والآم السيد المسيح.

ويرى باحث فلبينى معاصر أن فكرة الآم المسيح قد لعبت دوراً خاصا ، فهى قد أمدت الطبقات الفلاحية والحرفية بلغة صارت أداة لتشكيل قيمها ومثلها وحتى آمالها فى التحرر ، وأنها برزت بصفة أساسية باعتبارها مرآة للوعى الجماعى . ويضيف ان طقوس أسبوع الالام المقدس توحى بامكانية انفصال المرء عن عائلته تحت ظروف معينة ، كما أنها تكرس مفهوما مفاده أن الوضع الاجتماعى المؤسس على الثروة والتعليم ليست لهما قيمة حقيقية ، ومغزى الفكرة النظرى والعملى نابع من أنها تجرد المجتمع الخاضع للاحتلال الأسبانى آنذاك من أدواته فى التصنيف والتقييم الاجتماعي . أضف الى ذلك أن الفلاحين قد طابقوا بين مضطهدى المسيح من الفريسيين وبين الأثرياء او المتعلمين والرؤساء المحليين فى قراهم ومقاطعاتهم ولم يكن لتلك المطابقة أن تفشل فى أن يكون لها انعكاسات جذرية على الحياة الفعلية .

لقد كانت تلك اللغة الانجيلية هى اللغة الوحيدة فى مجتمع القرون الوسطى ، مجتمع يفتقد لقنوات اخرى للاحتجاج على عسف الحاكمين بحكم درجة التطور التاريخى ، وكانت طقوس الالام هى الاطار الفكرى والشعورى الذى نفست به تلك الطبقات الاجتماعية المقهورة عن غضبها تجاة كافة مظاهر السيطرة الأسبانية ، سياسية أم دينية .

وهناك نص من النصوص الدينية التى كانت ترتل فى أسبوع الآلام تبين كيف ينظر هؤلاء الفلاحين الفقراء للمسيح .

يقول النص : -

نحن نعرف أيضاً

المدينة التى آتى منها

انه من الجليل

فقير وعامى

يحتمى بسقف الآخرين

فضلا عن

أن أبوه نجار بسيط فقط

عاطل عن الشهرة

والثروة

يحيا فى فقر ولا يملك شيئا

سلوكه وشخصيته

ولكنك تسأل

هل يمكن أن يدعى

أنه سيد ذو مكانة

لا على الاطلاق لا

واذا كانت طقوس الآلام تعنى المشاركة فى معاناة والآم صلب المسيح ، فقد جعل الفلاحون المسيح يشاركهم معاناتهم الاجتماعية . وكرد فعل لاهمال السلطات المزمن ، وعلى الضرائب الباهظة وأعمال السخرة ، وعلى الدين المفروض من قبل السلطات الأسبانية الذى يروج لقبول الأشياء كما هى باعتبارها من قدر الله ، تمكن الفلاحون من أن يستنبطوا سلاحا من معاناة المسيح ضد قاهريهم .

وهكذا لعبت تلك المفاهيم الدينية الشعبية دورا خطير فى التهيئة والاعداد لكثير من الانتفاضات الفلاحية بعيدا عن النفوذ الرسمى للكنيسة ، بدأت بانتفاضة عام 1841 بقيادة السوبريمو أبوليناريو دى لاكروز ، فأسس جمعيته السرية التى قادت هبة مسلحة انطلقت من الجبال ، واستبعدت من عضويتها الأسبان أو المولدون . وبعد أن تم أغراق الانتفاضة بالدم بعد الاستيلاء على الحصون التى أقامها الثوار على الهضاب الغربية من جبل سان كريستوبال ، واعتقال دى لاكروز الذى أظهر عظمة للروح غير عادية أثناء اعدامه حيث قابل الموت بنفس الشجاعة التى واجه بها الحياة ... نقول بعد ذلك لم تقر الطبقات الفلاحية بالهزيمة وأعتقدت بأن دى لاكروز هو ( المهدى المنتظر) وسوف يعود لقيادتها مرة أخرى منتقما من مضطهديهم . ورغم الطابع المثالى للفكرة ، فانها فى الواقع قد عكست رفض الهزيمة ، وكانت بمعنى من المعانى خميرة لتهيئة انتفاضة جديدة . بل أن الخيال الفلاحى قد خلق بطلا أسطوريا – لا وجود له – اسمه برناردو كاربيو ، وهذا البطل مغلول فى كهوف أحد جبال تابوس وفى اليوم الذى يطلق فيه سراحه ، سوف يعود لتحرير شعبة ، هكذا تقول الأسطورة .

