أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ميثم الجنابي - التيار الإسلامي ومهمة تأسيس البدائل العقلانية في العراق















المزيد.....



التيار الإسلامي ومهمة تأسيس البدائل العقلانية في العراق


ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)


الحوار المتمدن-العدد: 1077 - 2005 / 1 / 13 - 11:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تندفع قضية الدين والدنيا، وعلاقة الديني بالدنيوي في العراق إلى الأمام باعتبارها إحدى القضايا النظرية والعملية الأساسية لبناء النظم الحكومية والسياسية والثقافية فيه. وهي قضية تجعل من كيفية حل هذه الإشكالية من وجهة نظر المشاركة البناءة للحركات الإسلامية في إعادة تعمير العراق على كافة المستويات، قضية غاية في الاهمية من الناحية النظرية والعلمية. وهي مهمة لا يمكن حلها نظريا وعمليا بصورة متجانسة دون إعادة تأسيس هذه الثنائية بصورة واقعية تأخذ بنظر الاعتبار ما ادعوه بمعاصرة المستقبل. وذلك لان علاقة الديني بالدنيوي هي علاقة متغيرة ومتنوعة المستويات. وهي مهمة مختلفة من الناحية النظرية بالنسبة للتيار السني والشيعي بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص.
***
وتجدر الإشارة هنا إلى أن كل ما أضعه في هذا المقال من أفكار حول "التيار السني" في العراق هو مجرد رؤية محتملة لما يمكن أن تكون عليه الحركة الإسلامية السياسية المتبعة لتقاليد الحركات السنية. وهي حركة كامنة في العراق اكثر مما هي واقعية، وهي واقعية اكثر مما هي احتمال. بمعنى أنها جزء عضوي من الظاهرة الإسلامية بشكل عام وفي العالم العربي والعراق بشكل خاص
ولعل أهم ما يخصه بهذا الصدد في العراق هو ضرورة الاهتمام بثلاث قضايا جوهرية وهي قضية إعادة تأسيس فكرة "الفرقة الناجية" صوب الاهتمام بفكرة جوهرية الحق وأولويته على الرجال، وثانيا قضية إعادة تأسيس "السنة النبوية" التقليدية ضمن الرؤية الواقعية لسنّة التطور التاريخي، وأخيرا تحويل الفقه الثابت ومدارسه التقليدية إلى فكرة ثبات القانون والاجتهاد فيه حسب متطلبات التطور الاجتماعي والسياسي الديمقراطي والمجتمع المدني.
وفيما يتعلق بالقضية الأولى ("الفرقة الناجية")، فان ذلك يفترض العمل من اجل إلغاء فكرة الفرقة بمعناها النفسي والعقائدي والتنظيمي. بمعنى تحرير فكرة "الفرقة الناجية" من الفرقة والإبقاء على جوهرية النجاة فيها، عبر تحويلها إلى فكرة سياسية. وهو تحويل ممكن من خلال ربط مضمون الفكرة السياسية للنجاة بالعمل النظري والعملي على حل الإشكاليات الواقعية الكبرى بعد إدراكها بمعايير معاصرة المستقبل بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. مما يستلزم بدوره العمل من اجل ربط الجانب السياسي للفكرة بأبعادها الحقوقية. وهو أمر ممكن من خلال تأسيس الأبعاد السياسية للنجاة بمعايير الحقوق. وهي عملية ممكنة عبر نفي حق الحديث باسم "الفرقة الناجية" و"أهل السنة"، والعمل بصفة حركة اجتماعية أو سياسية أو كلاهما. بمعنى العمل والمشاركة بمعايير الرؤية السياسية والحقوقية شأن كل الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية. فهي المقدمة الضرورية لتذليل التوتاليتارية الدينية ونفسية التقديس الأيديولوجية. إذ يؤدي هذا التحرير والتحويل في مضمون الفكرة إلى نقل اهتمام الحزب السياسي الإسلامي وحركاته الاجتماعية صوب المستقبل وليس صوب الماضي. بمعنى تحويل كل الرموز الكبرى مثل النبي والصحابة والتابعون وأئمة الفقه والكلام وغيرهم إلى مصادر ثقافية تساهم في تعميق وترسيخ الرؤية السياسية والحقوقية.
