أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل السابع: تابع (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول)















المزيد.....



السنة ما لها وما عليها: الفصل السابع: تابع (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول)


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3648 - 2012 / 2 / 24 - 16:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


## (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول): الجزء الثاني:

ربما الذي حمل الدكتور (صبحي منصور) على قول ما قال _كما أوضحنا في الفصل السابق_ في شأن التفريق بين شخص محمد وشخص الرسول، وجعله يقول إن الرسول هو القرآن وليس شخص النبي محمد ذلك المأزق الذي تعرض له قبله كثير من مفسري القرآن وشارحيه منذ قرون، حول آية سورة الفتح التي جاء فيها الأمر (بتعزير وتوقير وتسبيح الرسول محمد)، في قوله تعالى: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا). (9_ الفتح). فظن الدكتور (منصور) كما ظن قبله أكثر المفسرين أن (التسبيح) يعني العبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، فكيف يأمر الله الذين آمنوا بتسبيح الرسول؟ هكذا فهم الدكتور (منصور) من كلمة (التسبيح) أنها تعني العبادة والذكر والصلوات، كما ظن قبله جل مفسري القرآن الكريم.

وهذا هو نص كلام الدكتور منصور من كتابه (القرآن وكفى): (وأحياناً تعنى كلمة "الرسول" القرآن فقط وبالتحديد دون معنى آخر. كقوله تعالى ﴿لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ (الفتح 9) فكلمة "ورسوله" هنا تدل على كلام الله فقط ولا تدل مطلقاً على معنى الرسول محمد. والدليل أن الضمير فى كلمة "ورسوله" جاء مفرداً فقال تعالى ﴿وتعزروه وتقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا﴾ والضمير المفرد يعنى أن الله ورسوله أو كلامه ليسا اثنين وإنما واحد فلم يقل "وتعزروهما وتوقروهما وتسبحوهما بكرة وأصيلا". والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده . ولا فارق بين الله وتعالى وكلامه، فالله تعالى أحد فى ذاته وفى صفاته ﴿قل هو الله أحد﴾. ويقول تعالى يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه﴾ (التوبة 62) ولو كان الرسول فى الآية يعنى شخص النبى محمد لقال تعالى "أحق أن يرضوهما" ولكن الرسول هنا يعنى فقط كلام الله لذا جاء التعبير بالمفرد الذى يدل على الله تعالى وكلامه.) انتهى.

ومن أجل أن يجد الدكتور منصور له مهربا ومخرجا من هذا المأزق، قام إلى كلمة (الرسول) فانتزعها من مدلولها الحق الذي لا مدلول لها غيره وهو (حامل الرسالة) محمد عليه الصلاة والسلام، ووضع لها مدلولا آخر هو: (القرآن الكريم) رغم أنف الدلالة اللسانية لكلمة (رسول) في لسان قوم الرسول الذي نزل به القرآن، ورغم أنف الحقائق العلمية، ورغم أنف القرآن نفسه، وهربا من القاعدة اللسانية التي تقول: (إذا تعددت الأسماء في الجملة فالضمير يعود على أقرب أو آخر اسم ورد قبل الضمير مباشرة). فهروبا من عودة ضمير (الهاء) في قوله: (وتسبحوه) على (محمد) عليه الصلاة والسلام، قام الدكتور منصور بتحريف دلالة كلمة (رسوله) من أن يكون المقصود بها (محمدا) إلى جعلها المقصود بها (القرآن الكريم).

والقاعدة اللسانية في لسان قوم الرسول الذي نزل به القرآن الكريم تقول: (لو تعددت الأسماء قبل الضمير فرجوع الضمير إما أن يكون على جميع الأسماء فيأتي الضمير (جمعا) أو يأتي (مثنى) إن كانت الأسماء اثنين. أما إذا جاء مفرداً وفي الجملة أكثر من اسم فيعود الضمير لأقرب اسم منه أو آخر اسم ورد قبل الضمير، ولا يعود الضمير إلى أي اسم آخر من الأسماء إلا بقرينة يقينية يحددها النص نفسه ويحددها مراد المتكلم، أما إذا ورد الضمير مفردا عقب عدة أسماء ولم ترد دلالة أو قرينة يقينية قطعية في النص ذاته تحدد عودة الضمير على أحد الأسماء فالأصل أن يعود إلى أقرب اسم للضمير أو آخر اسم مذكور في ترتيب الأسماء، ولنعد إلى نص الآية والآية التي قبلها يقول الحق سبحانه: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا(8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) (9_ الفتح). الآية الأولى تتحدث عن إرسال الله للرسول (محمد) كي يكون شاهدا ومبشرا ونذيرا. والآية الثانية تتحدث عن علة هذا الإرسال للرسول (محمد) وهي لتؤمنوا بالله ورسوله، ثم بعد ذلك (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا). فلدينا اسمان سبقا الأمر بالتعزير والتوقير والتسبيح، هذان الاسمان هما: (الله ورسوله) وأقربهما للضمائر الثلاثة هو (رسوله)، فطبقا للقاعدة اللسانية يجب أن تعود الضمائر الثلاثة المفردة على أقرب أو أخر اسم مذكور قبل الضمائر وهو (رسوله)، كذلك لا توجد أية قرينة يقينية قطعية في نص الآية تمنع من عودة الضمائر على (رسوله) (محمد).

وهنا قد يسأل سائل ويقول: كيف هي القرينة القطعية اليقينية في النص ذاته؟ أقول: هناك شواهد عدة في القرآن على هذه القرائن نذكر منها مثلين:
المثل الأول: قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإنّهَا لكَبيرَةٌ إلا عَلَى الْخَاشِعِينَ). (44_ البقرة). قال (إنّهَا) رغم أنه أمرنا أن نستعين بالصبر وبالصلاة معا؛ كنا ننتظر أن يقول لنا "وإنهما لكبيران"، إذاً مجيء الضمير مفردا مؤنثا يؤكد بالقطع واليقين أن قوله: (وإنها لكبيرة). لا يقصد به الصبر والصلاة معا، وإنما يقصد به (الصلاة) فقط، فأفرد الضمير وأنثه، وإفراد الضمير وتأنيثه هو قرينة قطعية يقينية بأنه يقصد الصلاة فقط بقوله (وإنها لكبيرة).

