|
الدفاع عن شعب-الفصل الاول ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة المجتمع العبودي
عبدالله اوجلان
الحوار المتمدن-العدد: 1074 - 2005 / 1 / 10 - 09:45
المحور:
القضية الكردية
بالإمكان تقسيم تاريخ المجتمع الإنساني بأشكال مختلفة، وفقاً للمعايير التي تتخذ تقسيم الزمن أساساً. أما إذا اتُّخِذَت أشكال العقلية أساساً، فسيحتلُّ عصر الميثولوجيا، والعلم الميتافيزيقي والإيجابي بخطوطه العريضة حيزاً هاماً من التقسيم. في حين إذا اتُّخِذَت المعايير الطبقية أساساً، نجد أنها طالما تبدت على الشكل التالي: المجتمع المشاعي البدائي، العبودي، الإقطاعي، الرأسمالي، الاشتراكي وما بعده. هذا وقد عُمِل كثيراً بالتقسيم حسب المدنيات الثقافية الأساسية عبر التاريخ. أما المعيار الأساسي للتقسيم المرحلي الذي ارتأيتُ من الأنسب اعتماده، فيتميز بماهية تغلب عليها القيم الفلسفية والعلمية، ويتخذ من مبدأ آلية الكون العامة أساساً له. بمعنى آخر، إنّ جعْلَ ثلاثية الأطروحة – الأطروحة المضادة – التركيبة الجديدة قابلة للتطبيق كأساس للنظام القائم – مثلما عَمِل به هيغل بكثرة وحوَّله إلى فلسفة أولية لديه – سيسلط الضوء بجلاء أكبر على المراحل المعاشة. فكل الكيانات الموجودة في الكون تجعل الحركة ممكنة بامتلاكها بنى ثنائية متناقضة. وبالطبع، فهذه الحركة ليست حركة ميكانيكية فظة، بل هي حالة حركية خلاقة تشكل التغيير والتنوع في مضمونها. وعلى سبيل المثال، يمكننا البدء بالكون من ثنائية الوجود – العدم. حيث تُشكِّل مواجهة الوجود والعدم لبعضهما البعض كياناً جديداً، ألا وهو الحركية بعينها. وبدون وجودهما لا يمكن لذاك الكيان أن ينفتح أو يتحرك. والتكوين بمضمونه ليس سوى مقاومة الوجود تجاه العدم. وبينما يحاول الوجود إفناء العدم، والعدم إفناء الوجود، ينتج في المحصلة تيار ثالث، ويظهر الكون على شكل كيان أشبه بالتركيبة الجديدة. شبيه بذلك أيضاً ثنائية الجزيء الأصغري – الموجة. حيث لا يمكن أن يوجد أحدهما دون الآخر، وإنما يشكلان مع بعضهما البعض الحركة، وبالتالي يقومان بتكوين كيان ما كتركيبة جديدة. وثنائية التطابق – التنوع أيضاً تفضي إلى نتائج مشابهة. إذ لا يمكن للتطابق أن يبرهن وجوده إلا عبر التنوع، الذي بدونه يكون التطابق ضرباً من العدم والفناء. وسنرى الوضع ذاته إذا ما تداولنا أية ظاهرة أخرى. الاختلاف الأكثر وضوحاً يكمن في ثنائية الحيوية – الجمود. ففي كوكبنا الأرضي، وبشكل مغاير لما يجري في الكون الحيوي العام، يتولَّد وسط حيوي بالتزامن مع التطور الوافر للحركة، من داخل وسط مادي مختلف من حيث الماهية، وفي نقطة محددة ينطلق منها، ليُكوِّن ذاته ويطورها عبرالتغييرات الكيميائية المسماة بالأَيْض. وهنا تمثِّل حقيقة التطور التي لا تعرف الحدود في الكون قفزة خارقة (فوق عادية) لا يزال العلم عاجزاً عن تحليلها تماماً. لذا ستشكل ظاهرة الحيوية وتعليلها الكامل الموضوعَ الرئيسي الهام للعلم تصاعدياً من الآن فصاعداً. أما خارطة الدانا (DNA) وعملية الاستنساخ، فلا تعني أن هذه الظاهرة قد حُلِّلت كلياً. هذا ولا يمكن لعملية تصنيف الجزيء المتسبب في الحيوية أن تعلِّل هذه الظاهرة بمفردها. إذ ما من جدل في لزوم وجود وسط (غلاف جوي، محيط مائي) خارجي مناسب، ونظام جزيئات ملائم لحصول الحيوية. ولكن كل هذا ليس سوى اللَبَنات الرُّكْن للحيوية ونظامها المادي، لا غير. والأهم من ذلك هو ارتباط هذا النظام المادي بواقعة لا مادية من حيث المعنى، كالحيوية. ويكمن الخطأ الأولي للفلسفة المادية في اعتبارها أن الفاعلية، أي الحيوية وظاهرة المعنى، هي عينها الترتيب المادي. فحتى في فيزياء الكوانتوم تنهار هذه العينية (التطابق) وتتحطم. لذا، ثمة ضرورة حتمية لطراز تعليلي أشبه بالحدسية. تتميز حالة الذكاء (العقل) لدى الإنسان من بين الكائنات الحية الأخرى، بوضعية أكثر غرابة. إذ يمكن تعريف الإنسان بأنه الطبيعة التي تفكر في ذاتها على نحو أكفأ. ولكن الأهم من ذلك، لماذا تشعر الطبيعة بحاجة للتفكير في ذاتها؟ وإلى أين يمتد المنبع الأصلي لمهارة وكفاءة المادة في التفكير؟ بالطبع، فنحن لا نهدف بطرح مثل هذه الأسئلة إلى ابتكار مشكلة البحث عن إله جديد. بل إنها تشير إلى الحاجة الماسة لتحليل الظواهر المسماة بالكون والوجود والطبيعة، كمصطلحات أوسع نطاقاً وأبعد بكثير من تعليلنا إياها بالعين المجردة. ذلك أننا وجهاً لوجه أمام مفهوم (براديغما) للكون كثير الغنى، مثمر ومعطاء، متنوع ولا يعرف حدوداً في التطور. فالمفاهيم المتعلقة بالكون، والبارزة في مختلف مراحل تطور البشرية، كالبراديغمائيات الميثولوجية والميتافيزيقية والعلمية الإيجابية؛ إنما تضع بين أيدينا اصطلاحات وسلوكيات معيشية شديدة الاختلاف مع ما ذكرناه آنفاً. فبينما يتواجد إله لكل شيء في الميثولوجيا، يغلب على الميتافيزيقيا الرأي القائل بإله أو سبب أول حركة. في حين يُعمَل على تعليل كل شيء بالمادية البحتة في العلم الإيجابي، ليطوِّر بذلك فلسفة السببية الكثيفة والتطور ضمن مسار مستقيم. بالطبع، إذا ما أُدرِكَت ماهية السلوكيات في عالم الحيوانات من المراتب الأدنى، فستكون أكثر غرابة. فالزواحف، الطيور والثدييات، تُرى كيف، وبأي حس تنظر إلى الوسط الخارجي؟ كم هو غريبٌ التشبيه المتداوَل بين الشعب، والقائل: "كما ينظر الثور إلى القطار". فكيف هي – إذاً – نظرة الحجارة والذرّات الرملية؟ ذلك أن لها أيضاً سلوكياتها الخاصة. فالكون والطبيعة بشكل متكامل، يعبِّران عن سلوك معين. بل إنه سلوك في حالة حركية لا نهاية لها. إنني أقوم بهذا الإيضاح الاصطلاحي للإشادة بأن حالة الدنيا ووجودها أيضاً، هي ظاهرة بحد ذاتها. وإذا ما قمنا بتقييم تجردي عام، نرى أنها ستواصل وجودها كظاهرة من بداياتها وحتى الأخير. والسؤال الهام الذي يطرح نفسه أمامنا بهذا الصدد هو، كيف يمكننا تأليف أطروحة هذه الظاهرة، وأطروحتها المضادة وتركيبتها الجديدة؟ فإذا ما عرَّفنا الإنسان (ومجتمعه) بأنه الوجود (الكيان) الأرقى في قدرته الفهمية والمعرفية، فإن تثبيت الثنائية الأساسية في هذه الظاهرة، بالإضافةالى تركيبتها الجديدة الأخيرة أيضاً، إنما يعني بلوغ الاصطلاح الأكثر علمية. فما دمنا أناساً، ونهتم بالإنسان لهذه الدرجة، إذن – والحال هذه – كيف يسير سياق الجدلية؟ ونحو أية تركيبة جديدة تتجه؟ أو إلى أي منها تتحول؟ على العلوم الاجتماعية القيام أولاً، وكنقطة بداية، تحليل هذا الاصطلاح. فسلوك الإنسان، الذي يتسم بحالة وجودية هي الأغرب أطواراً على الإطلاق في الكيان الكوني العام، إذا لم يقم بهذا التحليل الاصطلاحي الأساسي، لن يتمكن من بلوغ علم اجتماعٍ صائب وسليم. وفي هذه الحالة، لن يبقى خيار أمامه سوى الغرق في عالم الظواهر اللامتناهية. وهذا هو أحد الأسباب البارزة للتشوش والخلط بين الأمور في علم الاجتماع. إن الاصطلاحات والفرضيات والنظريات المتعلقة بالظاهرة الاجتماعية، والتي ابتدأت منذ العصور الميثولوجية، لتأخذ حالة أكثر تعقيداً وتشابكاً مع الأديان التوحيدية والفلسفة الميتافيزيقية، وتغدو عقدة كأداء مع العلم الإيجابي؛ لا تكتفي بتضمنها النقصان في تعليل المجريات والتطورات، بل وأُدخِل فيها أخطاء فادحة جداً. ولهذه التعاليل بشأن الظاهرة الاجتماعية الدور البارز في بلوغ البشرية إلى حالة تسودها وتهيمن عليها المرحلة الرأسمالية الأكثر دموية واستغلالاً على الإطلاق. وإذا لم تحلِّل البشرية بشكل صحيح ظاهرة المجتمعية، كشكل للوجود الجوهري (الذاتي)، فمن الجلي أن مآلها سيكون الديناصورية. ورغم البحوثات البارزة بهدف التحديث من قِبَل علماء الاجتماع بعد الحربين العالميتين، إلا إنها ليست سوى محاولات سقيمة وواهنة لا تتعدى إطار تثبيت بعض الحقائق المحدودة جداً. فحتى المدارس الأكثر عزماً وطموحاً كالماركسية، وإلى جانب مساهماتها المحدودة في صياغة الحلول، قامت بإتْباع عالم المسحوقين والمستعمَرين الذين مثَّلَتهم وتحركت ناطقة باسمهم على وجه الخصوص، ببراديغمائيات ومفاهيم سياسية جديدة، بحيث لم يتعدَّ دورها جعْلَهم قوة احتياطية للنظام الاجتماعي المهيمن. والأصح أنها لم تتمكن من تحقيق مآربها وطموحاتها. وبمقدورنا استيعاب أن العديد من المدارس والفروع الأخرى في ميدان علم الاجتماع، لم تستطع إحراز نجاحات أكثر مما أحرزته المجموعات الفلسفية والدينية التي سادت العصور القديمة والوسطة. ويتجلى ذلك بكل سطوع من خلال التدقيق في أدوارها تجاه المتغيرات الحاصلة. ذلك أن نصيب علم الاجتماع ومؤسساته ذو أولوية هامة في الأبعاد التخريبية (jenosit)؟؟؟ للحروب، وجشع الربح والمنفعة الذي لا يمكن كلح لجامه، والأيكولوجيا المدمَّرة. فعلم الاجتماع ومؤسساته هم المسؤولون الأساسيون عن ذلك، لأنهم غدوا في خدمة الحروب والسلطة السياسية بدرجة لا مثيل لها في أي مرحلة من مراحل التاريخ الأخرى. وما العجز عن إيقاف تنامي السلطة السياسية والحروب، وعن نصب السدود في وجه جشع الربح والمنفعة اللامحدودة، سوى برهان قاطع، ليس على إفلاس علم الاجتماع ومؤسساته فحسب، بل وعلى يخانتهم المرتكبة بحق الإنسانية جمعاء أيضاً. من هنا، يتحتم تداول ودراسة مفهوم جديد وكامل لعلم الاجتماع، ومعالجته ببنية جديدة وطيدة، وطرح ذلك في جدول الأعمال الأولية كنشاط رئيسي وثمين للغاية؛ إزاء المعضلات الأساسية التي تعانيها البشرية. وبناء على ذلك فقط، بإمكان العملية والتنظيم أن يجدا لذاتهما مكاناً ومساحة وافية. يجب النظر إلى مفهوم علم الاجتماع، الذي نريد تطويره، ضمن هذا الإطار. واعتبار الاصطلاحات والفرضيات ضرباً من التجارب والاختبارات وفق هذا السياق. وبإمكان هذه المساعي التي ستتزايد تصاعدياً، أن تتمأسس لتزيد من فرص الحل. ويجب النظر إلى اختبارنا الاصطلاحي الأعم من هذه الزاوية. لقد سعينا في البند السابق لرسم وشرح إطار التعريف الذي استندنا إليه في تسمية أول حالة جماعية للبشرية باسم "المجتمع الطبيعي". وطرحنا فيه براديغمائيتنا في كيفية تداول الكون. فانتشار التنظيم الاجتماعي من نمط الكلان وتوسعه زماناً ومكاناً، واكتسابه مع الوقت بُعداً تنوعياً وحجمياً متزايداً، هو من بواعث طبيعته. ومن خلال المعطيات المتوفرة في حوزتنا، يمكننا الوصول إلى أن الضيق والسخط قد تطور مع الزمن على صعيد الرجل، في الجماعة المتمحورة حول المرأة الأم، والمتزايدة حجماً، والقديرة هويةً. فالكَمّ المتراكم من الأطفال الملتفين حول المرأة الأم. والرجال المتعاملون معها بغرض مساعدتها بالأرجح، أسفرا عن حسد الرجال الآخرين وتأجج نقمتهم عليهم. والأهم من ذلك أن المرأة الأم تطوِّر النظام الأهلي المستقر وتوطده، بحيث تؤمِّن فيه طعامها ورداءها وبقية الوسائل والأدوات اللازمة. وبتميزها بمراقبة ما حولها بلغت مرتبة المرأة الساحرة، لتكتسب مزية الحكمة مع الزمن. وبمقدار إلحاقها كماً أكبر من الأطفال والرجال الأصدقاء (المقربين) بهذا النظام الأهلي المستقر، بقدر ما تغدو المرأةَ الأم القوية المهابة. ونشاهد تطور هيبة للمرأة لا يمكن كبح جماحها. والبراهين التي بحوزتنا هي أمارات واضحة تشير إلى رجحان انتشار النظام الديني للإلهة الأنثى، والعناصر المؤنثة في اللغة، وبروز قوة المرأة الأم المتصاعدة في المنحوتات الأثرية. والنسبة الكبرى من الرجال على مسافة بعيدة من هذا النظام بطبيعة الحال. وقد يبقى من لا تجد فيه المرأة الأم نفعاً – يتكونون بالأغلب من المسنين العجائز – فتطرده خارج نطاق هذا النظام. ومع الزمن، يتأجج هذا التناقض، الذي كان باهتاً في البداية. فعندما كشف تطور الصيد عن قوة الرجل القتالية، صعَّد بالمقابل من وعيه ومعرفته. وبناء عليه يشرع العجائز المطرودون من ذاك النظام في التوجه صوب أيديولوجية يهيمن عليها الرجل. ونخص بالذكر هنا الديانة الشامانية التي تضع هذه الظاهرة أمام أعيننا بشكل ملفت للنظر (shamanism: الشامانية: دين بدائي من أديان شمالي آسيا وأوروبا. يتميز بالاعتقاد بوجود عالَم محجوب، هو عالم الآلهة والشياطين وأرواح السلَف، وبأن هذا العالم لا يستجيب إلا للشامان. والشامان كاهن يستخدم السحر لمعالجة المرضى ولكشف المخبّأ وللسيطرة على الأحداث – المترجم). والشامانيون (الكهنة) يمثلون بالأرجح نموذجاً مصغراً للرهبان الذكور. وهم يسعون إلى تطوير حركة ونظام أهلي مناهض للنساء، وبشكل منظم بدقة. وهكذا يشكلون عبر الشامانية الذكورية نظاماً أهلياً مستقراً تجاه النظام الأهلي المتطور سابقاً حول المرأة الأم النواة؛ بحيث اتسم نظامهم ذاك بأنه شبه وحشي، يسكنون فيه الأكواخ البسيطة. ويحدث الاتفاق والتحالف بين الشامانيين وبين العجائز وذوي الخبرات والتجارب، كتطور ذي أهمية كبيرة. وتتجذر مكانتهم وتتعزز تدريجياً داخل جماعتهم عبر القوة الأيديولوجية التي مارسوها وطبقوها على بعض الشبان الذين احتووهم فيما بينهم. ويتميز اكتساب الرجل للقوة هنا بماهية ذات أهمية أكبر. حيث تتميز ممارسة الصيد وحماية الكلان تجاه الأخطار الخارجية بماهية عسكرية معتمدة على القتل والجرح (الذبح). إنها بداية ثقافة الحرب. وعندما يغدو الأمر مسألة حياة أو موت، يستلزم حينها ربط الشؤون بالسلطة والهرمية. وهكذا يرتقي الشخص الأكفأ والأمهر إلى المنزلة العليا بحديثه ونفوذه. إنها بداية لثقافة مختلفة يتزايد تفوقها تجاه قوة المرأة الأم. وتشكِّل هذه المستجدات في بروز السلطة والهرمية، قُبَيل ظهور المجتمع الطبقي، إحدى أهم المنعطفات التاريخية. فهي مغايرة في مضمونها لثقافة المرأة الأم، التي