ان ذلك الدين الشعبى ، مايزال يسهم فى تشكيل وعى الفلاحين حتى الوقت الحاضر ، رغم التطور الاجتماعى الذى جرى فى الفليبين خلال المائتى عام الأخيرة .

طريق الانتفاض

لقد بدأت الانتفاضات المعاصرة فى الفليبين ضد السيطرة الأسبانية عام 1896، وقد قادت هذه الانتفاضة المعروفة تاريخيا بالثورة الفليبنية ، جمعية سرية تسمى الكاتيبونان ( الجمعية الأعلى والأكثر شرفا لابناء البلاد ) . وقد انطلقت شرارة الثورة من ضواحى مانيلا وانتشرت بسرعة فى ريف وسط وجنوب لوزون . وقد كان لهذه الجمعية تصوراتها الخاصة التى طبعت بطابعها الجمعيات التى أتت بعدها . فهى على عكس بعض الاتجاهات السياسية التى ظهرت لم تطالب بالتمثيل السياسى فى البرلمان الاسبانى مع بعض الاصلاحات الخاصة بالتعليم أوغيرها ، وانما نادت بالانفصال التام الكامل عن الدولة الأسبانية ، وقد تأثر قادة الثورة بالفكر التنويرى الفرنسى , وبعض الأفكار الاشتراكية الطوباوية . وقد أعتبرت السلطات الأسبانية هذه الجمعية ذات أفكار هرطقية، لأنها أصرت أن تستبدل الرسوم التى تصور العذراء مريم فى نموذجها الكاثوليكى الغربى ، بشكل يجعلها ترتدى الزى الوطنى للمرأة الفليبينية ، ( البالينتاواك ) ، فضلا عن اعلانها أن المسيح لم يكن جابيا للضرائب ولم تكن لديه مخازن ذهب أو فضة ....... كما أنه لم يمارس حق اعتقال أو نفى أو اضطهاد أحد . لقد اعتبر الكهنة الأسبان هذه الثورة معادية للنظام فضلا عن الكنيسة ، فهى قد شجعت الفلاحين الفقراء على ترك حقولهم ، والخدم على هجر بيوت سادتهم على حد تعبير أحد أباء الكنيسة .

واذ كانت هناك قوى اجتماعية ذات مصالح متباينة أسهمت فى الثورة فقد كان من المنطقى أن يظهر هذا التباين فى مواقفها . وأن تنشق هذه القوى فى المنعطفات الحاسمة ، بصدد القضايا الأساسية . واذا كانت الثورة قد بدأت بتوجهات جذرية ضد السيطرة الأسبانية ثم الاحتلال الأمريكى مستندة الى قاعدة فلاحية عريضة والى حرفيي المدن فسرعان ما استولت على قيادتها ( البرنسيباليا) – أى الطبقة الرأسمالية الوليدة – ومتعلميها ( الالسترادو) وقد كانت هذه الطبقة الاجتماعية فى طور التكوين ، أضف الى ذلك أنه لم تكن قد تبلورت بعد طبقة عاملة تأخذ بأسباب التنظيم الاقتصادى والسياسي التى عرفهما العالم الأوروبى ،لتشكل قوة لها نفوذها السياسي .

وقد عبرت احدى روايات هوسية ريزال عن هذا التوجه ، ففى رواية ( لا تمسنى ) يقول أحد أبطالها معبراً عن حدود وأفاق الفكر الاجتماعى ( للبرنسيباليا ) :

(... لن أصبح أبدا قائدا للشعب..... مستعملا القوة لأحصل على ما تنكره الحكومة علينا ، لان الوقت لم يحن بعد . واذا رأيت الشعب يحمل السلاح فاننى سأتخذ جانب الحكومة وسوف أعارضة لأننى لا أستطيع أن أرى بلادى فى خضم الاضطرابات التى يخلقها الشعب...) .

