فصلية ( غرانتا ) تحتفل بكارثة نيويورك على طريقتها
هناك استشهادان على الصفحة الاولى من الملف الكبير الذي افردته فصلية (غرانتا) الادبية, في عدد ربيع هذا العام, تحت عنوان: (ماذا نفكر بأميركا?). الاستشهاد الاول مأخوذ من مساهمة الكاتب المسرحي هارولد بنتر, اما الثاني فمن الكاتب الكندي مايكل إيغناتيف. الاول يرى ان اميركا (وحش نابت الريش تماماً, فائز بالجائزة, مطلي بالذهب... لا يفهم سوى لغة واحدة: القنابل والموت). اما الآخر فينص على انها (البلد الوحيد حيث المواطنة فيه فعل إيمان, البلد الوحيد الذي لا تنفك وعوده لنفسه ان تنال إيمان أناس مثلي, ليسوا مواطنيها).
لا نحسب ان الغرض من إبراز هذين الاستشهادين المضادين في مستهل ملف, ساهم فيه 24 كاتباً من مختلف أنحاء العالم, التشديد على انقسام المواقف بين مؤيد للولايات المتحدة ومعادٍ لها, او حتى مناوئ لها, خصوصاً ان السؤال المطروح يأتي بعد اعتداء الحادي عشر من ايلول (سبتمبر), وأن إجابات المساهمين, وإن لم تكن بمثابة التعبير عن مواقفهم مما جرى, فإنها وإلى حد لا يُنكر او يخفى حملت اثر مثل هذه الحادثة. ولئن انقسم جلّ المساهمين حول امر, فقد انقسموا في كيفية رفض ثنائية (مع اميركا او ضدها), او التنصل منها ما استطاعوا الى ذلك سبيلاً.
جون غراي (بريطانيا) وديفيد معلوف (استراليا) ودوريس ليسنغ (بريطانيا) يرفضون مثل هذه الثنائية من خلال التشديد على ان اميركا من التعددية وسعة التناقضات ما يحول دون اختزالها في تعريف واحد: سياسة في عينها او إنتاج ثقافي موحد المظهر. وهذا ليس محض حكم جاهز يقوم على ظن مسبق بتعددية كل مجتمع إنساني وانما هو نتيجة تجارب شخصية يرويها الكتّاب المذكورون.
يروي ديفيد معلوف كيف اكتشف, خلال الحرب العالمية الثانية, انه خلافاً لما كان رئيس الوزراء الاسترالي قد أفضى بقوله ان الاميركيين (بيض مثلنا, يفكرون مثلنا ويحاربون مثلنا), كان هناك الكثير من الاميركيين ممن لم يشبهوا (البيض) الاستراليين وهؤلاء هم السود, الذين لعبوا دوراً مهماً في هزيمة قوات المحور, شأن اي محارب ابيض من استراليا وسواها. نعم, اميركا هي بلاد (العرق الابيض), ومن ثم التمييز العنصري, ولكنها ايضاً بلاد مارتن لوثر كنغ و(حركة الحقوق المدنية) وجيسي جاكسون وكولن باول.
وهناك من الكتّاب من يسعى الى تجنب (ثنائية مع أو ضد) من خلال الكشف عما عنده او ما في نفسه من أميركا. (كلنا يريد قضمة من اميركا), على ما يقول الكاتب الالماني الاصل اين بورما, وبمن فينا اولئك الذين يحملون ضغينة تجاه السياسة الاميركية. فحقيقة ان الاسلحة التي تقصف مدينة رام الله, هي اسلحة اميركية, لا تمنع الكاتب الفلسطيني رجا شحادة من التصريح بأن عدد المقيمين في اميركا من ابناء رام الله يفوق عدد المقيمين في المدينة الفلسطينية نفسها. وحقيقة الدعم الاميركي غير المشروط لا تمنع الكاتبة المصرية اهداف سويف من الافصاح عن دور الادب والموسيقى الاميركيين في تكوينها الثقافي. وحقيقة ان هنري كيسنجر كان أشد الشخصيات مقتاً في مطلع السبعينات, لم تحل دون وقوع الروائي الهندي أميت تشادوري والروائي التركي اورهان باموك, أسيري فتنة الصورة او السلعة الاميركية.
قصفت (ناتو), بقيادة الولايات المتحدة طبعاً, بلغراد وأنزلت بمصانعها الجميلة دماراً جسيماً, غير ان الكاتب الصربي ألكسا دجيلاس يصرّ على الاّ يخون ولاءه المبكر الى ما هو اميركي وضد ما هو سوفياتي. وعلى غرار سويف وتشادوري وشحادة, يدرك البريطاني جيمس هاملتون - باترسون, العالم بشؤون الفيليبين وجنوب شرقي آسيا, يدرك اي دور لعبته السياسة الاميركية في دعم نُظم استبدادية. غير انه يستدرك أن بعض أعزّ اصدقائه, وأشدهم ذكاءً وانسانية هم اميركيون.
