|
التربية والقيم في حوار مع د. عبد الحق منصف المدير المساعد للدراسات والبحث بالمجلس الأعلى للتعليم
رشيد شاكري
الحوار المتمدن-العدد: 3643 - 2012 / 2 / 19 - 14:26
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
أجريت هذا الحوار لفائدة الجريدة التربوية، مع الدكتور عبد الحق منصف وهو من مواليد 1958 بفاس، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة سنة 2002. عمل أستاذا للفلسفة منذ 1980، ثم مؤطرا تربويا حتى سنة 2004 حيث التحق كأستاذ بالتعليم الجامعي. يعمل حاليا مديرا مساعدا للدراسات والبحث بالمجلس الأعلى للتعليم بالرباط. • من أهم إصدراته : o رهانات البيداغوجيا المعاصرة: دراسة في قضايا التعلم والثقافة المدرسية (2007) o الكتابة والتجربة الصوفية: نموذج محيي الدين بن عربي(1988) o كانط ورهانات التفكير الفلسفي: من نقد الفلسفة إلى فلسفة النقد (2008) o الأخلاق والسياسة: كانط في مواجهة الحداثة بين الشرعية الأخلاقية والشرعية السياسية (2010)
في البداية، سعيد أن أرحب بكم ضمن الجريدة التربوية، وأثمن فيكم موافقتكم على إجراء هذا الحوار، الذي سنخصصه لمناقشة التربية وعلاقتها بمنظومة القيم. - س 1 : يصطدم الدارس للقيم بإشكالية تحديد المفهوم، ويمكننا أن نحدد في هذا الصدد توجهين اثنين على الأقل، توجه ينظر إلى القيم كمبادئ عامة وموجهات أساسية، على أساسها يقوم الفرد سلوكه وأفكاره، ؛ وتوجه ينزلها من مرتبتها المثالية ويعتبرها جزءا من الحياة اليومية باعتبارها نتاج تفاعل مستمر بين الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه. في نظركم ما هو التعريف الذي ترونه الأنسب للقيم؟ ج 1 : " القيمة " مفهوم معقد إلى حد الالتباس. عامة، يمكن القول إنه ليس للقيمة وجود خارج الحكم الذي يعبر الفرد داخله عن تقدير لموضوع محدد، سواء كان شيئا أو فعلا أو فكرة.. قد يكون هذا التقدير شخصيا أو ذاتيا له مرجعيات سيكولوجية خاصة؛ وقد يكون موضوعيا، بمعنى يستند إلى مؤشرات ومرجعيات يتم الاتفاق عليها، بواسطتها يتم بناؤه. وهي عمليات تعكس التصور أو الفهم السائد حول القيم والتقييم. هذا الاتفاق يعبر عن تعاقد داخل الجماعة؛ وهو قد يكون تلقائيا ضمنيا، أو علنيا ومصرحا به وفق آليات وقواعد عمل محددة. من جانب آخر، تتميز القيم بنسقيتها: فهي تشمل مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، الدينية والسياسية والتربوية والاقتصادية وغيرها.. يمكن القول إن التصور السائد في جل الثقافات حول القيم يضفي عليها مضمونا أخلاقيا مثاليا متمثلا إياها كمعايير عامة وكونية تُتخذ كنماذج للسلوك، وتحدد للأفراد والجماعات ما ينبغي أن يكون على مستوى المواقف والأفعال والسلوكيات.. بهذا المعنى، تكون القيم غايات عامة تحدد ما يسمى ميثاق الجماعة، وتتعلق بمختلف جوانب الحياة العملية. وبما أن هذه القيم تكون غائية، فهي تعرض ذاتها بلغة الأمر الأخلاقي أو الواجب. وستكون بؤرة القيم داخل الفرد هي الضمير أو الوازع الأخلاقي. والأخلاقيات الجماعية غالبا ما تحدد لذاتها هدفا متعاليا يجمع كل الصفات الضرورية للقيم من فضيلة وكمال وخير.. وتترجم هذه القيم المتعالية ذاتها داخل