لقد خشيت هذه الطبقة الاجتماعية الوليدة الحركة الفلاحية التى ولدها ( الكاتيبونان ) بعنفها وجذريتها وخاصة بنزعتها نحو المساواة والعدالة الاجتماعية . وهكذا سلمت هذه الطبقة سلاحها ، وهادنت الاحتلال الأمريكى الجديد ، ولكن الثورة لم تتوقف . وفى مواجهة حكومة مالولوس المتواطئة مع الاستعماريين الجدد التى شكلتها البرنسيباليا . ظهرت حكومة فى مقاطة كاتالوجان ، وأعلنت الجمهورية فى شمال كل المنطقة التى تغطى جنوب جبال لوزون . وكانت أيديولوجية الجمهورية الوليدة هى ذات أيديولوجية الكاتيبونان ، ونص دستورالجمهورية الوليدة على أنه : -

( لن يحق لأى فلبينى ولد فى هذا الأرخبيل ..... أن يكون فوق الأخرين فهم جميعا متساوون ، ويجب أن يكون شعورهم واحد ، ربما كان هناك اختلاف فى التعليم أو الثورة أو المظهر ولكن ليس فى الطبيعة الجوهرية والقدرة على خدمة القضية .



المطاريد أو الريمونتادوس

ترأس ساكاى جمهورية كاتاجالوجان الوليدة بدءا من عام 1902 ، وهى الجمهورية التى مثلت نمطا متعارضا مع حكومة مالولوس . فبينما ألقت الأخيرة السلاح أمام احتلال الولايات المتحدة الأمريكية ، فان الأولى قد واصلت ثورتها مكتسبة أتباعاً جددا لحكمها .

وهكذا انضم اليها ( الريمونتادوس ) أى المطاريد الذين هجروا المراكز الحضرية وأووا الى الجبال والغابات ، اما رفضا لقبول المسيحية – وهى ظاهرة بدأت فى مرحلة مبكرة من الحكم الأسبانى – أو تجنبا لدفع الجزية ، أو رفضا للسخرة من قبل السلطات الاقطاعية وحكامها العسكريين .

وحلمت الجمهورية الوليدة بمجتمع الاستقلال الجديد بعد دحر الغزاة ، وهو على حد تعبير أحد قادتها سوف يتخذ الشكل التالى : ( حين يأتى الاستقلال لن يكون المجتمع كما هو ... لن تكون هناك ضرائب ، ولا سجون سوف تكون هناك أخويات ، ومشاركة فى الملكية ... بهذه الأشياء سوف تستعاد الجنة ...)

وانضم عشرات الآلاف لجيش ساكاى من ( المطاريد ) لتحقيق هذا الحلم الطوباوى الذى لم تكن قد نضجت بعد شروط تحقيقه الاقتصادية والاجتماعية . وبدأت العمليات العسكرية ضد قوات الاحتلال الأمريكى ، ولأسباب عديدة منها نقص الأعتده والتدريب والخبرة فى المواجهة العسكرية . بدأت الانتفاضة ، ثم هزمت الانتفاضة .

وحين سأل أحد قادتها عن الانتفاضة الفاشلة – رفض هذا التعبير قائلا ليست هناك انتفاضة فاشلة ، فكل انتفاضة هى خطوة على الطريق .

اعتقل ساكاى ، ثم حوكم ، وتقرر اعدامه وحين صعد الى المقصلة فى 13 سبتمبر 1907 توقف قليلا ثم قال ( ان الموت يطالنا جميعا ان عاجلا او آجلا ، لذا فانى أقابل الرب الهى بهدوء ، ولكن أريد أن أقول لكم اننا لسنا قطاع طرق أو لصوص كما أتهمنا الأمريكيون ، ولكن ثوريون دافعوا عن وطنهم الفليبين ، وداعا ، عاشت الجمهورية وليأت استقلالنا فى المستقبل ..... وداعا ...... عاشت الفلبين ) .

وتواصلت الحركات وظهر فيليب سلفادور فى الجبال المقدسة فى وسط وجنوب لوزون عام 1910 ، وقد بلغ أتباع هذا الزعيم الدينى الشعبى 50 ألفا من الفقراء ، وأكد لأتباعة أن الرب سوف يجازيهم على تضحياتهم بمطر من الذهب والجواهر ، ثم تلتها جمعية ( سانتا اجليشيا ) اى الكنسية المقدسة ، حاملة ذات الأفكار التى كان الكاتيبونان أول من بذرها .

وفى عام 1935 هبت انتفاضة فلاحية أسميت ساكدال ، وقد ألهمها الجنرال ريكارته ، وكان هو الجنرال الوحيد الباقى من قادة الثورة الفلبينية فى أوائل القرن الذى لم يقسم قسم الولاء لأمريكا .