المثال الثاني:
يقول الحق سبحانه: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا). (11_ الجمعة). قال: (إليها) و لم يقل: (اليهما) رغم أنه يتحدث عن التجارة واللهو معا، أو كان من المفترض أن يقول (انفضوا إليه) على اعتبار أن (اللهو) هو أقرب اسم مذكور إلى الضمير، لكنه قال: (انفضوا إليها)، مما يعني أن الانفضاض لا يحدث إلا عند رؤية التجارة فقط، إذاً ووفقا للقاعدة اللسانية كان من المفترض أن يعود الضمير إلى آخر اسم مذكور وهو (اللهو)، وإنما القرينة القطعية اليقينية وهي إفراد الضمير وتأنيثه جعلته يعود على الاسم الأول وهو (التجارة).

ولو عدنا لنص الآية مرة أخرى على النحو التالي: (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا). (9_ الفتح). فلن نجد في الآية أية قرينة أو دلالة على الإطلاق تجعل الضمير يعود على (الله ورسوله معا)، وأيضا لن نجد أية قرينة أو دلالة تجعل الآية تعود على (الله) فقط. وبعدم وجود هذه القرينة القطعية وبعدم وجود تثنية للضمير تجمع بين الله ورسوله، فالضمير المفرد لا يعود إلا على أقرب اسم مذكور من الضمير وهو (رسوله)، إذاً فأمر الله للمؤمنين في قوله: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) يعود على (محمد عليه الصلاة والسلام) فقط. أما الدكتور (منصور) من أجل أن يهرب من هذا المأزق قام فقال المقصود بـ (رسوله) هنا (القرآن) وليس شخص (محمد)، والقرآن كونه كلام الله والله والقرآن شيء واحد، ولأن التسبيح لا يكون إلا لله وحده.

ولكن هل خرج الدكتور منصور من (المأزق) بكلامه هذا؟، كلا لم يخرج من المأزق، فقوله: (ولا فارق بين الله تعالى وكلامه، فالله تعالى أحد فى ذاته وفى صفاته) انتهى.
وقول الدكتور (منصور) أن الله وكلامه شيء واحد لا فارق بين ذات الله وبين كلامه، هو كلام تفوح منه رائحة الوثنية، وتفوح منه رائحة عقائد القول بالتجسد والأقانيم الثلاثة واتحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح ابن مريم. وليس هنا موضع تفصيل هذا، فقد سبق وأن نشرت منذ بضع سنين أربع مقالات وأربع حوارات حول (هل القرآن كلام الله؟) على موقع (الحوار المتمدن)، ومن أراد أن يطلع عليهم فعلى الروابط التالية:

(العقيدة الكاثوليكية لمذهب أهل السنة والجماعة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=81314
(العقيدة الأرثوذكسية لمذهب الشيعة والمعتزلة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=81878
(هل التوراة والإنجيل والقرآن كلام الله؟)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=130165
(هل القرآن كلام الله؟ رد على المستشار شريف هادي)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=189527
(هل القرآن كلام الله؟ تعليقات وردود _ الجزء الأول)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=191355
(هل القرآن كلام الله؟ تعليقات وردود _ الجزء الثاني)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=191466
(هل القرآن كلام الله؟ تعليقات وردود _ الجزء الثالث)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=191564
(هل القرآن كلام الله؟ تعليقات وردود _ الجزء الرابع)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=191788

أما قول الدكتور منصور (والتسبيح لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى وحده). فعلى أي أساس اتخذ الدكتور (منصور) هذا الحكم؟ وهل (التسبيح) عبادة لله وحده؟. وحتى لو كان التسبيح عبادة لله فما المانع أن يأمرنا الله بتسبيح أحد خلقه معه وبأمر منه سبحانه؟؟، أوليس (الإيمان) هو رأس العبادات ولبها وأولها وأعظمها وأشرفها وأهمها؟؟، ورغم ذلك أمرنا الله بالإيمان به وحده ومع الإيمان به وحده أمرنا بالإيمان ببعض خلقه سواء بسواء، كإيماننا بـ (الغيب) و(اليوم الآخر) و(الملائكة) و(النبيين) و(الرسل) و(الكتب). وكل هذه مخلوقات خلقها الله، ولكنه أمرنا تعالى أن نؤمن بها عبادة له سبحانه، بل لا يكفي إيماننا به وحده حتى نؤمن بهذه الأشياء المخلوقة وبغيرها من الأشياء التي لا يستقيم إيمان العبد بالله وحده حتى يؤمن معه بهذه الأشياء جميعها. والسؤال الآن: هل إيماننا بهذه المخلوقات مقترنا بإيماننا بالله وحده يعد شركا بالله؟؟.

وحتى لو كان التسبيح عبادة لله فما المانع أن يأمرنا الله بتسبيح أحد خلقه معه وبأمر منه سبحانه؟ فكما أمرنا بالإيمان به وحده أمرنا كذلك بالإيمان ببعض خلقه؟. للإجابة على هذه الأسئلة لابد أن نعلم ابتداءً مدلول ومفهوم التسبيح. التسبيح: أصله في لسان قوم الرسول من (السَّبْح)، وهو: العدو والمر في الماء، أو العدو والمر في الفضاء. أي: ما يشبه (المشي والجري) في اليابسة. فمن عدا ومر على اليابسة يقال عنه: (مشى مشيا) أو (جرى جريا)، ويقال لمن عدا ومر في الماء أو في الفضاء: (سبح سبحا وسباحة). قال تعالى: (لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). (40_ يس). فعدو ومر الشمس والقمر في الفضاء يقال له: (سباحة)، إذاً الفرق بين العدو والمر على الأرض وبين المر والعدو في الفضاء والماء، أن العدو والمر على الأرض يسمى (مشي وجري). أما في الماء وفي الفضاء فيسمى (سبح أو سباحة).