نسق اجتماعي أو منظومة للقيم. ولكي يتم الاقتناع بها داخل الجماعة، يتم استنباطها من مبدإ اعتبر أصلا لكل الخيرات والفضائل والمنافع. قد يكون هذا المبدأ هو الكائن الأسمى أو الله في الثقافات الدينية؛ أو هو الإرادة العمومية باعتبارها قاعدة السيادة والقوانين والأحكام في الأنظمة الحديثة للدولة والمجتمع؛ أو هو السوق (الوطنية في الاقتصاد السياسي، أو العالمية في الاقتصاد العولمي) وما تولده من تبادلات وتوازنات من منظور النظريات الاقتصادية الحالية. في مقابل التصور الأخلاقي المثالي للقيم، هناك تصور بدأ يأخذ مكانه ضمن البحوث والدراسات الإنسانية اليوم، يضع القيم في صميم المنطق الاجتماعي، باعتبارها أحد المكونات الأساسية لبنيات الحياة الاجتماعية وتحولاتها، التي تكون محكومة بمرجعيات سوسيو – ثقافية مهيمنة. ويظهر أن التوجه الحالي في بحث مسألة القيم بدأ يركز على هذا المنطق الاجتماعي، لأن التقويم أصبح بالذات جزءا من السياسات والتدابير العمومية في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية بما في ذلك التربية. - س2: على ذكر هذه التصورات، هل يحق لنا أن نجزم أننا نمتلك منظورا مجتمعيا، أم ما زلنا نعيش صراعا لمنظومات القيم المختلفة؟ ج 2: كل مجتمع يمتلك مرجعية أصلية للقيم بلورها عبر تاريخه. لكن ليس لدى كل المجتمعات منظور واضح للقيم، لأن هذا المنظور غالبا ما تبلوره مؤسساتها على اختلافها: المؤسسات السياسية، مؤسسات إنتاج المعرفة، مؤسسات الحقل الأخلاقي – الديني، الهيئات المدنية..إلخ. والمغرب لا يخرج عن هذه القاعدة. فقد بلور عبر تاريخه ثقافة حول القيم متعددة المشارب الفلسفية والفقهية والتاريخية.. غير أنها ظلت في عمومها خاضعة لمنظور ذي توابث دينية تقيم الحقوق على مبدإ الواجب (الواجبات تجاه الخالق، الواجبات تجاه أولياء الأمر، الواجبات تجاه أمة المؤمنين، الواجبات تجاه الذات..). غير أن التحولات التي عرفها المجتمع المغربي في العصر الحديث ستؤدي إلى خلخلة منظومة القيم التقليدية بإدراج منظومة أخرى حديثة. ويمكن القول إجمالا بأن المجتمع المغربي يعيش منذ بداية القرن العشرين تصادما بين نوعين من القيم، قيم تقليدية وأخرى حديثة. وقد انعكس ذلك على الحياة الاجتماعية والاقتصادية وأنظمة العمل والعمران والتربية وغيرها. حاليا، وفي عصر هيمنة القيم العولمية، يعيش المجتمع المغربي، كما حاولت أن أحلل ذلك في دراسة حول صدام السلط في المجتمع المغربي، صداما بين سلط تقليدية ورثها من ماضيه التاريخي ( سلطة الأب، وسلطة الراعي الديني، وسلطة الراعي السياسي)، وبين سلط حديثة تولدت وتطورت مع تكون المجتمعات الغربية الحديثة (سلطة السوق وقوانينها، سلطة المال ومؤسساته العالمية، سلطة المعرفة وفضاءاتها وتكنولوجياتها..). السلط التقليدية تقوم جميعها على نزعة أبوية تختزل طبيعة السلطة إلى نموذج رعوي تذوب فيه الحدود بين الحقل الأسري والحقل الديني والحقل السياسي، وتجعل كل سلطة من السلط الثلاث تجسيدا أو استنساخا لنموذج أصلي هو النموذج الرعوي الاستبدادي. أما السلط العولمية الحديثة، فتستند إلى أنظمة الإنتاج والمؤسسات المالية العالمية، وتكنولوجيا المعرفة المميزة