ترجح فيها عملية جمع الثمار، ومن ثم اكتشاف النباتات وإنتاجها. أي أنها أنشطة لا تستلزم الحرب، في حين أن ممارسة الصيد الراجحة لدى الرجل تعد نشاطاً مرتكزاً إلى ثقافة الحرب والسلطة القاسية. والمحصلة كانت أن تجذرت السلطة الأبوية (البطرياركية) وتوطدت. إن البنية الهرمية والسلطوية هي الأساس في المجتمع الأبوي (البطرياركي). ومصطلح الهرمية يدل في معناه على أول مثال بارز لمفهوم الإدارة السلطوية المتحدة مع السلطة المقدسة للشامان. ولدى ازدياد تكاثُف تقدُّم هذه المؤسسة السلطوية المتعالية على المجتمع، وتوجُّهُها مع الوقت نحو التمايز الطبقي؛ تحولت إلى سلطة الدولة. ولكن السلطة الهرمية هنا فردية بالأرجح، حيث لم تتمأسس بعد. لذا فهي لم تكن ذات نفوذ على المجتمع بقدر ما هي عليه مأسسة الدولة. والتوافق والانسجام هنا شبه طوعي. ويتحدد مستوى الارتباط وفقاً لمنافع المجتمع. ولكن هذه المرحلة المبتدئة قابلة لتوليد الدولة من بين أحشائها. ويقاوم المجتمع المشاعي البدائي تجاه هذه المرحلة حقبة طويلة من الزمن. فمن يتراكم لديه الإنتاج الفائض في ذاك المجتمع المشاعي، لم يكن بمقدوره فرض الاحترام تجاه سلطته والامتثال لها إلا عندما يشاطر ما يدّخره مع أفراد جماعته. حيث يُنَر إلى الادخار والتكديس بعين الجُرم الأكبر. والشخص الأفضل هو ذاك الذي يوزع ما يدخره من إنتاج. ويرجع مفهوم "الكرم والسخاء"، الذي ما يزال سائداً في المجتمعات القبائلية، في أصله إلى هذه التقاليد التاريخية الراسخة. وحتى الأعياد ابتدأت بالظهور كمراسيم لتوزيع الفائض. فالجماعة في بداياتها ترى في الادخار والتكديس أفدح خطر يهدد وجودها، فتجعل من المقاومة تجاهه أساساً للمفاهيم الأخلاقية والدينية لديها. وليس من الصعوبة ملاحظة آثار هذه التقاليد في كافة التعاليم الدينية والأخلاقية، وبشكل قوي للغاية. ولا يصادق المجتمع على الهرمية إلا عندما رأى فيها الفائدة والسخاء والمكاسب. وتلعب الهرمية بجانبها هذا دوراً إيجابياً نافعاً. هذه الماهية للهرمية المعتمدة على المرأة الأم، تشكل الأساس التاريخي لمصطلح "الأم" الذي مافتئ معتَرَف به بإخلال، ويُنظَر إليه كسلطة قديرة في كافة المجتمعات. ذلك أن الأم هي العضو الرئيس، المنجب الخصيب، والمنشئ المعيل في أحلك الظروف وأقساها. وما من شائبة في أن ثقافة وهرمية وسلطة متشكلة بناء على ذلك، ستلقى الامتثال الأعظم لها. وتشكيلها لأساس الوجود المجتمعي هو إشارة حقيقية لقوة مصطلح "الأم" الذي لا يزال يحافظ على منزلته في راهننا أيضاً. هو لا يتأتى من خاصية الإنجاب البيولوجية المجردة، مثلما يُظَن. بل يجب رؤية "الأم، الأم الإلهة" على أنها الظاهرة والمصطلح الاجتماعي الأهم على الإطلاق. حيث تكون منغلقة كلياً تجاه ظاهرة الدولة، ومتسمة بكل المزايا التي لا تولّد تلك الظاهرة. من الواقعي النظر إلى المجتمع الطبيعي كأطروحة لبداية الوجود، ضمن إطار هذا التعريف. فالإنسانية باشرت بوجودها اعتماداً على هذه الأطروحة. ما قبلها كانت الحياة الحيوانية سائدة. وما بعدها يأتي سياق التطور على شكل المجتمع الهرمي والدولتي المتطور بموجب مناهضتها. وبالأصل، تنبع سمات هذه المرحلة كأطروحة مضادة من قمعها الدائم للمجتمع الطبيعي وحسرها إياه. ومثلما انتشار وساد المجتمع الطبيعي كأطروحة في كافة أماكن استيطان الإنسان واستقراره، فهو من حيث المدة أيضاً يعتبر نظاماً اجتماعياً مؤثراً يشمل المرحلة النيوليتية بشكل رئيسي، والممتدة قرابة أربع آلاف سنة قبل الميلاد. ولا يزال يواصل وجوده حتى حاضرنا في كافة المسامات الاجتماعية، ولكن بشكل مكبوت. ويبدو هذا التواصل صريحاً في المصطلحات الاجتماعية أيضاً. فالعائلة، القبيلة، الأم، الأخوّة، الحرية، المساواة، الرفاقية، السخاء، التعاضد، الأعياد، البسالة، القدسية، وغيرها من العديد من الظواهر والمصطلحات؛ هي من بقايا هذا النظام الاجتماعي. ومقابل ذلك يتسم المجتمع الهرمي والدولتي برجحان كفة خاصيته في قمع هذا النظام وقهقرته، ومواصلته إياها بالأغلب. ومن هنا تنبع خاصيته في كونه أطروحة مضادة. أما تداخل هذين النظامين الاجتماعيين، فيتوافق لأبعد الحدود مع دواعي القوانين الدياليكتيكية الأساسية. والنقطة الهامة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هنا، هي تطوُّر الأطروحة والأطروحة المضادة في اصطلاحنا الجدلي وفق خاصية "القمع والحَسْر"، لا إفناء إحداهما للأخرى. فالنظم الاجتماعية تحتوي بعضها البعض عندما تصبح في حالة أطروحة وأطروحة مضادة، طبقاً لما هي الحال في الطبيعة برمتها. ولا شك في أن المقاومات والنضالات الجارية فيما بينها تنمُّ عن مستجدات مهمة. لا يمكن للأطروحة أن تبقى على حالتها القديمة بتاتاً، ولكن الأطروحة المضادة أيضاً لا تهضم سابقتها كقادر مقتدر مطلق. بل إنها تتطور بالتغذي عليها. ثمة فائدة في شرح الدياليكتيك قليلاً بشأن هذه النقطة. حيث فُسِّرَت الأطروحة والأطروحة المضادة على أنها ظاهرة إفناء إحداهما للأخرى في المجتمع، في عهد الماركسية الدوغمائية. ويعد هذا النمط من التعليل أصلاً أحد أهم الأخطاء النظرية فيها. ذلك أن السمة المتَّبَعة في كافة العلوم، وعلى رأسها البيولوجيا، هي الأهمية البارزة لجانب التغذية المتبادلة للظواهر في تطوراتها وتحولاتها. أما حالات الإفناء وما شابهها، فهي استثناء. الغالب هو تغذية الأطروحات والأطروحات المضادة بعضها البعض. والتعبير الأكثر شفافية لذلك هو ثنائية الطفل – الأم. إذ ينمو الوليد في حالة من التناقض مع الأم. ولكننا لا يمكننا أن نستخلص من ذلك أن الطفل يفني أمه. ولا يمكن تقييمه إلا بكونه تغذية متبادلة لتأمين سيرورة النسل ودوامه. وثنائية الأفعى – الفأر تعد نقطة الذروة. فما يجري هنا هو تحقق التوازن بين التكاثر المفرط للفأر، والتكاثر النادر للأفعى. ولو لم تكن الأفعى لربما كانت الفئران ستلعب حينها دوراً تخريبياً يضاهي دور الديناصورات. ومع مرور كل يوم يتجلى بسطوع أكبر أن الموجودات في الطبيعة ليست خالية من المعنى أو بلا فائدة، بل لكلٍّ منها معنى أيكولوجي محدد. لكن، ورغم ذلك، قد يسري مفعول مصطلح "النقطة الذروة" أو "الحدود المطلقة"، كمصطلح على الأقل، في مساحة محدودة للغاية. لقد غدت مسألة تطوُّر قانون الطبيعة الأساسي على شكل الارتباط والترابط المتبادل، السمة التي تنبهت إليها كافة العلوم. التغيير الذي رغبتُ إحداثه لدى دراسة أنظمة المجتمع، يتعلق بشأن التقربات المتبعة فيما يخص الضرورة والمصادفة. إن مفهوم النسبية الكثيفة والتطور وفق خط مستقيم بلا تقاطع، والذي تمتد جذوره إلى مفهوم القانون الإلهي، وينتشر في نظام التفكير الغربي؛ قد بطُل مفعوله بعد ما أوضحنا في بداية كلامنا المستجدات الجارية في فيزياء الكوانتوم والكوزموس. ذلك أن "مساحة الفوضى البينية" تُبرِز وجودها في كل ظاهرة في دياليكتيك التطور. فالتغيرات النوعية تحتم وجود هذه المساحة البينية. وهذا ما يشير بوضوح إلى أن التطور اللامنقطع، والتقدم الدائم على خط مستقيم، ليس سوى تجريداً ذهنياً وتقرباً ميتافيزيقياً. إذ من غير الممكن حصول التقدم على خط مستقيم، انطلاقاً من هذه المساحة البينية، في كل زمان. فالعديد من المؤثرات بعلاقاتها القائمة في تلك المساحة البينية، قد تمهد السبيل لإحداث تطورات كثيرة كمياً وفي اتجاهات متعددة. تسمى هذه المساحات البينية في المجتمع الإنساني بـ"منطقة الأزمات". ولكن، ما هي ماهية التطورات الاجتماعية التي ستخرج من الأزمة؟ هذا ما سيحدده مستوى النضال الذي تخوضه القوى المتأثرة بتلك الأزمة. وقد تتمخض عنها أنظمة عديدة. ومثلما قد تكون أكثر تقدمية، فربما تكون أكثر رجعية أيضاً. بيد أن اصطلاح "تقدمي – رجعي" أمر نِسْبي. فالتقدم المستمر لا يتواءم والنظرية الكونية. ولو أن هذا المبدأ كان صحيحاً، لكانت المزاعم الميتافيزيقية سارية المفعول. ولا ينسجم الحديث عن الحقائق المطلقة مع مبدأ التكوُّن الكوني. فالطبيعة لا تتطور مع المطلقيات. ذلك أن المطلقية تعني اللاتغيير، التطابق. وطراز وجودها برهان قاطع على عدم وجود أمر كهذا. ويمكن الاستخلاص من خصائص القانون في العلوم الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية أن تطور القانونية في الطبيعة صوب الإنسان، واعتماداً على مساحات الفوضى البينية، إنما يحصل بحالة في غاية من المرونة. في حين أن القانونية في المجتمع الإنساني تتسم بمرونة لأبعد الحدود. ومعنى ذلك إمكانية إحراز عدد كبير من القوانين تطوراً ملحوظاً وكثيفاً في مساحات القانون البينية. وارتباطاً بذلك، فكون مستوى الحرية رفيعاً، إنما يسفر عن تعددية عظمى في المجتمع الإنساني. فالمرونة تولِّد الحرية، والحرية تولِّد التعددية. بهذا المعنى، يُعَد الإنسان كائناً خارقاً في الطبيعة بصياغته الكثيفة والعديدة على الإطلاق للقانونية. وبالتالي فالمجتمع الإنساني أيضاً يصوغ قوانين نظامه بنفس الغنى والكثافة. أود عبر هذه الفرضيات الأساسية البرهنة على أنه لا أصل من الصحة للزعم القائل بتطور المجتمع الهرمي والدولتي كضرورة لا بد منها، من أحشاء المجتمع الطبيعي. قد يكون ثمة ميول في هذا الاتجاه، ولكن الافتراض بأنها ضرورة لا انقطاع فيها، ومستمرة إلى نهاية المآل، خاطئ تماماً. ومثلما سأوضح في الفصل اللاحق بين الفينة والأخرى، يُعَد التحديد الذي وصلَت إليه الماركسية (باسم المسحوقين والمستعمَرين)، والذي يفيد بضرورة ظهور المجتمع الطبقي لأجل التقدم، أحد أفدح الأخطاء المرتكبة، والتي تَرَكَت الاشتراكية – مسبقاًت – للهيمنة الطبقية. وهذ الخطأ هو الباعث الأولي لبلوغ الماركسية حالة قوة احتياطية للرأسمالية، خلال تاريخها الممتد على طول قرن ونصف تقريباً. فالنظر إلى الدولة والطبقات والعنف كأطوار لا مفر من حدوثها على مسار التقدم، يعني الاستهزاء بالمقاومة العظمى التي أبداها المجتمع الطبيعي حتى راهننا، واستصغارها، بل وحتى إنكار وجودها، وإهداء تاريخها تلقائياً إلى القوى المهيمنة التسلطية. أما رؤية وجود الطبقات كقدر محتوم لا مناص منه، فيعني التحول إلى آلة بيد أيديولوجيي الطبقات المهيمنة، ربما دون الانتباه إلى ذلك. أي يعني لعب أخطر الأدوار باسم المسحوقين والمستعمَرين من هذه الزاوية. وكأن التاريخ تُرِك عُرضة لاستيلاء مثل هذه التيارات الأيديولوجية والسياسية. لقد أبدت الهرمية والطبقية تطوراً. ولكن هذا التطور ليس بضرورة. ذلك أن الهرمية، والدولتية المرتكزة إليها، قد رسختهما القوى المطبِّقة للظلم والاستبداد والكذب والرياء بأقصى الدرجات. وقد أبدت قوى المجتمع الطبيعي الرئيسية مقاومة لا تعرف السكون والنضب تجاه ذلك. ولكنها حوصِرت وحُدِّدت بأضيق المناطق والمساحات البينية، بل ولم تُقحَم بتاتاً في بعض المناطق والمساحات البينية الأخرى. لقد ترسخت الرؤية التي تَعتَبر المجتمع برمته عبارة عن الطبقات وهرميات الدولة، عبر السياسات والدعايات الأساسية للنظام المهيمن. أما اللعبة المسماة بـ"القدر"، فهي عنوان لهذه الممارسة الميتافيزيقية. ويكاد لم ينجُ من عدوى هذه اللعبة أي دين أو مذهب أو مدرسة فلسفية أو علمية. وهي – أي اللعبة – حصيلة القمع الجسدي والفكري الفظيع، والسياسات والدعايات المريعة التي طبقها أيديولوجية الرهبان ودولة الإله المَلك قبل آلاف السنين. ومن شاء سمَّى هذه اللعبة "ميثولوجيا" أو "فلسفة"، وإلا فسمَّاها "مدرسة علمية". والنقطة المبلوغة هي حالة حاضرة من تدوُّل الأيديولوجيات والعلوم بشكل كامل مكمل. ومهما تم التركيز على نصيب الماركسية في هذا الاتجاه، سيكون أمراً في محله. وسأعمل على إنارة هذه الألاعيب ونصيب كل واحدة منها، خطوة خطوة. أول ضحية للمجتمع الهرمي كانت النظام الأهلي للمرأة الأم. ربما تصدرت المرأة قائمة الشرائح المسحوقة في نظام المجتمع. وعدم تواجد تلك الحقبة المعاشة بكشل واسع النطاق فيما قبل التاريخ في العلوم الاجتماعية؛ إنما يتأتى من القيم المترسخة للمجتمع الذكوري المهيمن والمتجذر في الأغوار. ويُعَد جَرُّ المرأة إلى المجتمع الهرمي خطوة خطوة، وافتقادة لكافة سماتها المجتمعية الراسخة، الثورةَ المضادة الأهم على الإطلاق، والمطبقة على المجتمع. وحتى إذا تمعّنّا في حالة المرأة في عائلة كادحة فقيرة في راهننا، فلن نتمالك أنفسنا من الذهول إزاء أبعاد القمع والخداع المطبَّق عليها. وما كون جنايات الشرف والعشق حِكْراً على الرجل، وبدوافع تافهة للغاية، سوى مؤشرات وميضة لما يجري حولنا. إن ربط تلك الحقبة بالفوارق البيولوجية سيكون من أهم الأخطاء المقترَفة. إذ لا يمكن أن تكون الأدوار (أو القوانين) البيولوجية سارية المفعول في العلاقات الاجتماعية. ولا يمكن دراسة تلك العلاقات إلا بموجب العلاقات المتبادلة بين الخصائص الذكورية والأنثوية. وهذا ما ينطبق على كافة الأجناس والأنواع. لقد أُقحِمَت قوة المرأة الأم تحت الهيمنة والتسلط، بدوافع اجتماعية في أساسها. والقمع والأيديولوجيات المطبّقة، إنما هي لهذا الغرض تماماً. أما تعليل ذلك بالغرائز الجنسية والبسيكولوجيا (علم النفس)، فهو تحريف وخيم. إن الرجل القوي المعزِّز لقواه بممارسة الصيد، والمنظِّم مجموعته في أطرافه، أَدرَج نظام المرأة الأم الأهلي تحت مراقبته رويداً رويداً، بعد أن تنبه لقواه تلك جيداً، وفرضها على من حوله. واستمرت هذه المرحلة حتى تأسيس مراكز الدول الأولى. ونرى أروع توضيح لها في مدن الدول السومرية. وتشرح اللُّقى واللوحات المدوَّنة هذه الحقيقة بلغة شعرية رائعة وملفتة للأنظار. فملحمة