ومنه كذلك قوله تعالى: (إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً) (7 _ المزمل). أي: لك مرا وعدوا طويلا من الوقت خلال مر وعدو النهار، أي: خلال مرور وقته، وعدو النهار ومروره أشبه بالعدو والمر في الماء وفي الفضاء. كذلك قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (44_ الإسراء). وتسبيح الكائنات لله لا يعني تلاوة الأذكار باللسان كما يظن أكثر الناس، إنما عدو ومر الكائنات إليه فيكون وفق القوانين والسنن التي خلقها لتمر وتعدوا فيها استجابة له. ومن هذه الدلالة للسبح والسباحة اشتق (التسبيح)، فالتسبيح لله يكون بالعدو والمر إليه بكثرة حمده وذكره، وبتنزيهه عن الشرك والنقائص بالحجة والبيان والفكر والتدبر وليس بترديد اللسان فحسب كما يظن أكثر الناس، والتسبيح: أي العدو والمر يكون: (له) و(إليه) و(به)، فأما (له): فيكون بفعل ما أمر به، وأما (إليه): فيكون بتوجيه القلب والإرادة أثناء الفعل إليه. وأما (به): فيكون بتنزيهه عن الشرك والوثنية والنقائص.
ولي بحث لم ينشر بعد حول دلالة ومفهوم التسبيح وحول كلمة (سبحان). أكتفي منه هنا بهذا القدر حتى لا يطول بنا المقام.

وبالعودة لقوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا(8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا). (9_ الفتح). نجد أن التعزير للرسول قد أمر الله به لجميع الرسل وأمر به مرتين للنبي (محمد) عليه الصلاة والسلام، فلجميع الرسل قال تعالى: (وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوَهُمْ) (12_ المائدة). وقال في شأن (محمد): (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ). (157_ الأعراف). وقال في حق (محمد) أيضا: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا). (9_ الفتح). فالتعزير لم يرد على الإطلاق في القرآن الكريم أن يكون لله. و(التعزير) هو لون من التأييد والمساندة والدفاع عن الأنبياء والرسل في حياتهم وبعد موتهم، وخاصة (النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد أضاف الله لخاتم النبيين (محمد) عن بقية الرسل: (التوقير) و(التسبيح)، إذاً فالتسبيح ليس عبادة اختص الله بها نفسه، كما ذكر الدكتور (منصور)، أو كما يظن أكثر الناس، إنما تسبيح رسول الله لا يكون فقط بالعدو والمر الذي يشبه (المشي والجري) الفعلي في الأرض كالخروج والجهاد والقتال معه وهو حي، وإنما يكون كذلك بالعدو والمر الذي يشبه العدو والمر في الماء وفي الفضاء، وهذا لا يكون إلا بالدعوة والفكر والتذكر والعلم والحجة والبيان والتبيين والمجادلة والمنافحة والدفع والدفاع عنه عليه الصلاة والسلام في (البكرة) وفي (الأصيل) وفي كل وقت استطاع المؤمن فيه إلى ذلك سبيلا، وهو أمر فرضه الله على المؤمنين في حياته وبعد موته عليه الصلاة والسلام، لذلك قال تعالى: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا(8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) (9_ الفتح).

وعودة لكتابات الدكتور (منصور) حول التفريق بين النبي والرسول، وفي مقاله: (التداخل بين مفهوم النبي والرسول) جاءه سؤال من أحد قرائه يقول فيه: (ليست كل الآيات القرآنية تتفق مع التعريف الذي حددته). يقصد التفريق بين النبي والرسول، ثم ذكر له بعض الآيات التي تخالف ما ذهب إليه الدكتور (منصور)، وبعدها سأله: (هل هذه الآيات تتفق مع تعريفك للنبي والرسول؟) انتهى.
وكعادة الدكتور منصور في كثير من كتاباته، قام بصنع خلطة وتركيبة غريبة عجيبة في رده على القارئ، وأخذ يتحدث عن تقسيمات وتفريعات وتنويعات ما أنزل الله بها من سلطان، كحديثه عن ما سماه (التداخل بين مصطلحي النبي والرسول من حيث اجتماعهما في شخص واحد). وحديثه عن: اختلاف الأنبياء والرسل عن بقية البشر، وكل منا له شخصية واحدة ولكن للنبي شخصية مزدوجة، شخصية النبي كبشر، وشخصية الرسول كمبلغ للرسالة، وتحدث عن الالتفات في آيات القرآن، كأن يخاطب الله (محمد) بصفته النبي البشري ثم يلتفت في نفس الآية ويخاطبه بصفته الرسول المبلغ للرسالة والناطق بالقرآن، وفق تعبير الدكتور (منصور)، ثم تحدث عن التشريعات الخاصة به والتشريعات التي يمكن سريانها في حياة النبي ثم بعد موته لا يمكن سريانها، ثم قال: وهذا يتداخل مع الالتفات مع تداخل معنى النبي والرسول. ثم تحدث عن محلية الحدث وقابليته للتكرار أو عدم قابليته للتكرار. ثم تحدث عن الأذى الذي يلحق بالنبي في حياته وأسماه أذى (محلي) مقيد بالزمان والمكان، وأذى ممتد غير مقيد بالزمان والمكان. والمدهش في الأمر أن الدكتور (منصور) بعد هذه الخلطة الغريبة العجيبة اعترف هو بنفسه في هذا المقال وقال نصا: (ولهذا فالعلاقة هنا معقدة). وبالفعل العلاقة معقدة، كما سبق وأن قلت في الفصل السابق أن الأمر أشبه بتعقيد عقيدة (التجسد) و(التثليث) في العقيدة المسيحية. وأنصح القارئ بأن يقرأ مقال الدكتور (منصور) بنفسه ليرى بماذا سيخرج منه؟.