لمجتمع المعرفة. والحال أن هذا الصدام يحمل معه أزمة قيمية يعيشها المجتمع المغربي،شأنه في ذلك شأن مجتمعات الجنوب، أهم سماتها الصدام بين نسقين قيميين، لكل واحد منهما مرجعيته التاريخية والثقافية. وهذا ينعكس بشكل جلي على منظومتنا التربوية، سواء على مستوى المعارف والقيم النظرية التي تنقلها، أو على مستوى السلوكيات والمواقف. - س 3: في قراءتكم للواقع المعيش كيف ينظر المجتمع المغربي للتربية وللمؤسسات التربوية؟ وما هي القيم التي يحرص على استثمارها في رواد هذه المؤسسات؟ ج 3: أقام المجتمع المغربي ميثاقه أو تعاقده السياسي والاجتماعي على أساس منظومة قيمية تجمع بين دور المؤسسات المحورية في الدولة، وبين الحقوق الأساسية للمواطن، من بينها الحماية والتربية والتكوين مع ضمان تكافؤ الفرص في تحقيق ذلك. وبمراجعة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، نجد نسقا متكاملا من الأسس القيمية التي منحها المجتمع المغربي للتربية والتكوين. غير أن هذا النسق القيمي انبنى على خطاب هوياتي يجمع الانتماء الديني والوطني والتاريخي واللغوي وغير ذلك. والحال أن تأسيس هذا الانتماء على الخطاب الهوياتي أثر بشكل كبير على السياسة التربوية عامة، ولا سيما على بناء المناهج والبرامج والتخطيط البيداغوجي اللغوي، وعلى هيكلة الشعب والمسالك، بل أثر سلبا على تدخلات العديد من المدرسين في ممارساتهم الفصلية باسم هذا المكون الهوياتي أو ذاك.. والحال أننا في المغرب حاليا في أمس الحاجة لإقامة ميثاق أو تعاقد مجتمعي على أساس أمرين أساسيين متكاملين: الأول يهم المؤسسات المحورية مع تحديد وضعها وأدوارها؛ والثاني يتعلق بالمواطنة التي تشمل الحقوق والحريات والالتزمات أو الواجبات. فما يجمع المغاربة ويوحدهم أساسا هو المؤسسات والمواطنة المغربية. أما اختلافاتهم السياسية واللغوية والثقافية والدينية والجهوية وغيرها، فهي عناصر ومكونات ينبغي أن تجد داخل الفضاء العمومي، الذي تخلقه المؤسسات والمواطنة، ما يسمح لها بالحضور في حياة المواطنين المغاربة بشكل يخدم التعايش فيما بينهم والتواصل والتضامن وباقي القيم التي تقوم عليها المواطنة المغربية والتي تشدها إلى القيم الكونية كما هي معترف بها دوليا. على هذا الأساس المجتمعي، يمكن بناء نسق قيمي تربوي تقوم عليه الرسالة التربوية للمدرسة إلى جانب وظائفها على مستوى التعليم والتأهيل. - س 4: يجمع العديد من الباحثين على أن ميثاق التربية والتكوين هو الوثيقة الوحيدة التي اتفق عليها المغاربة منذ الاستقلال، غير أنه في الوقت ذاته نقل التفكير في التربية كقضية استراتيجية إلى قضية تقنية تدبر وفق خطط وبرامج محصورة في الزمن. فهل تتفقون مع هذه القراءة؟ وإن كان الأمر كذلك فما تأثير ذلك على المنظومة التربوية؟ ج 4 : اعتمد المغرب منذ الاستقلال سياسات مختلفة، وأحيانا متذبذبة في مجال التربية والتكوين، سواء تعلق الأمر بالمناهج والبرامج، أو التكوينات، أو التخطيط البيداغوجي اللغوي، أو التقويم.. غير أن ميزة المغرب أنه أعد ميثاقا مجتمعيا للتربية والتكوين على أساسه أرسى إصلاحا تربويا منذ بداية الألفية الثالثة. ويمكن الاعتراف بأن هذا الميثاق الوطني للتربية والتكوين يشكل وثيقة شاملة لمختلف مكونات المنظومة التربوية وأهدافها.. والحق أنه عكس توافقا مجتمعيا استحضر مختلف التوجهات السياسية والثقافية والأخلاقية والتربوية وأعطاها مجالا للتكامل لأجل بناء منظور مجتمعي للتربية والتكوين. من المؤكد أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين في حاجة إلى الإغناء والتطوير في ضوء الدينامية المجتمعية التي يعرفها المغرب، وما تشهده من تحولات وتجديد في المنظور والقيم والانتظارات والسلوكيات المدنية وغيرها. واستحضارا لما جاء في الإجابة السابقة، ينبغي التأكيد على ضرورة إعادة بناء الميثاق الوطني للتربية والتكوين بشكل يرصد مكتسباته الإيجابية (وهي كثيرة جدا، إن على المستوى النظري أو العملي)، ويغني منظوره في مراعاة لمطالب المجتمع المدني المغربي، ولا سيما تلك الخاصة بالمواطنة. في هذا السياق، يمكنني الإشارة فقط إلى أن الميثاق انبنى على قاعدتين، ضروريتين بكل تأكيد، غير أنهما في حاجة اليوم إلى تطوير: - القاعدة الأولى هوياتية: وقد سبق أن أشرتُ في الإجابة عن السؤال السابق إلى ضرورة بناء الميثاق أو التعاقد المجتمعي الآتي حول التربية والتكوين على أساس: أ - الحضور المؤسساتي ما مع يتطلبه من احترام للفضاءات العمومية وإنصات دائم لمطالب المجتمع المدني وتحاور معها، في إطار الشفافية ومراعاة المصالح العليا للوطن والمجتمع المغربي؛ ب – مقتضيات المواطنة التي تشكل إطارا عاما يجد فيه المواطنون المغاربة ما يشركهم ويوحدهم، وما يسمح بتدبير اختلافاتهم السياسية والثقافية واللغوية بشكل يؤمن تعايشهم وتساكنهم وتضامنهم.. يعني كل ذلك، أن المنظور الاستراتيجي المجتمعي للتربية والتكوين بالمغرب يقتضي أن يقلص بشكل كبير جدا مساحة المكون الهوياتي لحساب المكون المؤسساتي العمومي (وضوح وضع المؤسسات وأدوارها ووظائفها)، ومكون الحقوق والحريات والواجبات (مكون المواطنة). - القاعدة الثانية سيكولوجية - أخلاقية: فقد بنى الميثاق خطابه الداخلي على محورية المتعلم في العملية التعليمية – التعلمية، وهذا أمر أساسي، وعلى نسق من الحقوق والواجبات التي تلزم مجموعة من الأطراف تجاه هذا المتعلم. والحال أن الظرفية الحالية وما تشهده من ديناميات للتغيير والتطوير، تتطلب الارتقاء بهذا الميثاق من المستوى الهوياتي والسيكولوجي – الأخلاقي إلى المستوى المؤسساتي. فالتعاقد المجتمعي المغربي حول التربية والتكوين ينبغي أن يصبح جزءا من وثيقة الدستور الجديد، وأن ينص صراحة على الأسس القانونية والدستورية للتربية والتكوين، وعلى مسؤولية المؤسسات العمومية والاجتماعية، وكذا حقوق المواطنين في التربية وفق مبادئ تكافؤ الفرص والإنصاف والعدالة الاجتماعية. إجمالا، يجب الارتقاء بالميثاق الوطني حول التربية إلى مستوى الوثيقة الدستورية التي بموجبها يصبح الجميع مسؤولا عن كل التزاماته تجاه الأطفال والمتعلمين(ات) وضمان حقوقهم(ن) في التربية والتكوين. ويمكن الاعتراف بأن أحد أسباب تعثر تطبيق توصيات الميثاق الوطني للتربية والتكوين هو عدم توفر هذه القوة الدستورية القانونية الملزمة للجميع باحترام حق المتعلم في التربية بوجه عام. يمكن للمعالجة