وقد توجهت الانتفاضة ضد الطبقة الراسمالية التجارية الوليدة ، ذات الأصول الاقطاعية وضد الولايات المتحدة الأمريكية .

ان الطابع العام لهذه الجمعيات الدينية ، بل على وجه التحديد محتواها قد تمثل فى السعى نحو تحقيق المساواة فى الملكية ، الأخوة أو التآخى بين الفلاحين المضطهدين ، تحت غطاء من التكريس الدينى ، وأخيرا نزوعها العميق لتحقيق الاستقلال القومى , والتى لم يكن من الممكن تاريخيا الاان تأتى بالمجتمع البورجوازى وبمساواته ولاننس ان ماركس قد ذكر ان المجتمع البورجوازى على مافيه من قلة البطولة قد استلزم بطولة شديدة لاخراجه .

من الغموض الدينى الى الوعى السياسى

لقد كانت الجمعيات الدينية السابقة خطوة على طريق التطور السياسى ، وبالطبع كانت لها نواقصها الأساسية فقد كان أحد الأسباب الجوهرية التى قادت انتفاضتها الى الفشل ، هو جنينية البورجوازية بالدرجة الاولى ثم طابع هذه الجمعيات الصوفى الغامض الملامح وتخلف وعيها الذى فرضته شروط وجودها ، وقصورها عن ادراك طبيعة الاستعمار الأمريكى الجديد وتوجهاته الاقتصادية والسياسية .

**********

وكانت حركة الساكدال فى منتصف الثلاثينات هى الحركة التى رافقت ميلاد الأحزاب السياسية الجديدة وكان لبعض هذه الأحزاب أن تؤثر فيها . فى هذا الوقت أيضا كانت النقابات العمالية الراديكالية والنقابات الفلاحية فى وسط لوزون قد ظهرت . وخضعت هذه النقابات لنفوذ الحركة الاشتراكية التى قادها بدور أباد سانتوس ، وتأثرت بشعارات الحزب الشيوعى الوليد آنذاك ، وطرحت لأول مرة برامج سياسية بدا فيها ظاهرا ادراك للروابط القائمة بين فقر الجماهير والاقتصاد ذو الطابع الكولونيالى .

وحين غزت اليابان الفليبين تكونت التشكيلات المسلحة التى انخرطت فيها القوى الفلاحية ، والتى كان لبعضها توجهات وطنية تتعلق بمقاومة اليابانيين الغزاة ، ولم يكن لبعضها الآخر أية أهداف سياسية ، وأنما تكونت لأسباب شخصية مثل الانتقام لقتل أو تعذيب أو اغتصاب أحد أفراد العائلة ، أو للهروب من جريمة تم ارتكابها أو ارضاء لحس المغامرة أو لأن البعض لا يجد عملا أو للهروب من العصابات المسلحة الاخرى . وبالطبع كانت هناك بعض العصابات المسلحة التى لقيت دعم الولايات المتحدة فى مواجهة المجموعات المتنافسة الآخرى ، خاصة ضد التشكيل الشيوعى المسلح المعروف باسم (الهوك بالاهاب) وهو السلف التاريخى لجيش الشعب الجديد الذى يقاتل لازال يقاتل حتى الآن .

وقد مثلت جماعة (الهوك) مجموعة مقاومة اختلفت كيفيا عن باقى المجموعات المقاتلة الأخرى سواء من ناحية أصولها ، وقيادتها ، وتنظيمها ، وبرامجها السياسية والاقتصادية ، فضلا عن مواقفها تجاه الولايات المتحدة الأمريكية .

وبينما كانت الجماعات المسلحة الآخرى نتاجا للحرب ، فان معظم المنتمين الى (الهوك كانوا) من مناضلى الاتحادات العمالية والفلاحية قبل الغزو اليابانى ، وقد كان وسط لوزون مركز نضال متقدم لسنوات عديدة – قبل الحرب – ومنارة للعمال والفلاحين فى هذة المنطقة .

وقد خضع العمال والفلاحين ذوى التوجهات الراديكالية لنفوذ الحزب الشيوعى الفلبينى الذى أسسه كريسانتو ايفانجليستا عام 1938 . وكان (الهوك) ( جيش الشعب المناهض لليابان ) هو جناحة المسلح ، والذى بدأ نشاطه الفعلى فى 29 مارس 1942 لمقاومة اليابانيين فى غابات لوزون .