لكن ما لفت انتباهي في مقال الدكتور (منصور) وفي رده على القارئ حين سأله عن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).
ولكي يبرر الدكتور منصور نظريته التي تقول أن أي خطاب في القرآن تصدره اسم النبي، أي: (يا أيها النبي). هو خطاب خاص بشخص النبي وغير ملزم للأمة، أو هو خطاب وقتي ظرفي في حياة الرسول وزمنه وعصره فقط ولا شأن له بعصرنا وزماننا، فجاءت إجابة الدكتور (منصور) على السائل حول الآية السابقة على النحو التالي: يقول: (ومثله تشريع آخر عن الزىّ للمؤمنات خاص بمكانه وزمانه ولا شأن له بعصرنا وهو قوله جل وعلا لخاتم النبيين:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) . وتوضح الآية التالية سبب هذا التشريع الخاص بزمانه ومكانه وظروفه ، وهو وجود المنافقين الآمرين بالمنكر والناهين عن المعروف فى طرقات المدينة ( التوبة 67 ) ، لذا يتوعدهم الله جل وعلا بأقسى تهديد ، يقول : (لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا) ( الأحزاب 59 : 60 ) انتهى.

وعليه نفهم من كلام الدكتور (منصور) كأن (المنافقين الآمرين بالمنكر والناهين عن المعروف) كان لهم زمانهم ومكانهم وظروفهم في زمن الرسول ولم يعد لهم وجود الآن في زماننا ومكاننا وظروفنا!!!. (حقا إن كلام الدكتور منصور هذا لكلام عُجَاب)!!!. وكذلك نفهم من كلام الدكتور (منصور) أن أي خطاب لمحمد بصفته ومسماه (يا أيها النبي) هو خطاب وقتي زمني أو خطاب شخصي خاص بوقت وزمن (النبي) ولا شأن له بزماننا، إذاً فما جواب الدكتور (منصور) عن مضمون هذه الآية الكريمة التي تصدرها الخطاب بـ (يا أيها النبي):(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً). (1_ الطلاق)؟؟.
هل هذه الأحكام والتشريعات وهذه الحدود التي حدها الله في نص الآية حول إتمام إجراءات عملية الطلاق والعدة، هل هي أحكام وحدود وقتية ظرفية خاصة بزمن النبي، ولا شأن لها بعصرنا، على اعتبار أن الخطاب في الآية جاء بـ (يا أيها النبي) ولم يأت بـ (يا أيها الرسول)، أم أنها أحكام عامة ملزمة لكل المسلمين في كل زمان ومكان وسارية حتى يوم الدين؟؟.
أترك الجواب للقارئ الكريم وللدكتور (منصور)، وأترك أيضا للقارئ سؤالا هاما وهو: ألا تطيح هذه الآية بنظرية الدكتور (منصور) برمتها حول تفريقه بين شخص النبي وشخص الرسول في شخص (محمد) عليه الصلاة والسلام؟؟.

ولقد دهشت كثيرا من قول الدكتور صبحي منصور في ردوده على الدكتور (كامل النجار) حين قال له:
(ان القرآنيين ـ هم وحدهم ـ أصحاب الحجة القاطعة ضد ذلك التيار الحنبلى السائد والطاغى لأنهم بكل بساطة يثبتون تناقض ذلك التيار المتطرف مع الاسلام فى عقائده وتشريعاته وتراثه، وبالتالى يجردونه من شرعيته وحجته التى يستطيل بها على الآخرين) انتهي. وقال: (لأن القرآنيين متمكنون من فهم الاسلام وتراثه ومن يجادلهم فى تخصصهم بغير علم سيخسر الكثير) انتهى.
(لا تعقيب)

ومن المسائل التي لم يقربها القرآنيون وتركوها فراغا ولم يتعرضوا لها من قريب أو بعيد، مسألة التفريق بين إرسال النبي وإرسال الرسول، كما جاء في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ) (94_ الأعراف). وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ ). (52_ الحج). فلماذا قال: (أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي)؟، وما الفرق بين (إرسال النبي) و(إرسال الرسول)؟. وهل كل نبي رسول وكل رسول نبي؟. ولماذا قال في بعض الآيات: (بعث الله النبيين) وقال في بعض الآيات: (نرسل المرسلين)؟، ولماذا قال في بعض الآيات الأخرى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا)؟. كذلك هناك مسألة أخرى من الأهمية بمكان ومع ذلك لم يقربها القرآنيون، وهي: هل الأنبياء والرسل أثناء تبليغهم رسالات الله للناس كانوا مخيرين أم مسيرين؟ كل هذه الأسئلة لم يجب عليها أحد من القرآنيين على الإطلاق. ولا يليق بنا ونحن نناقش موضوع كهذا وخاصة موضوع هذا الفصل أن ننهي هذا الفصل دون أن نجيب على هذه الأسئلة الهامة. وقد سبق وأن قمت بتناول هذه المسألة حين نشرت دراستي عن الديانات الشرقية في عام 2006م، وناقشت فيها هذه المسألة على النحو التالي:

أما الوحي الذي هو الكتاب والعلم والحكمة، فقد أوحى الله به إلى كل الأنبياء والمرسلين بلا استثناء، أما ما يعتقده كثير من الناس خطئا أن هناك أنبياء ليسوا برسل، أو أن هناك رسل ليسوا بأنبياء، أو أن النبي هو من أوحي إليه ولم يؤمر بالتبليغ، والرسول هو من أوحي إليه وأمر بالتبليغ، فهذا هراء وعبث واعتقادات غير صحيحة لم يدل عليه دليل واحد. بل إن ما تواترت به نصوص القرآن الكريم إن كل نبي لابد وأن يكون رسولا، وكل رسول لابد وأن يكون نبيا، وبناءً عليه فإن كل نبي رسول، وكل رسول نبي، ولا يوجد إطلاقا وحسب نصوص القرآن نبي ليس برسول، ولا يوجد إطلاقا وحسب نصوص القرآن رسول ليس بنبي. ومن هنا كان لابد أن نفرق بين كل من النبوة والرسالة، فالنبوة هي رفعة ومنزلة سامية يرقى بها الشخص الموصوف بها على جميع الناس كما سبق بيانه في الفصل السابق، أما الرسالة فهي وظيفة يقوم من خلالها النبي أو الشخص المرسل بتبليغ رسالة الله وعلمه وحكمته إلى الناس.