إينانا، إلهة مدينة أوروك، والبادئة في تأسيس مدينة الدولة السومرية، ملفتة للأنظار جداً. هذه الملحمة التي تصوِّر تلك الحقبة التي لا تزال فيها قوة المرأة والقوة الأبوية البطرياركية متكافئتين، إنما تتطرق إلى ذكريات تلك المرحلة المشحونة بالاحتدامات الضارية للغاية. حيث أن ذهاب إينانا، كإلهة لمدينة أوروك، إلى قصر "أنكي"، إله مدينة أريدو، واستحواذها هناك على الـ"ما"ءات التي يبلغ عددها (104)، والتي كانت تمتلكها فيما قبل، وحظْيُها بها بشتى الأساليب والوسائل لتُهَرِّبها معها إلى أوروك ثانية؛ إنما يلعب دور المفتاح الأساس في تنوير هذه المرحلة وإيضاحها. والمقصود هنا بالـ"ما"ءات هو الاكتشافات الحضارية الأساسية. وتُصِرُّ إينانا على التذكير بأن هذه الاكتشافات تعود إلى المرأة (الإلهة الأم"، وأنه لا دور لأنكي، الإله الرجل، فيها بتاتاً. وأنها سرقتها منه عنوة ومكراً. إن كل محاولات ومساعي إينانا تلك، تمثلت في استعادة قوة الإلهة الأم مجدداً. يمكننا التخمين بأن هذه الملاحم ذُكِرَت في أعوام 3000ق.م. وهي حقبة لا تزال قوة المرأة الأم في حالة توازن أثناءها. هذه الثقافة والقوة المنحسرة تدريجياً بعد هذا التاريخ، تتعرض لإجحاف كبير بدرجة وَجَدَت فيها المرأة ذاتها لاحقاً في بيوت الدعارة المسماة بـ"مصاقدين" في مدينة نيبور، مركز الحضارة في تلك الأوقات (مثل نيويورك اليوم). فبينما يؤسس الرهبان السومريون حَرَماً نسائياً لذاتهم في الزقورات من جهة، يقومون بتأسيس بيوت الدعارة لأجل الشعب أيضاً من الجهة الثانية. بذلك غدت الإلهة تيامات في ملحمة "أنوما أليش"، المدوَّنة في أعوام الألفين قبل الميلاد، مومساً فاجرة وقبيحة، وتمثِّل المرأة الواجب تمزيقها إرباً إرباً. إنه لفظ مريع، ولكنه يصوِّر الحكم الصادر بحقها والمطبق عليها. وفيما بعد، تُكمِل الصورةَ المرأةُ ذات الصوت البديع والشكل المزركش الجميل، والمحبوسة في القفص على يد نظام المجتمع البورجوازي والديانات التوحيدية. وقد أَحرَز إلحاق المرأة المقحَمة في حالة ثابتة عبر دعايات أيديولوجية متكاثفة، تقدماً هائلاً في النظم التاريخية والاجتماعية، لدرجة غدت عقلية المرأة بالذات تقول فيها بأن هذا قدرها، وتَعتَبِر تأدية مستلزماتها المطلوبة منها من دواعي ذاك القدر المحتوم. وأضحت تنظر إلى الديانات التوحيدية على أنها أمر الإله’ في حين نرى أن الفلسفة اليونانية تشير إلى المرأة كمؤثر باعث على الضعف والوهن، وأنها مجرد كومة مادية محضة، والحقل الذي يحرثه الرجل، وغيرها من المواقف المُحِطّة من شأنها. بدون تحليل الحالة التي أُقحِمَت فيها المرأة مع بدء النظام الهرمي، لا يمكن شرح أو إيضاح الدولة، ولا بنى المجتمع الطبقي الذي تستند إليه. ولنفس السبب لن نتخلص حينئذ من أهم المغالطات. فالمرأة ليست مجرد "جنسية"، بل هي "إنسان" مبتور من المجتمع الطبيعي، ليُحكَم عليه بأشد أنواع العبودية. وتتطور كافة ضروب العبودية الأخرى ارتباطاً بعبودية المرأة. من هنا، فبدون تحليل عبودية المرأة، من المحال الإفلاح في تحليل العبوديات الأخرى. وبدون تخطي عبودية المرأة، يستحيل تخطي العبوديات الأخرى. فحتى المجتمع الطبيعي قد شهد قوة المرأة كإلهة أم على مر آلاف من السنين. والقيمة المتسامية على الدوام، كانت الإلهة الأم. إذن، كيف قُمِعَت ثقافة مجتمعٍ، هو الأطول والأشمل؟ وكيف حُوِّلَت في راهننا إلى بلبل جميل وديع محبوس؟ قد يَهيم الرجال بهذا البلبل، ولكنه مجرد أسير. وبدون تخطي هذا الأسر الطويل العمر والغائر العمق، لا يمكن لأي نظام اجتماعي التكلم عن المساواة والحرية بتاتاً. فالحُكم القائل بأن مستوى حرية المرأة ومساواتها يُحدِّد مستوى المجتمع بهذا الصدد، إنما هو صائب. فحتى الآن لم يُكتَب بعد تاريخُ المرأة بشكل يُذكَر. ولم تُحدَّد مكانة المرأة الحقيقية في أي علم اجتماعي. فحتى الأكثر زعماً باحترامه للمرأةـ يُحدِّد سلامة حُكمه هذا وسريان مفعوله ارتباطاً بمدى تحول المرأة إلى آلة لنزواته وأطماعه. حتى في حاضرنا، لا يَعتَرف أي رجل بالمرأة كإنسان صديق له، اللهم فيما بُعدها الجنسي. فالصداقة صحيحة فيما بين الرجال ذاتهم. أما ادعاء صداقة المرأة، فلا يعني سوى الفضيحة الجنسية المخزية في اليوم الثاني. لذا، يجب النظر إلى مسألة إيجاد أو خلق رجل متجاوز لمثل هذه المواقف، كإحدى أهم خطوات الحرية الأساسية. وسأعمل على تجذير تحليلي لهذا الموضوع تماشياً مع تقدمي فيه. يجب التحدث، وبأهمية بالغة، عن القمع والتبعية التي طبقها العجائز الخبيرون في المجتمع الهرمي على الشبان اليافعين. فهذا الموضوع المدرَج في العلوم الأدبية المسماة بالجيرونوتوقراطيا (Jernotokrasi)، إنما هو حقيقة واقعة. لكن، وكيفما تعزِّز الخبرة صاحبها العجوز من جهة، فإن كبر سنه يُضعِفه تدريجياً من الجهة الثانية. وهذه الخاصيات فرضت على العجائز المسنين أن يُسخِّروا الشبان اليافعين في خدمتهم. فقاموا بغسل أدمغتهم ليطوروا هذه الآلية، ويربطوا كل حركات الشبان بأنفسهم. وتستمد البطرياركية قوة عظمى من هذه الظاهرة. فهم يستثمرون القوى الجسدية الغضة ليحققوا من خلالها آمالهم وطموحاتهم. واستمرت هذه التبعية المحيقة بالشبان حتى راهننا، مع تجذرها المتواصل. ليس من السهل هدم علوية وتفوق الأيديولوجية والخبرة. ويتأتى مصدر تطلع الشبيبة إلى الحرية من هذه الظاهرة التاريخية. إذ لا تُزَوَّد الشبيبة بالأقسام الحساسة والحرجة من المعلومات الاستراتيجية. والحال هكذا منذ عهد الحكماء المسنين القدامى، وحتى رجال العلم ومؤسساتهم في راهننا. بل ما يُمنَح إياها ليس سوى المعلومات المخدِّرة والمؤمِّنة سيرورة تبعيتها. وحتى إذا مُنِحَت المعلومات، فلا تُمنَح أدوات تطبيقها. فالتسويف والإمهال الدائم هو تكتيك إداري ثابت لا يتغير. هذا علاوة على أن الاستراتيجيات والتكتيكات وأنظمة القمع والدعاية السياسية المطبقة على المرأة، سارية المفعول على الشبيبة أيضاً. وتنبع رغبة الشبيبة وطموحها الدائم إلى الحرية من حالة القمع الاجتماعي الخاصة تلك، وليس من حدود عمرها الجسدي. أما مصطلحات "الثمِل، السكران، المراهق الغِرّ القليل التجربة"، فهي ألفاظ دعائية أساسية مبتَكَرة للحط من قدر الشبيبة. كما يتعلق ربط الشبيبة بالغرائز الجنسية على الفور، وجذبها إلى التمرد والعصيان، وإتباعها بالدوغمائيات الحفظية والمتصلبة؛ يرتبط بعملية إعاقة توجُّه الطاقة الشبيبية نحو النظام القائم، بغرض توطيده وتجذيره. من الصعب ضبط الشبيبة المتوجهة نحو الحرية. فالشبيبة تتصدر الشرائح التي تُبلى بها الأنظمة السائدة. ولأن هذا معروف يقيناً على مر التاريخ، أُلحِقَت الشبيبة بممارسات وتطبيقات لا تخطر على البال أو الخاطر، لتكون الضحية فيها تحت قناع