|
أبو عنتر الشعلان
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1075 - 2005 / 1 / 11 - 09:39
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
"الشعلان" واحد من أجمل أحياء العاصمة السورية دمشق، وأشدّها وداعة وحيوية في آن، وأكثرها عراقة وانفراد شخصية، وذلك رغم مساحته المتواضعة. وهو يقع على الكتف الأيسر لشارع الصالحية الشهير، ويلامس المبنى التاريخي للبرلمان السوري، كما يحاذي ساحة النجمة وحديقة السبكي، ولا بدّ أنّ شارع الحمرا الدمشقي ــ النظير الشائه للشارع البيروتي الأشهر ورمز صرعة الاستهلاك التجاري الطفيلي التي اجتاحت سورية أواخر السبعينيات ــ قد بتره الآن نصفين. وباختصار، حيّ الشعلان ينطوي على تلك المفاتن الدمشقية الفريدة التي جعلت الشاعر السوري الكبير الراحل نزار قباني يهتف:
يا دمشق التي تفشّى شذاها تحت جلـدي كأنـه الزيزفـون كلما جئتـها أردّ ديـوني للجميلات... حاصرتني الديون
والشعلان كان نموذجاً مدهشاً للتعددية السورية في مستوى الأديان والأعراق والجنسيات، وكان المرء يجد الصائغ الأرمني جاراً للتاجر اليهودي أو اللحّام الشامي أو البقّال الإيراني. وفي مطلع السبعينيات، أثناء سنوات الدراسة الجامعية، كنّا نرتاد الشعلان بصفة يومية لسببين: أنّ عدداً كبيراً من زملائنا طلاب الجامعة العرب كانوا يسكنونه لقربه من الجامعة، وأنّ واحداً من أنظف وأرخص مطاعم الطلاب كان يقع هناك (وجبة من ثلاثة أطباق + حبّة فاكهة، مقابل 60 قرشاً سورياً... فقط لا غير!)... غير أنّ للشعلان صفة خاصة، قد لا يعرفها الكثيرون اليوم، وهي أنه كان البقعة الدمشقية التي شهدت بواكير استقرار عشائر الـ "رولة" في الشام إجمالاً، وفي العاصمة السورية تحديداً. وكان الشيخ نوري بن هزاع بن نايف بن عبد الله بن منيف الشعلان (1848 ـ 1942) قد تقلّد رئاسة عشائر الرولة سنة 1894، وعاصر أكثر من عهد (من العثمانيين إلى الاستقلال، مروراً بالهاشميين والانتداب الفرنسي). وثمة بين المؤرّخين مَن يطعن بعض الشيء في وطنيته، مستنداً على برقية قيل إنه أرسلها إلى المفوّض السامي الفرنسي وتضمنت استنكاره للثورة السورية الكبرى سنة 1925. الثابت تاريخياً، مع ذلك، أنه دخل دمشق صحبة الملك فيصل الأول على رأس عدد كبير من خيّالة الرولة، ثمّ شارك في الحياة النيابية السورية ممثلاً لعشيرته، ولعب أكثر من دور حساس في حكم السلطان عبد الحميد، والسلطان رشاد، والاتحاديين، وسامي باشا الفاروقي، وجمال باشا السفاح، والملك فيصل، والجنرال الفرنسي غورو. وكان قد اختار دمشق مستقراً له، فرمّم بيتاً قديماً في منطقة الصالحية جعله مضافة آل الشعلان (لعلّها ما تزال قائمة حتى اليوم). وبالطبع، كان لا بدّ أن يجاوره أفراد حاشيته وبعض أبناء عشيرته، فاتسعت "الديرة" هذه تدريجياً حتي انقلبت إلى حيّ كامل عُرف منذئذ وحتى اليوم باسم الشعلان. ... وتخيّلوا مَن يريد اليوم إشعال الحرب في شوارع دمشق، وبينها بالطبع شوارع حيّ الشعلان؟ إبن عشيرة الخزاعل الشعلاني وزير الدفاع العراقي المؤقت حازم الشعلان، أو "أبو عنتر" كما يحلو لبعض الإخوة العراقيين وصفه بحقّ! سمع العالم كلّه تصريحه الهمجي الذي يقول فيه بالحرف: "العين بالعين والسنّ بالسنّ. نملك الوسائل لنقل المعركة من شوارع بغداد إلى شوارع طهران ودمشق"! أهذا وزير دفاع بلد ينوي تغيير شخصية "الدولة المارقة" السابقة وإعلاء شأن القانون الدولي والديمقراطية؟ أم هو بلطجي خرج من باب نظام صدّام حسين ليدخل من نافذة بول بريمر؟ وما الذي تغيّر، حقاً، في لسانه حين كان واحداً من زبانية العهد السابق، لكي تتغيّر اليوم سجيّة واحدة في نفسه بعد أن انخرط في العهد الجديد؟ ومن جانب آخر، مَن يتوقع أبو عنتر هذا أن تكون هوية الذين ستجندلهم المعركة التي يهدد بنقلها إلى شوارع دمشق؟ أيكون بين الضحايا نظيره وزير الدفاع السوري مثلاً؟ أم ضبّاط الأمن السوريون الذي يتهمهم بالوقوف خلف العمليات المسلحة المناهضة للحكومة العراقية المؤقتة؟ أم لعله يريد تأديب البعثيين الصدّاميين الذين يمرحون ويسرحون في مرابع سورية؟ يعلم الشعلان أنه لن يصيب قلامة ظفر من هؤلاء، لأسباب عديدة أبسطها أنهم ــ مثله تماماً! ــ في حرز أمني حصين، وأوضحها أنهم ليسوا البتة جزءاً من حياة الشارع اليومية. وقبل سبع سنوات، أيّام الاستبداد الأكبر، خرج إلى شوارع دمشق دون سواها طلاب وتلامذة سوريون انتزعوا العَلَم الأمريكي من سارية السفارة الأمريكية، وأسقطوه أرضاً، ومزّقوه، وأحرقوه. هل يعرف أبو عنتر حازم الشعلان لماذا؟ لكي يهتف الفتى السوري من سويداء قلبه: "أوقفوا الحرب ضدّ أطفال العراق"! ولكي تهتف الفتاة السورية: "بالروح، بالدم، نفديك يا عراق"! وأياً كان دور السلطة السورية في ترتيبها آنذاك، فإنّ أية سلطة لم تكن قادرة على تصنيع الصدق الذي بدا على الوجوه، وكان بليغاً وجليّاً وكاشفاً في حدّ ذاته. كذلك لم يتجاسر أخلص خلصاء صدّام حسين على اتهام تلك التظاهرات بالولاء للدكتاتور العراقي. وإذا نفّذ أبو عنتر الشعلان وعيده فإنه لن يجهز إلا على أمثال هؤلاء وسواهم من المواطنين الأبرياء، أصدقاء العراق الشعب والبلد والحضارة، وبينهم دون ريب عدد من أبناء عمومته الشعلانيين... نسبة إلى الحيّ العريق في أقلّ تقدير!
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تسونامي، أو حين يتسربل جورج بوش بأردية الأم تيريزا
-
إنهم يسرقون التاريخ
-
لبنانيون حماة الديار السورية
-
سورية في 2005: هل سيكون الآتي أدهى من الذي تأخّر؟
-
مكاييل الحرّية
-
تركيا في ناظر دمشق: بؤرة الكوابيس أم النافذة على العالم؟
-
خزعة من قامة ممدوح عدوان
-
العلمانية والشجرة
-
أشبه بمزامير تُتلى في واد غير ذي زرع
-
ترجمة محمود درويش إلى... العربية
-
في مناسبة زيارة محمود عباس إلى دمشق:ظلال الماضي تلقي بأثقاله
...
-
فلسطين الشوكة
-
دمشق وبالون -وديعة رابين-: ألعاب في أردأ السياقات
-
قبل المحرقة
-
لا ينقلب فيها حجر دون أن يطلق معضلة تاريخية: القدس بعد عرفات
...
-
الشاعر السوري حازم العظمة: قصيدة ناضجة في معترك تجريب بلا ضف
...
-
دائرة الطباشير الأمريكية
-
حين تولد الفاشية العسكرية الأمريكية في الفلوجة: مَن يكترث بو
...
-
قائد قال -لا- حين كانت الـ -نعم- هي المنجاة:عرفات: ترجّل -ال
...
-
ما لا يُفهم
المزيد.....
-
قرية زراعية عمرها 300 سنة.. لِمَ يعود إليها سكانها بعد هجرها
...
-
فيديو حصري من زاوية جديدة يوثق لحظة تصادم الطائرتين في واشنط
...
-
حزب -القوات اللبنانية- يطالب الحكومة بالتوضيح بعد مسيّرة -حز
...
-
قنبلة داعش الموقوتة تهدد بالفوضى في الشرق الأوسط - التلغراف
...
-
أبو عبيدة يعلن أسماء الرهائن الإسرائيليين المتوقع الإفراج عن
...
-
اتفاق الهدنة: إسرائيل وحماس تتبادلان قوائم المقرر إطلاق سراح
...
-
بعد تمرير خطة اللجوء.. هل انكسر -الجدار الناري- عن اليمين ال
...
-
أيقونة معمارية شاهدة على التاريخ.. العزبة القيصرية -إيزمائيل
...
-
بالفيديو والصور.. موجة ثلوج غير مسبوقة تشهدها بعض المدن الجز
...
-
الرئيس الجورجي: دول غربية ضغطت علينا للوقوف ضد روسيا في نزاع
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|