إن إعلاء شأن "المصدر الثقافي" في الرؤية السياسية والحقوقية للحركة الاجتماعية والأحزاب السياسية يساهم بصورة فعالة وغير مباشرة في تذليل فكرة ونفسية "الأصول" اللاهوتية. بمعنى المساهمة على جعل معنى ومضمون الاجتهاد فعلا واقعيا ومستقبليا. ولا يعني ذلك إزالة أو تذليل فكرة الأصول بحد ذاتها، بقدر ما يعني أن "الأصول" هي ليست كيانا مستقلا بحد ذاته مقدسا بهيئة "نصوصا" لا تقبل التغير والتبدل. فالنصوص أيا كانت هي "أبدية" ولا "تقبل التغير والتبدل". إلا أن قيمتها "الأبدية" الفعلية تقوم في قدرتها على أن تكون جزءا من "المعاصرة"، أي جزء من معترك تربية العقل النقدي ومساهماته الواقعية في حل الإشكاليات الجوهري الكبرى للتطور الاجتماعي. بعبارة أخرى، إن النصوص لا تقدم حلولا، بل رؤية. وان معيارها "المقدس" هو بقاءها ضمن إطار الرؤية الثقافية، التي يستحيل تأسيسها في العالم المعاصر دون إيجاد الصيغة المناسبة لحل إشكالية الديني والدنيوي.
وفي واقع العراق المعاصر، فإنها ممكنة من خلال حل أربعة حلقات في سلسلة "الدنيوية العراقية"، وهي كل من تذليل سيطرة الديني على الدنيوي، أي أولوية الإيمان والعقائد الجاهزة على الرؤية السياسية والاجتماعية الضرورية، وتأسيس فكرة الدنيوية المعتدلة بقيم الانتماء الثقافي الذاتي، وربط فكرة وقواعد الدنيوية بفكرة الحق والحقوق، وأخيرا تجسيد الدنيوية بوصفها منظومة حقوقية سياسية اجتماعية اقتصادية وثقافية. فهو التأسيس الذي يمكنه أن يكون أسلوبا للتطور المتجانس في العراق، ومقدمة لدمج فكرة "السنة النبوية" فيما ادعوه بمعاصرة المستقبل في العراق.
وفيما يخص القضية الثانية ("السنة النبوية")، وإعادة تأسيسها ضمن الرؤية الواقعية لسنّة التطور التاريخي، فان ذلك يفترض العمل من اجل عقلنة ماهيتها التاريخية والمجردة. وهي ليست مهمة تأويل صرف، بقدر ما أنها تنبع من حقيقة السنة النبوية، بوصفها نموذجا تاريخيا ومتساميا للثقافة الإسلامية. وهي حقيقة تجعل من "السنة النبوية" كيانا محدودا من الناحية الثقافية، بمعنى انحصار قيمتها العملية المباشر في حدود العالم الإسلامي، مع أنها تحتوي شأن كل ما هو متسام في الفكر والتاريخ على قيم أوسع من حدوده الزمنية والجغرافية.
إلا أن القيمة الكبرى للفكرة تقوم أولا وقبل كل شئ في أبعادها الثقافية الخاصة. فهو الأمر الذي يعطي لها أثرا ماديا وروحيا بالنسبة لتاريخ ووجود الأمم نفسها وكيانها المتميز. و"السنة النبوية" هي من بين هذه الأفكار المتسامية. فقد مرت شأن كل فكرة متسامية بمراحل ثلاث هي مرحلة الصيرورة والتكون ومرحلة الكينونة التاريخية ومرحلة الكيان المجرد. وهي مراحل يمن التعبير عنها بمرحلة البداية والوسط والنهاية، أو الولادة والحياة والموت، أو العمل والفكر والاغتراب. والتعبير الأخير هو الأكثر دقة بالنسبة لرؤية الظاهرة من حيث كونها تيار تاريخي – ثقافي. بمعنى انه ظهر في ظروف تاريخية معينة وأثر في مجراها لاحقا واغترب عنها عندما تحول إلى كيان ميتافيزيقي (ماورائي).