ورغم اعدام ايفانجليستا بواسطه اليابانيين فقد توسع( الهوك) فى مناطق أخرى مثل بامبانجا . وبولاكان ونيفاايكها . وقد شكلت بؤر ومعاقل الحركة الجذرية فى الاربعينيات .

فى هذه الفترة كانت الثورة الصينية على مشارف الانتصار ، وكانت التعاليم الماوية ذات نفوذ عميق لدى ( الهوك ) ، خاصة بصدد مفهوم حرب الشعب ، والعلاقة مع الفلاحين ، وقد أسهمت تلك التعاليم فى تأسيس حركة للكفاح المسلح عميقة الجذور فى نضال الفلاحين فى وسط لوزون .

وقد اتبع (الهوك) فى هذه الفترة تاكتيكات الجبهة المتحدة مع كل القوى المعادية للفاشية ، وهو ما حدا بهم الى التراجع عن امكانية تأسيس جمهورية ديمقراطية شعبية ، لحساب قوى موحدة لكافة القوى المناهضة لليابان .

البابا والتغيير الاجتماعى

تتحفظ الكنيسة الكاثوليكية فى روما على انغماس الرهبان والقسس سواء فى أمريكا اللاتينية أو فى الفليبين ، فى العملية الثورية . وهى تحاول ان تجد ركيزة وسيطة تقوم على تبنى مفهوم ل (العدل الاجتماعى ) فى مواجهة الثورة . ولكن الأمل فى عدل اجتماعى تبشر به الكنيسة الكاثوليكية لن يتجاوز فى أفضل الأحوال المفاهيم الاصلاحية الخيرية الاحسانية ، ففضلا عن أن مفهوم ( العدل ) ذاته هو مفهوم مجرد يتباين محتواه وفقا للشروط التاريخية فى لحظة معينة فلا يمكن أيضا توقع أن ترتقى الكنيسة الى طرح علمى لمغزى الاستغلال ونوعيته فى مجتمعات العالم الثالث الخاضعة فى معظمها للنفوذ الامبريالى وللبورجوازية الكومبرادورية الحاكمة . مناشدة الحكومات ، اطلاق بعض التصريحات الدعائية حول انارة الطريق نحو التحرر الانسانى ، الدعوة الى الاحسان ومواساة الفقراء ......... هذه هى فى أفضل الأحوال السبل التى تحاول بها الكنيسة الكاثوليكية الرومانية مجابهة المشاكل الاجتماعية والسياسية فى ذلك الجزء الخاضع للاستغلال المحلى والعالمى ، عنينا العالم الثالث .

وقد أبدى البابا مخاوفه علنا وفى عدة مناسبات على مدار السنوات الأخيرة . فهو يخشى على حد قوله مؤخرا لاهوت التحرر لأنه سوف يخضع الانجيل للمقولات السوسيولوجية والسياسية . وقد حذر الكهنة فى احدى زياراته الى بيرو ، من أن تتحول دعوة الانجيل ومفهوم الخلاص الى مجرد عمال اجتماعى وسياسى . ولا شك أن البابا حساس بصفة خاصة لكل ما يشم منه رائحة لماركس داخل الكنيسة ، خاصة صيغ التحليل الاجتماعى التى لا تقر وجود التعارضات الطبقية فحسب ، بل تبشر بالصراع الطبقى . وربما كان أخشى ما يخشاه هو انشقاق الكنيسة وتبلور أجنحة فيها معارضة للأنظمة أو مؤيدة لها ، على نحو أعمق مما هو باد الان .

( لا تسمحوا بأى محاولة لجعل حياتكم الدينية دنيوية .... ولا تتورطوا فى الموضوعات والمشاريع الاجتماعية السياسية التى يجب الابتعاد عنها . تفادوا كل الأشياء التى تحمل على الاعتقاد بأن هناك ازدواجا فى التراتب الكنسى .... )

بهذه الكلمات السابقة عبر البابا يوحنا بولس الثانى عن جوهر موقف الكنيسة الكاثوليكية الرومانية .

وفى الواقع لا يختلف موقف الكنيسة الفلبينية بصفة أساسية عن موقف البابا الآنف الذكر .