وهنا يطرح سؤال هام وهو: كيف خلط كثير من الناس بين النبوة التي هي رفعة في المنزلة وبين الرسالة التي هي وظيفة؟، ولماذا ادعى البعض أن النبي من الممكن أن لا يكون رسولا، والعكس؟؟. للجواب على هذا السؤال أقول: لقد خلط الناس بين النبوة والرسالة، أولا: بسبب تجاوز الناس للدلالات الأصلية لكلمة النبوة والرسالة. ثانيا: عدم معرفة كثير من الناس بأمرين هامين وردا في القرآن الكريم، الأول: أن الله يهب النبوة لأناس ابتداءً، وبعد أن تكتمل نبوتهم يختارهم الله رسلا فيما بعد. الثاني: أن الله يختار ويصطفي بعض الناس الذين ليسوا بأنبياء ولم تسبق لهم النبوة وإنما هم أناس عاديون، يختارهم الله ويكلفهم بالرسالة، ثم يهبهم النبوة بعد تكليفهم بالرسالة. وبعبارة أخرى، إن من الأشخاص من وهبه الله النبوة أولا، وبعدها بفترة يكلفه بالرسالة، بمعنى أنه أصبح نبيا أولا ثم رسولا ثانيا، وإن من الأشخاص من كلفه الله بالرسالة أولا، ثم وهبه النبوة بعد تكليفه بالرسالة، بمعنى أنه تم تكليفه بالرسالة ثم اكتسب النبوة بعد ذلك. وخلاصة ما تقدم أن الأنبياء هم رسل، وأن الرسل هم أنبياء، والفرق بينهما أن النبي هو من جاءته النبوة هبة من الله وفضلا منه سبحانه قبل الرسالة، أما الرسول فقد اكتسب النبوة بعد الرسالة وبعد إيمانه بها وصبره وثباته عليها. إذن النبي جاءته النبوة هبة من الله وفضلا ودون جهد منه، أما الرسول فقد اكتسب النبوة بفضل إيمانه بالرسالة وصبره وثباته عليها. إذن كان وحي الله مع الأنبياء والرسل على حالين مختلفتين، هما:

# الحالة الأولى: حالة النبي، وهو الشخص الذي اصطفاه الله لنبوته، فيأتيه الوحي على مرحلتين متعاقبتين ومنفصلتين عن بعضهما زمنيا، وحيا خاصا به هو، يأتيه بمفرده ليحظى بنبوة الله أولا، ثم يأتيه وحيا آخر ليبلغه للناس بعد أن أصبح نبيا لله، فالوحي الأول رسالة خاصة منفردة يهبها الله للشخص الذي اصطفاه ابتداءً حتى يصبح نبيا، وبعد أن ينال منزلة النبوة يكلفه الله بعد ذلك برسالة أخرى ليبلغها للناس، فيصبح في هذه الحالة نبيا أولا، ثم يختاره الله ويصطفيه بعد ذلك رسولا لتبليغ رسالة الله إلى الناس. وهاهي نصوص القرآن التي تؤكد ذلك على النحو التالي:

من أوضح النصوص القرآنية التي تؤكد على أن الله أرسل للناس أناسا كانوا أنبياء قبل الرسالة، وأيضا أرسل رجالا لم يكونوا أنبياء قبل الرسالة، بل كانوا رجالا عاديين اصطفاهم الله لرسالته، كان ذلك النص التالي: قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) (الحج- 52). إذن نصت هذه الآية على أن الله أرسل للناس أنبياء، وأرسل لهم رسلا لم يكونوا أنبياء، وإنما وهبهم الله النبوة بعد ذلك.

ويؤكد ذلك أيضا ما جاء في الآية التالية، فإنها تخبرنا بأن الله أرسل أنبياء في الأولين ولم يقل رسلا، وذكر أن الشخص الذي أتاهم كان نبيا ولم يكن رسولا، بمعنى أنهم كانوا أنبياء ثم أرسلهم الله، قال تعالى: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون). (6: 7 الزخرف).

والآية التالية تنص على أن الله بعث في بادئ الأمر نبيين وليس مرسلين، قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) (البقرة – 213)

وأيضا الآية التالية تنص على ذلك أيضا، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ). (94- الأعراف).

أما الآية التالية فتنص على أن الله أوحى إلى محمد، كما أوحي إلى نوح، ثم قال والنبيين من بعده أي من بعد نوح، ثم ذكر إبراهيم وبقية الأسماء، مع أنهم أيضا جاءوا من بعد نوح، ولكن الآية فصلت بينهم وبين النبيين الذي جاءوا من بعد نوح، لأن الذين جاءوا من بعد نوح ليسوا كلهم أنبياء بل فيهم رسل أمثال: إبراهيم وإسماعيل وعيسى وأيوب ويونس وهارون، وهؤلاء لم يكونوا أنبياء قبل مجيء الرسالة إليهم، بل جاءتهم النبوة بعد الرسالة، والأنبياء الوحيدون الذين ذكرتهم الآية هم: إسحاق ويعقوب وداود وسليمان، لأن رسالة التكليف جاءتهم بعد النبوة، وسوف نفصل ذلك بعد قليل عند حديثنا عن الرسل، قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا). (163- النساء)

والآية التالية تنص أيضا على أن إسحاق ابن إبراهيم وحفيده يعقوب كانوا أنبياء قبل أن يكلفوا بالرسالة، ولم يأت ذكر إسماعيل ابن إبراهيم الأكبر في نص الآية، وذلك لأن إسماعيل جاءته النبوة بعد الرسالة، ولم يكن نبيا قبل الرسالة كإسحاق ويعقوب، على ما سنبينه بعد قليل، قال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا). (49- مريم). وفي آية أخرى، قال تعالى عن إسحاق، (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). (112- الصافات)

ومن الذين كانوا أيضا أنبياء قبل التكليف بالرسالة هو النبي يحيي عليه السلام، قال تعالى: (أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ). (39- آل عمران)

أما الآية التالية فتنص على أن الله يجيء بالنبيين يوم القيامة وليس بالرسل، قال تعالى: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ). (69- الزمر). أما الرسل فسيجمعهم الله يوم القيامة كما قال تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ). (109- المائدة).

