سعاد خيري
الحوار المتمدن-العدد: 3639 - 2012 / 2 / 15 - 17:07
المحور:
سيرة ذاتية
الفصل الرابع
ثورة 14/تموز/1958
ابهج احداث حياتي
حقا احلك الساعات تسبق الفجر. كانت الاعوام التي تلت عقد حلف بغداد من احلك السنوات على شعبنا وعلى السجناء السياسيين. فالارهاب مشدد والقواعد العسكرية تبنى على حساب المدارس والمستشفيات والامراض والجهل تتفشى والمراسيم تترى لاسكات اي صوت للشعب واي مجال للنضال, الامر الذي اشعر القوى الوطنية بالخطر المحدق بالوطن وبالبلدان العربية من جراء سياسة السلطة.وباءت بالفشل كل محاولاتهم للتفاهم مع السلطة , فلم يجدوا بدا من التحالف مع الحزب الشيوعي, الذي كان المصدة الكبرى التي تحميهم من هجمات النظام, ويقدم التضحيات الجسام في النضال من اجل الاهداف الوطنية.
في مطلع عام 1957 وصلنا خبر تشكيل جبهة الاتحاد الوطني وكان لذلك وقع كبير في نفوسنا وامل متجدد بحتمية انتصار شعبنا. وبقينا نتلقف الاخبار ونهزأ بكل وسائل الارهاب بل ونخرج التمثيليات المرحة بما فيها تمثيليات عن خروجنا من السجن بعد عشرين عاما, المسؤلة لا تستطيع المشي الا بعكازات وبيدها الاخرى ادويتها . وانا اسأ لها عما تراه من معالم مبهرة من بغداد لم نكن شاهدناها من قبل ويغرق الجميع بالضحك.
وفي صباح الرابع عشر من تموز , وكالعادة تبتديء الاذاعة في الساعة السادسة بقراءة القران . ولكن في ذلك اليوم بدأت بقراءة البيان الاول للثورة ولم ينتبه الى ذلك سوى ام سلام فقد ايقضها سلام الذي طلبنا ان يبقى معنا بسبب العدوى التي اصيب بها بمرض اهل والده الذي يسبب قتل بويصلات شعر الراس من الاساس. وافقنا جميعا على صرختها , لكم ثورة!!
وبلحظات عم الصخب جميع السجينات . واذا بالمذياع يصمت .. فاستشطنا غضبا وهجمنا على باب السجن الداخلي نطالب باعادة فتح المذياع وجاءتنا اصوات سجن الرجال ايضا مما اجبر مأ مور السجن الى اعادة فتح الراديو. وتتبعنا كل خبر وبدأنا التحليلات والتوقعات , دون ان يخطر ببالنا اي شيء يخصنا , وانما مصير الثورة وسير تطورها. وكل منا يشع بالبهجة وكتلة من الحماس انعكس تأثيره على السجينات العاديات واهتموا بتقديم ما عندهم لاطعامنا بعد ان شعروا بانشغالنا باخبار الثورة عن كل شيء بما فيه الفطور. وفي الساعة الثامنة وكالعادة حضرت مديرة السجن . ولم تمر علينا مباشرة الا بعد ان احضرت كل السجانات معها . ودخلت علينا وهي متوترة ولم تلاحظ استقبالنا المرح لها ضانة اننا نتشفى بها !! فقالت , يوم لكم ويوم عليكم!! اوضحنا لها موقفنا وان كل ما يهمنا هو نجاح الثورة . هدأت ولم تصدق. وبدأت اصوات الجماهير تصلنا من باب المعظم.
ومن مفارقات ثورة 14/تموزوبينما كنا نتابع التطورات من الاذاعة بفرح وتوتر واذا بالاضطراب والتوتر يعم الادارة والسجانات وبدأ تحصين احد القواويش واحاطته بالشرطة . وتبين اخيرا ان كل ذلك كان لحماية اخت نوري السعيد المعتقلة اثناء البحث عنه, منا!! لانهم لايستطيعون ادراك حقيقة مشاعرنا. كانوا يخشون من انتقامنا منها!! فاخبرناهم لا داع لكل هذا القلق فنحن لا نعتبر هذه المرأة عدوتنا وانما اعداءنا هم المستعمرون واقطاب النظام من امثال نوري السعيد نفسه. ولم تمض ساعات حتى حدثت مفارقة اخرى , اطلق سراح اخت نوري السعيد وبقينا نحن في السجن !!
فذهلت السجينات العاديات وتساءلن , اليست هذه ثورتكم التي تتحدثون عنها وتحملتم السجن من اجلها . فلماذا لم يفرج عنكم بل افرج عن اخت نوري السعيد!!
اوضحنا لهم ان الثورة ثورتنا ويهمنا انتصارها قبل كل شيء وسوف تتحقق اهدافنا تديريجيا . وبدأت الزيارات تتوالى وبعد القلق الشديد من هروب نوري السعيد عم الفرح بالقبض عليه . وجاءت اخبار مقلقة اخرى باصرار وزير الداخلية عبد السلام عارف على تسفير السجناءالسياسيين اليهود الى اسرائيل . واعادة الجنسية العراقية الى عدد من السجناء السياسيين من غير اليهود ومنهم زكي خيري وتوفيق منير وكامل قازانجي وبهاء الدين نوري بعد اسقاط الجنسية العراقية عنهم من قبل النظام البائد. وتم فعلا تسفير اول وجبة من السجناء اليهود. فشعرنا بكارثة محدقة وبدأنا بتحركات ملتهبة. قدمنا عشرات العرائض الى جميع القوى الوطنية لنجدتنا وكانت ادارة السجن تتعاطف معنا بعد ان لمست وطنيتنا عندما رفضنا ما قدمه الوفد البرلماني البريطاني من عرض لتحريرنا من السجن لقاء تسفيرنا الى اسرائيل في احلك الفترات وتفضيلنا الموت في السجن على السفر الى اسرائيل.