التدريب والتعليم. وقد لعب إسقاط الشبيبة في هذه الحالة، بعد إسقاط المرأة، دور المفتاح في تفوق المجتمع الهرمي وتعالي. ولم يكن هباء أن يَعتَبِر النظام المسيطر على الشبيبة والمراقِب إياها، نفسه بأنه الأقوى على الإطلاق. واستمرت نظم المجتمع الدولتي فيما بعد بتطبيق ممارسات مشابهة على الشبيبة. إذ أن شبيبة غُسِلَ دماغها على هذه الشاكلة، يمكن تحفيزها للهرع إلى أي عمل كان، وجعلها تمتهن أي مهنة شاقة، بما فيها الحرب، وتَنجَرُّ وراء كافة الأعمال العصيبة، بل وتكون في المقدمة أيضاً. باختصار، إن علاقة المسنين مع الشبيبة بإتباع الأخيرة وربطها بهم حصيلة نقاط ضعف المسنين وقوتهم في آن معاً؛ لم تفقد من وتيرتها وكثافتها شيئاً – ولو بمثقال ذرّة – بمواصلة النظم المهيمنة إياها بأقوى الأشكال. عليّ التذكير ثانية بأن الشبيبة ليست حدثاً جسدياً، بل اجتماعي. طبقاً لما هي عليه المرأة التي تشكل ظاهرة اجتماعية، لا جسدية. وتتمثل المهمة الأولية لعلماء الاجتماع في الغوص إلى منابع هذه التحريفات المحيطة بهاتين الظاهرتين، وكشف النقاب عنها وفضحها. هذا ويجب تداول الأطفال أيضاً ضمن هذا الإطار. وبالأصل، فمن يأسِر المرأة والشبيبة، يُعتَبَر مُدرِجاً الأطفالَ أيضاً في نطاق نظامه – وإن بشكل ملتوٍ – كما يشاء. يحظى تسليط الضوء على الجوانب الانحرافية المفرطة لتقربات المجتمع الهرمي والدولتي إزاء الأطفال بأهمية قصوى. فالعجز عن تدريب الأطفال وتنشئتهم على نحو صحيح وسليم، بسبب تربية أمه، يجعل سياقهم الاجتماعي اللاحق برمته منحرفاً، وضرباً من الكذب والخداع. ويتأسس نظام تعليمي معني بالأطفال، مرتكز إلى القمع والمخادعات الأعظمية. وتُبذَل المحاولات من قِبَل النظام السائد لتطبيق التبعية عليهم بشتى الأساليب المتنوعة، منذ المهد. والمقولة التي مفادها "ما تكون عليه في السابعة، هو أنت في سن السبعين"، إنما تشيد بهذه الحقيقة. ويُترَك التقرب الحر للمجتمع الطبيعي كمجرد خيال ووهم لدى الأطفال، بحيث لا يُؤذَن لهم إطلاقاً بإحياء خيالاتهم تلك. إن تنشئة الأطفال وفقاً للخيالات الطبيعية من أسمى المهام وأنبلها. ننوه مرة أخرى للضرورة: لا يمكن رؤية اكتساب العلاقة البطرياركية القوة، بعين الضرورة الحتمية. علاوة على أنها ليست انطلاقة شفافة، وكأنها من دواعي القانون. بل تستلزم هذه العلاقة التركيز عليها بدقة وعناية، باعتبارها تشكل المرحلة الأساسية على الدرب المؤدية إلى التمايز الطبقي والتدوُّل. إن كون العلاقات الملتفة حول المرأة الأم على شكل تعاضد منسق ومنظم، أكثر مما تكون علاقة قوة وسلطة؛ إنما يتطابق مع جوهر المجتمع الطبقي، ويتواءم وإياه. وهي لا تشكل انحرافاً، كما أنها منغلقة إزاء سلطة الدولة. وانطلاقاً من تكوينتها التنسيقية التنظيمية، فهي لا ترى حاجة للجوء إلى العنف أو الرياء. وتوضح هذه النقطة أيضاً أسباب كون الشامانية ديناً ذكورياً. وإذا ما تفحصنا الشامانية عن كثب، سندرك أنها مهنة يغلب عليها إظهار القوة والتضليل. حيث تُجهَّز القوة والميثولوجيا بدقة حاذقة، بغرض السلطة التي سيتم بسطها بمكر ودهاء على شفافية المجتمع الطبيعي. ويغدو الشامان امرؤً يتجه ليكون راهباً ورجل دين. وتتجه العلاقات مع الأسلاف المسنين إلى تكوين التحالف معهم. ذلك أنها بحاجة ماسة لرجال الصيد الأشداء في سبيل بسط الهيمنة التامة. وتكون المجموعة الأكثر ثقة واعتداداً بقوتها وكفاءاتها هي القابلة للتحول إلى النواة العسكرية الأولى. وتتراكم القيم والمهارات تدريجياً في يد هذا الثلاثي. وتُفرَّغ أطرافُ المرأة الأم رويداً رويداً، بكل مكر ودهاء. ويدخل النظام الأهلي دائرة الرقابة بالتدريج. فبينما كانت المرأة تمثل القوة المؤثرة على الرجل، وصاحبة القول الفصل؛ تندرج بعدئذ – وبالتدريج – تحت نفوذ السلطة الجديدة. ليس مصادفة أن تُبسَط أول سلطة قوية على المرأة بالذات. فالمرأة قوة المجتمع التنسيقي، والناطقة باسمه. وبدون تجاوزها محال على البطرياركية إحراز النصر. بل وأبعد من ذلك، لن تنتقل إلى مؤسسة الدولة. لذا، فتخطي قوة المرأة الأم يحظى بأهمية استراتيجية أولية. وبموجب المعطيات والمعلومات التي بين أيدينا، ندرك أن تلك المرحلة شهدت مشقات عصيبة للغاية، تماماً مثلما شوهد في الدلالات والبيِّنات السومرية. وما ينعكس على الديانات التوحيدية هو أن عامل المرأة الممثَّلة في "ليليت – حواء" يصوِّر سمات تلك المرحلة بأكثر الأشكال لفتاً للنظر. فبينما تكون "ليليت" المرأة الأبية التي لا تخنع، تصوِّر "حواء" المرأة المستسلمة. ووصل الأمر مرتبة غدت فيها مزاعم خلق المرأة من ضلع الرجل معياراً تقاس به تبعيتها. ومن جانب آخر، فإغداق المرأة، ممثَّلة في ليليت، بالكثير من اللعنات والافتراءات، ونعتها بالجنّيّة الشريرة والمومس، وبرفيقة الشيطان وغيرها مما شابه من الشتائم والمسبات الكبرى الموجودة؛ كل ذلك برهان قاطع على وجود احتدامات ومنازعات ضارية آنذاك، ومؤشر على تلك الثقافة والأفكار والعقائد التي سادت آلافاً من السنين. لا يمكننا استيعاب السمات الأولية لثقافة المجتمع الذكوري المهيمن اللاحق لتلك المرحلة، أو تفهمها على نحو صحيح، ما لم نحلل الانقلاب الاجتماعي الحاصل إزاء المرأة. وحينها يستحيل حتى التفكير بكيفية حصول التكون الذكوري الاجتماعي أيضاً. وبدون إدراك التكون الاجتماعي للرجل، من المحال تحليل مؤسسة الدولة، أو صياغة تعريف سليم لثقافة "الحرب" و"السلطة" ارتباطاً بالدولة. إن الدافع وراء تركيزنا المكثف على هذا الموضوع هو تسليط الضوء على حقيقة الشخصيات الربانية (الإلهية) الفظيعة، وعلى كل حدودها واستعماراتها ومذابحها المرتكبة؛ والتي لم تكن سوى حصيلة لكافة التمايزات الطبقية الظاهرة بعد تلك المرحلة. فإذا ما نظرنا إلى لعنة الإنسانية (السلطة السياسية، الدولة) بعين براديغمائيتها المقدسة، ستتحقق حينها أقذر ثورة مضادة للعقلية الإنسانية. وهذا ما حصل فعلاً. وتسمية ذلك بالمؤثر الضروري لأجل التقدم، تُعَد أخطر الثورات المضادة، بما فيها الماركسية أيضاً. لذا، إن لم نمرر التاريخ من مصفاة النقد بشكل أكيد، ولم نصحح مساره من هذه الزاوية، فإن أية ثورة ستقوم، لن تنجو من التحول إلى ثورة مضادة، وخلال فترة وجيزة. مع انهيار عالم المجتمع الطبيعي للمرأة أولاً، ومن ثم الشبيبة والأطفال، وتأسيس الهرمية المعتمدة على القوة والخداع (الميثولوجيا)، وتسليطها عليهم؛ يتحول ذلك إلى الشكل المهيمن للمجتمع الجديد. في حين يتزامن ذلك مع تصاعد ثورة مضادة جذرية أخرى، حيث تبدأ مرحلة التضاد مع الطبيعة، والتوجه نحو تدميرها وتخريبها. إن الاعتقاد باستحالة العيش والتطور من دون وجود أنموذج القتال وممارسة الصيد، ليس بفرضية ذات أصل. فالحيوانات غير المتغذية