أما الآية التالية فتنص على الكتاب الذي هو التكليف والرسالة وأنه يأتي بعد النبوة في بعض الأحيان، فجعل الله النبوة أولا، ثم الكتاب الذي هو التكليف ثانيا، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ). (26- الحديد).

أما الآية التالية فتنص على أن الرسالة التكليفية التي كلف الله بها أنبياء بني إسرائيل بعد موسى هي الحكم بالتوراة، وقد جاءهم التكليف بأن يحكموا بالتوراة بعد أن أصبحوا أنبياء قال تعالى: (إنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) (المائدة– 44). إذن نتبين من الآية السابقة أن أنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا من بعد موسى كانت رسالتهم التي كلفهم الله بها هي: أن يحكموا بالتوراة بين اليهود والربانيين والأحبار، وتلك كانت رسالتهم. ونتبين أيضا أنهم كانوا أنبياء قبل أن يكلفهم الله بالحكم بالتوراة.

ومما سبق نتبين أن الله أرسل أناسا كانوا أنبياء، ولم يكونوا أشخاصا عاديين، وبعد النبوة كلفهم الله برسالته إلى الناس، أما في الحالة الثانية وهي حالة الرسل، فقد بعث الله أشخاصا عاديين ولم يكونوا أنبياء قبل تلقيهم الرسالة، وبعد تلقيهم الرسالة وتصديقهم بها وهبهم الله النبوة، ومن هؤلاء الأشخاص الذين اصطفاهم الله رسلا إلى الناس ثم وهبهم النبوة كما جاء في القرآن الكريم هم: نوح وإبراهيم ولوط وهود وصالح وشعيب وإلياس وأيوب ويونس وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، إذن النبي هو من وُهِب النبوة قبل الرسالة، والرسول هو من اكتسب النبوة بعد الرسالة، وتفصيل هذا على النحو التالي:

# أما الحال الثانية: وهي حالة الرسول، والرسول هو شخص عادي اختاره الله من الناس واصطفاه لرسالته، ولم يكن نبيا قبل ذلك، بل كلفه الله بتبليغ الرسالة أولا، ثم وهبه الله النبوة بعد ذلك بصبره وثباته على الحق، فأصبح نبيا بعد أن اصطفاه الله رسولا للناس. إذن الرسالة والرسول لهما معنى مغاير تماما لمعنى النبوة، فأصل كلمة الرسول والرسالة من الفعل (رَسَلَ)، الذي يدل على انبعاث وامتداد. إذن معنى الرسالة هو انبعاث شيء من شيء وامتداده لشيء آخر، أما الرسول فهو من يحمل الشيء المنبعث ليمده إلى الطرف الآخر، ونذكر الآن بعض نصوص القرآن التي نصت على أن الرسل هم رجال عاديون من الناس يصطفيهم الله لرسالاته ثم إذا صبروا وثبتوا وهبهم الله النبوة، وذلك على النحو التالي:

فكما سبق وأن قلنا أن من أوضح النصوص التي تؤكد على أن الله أرسل للناس أناسا كانوا أنبياء قبل الرسالة، وأيضا أرسل رسلا لم يكنوا أنبياء قبل الرسالة، بل كانوا أناسا عاديين اصطفاهم الله لرسالته، كان هو النص التالي: قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) (الحج- 52). إذن نصت هذه الآية على أن الله أرسل للناس أنبياء، وأرسل لهم رسلا لم يكونوا أنبياء، وإنما وهبهم الله النبوة بعد ذلك. وكذلك نصت هذه الآية على أن الأنبياء تم إرسالهم وليس كما يقال أن النبي يوحى إليه ولم يؤمر بالتبليغ.

والآيات التالية تنص على أن المرسلين الذين لم يكونوا أنبياء قبل الرسالة، هم آحاد الناس الذين اصطفاهم الله لرسالاته، وهم رجال عاديون لم يكونوا أنبياء قبل إرسالهم، وقد كلفهم الله بالرسالة، ولما صبروا وآمنوا وثبتوا، وهبهم الله النبوة، وهؤلاء ذكرهم القرآن على النحو التالي:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى). (109- يوسف)

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). (43- النحل).

(أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). (63- الأعراف).

(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ). (2- يونس).

(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ). (31- الزخرف).

إذن من الآيات السابقة نتبين أن الرسل قبل تكليفهم بالرسالة ما كانوا سوى رجال عاديون، اصطفاهم الله على الناس وكلفهم بالرسالة، ثم وهبهم النبوة بعد ذلك، وهؤلاء هم أولوا العزم من الرسل، وهم أعظم فضلا وأجرا من الأنبياء الذين وهبهم الله النبوة أولا ثم أرسلهم ثانيا، لأن أولي العزم من الرسل فوجئوا بالرسالة دون أي تمهيد مسبق، فحملوا عبء الرسالة، وعبء الإيمان بما جاء فيها، ثم الصبر والثبات وتحمل الأذى في سبيلها، فوهبهم الله النبوة بكسبهم واقتدارهم وجدارتهم وصبرهم وثباتهم ويقينهم، أما غيرهم من الأنبياء فقد نالوا النبوة هبة من الله وفضلا منه ومنة عليهم، دون أي جهد يذكر منهم كإسحاق ويعقوب ويوسف وذكريا ويحيي وداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء الذين أنعم الله عليهم بالنبوة هبة منه سبحانه، أما الرسل فقال تعالى عنهم: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ). (35- الأحقاف). نلحظ أنه قال (أولوا العزم من الرسل) وليس من الأنبياء، وهم ليسوا خمسة رسل فقط كما يزعم البعض أنهم: (نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد)، بل إن أولوا العزم من الرسل هم جميع المرسلين الذين أرسلهم الله ثم اكتسبوا النبوة بإيمانهم وعزمهم وثباتهم وصبرهم على أقوامهم، ومن أولوا العزم الذين وردت قصصهم في القرآن هم: (نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ولوط، وهود، وصالح، وشعيب، ويونس، وإلياس، وموسى، وعيسى، ومحمد) عليهم السلام.