فقد كانت "السنة النبوية" فعلا وقولا تاريخيا للنبي، أي أنها وثيقة الارتباط بوجوده وشخصه الكريم. من هنا كان القول فيها عملا والعمل قولا، بمعنى وحدتهما التامة. وفي وحدتهما شكلا الصيغة التاريخية والفعلية لوجوده الشخصي. ومن ثم لم يكن فيها آنذاك اثر للتقديس والتعالي بالمعنى الوجودي والديني. لكن حالما تحولت لاحقا إلى مصدر من مصادر العقيدة الإسلامية واصلا من أصول الإسلام والدين والفقه، واختلط فيها الصحيح بالموضوع والكاذب بالحسن والمقبول بالضعيف وما شابه ذلك من التقييمات الدقيقة، فإنها تحولت في الواقع إلى جزء من تاريخ الثقافة. وهي حالة طبيعية بالنسبة لتطور الحضارات، بحيث تجعل من الرجوع إلى ما يبدو "سليما" و"صحيحا" و"حقا" مقارنة بما هو موجود، فعلا وقولا مندرجا ضمن الاجتهاد التاريخي للثقافة نفسها. ولم تتخلص السنة النبوية من تأثير هذا القانون التاريخي للثقافة. أما المحاولات اللاحقة لجعلها كيانا خارج التاريخ وفوقه وتجميدها الكمي والنوعي وتقديسها الشامل، فانه قد أدى إلى اغترابها الفعلي عن مجرى التاريخ الفعلي وإشكالياته الواقعية. بعبارة أخرى إن دمج مراحلها الثلاث في مكونة واحد، أي دمج مضمونها الأولي والتاريخي والمجرد، بوصفها مكونات مختلفة، في كل واحد أدى إلى تقييد كل شئ فيها، وبالتالي إلى "تقديسها".
ولم يعن تقديسها من الناحية الفعلية سوى اغترابها التام عن إشكاليات التاريخ والواقع. من هنا أثرها الكبير، على الأقل من الناحية الفكرية في تجميد وتكلس الإسلام تاريخيا وثقافيا. فقد كان هذا النوع من "السنة النبوية" أحد مصادر وأصول التأخر التاريخي للإسلام والعالم الإسلامي. إذ لم يعن تحويلها إلى اصل أولي وجوهري ومرجعية حياتية شاملة، سوى فرض صيغتها الشكلية المحجرة للإنسان والمجتمع والثقافة. بمعنى وضعها بالضد من مصادر وأصول التطور والتغير. بينما المهمة الآن تقوم في إعطائها موقعها الضروري في الرؤية الإسلامية الواقعية من خلال تحويلها إلى نموذج معقول يساهم في قبول سنة التطور غير المحدود وغير المحدد، بمعنى تحويلها إلى نموذج للرؤية العملية الباحثة عن حلول وبدائل. وهو تحويل ممكن في حال الإقرار المنهجي بنظرية الاحتمال الدائم ومعاصرة المستقبل. مما يفترض بدوره "رمي النصوص" والتعلم من محتواها التاريخي – الثقافي. بمعنى جعل السنة النبوية أحد النماذج التاريخية والثقافية الكبرى للعقل النظري والعملي المعاصر والنظر فيها بمعايير المستقبل. بمعنى تقديم صيغة عقلانية جديدة للرؤية الإسلامية عن سنّة التطور، لاسيما وأنها الرؤية التي تتمتع بتاريخ عريق وعميق في مختلف صنوف وعلوم الفكر الإسلامي. وهي صيغة ممكنة في العالم المعاصر من خلال ربط فكرة "السنّة" أو القانون الكوني للتطور والتغير والتبدل بفكرة الأصول العقلية. وهو ربط يمكنه أن يحرر "الأصول" الإسلامية التقليدية من مرجعيتها كما هي. وفي هذا تكمن إحدى مقدمات تذليل ذهنية ونفسية "الأصولية" "السلفية" وغيرها من نماذج التحجر الفكري والمذهبي. كما أنها تتضمن في أعماقها إمكانية جعل فكرة الأصول مرجعية. بعبارة أخرى إن المهمة تقوم في جعل فكرة الأصول مرجعية ثقافية لا الأصول التقليدية كما هي. وعلى هذا الغرار وبأثره تصبح فكرة السنة النبوية مرجعية ثقافية مهمة لتأسيس فكرة وضرورة التطور والتغير والتبدل بالشكل الذي يستجيب لمعاصرة المستقبل.