ويعمد بعض المساهمين في هذا الملف الى التنصل مما تمليه الثنائية المذكورة من خلال نبذ بعض أشد الأحكام جهوزاً والتصورات الأكثر شيوعاً عن اميركا والاميركيين. إذ يرى الروائي التشيكي إيفان كليما أنّ من الاجحاف إلقاء مسؤولية فقر العالم الثالث على كاهل الولايات المتحدة. وهو شأن الكثير من الكتّاب الآخرين كان تعلم الكثير من الادب الاميركي, فضلاً عن إقامة متقطعة في أميركا, يُسقط الزعم القائل بهشاشة الشخصية الاميركية وزيف علاقاتها. اما الشاعر الألماني هانس مانغوس إنتسبرغر, وهو ابن جيل الستينات اليساري المعادي لكل ما هو اميركي, فيكتشف أن الخوف من السيطرة الاميركية على اوروبا, وصوغ أوروبا على مثال الثقافة الاميركية, هما من قبيل عقدة التظلم ولا مبرر لهما. فلم تنفك اميركا ذلك المكان البعيد والساحر بالنسبة الى أوروبا.
ويمضي الروائي الفرنسي ميونيه دوتواتيه شوطاً ابعد في نقد الموقف الاوروبي المعادي للولايات المتحدة, مجادلاً ان الاتهامات التي يوجهها الاوروبيون الى أميركا, وخلافاً لمزاعمها, ليست صادرة عن حرص على القيم الانسانية, وانما هي في الغالب نتيجة حسد وإحساس بالمنافسة القومية. فجلّ ما تتهم الولايات المتحدة بفعله, هو ما فعلته فرنسا وألمانيا وبريطانيا, بل وما لن تتوانى أي من تلك الدول عن فعله إذا ما سنحت لها الفرصة والقوة. وفي النهاية فإن الحكومة الاشتراكية في فرنسا هي التي شجعت, وقدمت الدعم المالي, لإقامة (ديزني اوروبية)... فأي خوف هذا من الغزو الثقافي الاميركي لأوروبا?
ولو دققنا النظر بما يقوله مايكل إيغناتيف وهارولد بنتر, وهما اللذان اتخذ بعض كلامهما دلالة على انقسام مُفترض ما بين مؤيد ومعارض, لاكتشفنا ان مساهمتهما لا تخلو من محاولات التنصل من (ثنائية مع او ضد). مثلاً حين يحتفي إيغناتيف بالمشاركة في تظاهرة ضد الوجود العسكري الاميركي في جنوب شرقي آسيا, في مطلع السبعينات, فهو لا يحتفي فقط بحقوق المواطنة المكفولة في الولايات المتحدة دون الكثير من دول العالم الاخرى, وإنما يُبيّن ان في السياسة الاميركية, لا سيما الخارجية منها, ما يستحق الادانة والرفض.
ولئن ساق هارولد بنتر, من وجه آخر, مساهمته كهجوم على السياسة الاميركية لا هوادة فيه, فإنه يسكت عما جرى في الحادي عشر من ايلول الماضي. وهذا السكوت ليس من قبيل التأييد الصامت للاعتداء الارهابي (بنتر لم يتوان يوماً عن اعلان مواقف تخالف محاور الاجماع السائدة) وانما لأنه ضد أميركا كسياسة وليس ضد المجتمع والشعب الاميركيين. فهو في دخيلة نفسه يُدين الهجوم, غير انه لا يُفصح عن إدانة كهذه خشية ان يقلل مثل هذا الافصاح من شدة معاداته للسياسة الاميركية نفسها.
هارولد بنتر ليس محايداً, وكذلك بقية المساهمين. فهذه المساهمات انما تعبر عن أقساط متفاوتة من الانحياز, يصدر عن دوافع متباينة, ولمصلحة جماعات أو سياسات مختلفة. بيد انه ليس بالانحياز الذي ينطلق من (ثنائية مع اميركا او ضدها) او ينتهي الى تكريسها. وانما هو نابع من خبرة عملية إن في الحياة الاميركية ام في السياسة, ومن خلال معرفة بالادب والموسيقى والناس, وهو الانحياز الذي يشدد على ضرورة التفكير, وكما يحض السؤال المطروح على المساهمين, وليس الركون الى شعارات وأحكام جاهزة.
ما الغرض, إذاً, من إبراز استشهادين في مطلع هذا الملف يوحيان بأن مواقف المساهمين من اميركا تنقسم ما بين مؤيد لها ومعارض?
الارجح ان فصلية (غرانتا) شأن الكثير من المنابر التي تفرد حيزها لأصوات مختلفة, شاءت ان تُرسي الحدود القصوى لما هو مقبول من معارضة وتأييد. وهذه هي الحدود التي ألفى المساهمون, من بلدان مختلفة, انفسهم على الرحب بينها.
الحياة (12/9/2002 )