على اللحوم أكثر عدداً بآلاف الأضعاف من تلك التي تقتات على اللحوم. أي أن عدد الحيوانات آكلة اللحوم قليل جداً. وإذا ما تمعنا في أغوار الطبيعة، سنجد أن غطاء وفيراً من الأعشاب والنباتات تكون أولاً لتلبية احتياجات الحياة الحيوانية. والتطور الحيواني هو محصلة للتطور النباتي. هكذا هي العلاقة الجدلية. ذلك أنه ما من وجود لحيوان يأكله الحيوان الأول الظاهر. فهو يقتات على الأعشاب. إذن، يتوجب النظر إلى التغذية على اللحم بعين الانحراف. فلو أكلت كل الحيوانات بعضها بعضاً، لما تكوَّن نوع حي منها. إنه تطور مناقض ومنافٍ لقوانين التطور الطبيعي أيضاً. في كل الأزمان تظهر الانحرافات من الميول الأساسية المتواجدة في الطبيعة، ولكن إذا ما عملنا على اعتبارها أساساً، وأسقطناها على نوع ما في الطبيعة، فسينقرض ذاك النوع وينضب. والتعبير الأكثر إشادة لهذه الظاهرة – بشرط ألا يكون اجتماعياً – هو الحالة المعاشة في الذين يتميزون بجنسية ثنائية (أخنث). فإن أضحى جميع الناس أخناثاً، أي ذوي جنسية ثنائية (وهذا ما يعني ممارستهم علاقة اللواط)؛ فسينضب نسل الإنسان تلقائياً. إن هذا التعليل المقتضب كفيل بما فيه الكفاية للإشارة إلى التشوه والضلال الناجم عن التطور الاجتماعي المرتكز إلى ممارسة الصيد والقتال. ليس من الناحية فحسب، بل ولثقافة القتل نتائج معنوية أكثر وطأة. فالجماعة التي تحوِّل قتل الحيوانات وأبناء جنسها إلى طراز في حياتها – عدا الدفاع الاضطراري عن الذات – ستقوم بتأسيس كل أنواع الأنظمة الآلاتية أو المؤسساتية في سبيل تطوير آليات الحرب. ولدى إعداد الدولة كقوة أساسية وأولية، ستُختَرَع حينها سهام الحرب، ورماحها وفؤوسها، وستُطوَّر على أنها أثمن الأدوات والوسائل. إن تطور المجتمع الأبوي من أحشاء المجتمع الأمومي الطبيعي، وتناميه كأخطر انحراف في التاريخ، إنما يعبر عن مضمون أشكال القتل والاستعمار الفظيعة الممارسة على مر التاريخ وحتى راهننا. وهذا التطور، دعك من أن يكون قدراً محتوماً أو شرطاً ضرورياً لأجل التقدم، هو انحراف وضلال، بكل ما للكلمة من معنى. إنه أشبه بمَلَكية الأُسُود. كما يشبه الجدلية القائمة بين الأفعى والفأر. إن نعت نظريات الدولة – منذ هذه اللحظة – بنظرية "الأفعى – الفأر" سيكون تفسيراً أدنى إلى الصواب. فأغلب الرجال تكون كنيتهم "الأسد"، حيث ثمة تَحَسُّر وتَوق كبير لأن يكونوا كذلك. ولكني أتساءل: "كي يفترسوا من؟". إلى جانب ندرة المعلومات لدي، إلا إنني علمت في الآونة الأخيرة أن الفيلم الأخير لمسلسل "سيد الخواتم – عودة المَلِك" قد حاز على إحدى عشرة جائزة أوسكار. يتلخص مضمون الفيل في إضاعة الخاتم، رمز السلطة. إنه تَفَنُّن منتَظَر من أمريكا (sanallık). ولربما يمثل ذلك فترة تمهيدية لاتخاذ التدابير اللازمة وغسل الأدمغة لتطبيق الكثير الكثير من الممارسات العالمية عليها، بعد أن سقط القناع عن السلطة. إنها مرحلة تكوين البراديغمائيات الجديدة، ويبدو أنها – أمريكا – تستعد لذلك. إنهم أناس متعقلون، إذ يدركون يقيناً أنه في حال ظهور الوجه الحقيقي والخفي للسلطة الكلاسيكية، فما من قوة ستبقى على حالها. فالقوى المهيمنة والمشرفة على كافة العالم، تَعتَبِر تأدية مستلزمات ألوهيتها وتطويرها بكل دقة ودون أي قصور، من أهم وظائفها الأولية. فكل شيء يحدث بعلم منها. ألا يقولون في القرأن بقُرب الإله من مخلوقاته بقدر قُرب شَعرهم منهم! يمثل التنظيم العسكري الذروة التي تبلغها ثقافة الصيد والحرب. ويتطور هذا التنظيم كلما تبعثر المجتمع الطبيعي والإثني. وبينما يُطوِّر التنظيم الملتف حول المرأة الأم علاقات النَّسَب والجِينات والقرابة، يتخذ التنظيم العسكري من الرجال الأشداء المنقطعين عن هذه العلاقات أساساً له. وغدا يقيناً أنه ما من شكل للمجتمع الطبيعي يمكنه الوقوف في وجه هذه القوة. وتدخَّل العنف الاجتماعي – يمكن تسميته أيضاً بالعلاقة المدنية – في العلاقات الاجتماعية. والقوة المعيِّنة هي أصحاب العنف. وهكذا تُفتَح الطريق أمام المُلكية الخاصة أيضاً. يمكن استيعاب كون العنف يتخفى في أساس المُلكية. والاستيلاء بالعنف وسفك الدماء، يعزِّز عاطفة الـ"أنا" بشكل مفرط. إذ لا يمكن تطوير وسائل العنف وتطبيقها دون وجود التحكم والهيمنة على العلاقات. أما الهيمنة والتحكم، فمنوطان بدورهما بالتملُّك. وهي علاقة جدلية. والتملك هو لُبُّ كل الأنظمة المُلكية. شُرِعَت الأبواب أمام مرحلة يُنظَر فيها بعين المُلك للجماعات والمراة والأطفال والشبيبة، ولمناطق الزراعة والصيد المعطاءة أيضاً. ويقوم الرجل القوي بانطلاقته الأولى بكل هيبته وجبروته. بقي القليل على تحوله إلى الإله المَلك. وما برح الشامانيون الرهبان يشرفون على الشؤون لتكوين ميثولوجيا العهد الجديد. وما يلزم عمله هو، ترسيخ هذا التكوين الجديد في عقل الإنسان المستحكَم على أنه تطور عظيم ومهيب. فحرب إضفاء المشروعية عليه تستلزم تفنُّناً ومهارة في الجهود، بقدر تطلبها العنف الفظ بأقل تقدير. يجب توطيد عقيدة في عقل الإنسان، وكأنها القانون المطلق. كل المعطيات السوسيولوجية تشير إلى أنه تم بلوغ مصطلح "الإله الحاكم" في هذه المرحلة. لم يكن ثمة علاقة تحكم في العقيدة "الطوطمية" المرافقة للمجتمع الطبيعي. فهي علاقة مقدسة ومسَلَّم بها كرمز للكلان، وكيفما تكون حياة الكلان، هكذا يُصوَّر اصطلاحها الرمزي. لا يمكن التفكير بإمكانية العيش دون الامتثال الصارم لحياة وضوابط التنظيم الكلاني. وبالتالي سيُعتَبَر الطوطم مقدساً ومحصَّناً، باعتباره التصوير الأسمى والأرقى لوجود الكلان، ويجب احترامه وتبجيله. أما المادة التي يتكون منها، فيتم اختيارها من أكثر أنواع الحيوانات أو النباتات أو الأشياء نفعاً. فأي مادة في الطبيعة تزوِّد الكلان بالحياة وتؤمِّنها لها، سيُعتَقَد بها وستُعتبَر رمزاً (طوطماً) لذاك الكلان. وهكذا فديانة المجتمع الطبيعي في تكامل واتحاد مع الطبيعة. وهي ليست مصدر خوف أو ورع، بل عامل تعزيز وتوطيد، تُكسِب المرءَ الشخصية وتمده بالقوة. في حين أن الإله المُعلى من شأنه في المجتمع القديم تخطى الطوطم وموَّهه. فقد بُحِث له عن مكان يقطنه في ذرى الجبال، وقيعان البحار، وفي كبد السماء. وبدأ الحديث عن القوة الحاكمة. كم يشبه ذلك طبقة الأسياد المتولدة حديثاً! فأحد أسماء الإله في كتاب "العهد القديم" – وبالتالي في الإنجيل والقرآن – هو "الرب"، أي السيد. أي أن الطبقة الجديدة تنشأ وهي تؤلِّه ذاتها. ومن الأسماء الشهيرة الأخرى له أيضاً هو "أل، ألوهيم"، ويعني العلو. وهو يُبَشِّر بالسَّلَف، (أو بالشيخ) المتسامي على قبائل الصحراء. تتسم ولادة البطرياركية (نظام السلطة الأبوية) وولادة الإله الجديد بتداخل مثير للغاية، في كافة