أما بالنسبة للقضية الثالثة المتعلقة بتحويل الفقه الثابت ومدارسه التقليدية إلى فكرة ثبات القانون والاجتهاد فيه حسب متطلبات التطور الاجتماعي والسياسي الديمقراطي والمجتمع المدني، فإنها تفترض في البدء صياغة تحديد جديد لماهية الفقه الإسلامي. وهو تحديد ينبغي أن يتركز حول الفكرة القائلة، بان حقيقة الفقه هي تفنن في اكتشاف وإدراك وتحقيق المعنى في النصوص والأحداث والوقائع والمستقبل. فهو التحديد الذي يحرر الفقه من تكرار النصوص والخوض في غمار مياه آسنة أو جدول صغير يعتقد السائرون فيه انهم يغوصون في أعماق البحر. وهو وهم يعيد إنتاجه التكرار الممل في حفظ المتون وأمهات الكتب، عوضا عن أن تكون مجرد تمارين ذهنية للتعامل مع إشكاليات الواقع بروح المعاصرة. وليس المقصود بالتحرر هنا سوى التحرر من أحكامه القديمة، وإعادة النظر بتقاليد الرؤية الفقهية نفسها. فهي تقاليد مازالت أسيرة الفلسفة القديمة عن الأصول، بينما تفترض الرؤية الفقهية الجديدة صياغة فلسفة جديدة للأصول تعنى بإعادة بناء الكيان النظري للفقه الإسلامي من خلال إعادة ترتيب الأولويات في رؤيته للأصول نفسها. وهي إعادة ينبغي أن تستند إلى مرجعية فكرة الأصول.
وهذا بدوره يفترض جعل الفقه فلسفة الحق الإسلامي وبناءه على أسس منهجها العام هو البحث عن علل الأشياء وأسلوبها العملي هو الظن العقلي. مما يستلزم بالضرورة تأسيس فكرة إلغاء ذهنية ونفسية التحريم فيه. والأسلوب النظري والعملي لذلك يقوم في تحويل جهود الفقه النظري والعلمية صوب الاهتمام الدائم بقضايا الرؤية العقلية الحقوقية. وبالتالي جعل الفقه في مختلف اجتهاداته جهادا من اجل الحق والحقيقة. وهي مهمة يمكن إنجازها فقط من خلال تحويل قواه الذاتية صوب المباحث الاجتماعية – السياسية. بمعنى العمل من اجل بناء منظومة من فقه حقوق الإنسان المدنية، ومنظومة من فقه الدولة الشرعية، ومنظومة من فقه الحكم الديمقراطي (نظام الشورى العصري)، ومنظومة من فقه الحقوق الاقتصادية وغيرها من جوانب حياة الفرد والمجتمع والدولة.
***
أما التيار الشيعي، فإنه التيار الفعلي والواقعي للظاهرة الإسلامية في العراق. بل انه يتعدى ذلك من حيث اندماجه العضوي في نسيج الصيرورة التاريخية والكينونة الثقافية والروحية للعراق. ومن هذا المنطلق يمكن النظر إليه، باعتباره الحامل الفعلي لفكرة البدائل الإسلامية في العراق. لاسيما وانه كان على امتداد كل تاريخه المعاصر ممثل روح التمرد والدعوة للحرية والنظام الاجتماعي والعدالة. وهو تاريخ يضع أمامه في الظروف الحالية اكثر من أي اتجاه إسلامي آخر مهمة المساهمة النظرية والعملية في صياغة وتجسيد الرؤية العقلانية والواقعية لآفاق البدائل السياسية الثقافية في العراق.