وإذا كان الأب جتيريز فى بيرو قد شكل جماعات لتنظيم وتعليم الفقراء هدفها ربط الأنجيل بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للفلاحين . فان (الجماعات الأساسية المسيحية) فى القرى والمقاطعات الريفية قد قامت واستلهمت ذات التجربة مطبقة اياها فى الأرخبيل الفلبينى . ورغم أن هذه التجربة لم تلق ترحيبا عميقا من أسقف مانيلا الا انها حظيت بدعم بعض الأساقفة والقسس الآخرين .

وقد بدأ هذه التجربة فى الفليبين الأب جور القس الأيرلندى الأصل ، والذى عرف لدى الصحافة (القومية ) الفلبينية بالقس الأحمر . وقد جرى اعتقاله لفترة معينة لاتهامة باغتيال أحد المسئولين الذى دفن ستة من الفلاحين أحياء ، وبأنه اعتاد أن يثير مشاعر مناهضة للحكومة .

لقد تعلم الأب جور لهجة الايلونجو بعد أن تم تعيينه كاهنا فى احدى أبرشيات مقاطعة النجروس الغنية واذ كان هناك ود مفقود بينه وبين كبار ملاك الأرض ، الا انه حظى بحب الفلاحين الفقراء الذين كانوا مأخوذين بعظاته حول الظلم والقمع والاستغلال الواقع عليهم .

وفى عام 1977 طلب الأب جور اذن رئيسة الأعلى ليعفيه من واجباته فى الأبرشية وأن يترك له حرية التوجه للتبشير بين الشعوب الجبال . فتم تعيينه مع كاهن آخر فى أورينجاو ، وهى منطقة غابات برية يسكنها وثنيون جهلة ذوى أصول سوداء لم يغادروا الجبال طوال حياتهم .

بدء الأب جور مهمته فى الجبال بخلق جماعات صلاة مستقلة كل واحدة لها قائدها تعمل تحت امرته وتنسيقه . وبدلا من أن يقوم بالمهام التقليدية كالتبشير واقامة الطقوس الدينية ، عقد حلقات مناقشة حول العمل الاجتماعى وكيف يمكن تطبيق الأنجيل فى الحياة اليومية . ومن هنا ولدت التنظيمات المسماة بالجماعات المسيحية الأساسية التى وصفها أحد عسكريى النظام ، جاليليو كينتانار فى تقرير له بأنها أكثر الاشكال التى ابتدعها الراديكاليون الدينيون تهديدا ، لأنها تقيم بنية تحتية من السلطة السياسية فى انحاء البلاد .

وبدأ الأب جور فى لقاءاته مع تلك الجماعات يقدم مفاهيمه الاجتماعية بطريقة تناسب مستوى وعى اعضائها .

أحضر كعكة وقطعها الى ثلاث قطع كبيرة ، ثم بقيتها الى اثنتى عشرة قطعة صغيرة . وأعطيت القطع الكبيرة الى قله مختارة مع بعض أكواب العصير . فرفض البعض أن يأكل بسبب عدم عدالة التوزيع .

ومن خلال هذا التمثيل الرمزى حاول الاب جور أن يعبر عن اللامساواة الصارخة فى المجتمع الفليبينى ، ووجهم نحو فكرة أنه اذا لم تعجب الناس هذه الطريقة فى التوزيع فان عليهم أن يعملوا معا لتغيير النظام الذى يكرسها . ولقد لقى جور مساندة أسقف باكولود أنطونيو فورتيش الذى مارس تأثيرا لاقناع مؤتمر لأساقفة الكاثوليك بالفليبين لتبنى الجماعات الأساسية المسيحية باعتبارها سياسة رسمية فى مقاطعة النجروس . ولكن ذلك التناول (الكولومبى ) بمساعدة الفقراء على ادراك كرامتهم الانسانية وقدرتهم على العمل النضالى أثار الحكومة .

وقد صرح الأب جور أثناء محاكمته بالتهمة التى سبق وأن أشرنا اليها بأن الفقراء هم الذين جعلوه راديكاليا وليس العكس .

وتسمى منطقة النجروس وهى احدى مسارح الجماعات المسلحة لجيش الشعب الجديد ، بأنها منطقة البراكين الاجتماعية . ففيها تتركز مزارع قصب السكر ، وبها الصناعات المرتبطة به . وقد اتجهت المؤسسة القومية لتجارة قصب السكر ، نحو ميكنة الزراعة مما خلق جيشا من العمال العاطلين ، فضلا عن أن العمال الذين لم يستغن عنهم بعد يتقاضون أجورا متدنية ويحيون تحت مستوى الكفاف وقد أمل ( (بارونات) قصب السكرمن كبار ملاك المزارع بأن تصل الميكنة الى نسبة 100% فى نهاية ثمانينات القرن الماضى ، حيث خفض هذا 90% من قوة العمل ، لأنه المحصول الوحيد فى جزيرة النجروس ، فلا بديل أمام العمال ، فليس لديهم لا المهارة ولا المدخرات التى تمكنهم من العمل فى أماكن أخرى .

