|
الوجود البشري والحقيقة (6)
مجدي عزالدين حسن
الحوار المتمدن-العدد: 3649 - 2012 / 2 / 25 - 00:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
البعد الأونطولوجي للحقيقة: أعطى "مارتن هايدغر" لمفهوم الحقيقة بعداً أنطولوجياً كان مهمشاً وغائبا،ً أو على الأصح تم تجاهله ونسيانه طوال العصور التاريخية المختلفة والمراحل المتعددة التي مرت بها الفلسفة الغربية. وعلى حسب وجهة النظر الهايدغرية فإن البداهة البسيطة التي تم طمسها وإغفالها في تاريخ مفهوم الحقيقة، إنما تمثلت في أن الحقيقة الإنسانية لا يمكن فهمها والتقرير بشأنها إلا في ظل ارتباطها المتجذر في الوجود البشري الذي يمثل شرط إمكانها الوحيد، فليست هي مجرد صور ذهنية أو تمثلات فكرية لما هو واقعي وموجود، وإنما هي هذا الواقع نفسه وهذا الوجود ذاته. ومن سمات هذا الوجود البشري التاريخية والتغير وعدم الثبات والعرضية، وبالتالي فإننا نجد أن المفهوم الهايدغري للحقيقة يرفض فكرة أو مفهوم أزلية أو لا زمانية الحقيقة. لأن مثل هذا التصور يحجب تاريخية الحقيقة، مما قاده إلى رفض ونقد المذاهب الفلسفية ذات النسق الكلي والشامل التي ادعت امتلاك الحقيقة وقدرتها على التعبير عنها في اطلاقيتها. و"هايدغر" شأنه في هذا شأن فلاسفة الوجودية الذين أنكروا " أن يكون من الممكن وضع الحقيقة الواقعيةReality في تصورات دقيقة محكمة أو حبسها في مذهب مغلق.(...) لا توجد باستمرار حدود حاسمة أو واضحة المعالم، فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة ولا يمكن أن يعرف العالم إلا عقل يكاد يصل إلى مستوى الإلوهية" الحقيقة من هذا المنظور الوجودي ناقصة دوماً وغير مكتملة، وبالتالي هي في حالة تطور مستمر ومن غير المجدي حبسها في أنساق مقفلة أو في قوالب عقلية إنشائية محكمة. ف" لم يعد مجال الحقيقة هو المنطق، بل أصبح الحقيقي هو موضوع الاستطيقا، أما عن تعريف الجمال عند هايدغر، فيمكن أن نستنتج أنه أحد أساليب انفتاح الحقيقة في العمل الفني، أو هو ظهور الحقيقة ذاتها من خلال العمل" وفي ذات السياق نجد تفرقة "هايدغر" بين نوعين من التفكير: فمن جهة هناك التفكير الإنساني الأصيل، ومن جهة أخرى هناك التفكير الزائف، وإلى هذا النوع الأخير يلحق "هايدغر" التفكير المنطقي. ومن وجهة النظر الهايدغرية فإن التفكير المنطقي لا يقودنا للتوصل إلى حقيقة الوجود ف" المنطق (ما هو إلا تفسير واحد) لطبيعة التفكير. والتفكير المنطقي مضاد للتفكير في الروح الإنساني والوجود، فهو مجرد تفكير حسابي يقوم على ملاحظة وعد الموجود باعتباره شيئا جزئيا يضاف إلى شيء جزئي آخر. وفي مقابل هذا التفكير يوجد نوع آخر من التفكير الذي يسميه هايدغر (التفكير الأساسي) من حيث إنه تفكير ينشغل لا بالموجود وإنما بحقيقة الوجود .. الوجود الذي يكون أقرب إلى الإنسان من أي موجود. وهذا التفكير الأساسي في الوجود الذي ينشغل به الوجود الإنساني الأصيل، هو تفكير يند بطبيعته على أي "حساب"، ولا يستطيع أي "منطق" أن يدرك حقيقته " وهو الأمر عينه الذي أنكره فلاسفة الوجودية وعلى رأسهم "هايدغر"، حيث رفضوا التصور المفاهيمي للحقيقة المطلقة الذي دعت إليه الميتافيزيقا الغربية التقليدية. وما أخذه عليها "هايدغر" هو تبنيها للازمانية الحقيقة