|
الفلسفة الشعبية والجهل المقدس
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن-العدد: 3647 - 2012 / 2 / 23 - 01:33
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
" إن إلغاء اللغة لصالح الكلام إنما هو بلا ريب أكمل مثال على الجهل المقدس." إذا كانت الفلسفة منذ الإغريق تعني دراسة المبادئ الأولى وتفسير المعرفة تفسيرا عقليا وتهتم بعلم الموجود بماهو موجود وتمثل العلم بالأسباب الأولى والعلل القصوى وتنقسم الى نظر وعمل والى منطق وفيزياء وأخلاق فإن حكماء العرب تفلسفوا في هذا التعريف وغيره قليلا بأن انتصروا إلى الجانب العملي على حساب النظري وجعلوا الثاني في خدمة الأول وقد ذكر الكندي بأنها تشبه بالإله على قدر طاقة الإنسان وميز الفارابي بين الفلسفة البتراء والفلسفة بإطلاق ورأي ابن سينا أنها وقوف على حقائق الأشياء كلها على قدر ما يمكن الإنسان أن يقف عليه وقسمها إلى قسم نظري يضم الرياضيات والإلهيات والطبيعة وقسم عملي ويضم تدبير المدينة وتدبير المنزل والأخلاق وتمت إضافة العمران البشري والتاريخ والاقتصاد مع ابن خلدون. وإذا قارنا بين الفلاسفة والعلماء والعامة فإننا نجد أن المعرفة العامية هي تجارب عفوية مشتتة وأن المعرفة العلمية هي موحدة بشكل جزئي فإن الفلسفة هي معرفة تامة التوحيد ترتكز على الدراسة العقلية المنهجية وتحاول التكيف مع الطبيعة واستخراج نواميس الكون وقد شبهها ديكارت بالشجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء وفروعها العلوم الأخرى وهي الطب والميكانيكا والأخلاق واختصت بالبحث في أصل المعرفة وقيمتها وفي مبادئ اليقين وأسباب حدوث الأشياء ومعايير الفعل وغايات العمل. من هذا المنطلق يمكن أن نميز الفلسفة الأولى التي تبحث في الأسباب القصوى والعلل الأولى والمبادئ النهائية والموجودات المفارقة والربوبية والإلهيات مثل الله والنفس والحقائق الأبدية والموجودات السرمدية والكائنات الأزلية وتشتغل على الخالد والمطلق والثابت وكل المبادئ الصورية التي نجدها عند جميع العلوم وبين الفلسفة الثانية التي تدرس الطبيعة والتغير والزمانية والتاريخ والمجتمع والتجربة والواقع. كما يمكن التفريق بين الفلسفة الدائمة التي تبحث في عمل البشرية جمعاء والقواسم المشتركة والمطالب المتفقة التي نعثر عليها عند كل الاتجاهات والمذاهب الفلسفية وبين الفلسفة العامة التي تهتم بالمرتكزات العامة التي تستند إليها العلوم مثل طبيعة المعرفة والعالم والإنسان والشعور والمادة والحياة والتقدم. لكن الربط بين الفلسفة والعلم ودمج فلسفة العلوم في نظرية المناهج وميلاد الإبستيمولوجيا التي تهتم بالأسس المنطقية للعلوم وترصد القواعد الكلية للغة العلمية قد أدى إلى تعويض التصورات الفلسفية بعبارات علمية مصاغة بطريقة رمزية وجعل البون يتسع بين الجمهور وفلسفة العلوم ومهد الطريق نحو تشكل الفلسفة الشعبية التي نذرت نفسها من أجل تقريب المسافات بين القول الفلسفي المعقد والفهم العامي البسيط وحاولت الإنعتاق من القوالب الجامدة واللغة الصعبة وانجاز دراسات سهلة العبارة وتتناسب مع وعي الجمهور وانتظاره. ولعل أهم التحديات التي عهدتها الفلسفة الشعبية إلى نفسها في التصدي إلى الجهل والارتقاء بالوعي ومخاطبة الناس على قدر عقولهم ومحاربة الخرافة والدجل الفكري والغباء المبرمج. لكن ما المقصود بالجهل؟ وما هو الجهل المقدس؟ وكيف تعمل الفلسفة على مقاومته؟ الجهل هو عدم المعرفة ويوجد في صورة مقابلة للخطأ لكون الجهل يخلو من الإثبات بينما الخطأ إثبات منحرف. أما الجهل المقدس فهو الاعتقاد بأن المرء لا يحتاج إلى معرفة لكي يحقق الخلاص والنظر إلى تحصيل المعرفة على أنه يحرف الإيمان الحقيقي والقول بأن كلام الله يمكن أن يمر مباشرة إلى النوع الإنسي من الخلق دون وساطة المعرفة والعقل والانطلاق من أن العثور على الحقيقة في النص الديني لا يتطلب الإبحار والتعمق وإنما البقاء عند الظاهر وتبني المعنى الحرفي دون تأو تحصيل أو مرور إلى الباطن. أما النتيجة التي تبرز في نهاية المطاف فهو حاجة المؤمن إلى مرشد ينير له طريق الهداية وعدم قدرته بنفسه على التمييز بين الطريق المستقيم والزلل في السراب. هكذا يكمن الجهل المقدس في نقل الرسالة دون نقل المعرفة وفي التلفظ بالكلام دون السكن في لغة الثقافة. ما نلاحظه هو زيادة في ممارسة الدينية والإقبال الشديد على دور العبادة وتزايد عدد المصلين في صلاة الجماعة وحضور لافت للفتاوي الدينية في وسائل الإعلام وإمكانية الرؤية المتنامية للديني ولكن يقابل ذلك فتور في الاجتهاد الديني وانحسار في العلوم الدينية والنقاشات اللاهوتية التي يظهر فيها العقل وحب الحكمة وتطور فن المناظرة والكلام. إن تمجيد الجهل المقدس يظهر في اعتبار الاشتغال بالعقل وممارسة التأويل نوع من إضاعة الوقت والتطبيق التام للنص والعناية بالتجربة الوجدانية بالنسبة للفرد أو الجماعة والضياع في الغرور الديني وإعطاء أولوية لأمور الآخرة والغيب على حساب أمور الدنيا والشهادة. "ان المجتمعات التي تبتغي أن تكون دينية في المقام الأول تقرر تقليص الهوامش والانحرافات فهي إذن محكومة بعدم استقرار دائم، لأن مطلب الطهارة يضع كل إنسان في موقف مشكوك فيه ولا يحتمل." على هذا النحو نلاحظ نزاع بين اتجاهين متناقضين في اللحظة الراهنة: النزعة الأولى تحيي عودة الديني وتعتبرها ظاهرة صحية واحتجاجا على الحداثة المعطوبة ومحاولة للعصرنة بالمرور من طريق الأصالة، والنزعة الثانية ترى في مواصلة العلمنة قدر محتوم ومسار ينبغي أن يتم إكماله من أجل التخلص من الميراث. غير أن النتيجة الحاصلة من العلمنة هي فصل الدين عن الثقافة التي أنتجته وإظهاره كديني محض واعتبار الدين نفسه مستقلا عن السياسي وقادرا على إعادة بناء ذاته وامتلاك شروط توسعه من خلال استثماره لفضائه الخاص ورمزيته وقوى إنتاج خطابه وحقوقه في تصريف شؤون المقدس. بيد أن الجهل المقدس هو الاعتقاد في الديني المحض الذي ينبني خارج الثقافات. هذا الجهل يحرك الأصوليات الحديثة المتنافسة في سوق الأديان يفاقم اختلافاتها ويوحد أنماط ممارستها. كما أن ظاهرة الانتعاش الديني التي تعم الكوكب وتشمل جميع الأديان ليست تعبيرا عن هويات ثقافية تقليدية وإنها هي نتيجة العولمة ولأزمة الثقافات. كما" أن الديني السياسي محصور بكل بساطة في أمرين ملزمين: إن عدم الإيمان فضيحة لكن الإيمان لا يكون إلا فرديا ولا يعمل هذا الديني السياسي إلا على المبدأ القائل بأن الجميع يجب أن يكونوا مؤمنين ، لكنه لا يستطيع أن يضمن هذا الإيمان وعليه إذن يفرض التقيد بالمظهر" . لكن إذا كان الإنسان مطبوع على الزلل ويتميز بالتناهي والهشاشة ولا يستطيع تفادي الوقوع في الخطأ فإن العامة يتمسكون به نتيجة العادة والتقليد والجهل وان نظرتهم إلى الدين سطحية وتخلط الاعتقاد بالخرافة والخوارق وكثيرا ما يقعون فريسة الخداع والاستغلال من قبل تجار الدين. ولعل آفة التدين ثلاثة أشياء: جاهل به ومغال فيه وشخص امتزج حبه بقلبه ولكن ضاقت سعة عقله حتى يصرفه تصريف الأنبياء. فكيف نفسر عودة الديني؟ وهل هي إحياء القديم أم تحول في الظهور؟ والديني يورث أم يولد على نحو مختلف؟ ان ما نلاحظه هو عولمة الديني وإعادة صياغته بحيث يحقق الرغبة في أوسع إمكانية رؤية في الفضاء العام وزوال الصفة الإقليمية والانتقال خارج نظام الهيمنة السياسية وفقدان الهوية الثقافية وانحسار البداهة الاجتماعية للدين وليس إعادة إنتاج التقاليد الدينية القديمة واستنساخ الموروث وإعادة نشره كما هو . لكن "الأصولية هي شكل الديني الأفضل تكيف مع العولمة ، لأنه يضطلع بإزالة هويته الثقافية الخاصة ويتخذ من ذلك أداة لطموحه نحو العالمية." إن الحداثة الدينية هي استقلالية فضاء المقدس وتناغمه مع المايحدث وإعادة الاتصال به من جديد من قبل عامة الناس والنخب المثقفة وتفضيله على المعرفة والعلم والثقافة والسياسة. كما أن الأديان اتجهت إلى اصطياد معالم ثقافية جديدة وقيم اجتماعية مستحدثة من الفئات الشابة والأقليات وصارت توظف الحفلات الفنية والجلسات الأدبية من أجل اجتذاب الأتباع. ان العلمنة ليست نزاعا وانفصالا عنيفا عن الديني ولا طلاقا معه وإنما هي خلق عوامل داخل الحقل الديني تحوله إلى ثقافة وتدفعه إلى خلق القيم الدنيوية الخاصة بالمجتمع. لقد أصبحت المعمورة سوقا دينية حقيقية يحكمها المبدأ الرأسمالي وليس التثاقف وصارت خيارات التحول من دائرة مذهبية إلى أخرى متاحة ومتنوعة وصارت الحرية الدينية موجودة في كل مكان وفي متناول جميع الناس وزالت الروابط التقليدية بين الدين والثقافة. لكن الأديان هي القادرة على صنع ثقافة دنيوية وخلق أدوات تعمل لفائدة الإنسان بصفة عامة، غير أن انزلاق الديني إلى الثقافي وانبثاق الديني في الفضاء السياسي هو نوع من التدجين والأداتية ويحدث نوع من التوتر والصراع بين المشروعيات وحول امتلاك السلطة. إن المشكلة بين الديني والعلماني قد تنجم عندما يكون الدين بلا ثقافة وتكون الثقافة بلا دين ويحدث انقطاع في الحركة الجدلية بينهما وضمور في أفق المعاني ويصبح معيار التطبيق غير واضح. " انسحاب الديني من الثقافة هذا يعمل في الاتجاهين: يفقد الديني مرساه الثقافي وتنسى الثقافة مصادرها الدينية وكل معرفة دنيوية بالديني". لماذا لا تعمل الفلسفة الشعبية على إعادة الثقافة إلى الدين وتحقيق مصالحة بين الفكر والجمهور وانسجام بين العقل واللغة؟ وكيف تحل التوافقية التي ترى تجسد الديني في ثقافة هو شرط حضوره في العالم مكان الأصولية التي تضطلع بالقطيعة مع الثقافة وتدعو إلى انفصال المعالم الدينية عن المعالم الثقافية؟ وكيف تتشابه أشكال التدين وتتعارض الهويات الدينية؟ وهل من المشروع أن توظف الحرية الدينية من أجل التضييق على حرية التفكير؟ المرجع: أوليفييه روا، الجهل المقدس، زمن دين بلا ثقافة، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى، 2012. كاتب فلسفي
#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأسرة والمجتمع والدولة
-
إرادة الحياة والفرح المؤجل
-
عام ثوري يمضي ومستقبل واعد يُطل!
-
الديمقراطية الاندماجية ورهانات الثورة
-
مصير الثورة العربية بعد عام من تفجرها
-
الاسلام الشعبي في مواجهة الامبريالية
-
المثقف التونسي والسياسة
-
الفلسفة بين الأدلجة والتسييس
-
الأنظمة العربية بين الصعود والهبوط
-
متابعة كتاب -الثورة العربية وارادة الحياة، قراءة فلسفية-
-
السيادة بين المطلق والنسبي
-
مفارقة السلطة والعنف
-
الثورة الرقمية والفعل الافتراضي
-
تعاقب النظام والفوضى على المشهد العربي
-
طبيعة التحولات المعاصرة
-
الحذر الفلسفي من سطوة الخطاب القانوني
-
الاسلام المستنير وأهمية العمل السياسي
-
فهم الظاهرة الشمولية
-
فصل المقال بين السياسة والدين
-
المد الثوري العربي واستحقاقات المرحلة
المزيد.....
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
-
استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|