إن الأثر التاريخي للتيار الشيعي وآفاقه يفترضان مساهمته الفعالة في حل إشكالية الديني والدنيوي انطلاقا من ظروف العراق الحالية. وهي مساهمة تفترض إعادة النظر، استنادا إلى فكرة ومعايير معاصرة المستقبل، بثلاث قضايا وتأسيسها الجديد. وهي قضية "ولاية الفقيه" وذلك عبر تحويلها إلى فكرة ولاية قانون الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني، وقضية تحويل فكرة المرجعية إلى اجتهاد اجتماعي وسياسي يهدف إلى إشراك المجتمع في بناء الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني، وأخيرا قضية تحويل عقيدة "الإمام المنتظر" إلى نظرية البحث عن بدائل المستقبل الواقعي والعقلاني استنادا إلى جوهرية العدل في التراث الشيعي.
ومع أن فكرة "ولاية الفقيه" ليست جديدة في الفكر الشيعي، إلا أن أبعادها السياسية المعاصرة لم تعد اجترارا أو إعادة مباشرة لفكرة "الإمام" و"الناطق" و"الشيعي الكامل". كما أنها لم تعد، بأثر التحولات الكبرى التي جسدتها الثورة الإسلامية في إيران ونتائجها العملية فيما يخص بنية الدولة والنظام السياسي والثقافي، مجرد فكرة عامة وتجريدا نظريا.
فقد كانت "ولاية الفقيه"، بما في ذلك في صيغتها التي بلورها وجسدها الإمام الخميني، رؤية أولية تحاور بعض قواعد العقيدة الشيعية المتعلقة بمسألة "الغيبة" و"الإمام المنتظر" ودور علماء الدين في التعامل مع إشكاليات الواقع. وهي رؤية كانت تهدف أساسا إلى إشراك علماء الدين الشيعة في السياسة. بمعنى تفعيل الدور السياسي لفكرة الانتظار، التي كانت تعني واقعيا نقل فكرة وممارسة التقية إلى ميدان المسئولية الفردية والتاريخية لعلماء الدين الشيعة. وقد احتوت بهذا المعنى على تقاطع سياسي مع تقاليد "التقية" الشيعية، إلا أنها كانت تعيد إمكانية تمحورها المحافظ، وذك لأنها كانت محصورة بالأطر اللاهوتية لفكرة "الولاية". بعبارة أخرى، انها كانت تعيد إنتاج التشيع التقليدي ولكن بصورة فعالة، عبر توجيه شحنة الوجدان ونفسية التمرد على الظلم والجور، دون كسر منظومته بصورة جذرية، أي دون تقديم رؤية بديلة تستند إلى معاصرة المستقبل. لهذا كانت من الناحية الظاهرية تمثل تجسيدا للفكرة التثويرية، الا انها كانت تحتوي في اعماقها على نقيض لها. وهو الأمر الذي أعطى للثورة الإسلامية في إيران طابعا محافظا. لقد كانت الثورة الإسلامية في إيران "ثورة محافظة". وهي مفارقة كانت تكمن في عدم حل الرؤية الأولية لفكرة "ولاية الفقيه" إشكالية الديني والدنيوي بالطريقة التي تذلل بصورة جذرية إمكانية إعادة إنتاج الرؤية التوتاليتارية نفسها. وذلك لان مهمتها لم تكن العمل من اجل اشتراك "المؤمنين" في السياسية وعلماء الدين في الحركة الاجتماعية السياسية، بل في "بنائها" بالطريقة "الإسلامية".