الكتب المقدسة. هكذا هي الحال في "إلياذة" هوميروس، وفي "رامايانا" الهند، وفي "كالاوالا" الفينليين (الفينلنديين؟؟؟). وبدون تأمين مشروعية المجتمع الجديد وتوطيدها في العقول، من الصعب له أن يجد فرصته في الحياة. ذلك أنه من المحال إدارة أية وحدة في المجتمع الموجَّه، ما لم يتم إقناعها بالمطلوب. فتأثير العنف في شؤون الإدارة لحظي، ولا يؤمِّن القناعة الراسخة. ومثال السومريين في التاريخ مثير حقاً، ويستحق التمحيص والتدقيق، لتضمنه ذلك كأول أصل مدوَّن له في حوزتنا. فخلْق الإله لدى السومريين خارق للغاية. ونخص بالذكر هنا انهيار الإلهة الأم، ونفوذ الإله الأب محلها، حيث يشكل صُلْب كافة الملاحم السومرية. فالصراعات المضطرمة بين إينانا وأنكي، بين ماردوخ وتيامات، تحتل مكانها في ملاحمهم، من البداية وحتى النهاية. والإمعان السوسيولوجي في هذه الملاحم، التي انعكست على جميع الملاحم والكتب المقدسة اللاحقة، يزودنا بمعلومات عظمى. ليس هباء أن يتم البدء بالتاريخ من السومريين. فتحليل الأديان، الملاحم الأدبية، القانون، الديمقراطية، والدولة اعتماداً على لوحات ولُقى السومريين المدوَّنة؛ قد يكون أحد الدروب الأقرب إلى الصواب، والمحفِّزة على إحداث الانطلاقة اللازمة لعلم الاجتماع. ربما تُعَد هذه الثورة المضادة التي أقامتها العقلية الأبوية السلطوية أكبر تحريف وتضليل شهده التاريخ. فقد أوغل الإنسانُ جذوره في عقلية المجتمع لدرجة لا نفتأ اليوم عاجزين حتى عن التفكير بتخطي تأثيراتها. الرهبان السومريون لا يزالون يحكموننا. فمؤسسات الدولة التي أوجدوها، والآلهة التي صوَّروها وكوَّنوها كتعابير مشروعة، لا تنفك تحكمنا اليوم بهيبة لا يسعنا فتح عيوننا أمامها. وتتحكم بوجهات نظرنا وبراديغمائياتنا الأساسية كلها. وكأن مقولة "آلبرت آينشتاين": "إن قوة التقاليد والعادات تضاهي ما يلزم لتفكيك الذرّة" قيلت بشأن هذه العلاقات على الأرجح. أفلا تستمر أضرس أشكال الحروب والاستعمار، بما لا تعرف السكون ولا الهوادة، وبما لا يتطابق وأي معيار إنساني، منذ ذاك الوقت وحتى الآن، في العراق، بلاد ما بين الرافدين دجلة والفرات، مهد الدولة وموطن الزقورات، وقصور الرهبان السومريين المقدسين! أَوَليست تلك المقولة تشيد بذلك؟ إذن، دعك من أن يكون المجتمع الأبوي السلطوي وتدوُّله لخير البشرية وصالحها، إنه أكبر بلاء مسلَّط عليها. فهذه الوسيلة الجديدة ستدمر ما حولها كي تكبر وتتضخم، كالكرة الثلجية حيناً، وكالكرة النارية أحايين أخر؛ لتحوِّل كوكبنا الأقدس على الإطلاق إلى حالة لا يطاق المكوث فيه. يشبِّه كتاب "العهد القديم" ظهور الدولة بظهور "اللوياثان" – الوحش البحري الشرير – من أعماق البحر. وهذا ما مؤداه أن الكتاب المقدس قد ثبَّت أعظم حقيقة، في جانب من جوانبه. ويتم التطرق فيه على الدوام إلى المخاوف الكبرى للتغلب على "اللوياثان"، فيقول: إذا لم نتحكم به ونكبح لجامه، فسوف "يفترس الجميع!". هذه الثقافة الاجتماعية التي حاولتُ إبرازها بشكل شمائي، يمكننا رؤية دعائمها ومقوماتها الجغرافية والتاريخية بأفضل صورها، على حواف سلسلة جبال زاغروس وطوروس، وفي السهول الممتدة منها. حيث نصادف فيها، وبكثافة، الآثار والبقايا القوية للمجتمع المتمحور حول المرأة الأم، والذي بدأ بالنمو والتطور اعتباراً من أعوام 20000ق.م، وهو تاريخ نهاية العصر الجليدي الأخير. ونجد في كل الهياكل والمنحوتات، والنظام الأهلي، وآلات الحياكة والنسيج، والرحى اليدوية البارزة أمامنا، آثارَ المرأة واضحة المعالم تماماً. فالبنية اللغوية فيها أنثوية. والأرباب الأوائل كانوا إلهات إناث تتحلى بآثار قوية للمجتمع الطبيعي المعتمد على الأم. ويلاحَظ أن السلطة البطرياركية (السلطة الأبوية الحاكمة) قد سارعت من تقدمها في الألف الرابع قبل الميلاد (4000ق.م). حيث اكتسبت الحاشية العسكرية قوتها في المجتمع، ورافقها ظهور الصراعات القبلية المتعاقبة والمحتدمة. كما نلاحظ آثار ممارسات الإبادة والإخناع والتذليل أيضاً. ومواصلة العشائر في وجودها حتى الآن، إنما يشهد لنا بمدى الضراوة التي شهدتها تلك الحقبة. وقد انتشرت السلطة الأبوية هناك لتتمخض عن ظهور التمايز الطبقي والتدوُّل. وشهدت أعوام الألف الثالث قبل الميلاد (3000ق.م) ولادة أول مدينة للدولة، حيث أن أشهر أمثلتها هي مدينة أوروك. وما ملحمة كلكامش في مضمونها سوى ملحمة تأسيس مدينة أوروك. يمكن القول بأن أعظم ثورة شهدها التاريخ حصلت ضمن نطاق ثقافة هذه المدينة. فالتصورات المشيرة إلى صراع إينانا وأنكي، إنما تعكس لنا الصراع القائم بين مجتمع المرأة الأم والمجتمع الأبوي الذكوري، بلغة شعرية بارعة حقاً. وملحمة كلكامش تتطرق إلى أول وأروع نموذج أصلي لوحظ في كل مجتمع آنذاك، في عصر البطولة والأبطال. ونلاحظ فيها أيضاً الصراعات الأولى القائمة بين المدنيين والبرابرة الوحشيين. والمراة لا تزال فيها بعيدة عن الهزيمة والفشل. لكن الرجل القوي ما برح يُعَوِّد المجتمع ويُمَرِّنُه على سلطته خطوة خطوة، عبر حاشيته العسكرية. إنه يتجه نحو إشراقة المجتمع الحضاري وبزوغ فجره، عبر تصوراته الأيديولوجية ومؤسساته الدينية وقصوره الفخمة وسلالاته الأولى.
#عبدالله_اوجلان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول آ – المجتمع الطبقي
-
الدفاع عن شعب -الفصل الاول
-
الدفاع عن شعب
المزيد.....
-
الأونروا: النظام المدني في غزة دمر تماما
-
عاصفة انتقادات إسرائيلية أمريكية للجنائية الدولية بعد مذكرتي
...
-
غوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
سلامي: قرار المحكمة الجنائية اعتبار قادة الاحتلال مجرمي حرب
...
-
أزمة المياه تعمق معاناة النازحين بمدينة خان يونس
-
جوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا بشكل رسمي
-
مقرر أممي: قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت تاري
...
-
جنوب السودان: سماع دوي إطلاق نار في جوبا وسط أنباء عن محاولة
...
-
الأمم المتحدة تحذر من توقف إمدادات الغذاء في غزة
المزيد.....
-
سعید بارودو. حیاتي الحزبیة
/ ابو داستان
-
العنصرية في النظرية والممارسة أو حملات مذابح الأنفال في كردس
...
/ كاظم حبيب
-
*الحياة الحزبية السرية في كوردستان – سوريا * *1898- 2008 *
/ حواس محمود
-
افيستا _ الكتاب المقدس للزرداشتيين_
/ د. خليل عبدالرحمن
-
عفرين نجمة في سماء كردستان - الجزء الأول
/ بير رستم
-
كردستان مستعمرة أم مستعبدة دولية؟
/ بير رستم
-
الكرد وخارطة الصراعات الإقليمية
/ بير رستم
-
الأحزاب الكردية والصراعات القبلية
/ بير رستم
-
المسألة الكردية ومشروع الأمة الديمقراطية
/ بير رستم
-
الكرد في المعادلات السياسية
/ بير رستم
المزيد.....
|