وبعد عشرة ايام اطلق سراح مادلين !! وقدرنا ان ذلك لانها متزوجة من بهاء الدين . فكتبنا رسالة الى الحزب نطلب ارسال رفاق على استعداد للزواج الشكلي بنا حتى يتم اطلاق سراحنا. ولم يردنا اي جواب , واستبد بنا القلق بقينا لوحدنا عمومة وانا فكنا نتناوب الخفارة ليلا لئلا يجري اختطافنا وتسفيرنا ليلا. وقررنا ان نشهر اسلامنا . وساعدنا بهاء الدين باحظار الشيخ البامرني شيخ جامع السليمانية الى ادارة السجن واشهرنا اسلامنا . دون ان نتلقى اي تطمين. وزارنا الكثير من الرفاق والرفيقات بما فيهم سكرتير الحزب سلام عادل وزكي خيري وبعد ان استمعوا الى ما فعلناه دفاعا عن وطنيتنا طمأنونا وطلبوا منا كتابة عريضة يحملها زكي خيري الى عبد الكريم قاسم بواسطة قريبه وصفي طاهر. واستمر قلقنا يتصاعد حتى زارتنا زكية خيري بعد اسبوع تبلغنا بقرب اطلاق سراحنا.
وزارنا في اليوم التالي مرة اخرى سلام عادل وزكي خيري وطلبا التحدث الي على انفراد ووجه سلام عادل الحديث بصوت هاديء بالكاد يسمع قائلا, عليك الاختيار بعد اطلاق سراحك , بين الحزب او العيش مع امك!!
وكالعادة عندما اواجه القضايا المصيرية , لم افكر باي شيء لا بالعواقب ولا بالمسببات وانما اتخاذ الموقف الحاسم.وقررت بدون تردد, مع الحزب طبعا !! ظهر الحبور على وجه الرفيقين واظهرا اعجابهما بي منذ اول لقاء . فقد صرح سلام عادل عندما راني لاول مرة , عندنا هيج ورود بالسجن وما نعرف!! الامر الذي اثار عمومة واخذت تتندر به بمرارة.
ونسيت موضوع الاختيار وتبعاته ولاسيما الانفصال عن امي تماما!! وواجهت ما كان يحدث يوما بيوم, دون ان افكر بامي التي ضحت بكل شئ من اجلي وقدمت لي كل ما مر ذكره واكثر خلال عشر سنوات . واذ اتذكر هذا اليوم ورغم كل الالامي وتعذيب الضمير الذي تحملته سنوات عديدة ولا زال يعذبني , كان ذلك هو الموقف الصحيح ولكل موقف ثمنه. وافضل بديل كان يمكن لامي والحياة ان تقدمه لي, لم يكن يعادل لحظة من راحة الضمير التي اعيشها بتكريسي كل طاقاتي لخدمة شعبي والانسانية وفقا لامكانياتي المتواضعة عن طريق الكتابة. دع عنك السعادة الغامرة التي عشتها مع زكي خيري الذي عوضني عن كل حب وحنان الام وكل الاهل والاقارب ومع طفلي اللذين منحاني كل البهجة في جميع مراحل نموهما حتى اصبحا شخصين فعالين وطنيا وعالميا .واخيرا حفيديا زكي وانيسة.
في 28/اب/1958 اي بعد شهر ونصف تقريبا على الثورة اطلق سراحنا!! ومن دائرة حكومية الى اخرى وفي سيارة الشرطة المعلقة ونحن في اقصى درجات التوتر حتى المساء دون ان نستطيع تبين اي شيء من معالم بغداد التي طالما حلمنا برؤيتها. واخيرا حضر بعض الرفاق لاستلامنا ونقلونا راسا الى احتفال اقامه حسن النهر على شرف السجناء السياسيين الذين اطلق سراحهم. لم يكن لدي طاقة حتى على الفرح. ولم اشعر بما كان يدور حولي وكأنني في غيبوبة. اتحرك واجيب على الاسئلة باقتضاب ولا ادري كيف مضى الوقت واين وكيف نمت تلك الليلة لنذهب في اليوم التالي لاستعادة جنسيتنا العراقية!! فقد قرر عبد الكريم قاسم اطلاق سراح جميع السجناء السياسيين واعادة الجنسية العراقية لهم تقديرا لنضالاتهم!!
تذكرت تلك الليلة وانا اشاهد احد المسلسلات المصرية في تموز 2002 عن مصير مناضلين ضد الاحتلال البريطاني لمصر . اتهما زورا بقتل مسؤل بريطاني وحكما بالمؤبد وابعدا الى سجن منعزل حتى دون ان يعرفا تهمتهما. لم يسمعا بالثورة ولم ينظر احد بقضيتهما لبلادة اجهزة الحكم الا بعد عشرين عاما. وعندما خرجا من السجن لم يستطيعا التعرف على اي شيء ولم يتبين لهما اي شيء مما كانا يعرفان وعاشا غربة اشد قسوة من السجن وهكذا شعرت بالفرق بين الانسان المنتمي الى تنظيم ثوري والانسان غير المنتمي. فقد احتضننا التنظيم ولم نشعر باي حرمان من ذوينا وامدنا بكل مستلزمات مواجهة الحياة الجديدة.
#سعاد_خيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