واذا كان النظام الفلبيني اعتاد ان ينظر الى هذا المحصول الوحيد باعتبارة أداة للتحرر ، فإن بعض الباحثين الأقتصاديين يعتبرونة وحتى الان أحد أسباب رهن الأقتصاد الفلبيني للنفوذ الأجنبى ، وأحد مظاهر التبعية للرأسمال العالمى .

وهو على كل حال محصول يرتبط بالاستغلال فى كل المناطق الاستوائية عبر العالم بإستثناءات محدودة وهو يلعب دور ( الخطيئة الأصلية ) التى تحاصر كل من يعيش فى جزيرة النجروس .

هذه هى الخلفية الاقتصادية – الاجتماعية التى خلقت فجوة بين الكنيسة والدولة من جانب ، وبين الرهبان الثوريين من جانب آخر .

ورغم مواقف البابا المعروفة والتى لا تحبذ اشراك واسهام الاكليروس فى العمل السياسى ، وتحاول أن تبتعد عن التصريحات التى قد تؤول فى صالح الثورة الاجتماعية ، الا أن البابا ذاته لم يستطع أن يتجاهل الأوضاع المتردية لعمال مزارع قصب السكر فى الفليبين ، ومن هنا جاء تصريحه – الذى سبق وأن أشرنا اليه – حيث خاطب عمال مزارع قصب السكر ، خلال زيارته الكهنوتية للفلبين عام 1981 قائلاً:

( أن الكنيسة لن تتردد فى أن تدافع عن قضية الفقراء وأن تصبح صوت هؤلاء الذين لا ينصت لهم أحد حين يتكلمون لا ليسألوا أحسانا وانما يطلبون العدالة ).

وأضاف البابا فى جولته فى مقاطعة باكولود بأنه قد كان من تعاليم الكنيسة الدائمة أن للعمال الحق فى أن يتحدوا فى جمعيات من أجل الدفاع عن مصالحهم وأن يشاركوا فى صنع الخير العام . ولا شك أن راديكالية الفلاحين هى التى دفعت بمثل هذه التصريحات البابوية .

أزعجت هذه الخطابات البابوية من ناحية أخرى كبار ملاك الأرض ، الذين رأوا أن دور رجال الاكليروس ينبغى أن يقتصر ، وينحصر ، فى الاشتغال بالأمور السماوية ، وأن يكرس أن يكون الفلاحين فقراء . وفى افضل الاحوال تدعيم النظم الرأسمالية القائمة .

ان هذا الاسهام من جانب بعض الرهبان والقسس فى الثورة الاجتماعية له آثارة الخطيرة انذاك . ففضلا عن أن غالبية رجال الدين خاصة فى المراتب الدنيا ذوى أصول فلاحية ، فان راديكالية الأوضاع المتردية ذاتها دفعت بتأثيراتها عبر القنوات الكنسية . و كان من الطبيعى أن ينتج تقدم العملية الثورية أثرة فى فك ارتباط بعض المراتب الكهنوتية العليا بالنظام ، أو على الأقل يشل تأثيراتها الدعاوية المعادية بصفة أخص للعنف المسلح . واذا كان قد قدر للضغط الثورى أن يقطع الحبل السرى الذى يربط ما بين مصالح الطبقة الحاكمة والكنيسة ، فقد كان يمكن توقع تغيير فى بنية الكنيسة ذاتها على المدى الطويل .

ومهما يكن من شئ فقد كانت مقاطعات بكاملها أشبة بالجمهوريات المستقلة داخل الأرخبيل الفلبيني—ولازالت -- حيث تحكمها – أحياناً ليلا فقط – قوات جيش الشعب الجديد ، والقسس المنضمون اليه . وهم يردون الصاع صاعين على حوادث الاضطهاد ، والقتل ، والاختطاف ، ودفن الأحياء ، ولهم عدالتهم التى قربتهم من قلوب الفلاحين بصفة خاصة ، رغم التهوين الحكومى من شأنهم ، واعتبارهم حفاة من قطاع الطرق ، ومحترفى الاجرام .