وهو الأمر الذي رأى فيه إغفال لعنصر الزمان، وبالتالي للوجود المتسم دوما بصفة التعين " فالحقيقة نسبية بمعنى أنها زمانية، أي لا تحيا خارج الزمان الذي يوجد فيه الموجود البشري والخبرات التي يعانيها، فليست هناك حقيقة في ذاتها، إذا كان المرء يعني بذلك أنها حقيقة مستقلة عن تساؤلات وتوقعات الموجودات البشرية" سؤال الحقيقة عند "هايدغر"، إذن، يربط إشكالية الحقيقة بالأنطولوجيا، وبالتالي فإن السؤال عن الحقيقة يرتد إلى التساؤل عن الوجود. فبدلاً من بحثها على المستوى المعرفي الأبستمولوجي صار تناولها على مستوى أكثر عمقا هو المستوى الأنطولوجي، مما يسمح لنا بالدخول على هذه الإشكالية من مدخل جديد يؤدي بدوره إلى إعادة صياغة الحقيقة كإشكالية من منظور مختلف يرى فيها ما لم يُرى، بحيث تصبح الحقيقة انفتاحا أو انكشافا للآنية بوصفها تاريخية أو بوصفها الوجود التاريخي للإنسان ذاته، حيث " لم يعد الإنسان عند هايدغر ـ في مشهد حدوث الحقيقة ـ هو الفاعل الحقيقي، بل أصبحت (الحقيقة) ذاتها في ظهورها من خلال وجود الإنسان هي الفاعل الحقيقي" بالتالي فإن مثل هذه التناول يقلب الفهم التقليدي للحقيقة، الناظر لها والمتعاطي معها بوصفها تطابقا بين الفكر الواقع أو الدال والمدلول. وبدلاً من ذلك ينظر المنظور الأونطولوجي لها باعتبارها رؤية كاشفة بعد الحجب والخفاء، وبوصفها إبداع يتجه صوب الموجود ويحوله من الحجب والخفاء إلى الانكشاف من خلال النص كمجال لحدوث الحقيقة. " أن الوجود يحكي لنا، يضيء ويظهر ويرتّب بظهوره مساحة الزمن الحرة حيث يظهر ما هو موجود. إننا لا ندرك في إشراق الوجود تاريخ الوجود من خلال تصرّم يتميز هو نفسه بالتقضي والتقدم. بل إن جوهر التاريخ يتحدد على العكس من ذلك، انطلاقاً من الوجود بوصفه إشراقاً وظهوراً وانتشاراً، انطلاقاً مما يظهر أمامنا ويختفي في الوقت نفسه. الظهور والانحجاب هما فعل واحد، وليس فعلين متمايزين" هنا يُترك الوجود ليكشف عن حقيقته، و"الترك" هنا معرفة وإرادة، وهو مقدمة لا غنى عنها لانكشاف الوجود من جانب المؤول. الحقيقة بوصفها (اللاتحجب) يستقيها "هايدغر" من المفردة اليونانية (الأليثين) " بمفهومها اليوناني الذي يفيد التكشف أو اللاتحجب... وهي أحد الكلمات الأساسية في لغة اليونان وفهمهم للوجود. فكل تعامل أو اتصال بالموجود لا يتم إلا إذا خرج هذا الموجود من تحجبه وتكشف وظهر بنفسه. هذا اللاتحجب لا يضاف إلى الموجود أو لا يُحمل عليه عن طريق الحكم، بل الأولى أن كل قول نعبر به عن الموجود لا يكون ممكناً إلا إذا سبقه ظهور هذا الموجود نفسه (أو لاتحجبه) الذي يُعد خاصية أساسية فيه" وهكذا يستند "هايدغر" في تصوره لمفهوم الحقيقة على التصور اليوناني الذي يفيد التكشف أو اللاتحجب. فحقيقة الأشياء تظهر حينما تنزاح الحُجب. واصلاً هذا التصور للحقيقة بجذورها في الوجود البشري، في الوجود المتعين Dasein. لاغياً بذلك للتصور التقليدي الناظر إليها باعتبارها حصيلة للعلاقة المعرفية التي تجمع كل من الذات والموضوع أو الفكر والواقع، " فقد فهم علاقة اللغة بالواقع في إطار عملية الكشف أو اللاتحجب التي سبق الحديث عنها، فليست اللغة صورة من الواقع بحيث يمكن أن نحكم عليها بالصدق إذا كان كل جزء من أجزاء هذه الصورة