أما في العراق، فان تكونه التاريخي المعاصر وتركيبته الثقافية قد جعل من التأسيس النظري لعلاقة الديني بالدنيوي اكثر انفتاحا وعقلانية عند أهل الفكر والنظر من التيار الشيعي العام. والقضية هنا ليس فقط في أن التيار الشيعي العراقي كان يتصف على الدوام بانفتاح واسع على مختلف التيارات الفكرية العالمية والعربية والعراقية، بل ولتحرره الكبير من تقاليد المذهبية المغلقة في موضوعاتها. ومن الممكن الإشارة هنا إلى الإبداع النظري للإمام محمد باقر الصدر. إذ نعثر في كتبه الشهيرة "فلسفتنا" و"اقتصادنا" و"سياستنا" عن بطانة ماركسية مقلوبة. والقضية هنا ليس فقط في أن أسماء وموضوعات الكتب هي نسخ وموازاة للمكونات الثلاث الكبرى للماركسية، أي الفلسفة والاقتصاد والسياسة، بل وفي ردودها البديلة. وبغض النظر عن مستوى النقد الفكري فيها لمكونات الماركسية التقليدية، الا أن مجرد الاهتمام بها كان يعكس مستوى وطبيعة الاندماج الفعال في قضايا الفكر والواقع السياسي والفكري العراقي. أي أن موضوعاتها لم تكن اجترارا وتكرارا لما في "أمهات الكتب" و"متون الأئمة" وما شابه ذلك، بل محاولة ذهنية للمشاركة في إشكاليات المعاصرة آنذاك. وبهذا المعنى يمكن النظر إليها باعتبارها إحدى البدائل النظرية والعملية السياسية الشيعية المهمة في تاريخ العراق المعاصر. وذلك لأنها حاولت الخروج على الواقع مع البقاء ضمن بعض مرجعياته التاريخية والثقافية الكبرى – التشيع. وفي هذا تكمن قيمته التاريخية وأهميته بالنسبة لمعاصرة المستقبل من جانب التيار الشيعي فيما يتعلق بإمكانية الحل النظري والعملي لمسالة "ولاية الفقيه". فهي القضية التي تشكل مضمون ولب الرؤية النظرية لمشروع النظام السياسي البديل في العراق. وهي قضية يتوقف حلها الإيجابي على كيفية تحويل فكرة "ولاية الفقيه" إلى فكرة ولاية قانون الدولة الديمقراطية والمجتمع المدني، بمعنى التأسيس لفكرة الاجتهاد السياسي وليس العقائدي.
وهي المقدمة الضرورية التي يستتبعها حل القضية الثانية في سلسلة حل إشكاليات علاقة الديني بالدنيوي ضمن التقاليد المميزة للتيار الشيعي في العراق، الا وهي قضية المرجعية والمرجعة. وهي قضية تفترض في البدء إعادة تأسيس فكرة المرجعية والمرجع الديني في التيار الشيعي المعاصر، بالشكل الذي يحولها إلى جزء من منظومة المرجعيات الثقافية.
فالمرجعية في التشيع هي مؤسسة لها أسسها المذهبية والعقائدية وكيانها التاريخي وأبعادها الروحية، أما المرجع الديني فهو أشخاص ورموز. بينما يفترض البديل أن تكون المرجعية فكرة منظومية تقر بمبادئ الاحتمال والتنوع وتحتوي عليها، وأن يكون المرجع منظومة مبادئ. فهي الصيغة التي يمكنها أن تعيد إنتاج الثبات التاريخي والمؤسسي للمرجعية الشيعية ولكن على أسس ثقافية جديدة مقترنة بمعاصرة المستقبل. وذلك لأنها الصيغة القادرة على أن تستعيض عن المؤسسة التقليدية بالمنظومة، وعن الأشخاص والرموز بالمبادئ سوف تعطي للثبات أبعادا حركية. فمضمون الثبات فيها يتطابق مع المنظومة المؤسسة والداعمة لقيم التغير والتبدل والتطور والواقعية والعقلانية والنزوع الإنساني والديمقراطي. كما انه يضمن إمكانية إحكام مفاهيم وقيم التغير والتبدل والتطور بأوزان داخلية، هي أوزان الانتماء الذاتي والرؤية الثقافية. لاسيما وأنها أوزان لها تاريخها العريق ونماذجها المتنوعة.
فمن الناحية الظاهرية والعامة استطاع التشيع أن يكشف عن قدر هائل من الثبات في وجه كل الضغوط العنيفة التي مورست ضده تاريخيا من جانب مختلف القوى. ولعل التاريخ الحديث للعراق هو أحد اصدق واعمق الصفحات الكبرى للتدليل على الاستعداد الهائل للتشيع في مواجهة التحديات الكبرى والبقاء ضمن حيز الانتماء الذاتي. بمعنى البقاء ضمن تقاليد الانتماء للمدارس الشيعية والتفاعل مع التغيرات الكبرى في مختلف الميادين. وهو بقاء وثيق الارتباط بمؤسسة المرجعية نفسها. ذلك يعني إن قيمة التشيع وقدرته على الثبات التاريخي، بما في ذلك قدرته على المحافظة على القيم الإنسانية وتمثلها الوجداني، قد ارتبط أساسا بمؤسسة المرجعية. الا أن هذا الارتباط الضروري المحكوم عليه بعنف الخارج لم يعد ضروريا في ظل الانفتاح المعاصر في العراق. وهو تغير وتحول ينبغي أن يجد طريقه إلى تحول وتغير في فكرة المرجعية نفسها. وهي مهمة ينبغي للتيار الإسلامي الشيعي أن يأخذ على عاتقه جهود تأسيسها العملي والعملي.