وفي الآيات التالية نلاحظ أن الله ذكر فيها: أنه أرسل المرسلين، ولم يقل النبيين، كالآيات التي سبق ذكرها عند الحديث عن النبوة، فقد ذكر هناك النبيين ولم يقل المرسلين، حيث قال: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ). (94- الأعراف). وقال: (وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون). (6: 7 الزخرف).
أما هنا فذكر المرسلين، فقال: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ). (48- الأنعام). وقال أيضا في الآية التالية ما يأتيهم من رسول ولم يقل نبي، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ). (11- الحجر). إذن يوجد فرق واضح بين إرسال النبي وإرسال الرسول.

وقد نصت بعض آيات القرآن على أن الرسول يؤتيه الله الكتاب الذي هو الرسالة ويؤتيه الحكم أولا، ثم يهبه النبوة فيما بعد بالصبر والإيمان واليقين وهذه بعض النصوص التي تؤكد ذلك، قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ). (79- آل عمران).

وأيضا الرسل الذين لم يكونوا أنبياء قبل الرسالة، فقد ذكر القرآن مجموعة كبيرة منهم، ونذكر منهم: (نوح، وإبراهيم، وإسماعيل، ولوط، وهود، وصالح، وشعيب، ويونس، وإلياس، وموسى، وعيسى، ومحمد) عليهم السلام، وأقدم للقارئ مجموعة من النصوص القرآنية التي تنص على أن هؤلاء الرسل لم يكونوا أنبياء قبل الرسالة، وذلك على النحو التالي:

إبراهيم الذي صدق رسالة ربه ثم جعله نبيا، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا). (41- مريم).

وإسماعيل كذلك، كان صادق الوعد فأرسله الله ثم جعله نبيا، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا). (54 مريم)

وكذلك إدريس، صدق برسالة ربه فجعله نبيا، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا). (56- مريم).

وموسى الذي أخلصه الله وجعله رسولا ثم نبيا، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا). (51- مريم)
وقال عن موسى عليه السلام أيضا: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (21- الشعراء).

وقال عن المسيح بن مريم عليه السلام أن الله آتاه الكتاب أولا ثم جعله نبيا بعدها، قال تعالى: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا). (30- مريم).
وقال عن المسيح عليه السلام أيضا: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ). (75- المائدة).
وقال عن إلياس عليه السلام: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ). (123- الصافات).
وقال عن لوط عليه السلام: (وَإِنَّ لُوطًا لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (133- الصافات).
وقال عن يونس عليه السلام: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (139- الصافات).
وقال عن نوح عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (106: 107- الشعراء)
وقال عن هود عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (124، 125- الشعراء).
وقال عن صالح عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (142، 143- الشعراء).
وقال عن شعيب عليه السلام: (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ). (177، 178- الشعراء).
وقال عن محمد عليه الصلاة والسلام: (يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (1: 3- يس)
وقال عن محمد أيضا: (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). (252- البقرة).

وختاما لما سبق نقول أنه لا نبوة بدون رسالة ولا رسالة بدون نبوة، فقد يكون الشخص نبيا قبل الرسالة، ثم يرسله الله، وقد يكون الشخص رجلا عاديا ثم يرسله الله، وعندما يوقن ويصبر يهبه الله النبوة بعد الرسالة، ثم أخبر القرآن أن محمدا هو رسول الله أولا ثم خاتم النبيين ثانيا، فلا نبي بعده ولا رسالة، قال تعالى: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا). (40- الأحزاب).

إذن المفهوم الحق لكلمة النبوة وأصل مفهومها (اللغوي) هي رفعة المنزلة، وليست وظيفة كما يظن معظم الناس، ورفعة المنزلة إما أن ينالها الشخص بقدراته الشخصية، أو إمكاناته المادية، أما إن وهب الله رفعة المنزلة لشخص ما بعلمه سبحانه وحكمته ورسالته يصبح في هذه الحالة نبيا لله. وكما سبق وأن قلنا، قد ينال الشخص منزلة رفيعة بماله أو جاهه أو سلطانه أو قدرة تأثيره في الناس وسطوته عليهم، أما رفعة الله لشخص ما، فتلك النبوة لله، أي منزلة لا ينالها العبد من تلقاء نفسه بل يهبها الله له بالعلم والحكمة والرسالة الربانية، فيرتفع بها الشخص الموهوب إلى أعلى درجات السمو الإنساني، ويتنحى عن جميع مهاوي الانحطاط الإنساني، وهذا هو الفارق بين رفعة منزلة البشر المستمدة من قدرات الشخص نفسه أو قدراته المادية كالمال والجاه والسلطان، وبين نبوة ورفعة منزلة البشر المستمدة من الله بعلمه وحكمته ورسالته.

# الأنبياء والرسل مخيرون وليسوا مسيرين:

من الاعتقادات الخاطئة لدى الغالبية العظمى من الناس، أن الأنبياء والرسل قد خلقهم الله ليكونوا أنبياء ورسلا فقط، لا خيار لهم ولا إرادة في ذلك، أو بعبارة أخرى يعتقد معظم الناس أن الأنبياء والرسل قد (برمجهم) الله على الإيمان به وبرسالاته، أو قد أنزلهم الله من السماء، أو خلقهم على صورته، فلا يمكن أن يكونوا غير أنبياء ورسل، ولا يمكن أن يكونوا غير مؤمنين بالرسالات إيمانا راسخا لا يتزعزع، وأن الأنبياء والرسل لابد وحتما أن يؤمنوا بالرسالات فورا ودون تردد، ولا بد أن يمتثلوا للرسالات امتثالا أعمى دون تردد أو مناقشة. هذه كلها اعتقادات خاطئة، لأنها تجعل الأنبياء والرسل أناسا مسلوبي الإرادة، لا خيار لهم ولا مشيئة وكأنهم دمى في يد الله يحركهم كيف شاء.