يطابق الواقع الذي "تمثله" هذه الصورة. إن الحقيقة لا تكمن في القضية، بل في الواقغ ذاته" والحقيقة بذلك منزرعة في الوجود البشري عينه وغير منفصلة أو مستقلة عنه، ويظهر حقيقته بنفسه. " إن هذا الذي يُظهر نفسه بنفسه وتحاول الظاهريات أن تصفه وصفا خالصا من خلال أفعال الوعي والشعور، قد فكر فيه "أرسطو" من قبل كما تناولته تجربة اليونان في الفكر والوجود على نحو أكثر أصالة ووصفوه ب(الأليثين) أو (لا تحجب) الموجود وتكشفه وتجليه بنفسه. فهذا (الظهور) الذي أعادت الفينومينولوجيا اكتشافه وجعلته الموقف الأساسي للفكر والوعي هو في حقيقة الأمر أهم ما يميز الفكر اليوناني" وهذا يعني فيما يعنيه أن الذات ليست هي المحور المركزي لمشكلة الحقيقة بل الوجود هو المركز طالما أنه يكشف عن نفسه بنفسه. حيث " يشكل الأفق المانح للمعنى حيث يتوارى الموجود وينكشف في آن معا الوجود الإنساني الذي يحمل هم وجوده على النمط الوجودي. إن العالم على الدوام سابق في وجوده للذات، فالذات التي ترتبط بالأشياء عبر العمل أو عبر المعرفة ليست هي التي تأخذ المبادرة للارتباط بشيء ما في العالم. إن العالم هو الذي يخلق أولاً السياق حيث يسمح (ما قبل-الفهم) بلقاء الموجود" إلا أن هذا الكشف هذا اللاتحجب لا يمكن أن نصل إليه إلا إذا أنصتنا إلى نداءه وذلك لا يتم إلا بواسطة الفينومينولوجيا. الفينومينولوجيا ليس بالمعنى الهوسرلي وإنما بالمعنى الهايدغري المرتبط عنده بالبعد الأونطولوجي. مع هايدغر إذن " اتخذت الهرمنيوطيقا بعدا فينومينولوجيا أونطولوجيا: فلقد أرسى هايدغر دعائم الهرمنيوطيقا الفينومينولوجية باعتبارها كشفا عن حقيقة أو معنى ظواهر الوجود الإنساني hermeneutics of dasein فلأن حقيقة أو معنى الظاهرة لا يكون معطى لنا بصورة مباشرة أو جاهزة، فإنها بالتالي تحتاج إلى تفسير، أي إلى نشاط هرمنيوطيقي،...، وعلى ذلك فإن التفسير يعني هنا السماح للحقيقة بأن تحدث أو تتكشف من خلال التحجب والتخفي. والمفسر يتيح للحقيقة أن تتكشف على ذلك النحو حينما يمارس عملية فهم الحقيقة باعتبارها تنتمي إلى عالمه المعاش وإلى سياقه التاريخي الذي يحيا فيه، أي حينما يلتزم بالبعد الأونطولوجي لعملية الفهم الذي كان بمثابة نقطة تحول رئيسية في الهرمنيوطيقا امتد تأثيرها بقوة إلى غادامر" سنواصل.......
#مجدي_عزالدين_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحقيقة أم التأويل: التساؤل بشأن (حقيقية) الحقيقة(5)
-
تفكيكية جاك دريدا: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال التأويل (4)
-
الحقيقة لا تمثل الواقع الخارجي بل مفهومه، مراجعات فلسفية في
...
-
مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (2)
-
مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (1)
-
العقل الإسلامي المعاصر: إلى أين؟
-
في نظرية المعرفة: خلاصة ونتائج
-
في نظرية المعرفة (6)
-
في نظرية المعرفة (5)
-
في نظرية المعرفة (4)
-
في نظرية المعرفة (3)
-
في نظرية المعرفة (2)
-
في نظرية المعرفة (1)
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية ا
...
-
الفلسفة وسؤال النهضة والحرية والتنوير الغائب في العالم العرب
...
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|