وقد أتخذت قيادة جيش الشعب الجديد خطوة هامة عقب وصول كورى اكينو لسدة الرئاسة ، تمثلت فى عقد تحالف مع جبهة تحرير المورو التى قادت كفاح المسلمين المسلح فى جنوب البلاد بجزيرة مندناو . وتم عمل معسكرات تدريب مشتركة ، ودعاية مشتركة وعينوا حدودا للعمليات بينهما ، وأعدوا وقاموا بعمليات عسكرية مشتركة فى مدينة دافاو ، الا أن هذا التوجة لقى بعض المعارضة من أجنحة داخل جبهة تحرير المورو التى كان يقودها انذاك نور مسوارى والذى ادى بأحد زعماءها وربما رجلها الثانى الى الاستسلام المخزى للنظام .

ومن البديهى أن توحيد حركات الكفاح المسلح بالبلاد على أساس برنامج سياسى كان يمكن ان يؤدى لتأمين انتصار الثورة الفلبينية .

وبعد .... لقد كان دعم بعض الكهنة الكاثوليك للكفاح المسلح هو ما حدا بالدوائر الاستعمارية لدق ناقوس الخطر ورغم أن النظام قد تصنع عدم المبالاة على الصعيد الاعلامى ، الا أنه بذل جهودة لحصار الثورة ، فقد منحت زيادة فى رواتب الضباط والجنود ، واعتمدت ميزانية ضخمة لاصلاح الأوضاع الاجتماعية فى المقاطعات التى تعتبر معاقل الثورة ، وجرى تطوير التاكتيكات العسكرية فى مواجهة التاكتيكات الجديدة للثوار والتى لا تقوم على حرب المواقع بل على حرب العصابات المتنقلة .

ولا شك أن الأحساس بتصدع النظام ناجم من أن الدولة قد اعتادت أن ترى فى الكنيسة حليفها غير مشروط ، وانضمام الرهبان ذوى القناعات المسيحية يضفى شرعية على العمل الثورى فى أعين شعب 80% منه من الكاثوليك . فهل تجدى الاصلاحات التى تجرى فى ايقاف هذا المد ؟

هذا ما نشك فيه ، غير أننا ندع هذا السؤال لتجيب عنه الأحداث القادمة .

مصادر المقال

1- Communism in the bible, jose Miranda, orbis books, maryknoll n.y. 1982. 2- The Philippines - A past revisted , renato constantino, manila, philippines,1984.

3- Revoloutionary clergy , john n. schumacher, sj. Ateneo de manila university press , 1981.

4-Pasyon and revolution , renaldo cleana ileto , ateneo de manila university press 1979.

5- The radical left on the eve of war, james s. allen, foundation for nationalist studies,1985.

6 - المسيحية والماركسية والثورة . كاميللو توريز ، دار ابن خلدون بيروت 1972 .

7 -أمريكا اللاتينية بين ,, البندقية ،، والانجيل ،،والمنشور السرى ، خيرى عزيز . ص 36 ، مجلة الطليعة -القاهرية – السنة الثامنة ، فبراير ، 1972 .






#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرؤية الفكرية فى مأساة الحلاج بين الصوفية والثورة
- العرق اليهودى بين الاسطورة التاريخية والمنهج العلمى


المزيد.....




- -تلغراف-: الروح المعنوية في الجيش البريطاني عند أدنى مستوى
- نزليهم لاطفالك وفرحيهم حالا!!.. الترددات الطفولية والتي تخص ...
- المقاومة الإسلامية في العراق: هاجمنا بالطيران المسير فجر الي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تعلن استهداف هدفين للاحتلال في ش ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تنفذ هجومين بالمسيرات على هدفين ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تنفذ هجومين بالمسيرات على شمال ف ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تستهدف بالمسيرات 3 مواقع إسرائي ...
- أطفالك مش هتعمل دوشه من الآن.. تردد قناة طيور الجنة 2024 الج ...
- مصر.. رأس الطائفة الإنجيلية يوضح دور الكنيسة في مواجهة ظاهرة ...
- النمسا: طلاب يهود يمنعون رئيس البرلمان من تكريم ضحايا الهولو ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد العليمى - جذور الراديكالية الدينية المعاصرة فى الفليبين