هذه الاعتقادات الخاطئة والمنحرفة يعارضها القرآن الكريم جملة وتفصيلا، بل إن ما ورد في القرآن الكريم يثبت أن الأنبياء والرسل كانوا بشرا مخيرين، وكانوا ذو إرادة ومشيئة واختيار، كانوا هكذا منذ أن جاءتهم النبوة والرسالة، وظلوا هكذا حتى اليوم الأخير من حياتهم، فنرى مثلا أن نوحا عليه السلام قد عاتبه الله حين حاول أن يشفع لابنه الكافر، فرد الله عليه قائلا:
(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين). َ- 46) هود(

وإبراهيم عليه السلام حين طلب من الله أن يريه كيف يحي الموتى ليطمئن قلبه، فأجابه الله إلى طلبه، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (260- البقرة).

وموسى عليه السلام حين طلب من الله أن يراه فرد الله عليه قائلا: (لن تراني)، قال تعالى: (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ). (143- الأعراف).

بل إن النبي محمدا عليه الصلاة والسلام كاد أن يفتن عن القرآن، ويركن إلى المشركين والوثنيين، لولا أن الله ثبته، قال تعالى: (وإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً* إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا). (73: 75- الإسراء).

بل لقد حذر الله رسوله عليه الصلاة والسلام عدة مرات من الشك والمرية في القرآن وفي ضلال عبادة الأصنام، ففي المرة الأولى أمره إن كان يشك في ما أنزل إليه من قرآن فليسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبله، ثم حذره الله من أن يكون من الممترين، أي القاطعين لصلتهم بالله، وحذره ثانية أن يكون من الذين كذبوا بآيات الله، قال تعالى: (وإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ َتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ). (94، 95 يونس).

وفي آية أخرى نهى الله رسوله عليه الصلاة والسلام، عن المرية أي أن يختلط الأمر عليه في شأن القرآن، فقال تعالى: (ولاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ). (17- هود).

وفي آية أخرى حذر الله رسوله من أن يكون في مرية مما يعبد المشركون، أي لا يختلط عليك أمر عبادة غير الله، واختلاط الشيء على الإنسان بأن لا يعرف هل هو صواب أم خطأ، فقال الله له: (لاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ). (109- هود).

بل لقد نص القرآن على أن هناك نبي أو رسول أوحى الله إليه وآتاه الآيات، فكفر بها وانسلخ منها وأغواه الشيطان، فاتبع هواه وأخلد إلى الأرض، قال تعالى: (واتْل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ). (175، 176- الأعراف).

ونستخلص من كل هذا أن الأنبياء والرسل جميعا كانوا مخيرين، بين الخير والشر، بين الكفر والإيمان، بين الشك واليقين، بين الريبة والاطمئنان، ولم يكونوا بالصورة التي يتخيلهم عليها الناس، فالناس يتخيلون أن الله لم يختر للنبوة والرسالة إلا أناس قديسين أبرار وفي أعلى درجات الإيمان واليقين، كلا، بل اختار الله للنبوة والرسالة أناسا عاديين، مثلهم مثل بقية الناس، لكنهم لم يصلوا إلى أعلى قمم الإيمان واليقين والبر إلا بعد أن جاءهم الوحي من الله بالعلم والحكمة والآيات البينات، فآمنوا بها بعد شك وتردد وريب وعدم اطمئنان، فهم لم يصلوا إلى أعلى درجات الإيمان واليقين دفعة واحدة، بل أخذوا وقتا من بعد نزول الرسالة، حتى وصلوا إلى تلك المنزلة السامية من الإيمان واليقين، وإلا لماذا شفع نوح في ابنه الكافر بعد علمه بأنه مات كافرا؟؟، وقد عاتبه الله في ذلك، ولماذا طلب إبراهيم من الله أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قلبه؟؟، ولماذا طلب موسى من الله أن ينظر إليه؟؟، ولماذا حذر الله الرسول محمدا عليه الصلاة والسلام من الشك والريبة في ما أنزل إليه من قرآن، بل إن الرسول كاد أن يفتنه المشركون عما أوحي إليه، بل كاد أن يركن إليهم لولا أن ثبته الله. بل لماذا كفر ذلك الرجل الذي أوحى الله إليه وأتاه الآيات البينات، فانسلخ منها وأغواه الشيطان، فاتبع هواه وأخلد إلى الأرض، لولا أنه كان ذا إرادة ومشيئة واختيار.

(للحديث بقية في الفصل الثامن)

الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293175
الفصل الثاني: (الصحابة والسلف بين التقديس والشيطنة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293537
الفصل الثالث: (تاريخ نقد وإصلاح التراث الإسلامي وتنقيحه)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=294154
الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونشأة القرآنيين)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=294768
الفصل الخامس: (القرآنيون ومأزق حفظ وجمع القرآن)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=295266
الفصل السادس: (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=295917



نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]
فيس بوك:
http://www.facebook.com/profile.php?id=100001228094880&ref=tn_tnmn



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السنة ما لها وما عليها: الفصل السادس: (القرآنيون والتفريق بي ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الخامس: (القرآنيون ومأزق حفظ و ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونش ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث: (تاريخ نقد وإصلاح التر ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثاني: (الصحابة والسلف بين ال ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة ...
- إطلالات قصيرة على واقع المشهد المصري الحالي
- لماذا بصق المصريون في وجوه نخبهم وإعلامييهم؟
- شيفونية المصريين
- (توفيق عكاشة) نموذج معبر عن حقيقة الشخصية المصرية
- من ينقذ المصريين من أنفسهم؟
- من حق (فاطمة خير الدين) أن تكون عاهرة وتفتخر
- أما أنا فأقول لكم
- ما لا يقال ولن يقال حول الصراع الإسلامي المسيحي في مصر
- (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) رد على: علال البسيط
- تعليقات على مقال أم قداس في كنيسة؟
- (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا)
- الرجل هو من استعبد المرأة والرجل هو من حررها
- علاقة الغرب العلماني المتحضر بالحاكم العربي
- هل الإجماع مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...
- بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م ...
- مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ ...
- الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض ...
- الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض ...
- من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل السابع: تابع (القرآنيون والتفريق بين النبي والرسول)