التقنية لشؤون التربية أن تكون ناجعة، لكنها محدودة؛ ناهيك عن كونها بعيدة كل البعد الآن عن مطالب المجتمع المغربي الذي يريد أن ترفع التربية إلى مستوى الحق الدستوري الذي ينبغي أن تلتزم به السياسات العمومية أمام المجتمع المدني الذي سيكون ملزما إلى مقاضاة هذه السياسات في حالة إخلالها بهذا الحق، وليس فقط إلى الاحتجاج عليها. فاحترام الحق في التربية ينبغي أن يصبح موضوع اهتمام عمومي وتتبع ومحاسبة اجتماعية وليس فقط حكومية. - س 5: هل حقا نعيش أزمة نخب مختصة في التفكير في القضايا الاجتماعية ومنها التربية كقضايا استرتيجية؟ ج 5: فعلا، يعيش المجتمع المغربي أزمة نخب تتحمل مسؤولية التفكير في قضايا التربية والمجتمع. فالأحزاب السياسية تتعامل مع التربية من منظور سياسي ضيق جدا. كما أنها في استراتيجية عملها السياسي ليس لديها مرجعية علمية تستند إليها في تقييماتها للتربية ببلادنا. والهيئات الاجتماعية الممثلة لمختلف الفاعلين التربويين تركز عملها على قضايا الحقوق المادية والمعنوية. والأسر بدأت تعمق عزلة المدرسة وتفقد ثقتها في رسالتها التربوية.. تبقى جمعيات المجتمع المدني المنخرطة في تطوير العمل التربوي تركز جهودها، بإمكانياتها الخاصة، في مستويات محددة من العمل التربوي.. أما الجامعات ومؤسسات تكوين الأطر التربوية، فهي منشغلة في قضايا نظرية عامة تهم النظرية التربوية وقلما تهتم بقضايا المتعلم المغربي والمدرسة المغربية (الجامعة)، أو منشغلة بقضايا تقنية تهم التكوين المهني والديداكتيكي للفاعل التربوي. ما ينقصنا في المغرب هو منظور ثقافي وأكاديمي حول المدرسة المغربية وأدوارها ووظائفها في مراعاة للمواصفات المتعاقد عليها للمواطن المغربي المأمول. والحال، سيكون صعبا جدا بناء تعاقد مجتمعي مغربي حول التربية والتكوين وحول المدرسة، بالاكتفاء فقط بحصر جوانبهما الدستورية والقانونية والأخلاقية، ويجب أن تساهم مؤسسات إنتاج المعرفة في بلورة هذا التعاقد من خلال الدراسات والبحوث والأنشطة العمومية التي تنجزها حول التربية ورسالة المدرسة المغربية وباقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى. - س 6 : بالعودة إلى علاقة التربية بالقيم، نجد المنهاج التربوي يتبنى مدخل التربية على القيم، كما أن مبادئه وغاياته تتضمن مجموعة من القيم يتغيى تحقيقها. من خلال قراءتكم لهذا المنهاج، ما هي أهم القيم التي يتبناها المنهاج المغربي؟ ج 6 : أثمرت المراجعات التي عرفتها المناهج بالمغرب إدماج التربية على حقوق الإنسان والقيم في المناهج المدرسية. وهو أمر إيجابي جدا أمام الرهان على تكوين المواطن الفاعل المساهم في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمغرب. غير أنه يلاحظ أن هذه المناهج قد خضعت لتوجه الخطاب الهوياتي الذي سبقت الإشارة إليه. ولعل أهم الآثار السلبية لاعتماد هذا الخطاب تضارب المكونات الهوياتية، بشكل ينعكس على انسجام الخطاب المدرسي ذاته حول القيم، من حيث المرجعيات المعتمدة والتقييمات التي يمررها. فالمواد المدرسية الحاملة للقيم عامة، وقيم المواطنة على وجه الخصوص، تفتقد الانسجام والتكامل؛ وكثيرا ما تتعارض فيما بينها من حيث القيم التي