وإذا كانت الجذور العقائدية للارتباط الآنف الذكر تكمن في فكرة وتاريخ "الغيبة"، فان المهمة الأولية للفكر النظري ينبغي أن تسير في اتجاه فك هذا الرباط اللاهوتي وإعادة شده بطريقة تجعل منه رابطا وجدانيا بالتراث لا غير. بمعنى التأسيس للقيمة الوجدانية والتراثية للمرجعية في تاريخ "الغيبة" من خلال إعلاء شأنها الروحي باعتبارها رمزا ثقافيا خاصا لمعارضة الظلم والجور والطغيان والاستبداد.
فهي الرؤية التي يمكنها أن تكشف عن طبيعة الأبعاد التاريخية للمرجعية. أي النظر إليها باعتبارها كيانا تاريخيا له حدوده الثقافية. وهي حدود ينبغي توسيع مداها من خلال جعلها جزء من معاصرة المستقبل. وهو أمر يترتب عليه حل القضايا الفكرية المتعلقة بنموذج الممارسة السياسية وأسلوبها المنهجي، واقصد بذلك ثنائيات الخواص – العوام والظاهر – الباطن من خلال إدراجهما ضمن معايير ومقاييس الممارسة السياسية العلنية والنظام الديمقراطي. وهي نتيجة ترتبط ارتباطا عضويا بتحويل مؤسسة المرجعية إلى فكرة متسامية، وترقيتها إلى مستوى المرجعية الثقافية. آنذاك يحصل التواصل النوعي الجديد بين التاريخ والمعاصرة، كما يحصل التكامل التاريخي – الروحي بين "الغيبة" و"المستقبل"، أي بين الأبعاد الروحية للمرجعية والوظيفة السياسية الجديدة لها عبر النشاط النظري والسياسي للتيار الشيعي المعاصر.
وهو تواصل يمكن تجسيده نظريا وعمليا من خلال التأسيس السياسي الفعال لخمس قضايا أساسية كبرى بهذا الصدد وهي قضايا الهوية العراقية والمجتمع المدني ودولة الحقوق والتعددية السياسية والانفتاح الفكري. وهي قضايا محورية في العلم والعمل المتعلق بإمكانية تفعيل المرجعية والمرجع بمعايير معاصرة المستقبل، وبالأخص إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن للتيار الشيعي في العراق تاريخ متميز فيها. إذ للهوية العراقية في التشيع قيم محلية ووجوه شعبية ومثقفة، دينية ودنيوية، مؤمنة وغير مؤمنة. ونعثر في مراقد الأئمة وتاريخ الحسينيات والعزاء، أي في الأفراح والمآسي على نماذج لتجمعات وتآزر المجتمع المدني. بينما تمثل التقاليد العلوية – الامامية نموذجا أعلى لفكرة الحق الإسلامي، بمعنى احتواءها على صيغة وجدانية وحقوقية وتاريخية لجوهرية الحق بوصفه عدلا. كما نجد في تنوع وتباين واختلاف الحركات الاجتماعية والسياسية الشيعية واشتراكها في المبادئ المرجعية نموذجا معقولا للتعددية السياسية. وفيه تكمن أجنة الانفتاح على النفس والآخرين، بوصفه الضمانة المادية والمعنوية للخروج على المذهبية الضيقة وتقاليدها.