تنقلها. وهذا يؤثر سلبا على إدراك الأطفال والفتيات، وعلى قدرتهم على التعلم وتقبل المعلومة المدرسية. من جانب آخر، يظهر عدم انسجام الخطاب المدرسي حول القيم في التعارض الملحوظ في كثير من الأحيان بين مضامين النصوص الرسمية والتنظيمية للسلطة الوصية على التربية، وبين السلوكيات الفعلية داخل الفضاءات المدرسية أو المحيطة بالمدرسة، التي تتسم بالعنف واللامبالاة تجاه قضايا المجال العمومي والمجتمع المدني. علاوة على ذلك، فالمدرسة المغربية والمؤسسات التي ترتبط بها كالجامعة ومؤسسات تكوين الأطر التربوية، لم تتمكن لحد الآن، وهذه ملاحظة تمت الإشارة إليها سابقا، من بلورة خطاب أصيل حول المواطنة المغربية وقيمها وحول التربية ومواصفات المواطن المستقبلي ببلادنا. فقد اكتفت باستهلاك خطابات جاهزة حول المواطنة تنقلها عموديا إلى أجيال المتعلمين والمتعلمات، دون التمكن من خلق وضعيات حقيقية تتيح اختبار سلوكيات المواطنة وقيمها ومعايشتها فعليا. - س 7: في نفس التوجه، في نظركم ما هي القيم التي ترونها ضابطة لعقلنة الفعل التربوي؟ ج 7: هناك تحولات عميقة مست مفهوم القيم في المجتمعات المعاصرة بفعل العولمة وإكراهاتها. فلم تعد القيم منحصرة في النماذج المثالية العامة التي يضعها المجتمع كغايات للتربية والتكوين. أصبحت المنظومات التربوية اليوم تنظم ذاتها وأداءها وفق مرجعية القيم الإجرائية وهي مبادئ ضابطة بواسطتها تتم عقلنة العمل التربوي بل السياسات التربوية العمومية برمتها. هذه القيم ذات وظيفة تنظيمية ضابطة، وفي الآن ذاته تضفي على هذه السياسات والتدابير قيمة عملية تؤثر على مردوديتها. أذكر هنا على سبيل المثال التعاقد والتدبير بالنتائج والاستقلالية والمحاسبة والتقويم.. وهي وغيرها عبارة عن مبادئ لتنظيم مختلف العمليات ذات الصلة بتدبير التربية من النواحي المؤسساتية والبيداغوجية والتقويمية وغيرها. ونحن بالمغرب في أمس الحاجة إلى سياسة العمل التربوي استنادا إلى هذه القيم الإجرائية التي توضع في قلب العمل التربوي، وليس فقط باعتماد قيم/غايات نموذجية توضع في نهاية هذا العمل. - س 8: أنتم من المدافعين على أن تبنى المنظومة التربوية على مبدأ الحق وليس الواجب؟ هل من الممكن توضيح هذه الرؤية؟ ج 8: بكل تأكيد. فالمنظومات التربوية التقليدية، ولا سيما ذات الأصول الأخلاقية والدينية، أقامت ذاتها على الواجب (واجب المؤمن، واجب الفرد داخل الجماعة التي هو عضو فيها..) وما يترتب عليه من طاعات والتزامات. ولا تتحدد حقوق الفرد إلا في ضوء هذه الواجب. وقد ذكرت في إجابة سابقة أن المواطنة والحقوق والحريات ينبغي أن تكون مرجعية دستورية وقانونية للتربية والفعل التربوي. - س 9: لا يمكن أن نتحدث عن القيم في علاقتها بالتربية دون الحديث عن القيم المهنية للفاعل التربوي.فكيف يمكن أن نجعل من الأخلاقيات المهنية مدخلا للمهننة؟ ج 9: هذا أمر صحيح. فالأخلاق المهنية جزء أساسي من الممارسة المهنية. وهذا يقتضي أن تكون جزءا من مقومات مهننة الفعل التربوي أيا كانت المهام المرتبطة به، وهذا يعني جزءا من التكوين الأساس والمستمر للفاعلين ومن تقويمهم وحفزهم وغير ذلك. - س 10: لقد استطاعت العولمة ببعدها الاقتصادي والسياسي والقيمي أن تغزو الأوطان، بل بدأت تفرض قيما كونيا على الشعوب، في نظركم كيف يمكن للمنظومة التربوية أن تتأقلم مع هذه التحديات، وأن توازن بين القيم المحلية والقيم الكونية؟ ج 10: العولمة ظاهرة شمولية متعددة الأبعاد (الاقتصاد، السياسة، الثقافة والتربية والإعلام..). كما أنها اخترقت بمفاهيمها وتصوراتها مختلف القضايا بما في ذلك التي كانت محظورة أو تواجَه بالتهميش أو الإقصاء دخل المجال العمومي (كقضايا الجسد والمرض والجنس والهجرة ...). من حسنات العولمة أنها أدت إلى تفكيك كل أنظمة السلطة التقليدية (سلطة الأب، سلطة رجل الدين، سلطة الراعي السياسي)، ورسخت العمومية السياسية والثقافية؛ كما عززت سلطة المعارف ومجتمع المعرفة. من نتائج ذلك، اختراق الثقافة الكونية للخصوصيات المحلية والجهوية. ولم تصبح هذه الخصوصيات موضوع اهتمام ولم تبرز كقضايا تستحق العناية إلا من منظور عولمي، أي حينما يتم تعميمها وتحويلها إلى شأن يهتم به الجميع مهما بعدت المسافات المادية أو الثقافية أو السيكولوجية.. لم تعد المدرسة في زمن العولمة المصدر الوحيد لإعادة إنتاج المعرفة وتعميمها.. لقد ضاق موقعها داخل مجتمع المعرفة، وأصبحت ملزمة بأن تعيد النظر في أدوارها داخل هذا المجتمع. الآن أصبحنا نتحدث عن برامج ووسائل رقمية. وهذا يتطلب إحداث تغيير في وسائل الاتصال داخل المدرسة وخارجها. كما أن ذلك سيغير لا محالة من أدوار المدرس والمتعلم الذي لم يعد مجرد تابع لسلطة المدرسة والمدرس في اكتساب المعارف. هذا أيضا سيغير من وظائف التأهيل والتقويم والتوجيه... إجمالا، غيرت العولمة من النظم المعرفية للتكوين والتأهيل، وهذا يعني أن المدرسة ستكون ملزمة في السنين المقبلة من تغيير جزء كبير من هويتها في ضوء تغيير هذه النظم. س 11: كلمة أخيرة ج 11: أصبح الآن منظور القيم، من منطلق محايثتها للنسق الاجتماعي وإجرائيتها، أساسيا في بناء العمليات والسياسات التربوية. للأسف، لازالت مدرستنا المغربية متشبتة بنوع من القيم الهوياتية، في حين هي مطالبة بالتركيز على قيم المواطنة بالمعنى الذي حددته سابقا. ونحن نعرف أن هذه القيم لا تشمل فقط ما هو أخلاقي وسياسي ووطني، بل تغطي أيضا ما هو ثقافي محلي وجهوي، علاوة على القيم الجمالية المختلفة. وعلى الرغم من أن المدرسة المغربية قد أدمجت في مناهجها التربية على القيم الفنية والجمالية، إلى جانب القيم الأخرى الدينية والوطنية وقيم الشأن المحلي، فإنها لم تنجح بعد في ترسيخ التربية الجمالية، علما أن هذه التربية ليست محدودة فيما هو فني خالص، بل ذات صلة عميقة بما هو سياسي: فلا يمكن للفرد أن يتشبع بقيم المواطنة وهو لا يراها قيما جميلة قابلة لأن يتم تقاسمها داخل المجال العمومي، ولأن تُبنى عليها علاقات تعايش وتواصل، وعموما ثقافة عمومية حول كل ما هو جميل وجليل في حياة البشر.
#رشيد_شاكري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
افتحاص الجودة بقطاع التربية والتكوين
-
أبجدية تيفناغ: سؤال التاريخ والأصل
-
إشكالية الكتابة في اللغة الأمازيغية: بين تيفناغ، والحرف العر
...
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|