إن هذا التحول صوب معاصرة المستقبل يضع بالضرورة مهمة استكمال الحل المنطقي لعلاقة الديني بالدنيوي في التيار الشيعي العراقي من خلال الرجوع إلى نقطة البداية، أي قضية المهدي. فالمهدي هو ليس "نهاية التاريخ" بل بدايته الرمزية. وهي الصيغة التي تمثل المعادلة المتكونة من التاريخ والعقيدة الإيمانية. وإذا كانت هذه المعادلة إحدى الصيغ الواقعية التي حفظت للشيعة وحدتهم المادية والمعنوية من خلال الدور الذي لعبته المرجعية بوصفها مؤسسة، ورجالها باعتبارهم رموز شخصية وتاريخية، فان معاصرة المستقبل تفترض تحويل عقيدة "الإمام المنتظر" إلى نظرية البحث عن بدائل المستقبل الواقعي والعقلاني. وذلك من خلال التأسيس السياسي والحقوقي لجوهرية العدل في التراث الشيعي. فالمهدي ليس من الهداية فقط، بل والمكون الجوهري لفكرة الانتظار، أي المستقبل. ومعاصرة المستقبل تفترض أن يكون الحاضر محور الاهتمام العلمي والعملي للحركة الاجتماعية والسياسية الشيعية من اجل توليف الأبعاد الروحية والعقائدية لفكرة "المهدي المنتظر"، بمعنى تحويل راهنيتها العقائدية إلى راهنية سياسية وثقافية. وهو أمر ينبغي نفيه بصورة عقلانية من خلال تحويل "انتظار الأشخاص" إلى "انتظار البدائل"، أي نقل الوعي الاجتماعي من انتظار المعجزات إلى تحقيقها في الفعل الاجتماعي – السياسي. فالبدائل لا تحتمل الانتظار، لأنها تستلزم بالضرورة العمل من اجلها. وذلك لان فكرة البدائل نفسها هي اجتهاد دائم ضمن حيز الاحتمال والإمكان، أي ضمن حدود الرؤية العقلية وإشكاليات الواقع. وبالتالي فان تحرير الانتظار من الأبعاد اللاهوتية والعقائدية والمذهبية يتضمن في أعماقه تحريره من نفسية العوام وذهنية التقليد. حينذاك يمكن تحقيق "المهدي المنتظر" في مشاريع متعددة غايتها العليا هي فكرة الحق. فالمهدي هو الحق، والحق هو الواقع والمستقبل والهداية.
***
وفي تحقيق التيار الإسلامي بشقيه السني والشيعي في العراق للمهمات النظرية والعملية الكبرى المطروحة تكمن أيضا مقدمة اندماجهما التاريخي في حركة اجتماعية سياسية ثقافية في العراق، يمكنها أن تكون نموذجا لما ادعوه بالإسلام الثقافي. وهو إسلام قادر على حل إشكالية الديني والدنيوي في العالم المعاصر بما يضمن للعراق إمكانية الازدهار والتقدم والإبداع الإنساني الأصيل في مختلف المجالات. كما انه الوحيد القادر على الإسهام بصورة فعالة في معترك البدائل السياسية – الثقافية ليس على النطاق العراقي والعربي والإسلامي فحسب، بل والعالمي أيضا.
***



#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)       Maythem_Al-janabi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحلقة الثانية-البروتوكولات الصهيونية-الماسونية اليهودية الص ...
- الحلقة الاولى - البروتوكولات الصهيونية - تقاليد قواعد العمل ...
- الفساد والإرهاب توأم الخراب في العراق المعاصر
- (4) الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
- الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي 3
- 2.الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
- (1)الهوية العراقية وآفاق البديل الديمقراطي
- الشعر والشاعر وإشكالية الحرية
- فلسفة السيادة وسيادة الدولة في العراق المعاصر
- الغلاة الجدد وأيديولوجيا الجهاد المقدس
- التصوف الإسلامي وفكرة وحدة الأديان
- محاكمة البعث ورموزه
- استئصال البعث ومهمة البديل الديمقراطي في العراق
- العراق وإشكالية المثلث الهمجي
- القضية الكردية وإشكاليات الوطنية العراقية
- العراق وعقدة الطائفية السياسية
- الغلاة الجدد وأيدبولوجية الإرهاب المقدس
- زمن السلطة
- الطريق المسدود للمؤقتين الجدد
- المثقف والسلطة، أو إشكالية القوة والروح المبدع


المزيد.....




- كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
- “التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية ...
- بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول ...
- 40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
- المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ميثم الجنابي - التيار الإسلامي ومهمة تأسيس البدائل العقلانية في العراق