|
الحكم بالاحتلال!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3638 - 2012 / 2 / 14 - 16:42
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ليس استخدام العنف أداةً سياسية عادية جديدا على الحكم البعثي في سورية، وبخاصة في صفحتيه الأسديّتين. بعد 4 شهور من انقلاب 8 آذار 1963 انقلب البعثيون على شركائهم الناصريين، فأعدموا عشرات واعتقلوا وعذبوا المئات، وأظهروا تمتعا غير مألوف بالتعذيب. كانوا يقصدون سجن المزة في العاصمة، "فتفرش الموائد وتدار الراح ويؤتى بالمتهمين للتحقيق وتبدأ الطقوس الثورية فيفتنون ويبدعون كل يوم رائعة جديدة"، حسب سامي الجندي، أرهف المثقفين البعثيين حساً، وربما الوحيد. بعد سنوات جرى تعذيب سليم حاطوم، العسكري البعثي، بطريقة وحشية وحطمت أضلاعه قبل قتله. وبعد حين قصير دُفع قاتله، عبد الكريم الجندي، إلى الانتحار حين حوصر مكتبه من قوات متفوقة يقودها... رفعت الأسد. تميز عهد حافظ الأسد بسنوات الاعتقال الطويلة لخصومه السياسيين. أولهم رفاقه البعثيون الذين انقلب عليهم، ثم أية تنظيمات سياسية مستقلة، أو أي أفراد عاثري الحظ اتهموا بتهمة سياسية ما. التعذيب واقعة عادية جدا للسجناء السياسيين. لكن عهد حافظ هو عهد المجازر الكبرى أيضا. يعرف عموم المهتمين مجزرتي تدمر في حزيران 1980 وحماه في شباط 1982، لكن وقعت عشرة مجازر أخرى على الأقل في حلب وإدلب، وكان ضحايا كل منها بالعشرات. ولقد جمع نظامه بين السجن المديد والمجزرة المستمرة بعيدا عن الأنظار في سجن تدمر. نتكلم على مجزرة مستمرة ليس لأنه كانت تجري عمليات إعدام دورية طوال عقد الثمانينات بعد محاكمات ميدانية شكلية جدا، ولكن لأنه كان من السهل دوما قتل أي كان في أي وقت لأي سبب. لا أسباب في تدمر. وليس معلوما على وجه الدقة عدد من قضوا في ذلك السجن الرهيب، لكن أقل رقم يجري تداوله هو 6 آلاف، ويتكلم آخرون على عشرة آلاف أو 15 ألفا. وإلى القتل، عرض التعذيب الممارس في ذلك "السجن المطلق" تمازج عناصر المتعة وطول البال والضغينة الشخصية. لكن قبل أي مجازر جماعية بحق السوريين، كان الفلسطينيون أول ضحاياه في تل الزعتر 1976. بعدهم ومعهم لبنانيون. لكن عموما فضل النظام الاغتيال على المجزرة بخصوص اللبنانيين. وهذا تكريم لم يحظ بمثله السوريون والفلسطينيون. وخلافا للتوقع البديهي، لم تكن معاملة النظام للبنانيين والفلسطينيين أسوأ من معاملة السوريين أنفسهم. فالأمر لا يتعلق بدولة وطنية تتصرف بأنانية، وتولي مصالح مواطنيها الأولوية على حساب غيرهم، وعلى حساب العدالة. نحن بالأحرى حيال سياسة احتلالية واحدة في جميع الحالات، الأولوية فيه للسلطان والعائلة، وللعشيرة والأتباع، وليس لـ"شعب" أو "مواطنين"، ولا لطبقة اجتماعية، ولا لمجد وطني. وإنما لذلك كان عتب مثقفين لبنانيين، الشهيد سمير قصير بخاصة، على سكوت المثقفين السوريين عن سيطرة بلدهم على لبنان مفاجئا لنا. لم نشعر،ونحن الواقعون تحت احتلال فاجر، أننا نحتل بلدا آخر. ولقد اقترن الاحتلالان بالسلب والنهب والاستباحة. لكن لم يُنهب لبنان أكثر من سورية، ولم تستبح بيروت 1976 أكثر مما استبيحت حماه 1982. وكي يسلم المحكومون بمعاملتهم كرعايا لا قيمة لحياتهم ولا حقوق لهم، يلزم أن يكون الحاكم مقدسا أو أكثر من مقدس. بعد إسباغ صفات البطولة والعبقرية على حافظ الأسد، لم يبق غير التأليه. في أواخر ثمانينات القرن الماضي أدخل أتباعه هتافا ينذر الخالق بأنه حان الوقت ليقعد حافظ محله. ومن الطبيعي والعادل أن يعامل بلا رأفة رعايا من مرتبة متدنية يتحدون الحاكم المقدس. وسيكون طبيعيا وعادلا، ومرغوبا، أن يرث بشار أبيه في سوْس مِلْك أبيه، "سورية الأسد". وفي سياق كهذا، ليست عبارة "الأسد إلى الأبد" بلاغة خارجية، بل هي تعبير عن التطلع العميق للنظام العائلي السلالي، الممانع جوهريا للتغيير. الأبد والعشيرة والاحتلال والرعايا يندرجون معا في عالم دلالي واحد، هو أيضا عالم "العطايا" و"المكرمات" و"تجديد البيعة". لم يجر أدنى انعطاف عن سياسة الاحتلال في عهد بشار الأسد. الرجل ابن أبيه، لكن نظامه هو نظام الأب، الأسرة والمخابرات وتشكيلات النخبة العسكرية المولجة بحماية النظام. لكن اختلف شيئان. أولهما تراجع مكانة حزب البعث و"المنظمات الشعبية"، وصعود أعيان جدد فاحشي الثراء من مقربي النظام وشركاهم؛ وثانيا أن موقع الرئيس في النظام أضعف من موقع أبيه. كان الأب رأس نظامه وعقله، والسيد المطلق في عائلته، يُدلّل أفرادها ويطلق أيديهم في شؤون المال والتحكم بالناس، لكن يعاقبهم بحزم إذا ألحقوا الضرر بمصلحة النظام ككل، على ما فعل مع رفعت عام 1984 (ليس قبل وهبه ثروة تكفي سلالته لأجيال). اليوم ليس هناك رأس واحد مقرر، الرأس هو العائلة. لكن هذا يجعل الأمور كلها أسوأ بكثير لا أحسن. لدى الرئيس الوريث دافع نفسي لمضاهاة أبيه، وهو الذي لطالما وصف بالضعف والتراخي. وغريزة الدوام العائلية غير العاقلة تحل هنا محل الحساب المتأني للطاغية الفرد. لكن في الجوهر النظام هو هو، متمركز كليا حول بقاء الحكم في السلالة العائلية. والعنف المشحون بالضغينة الذي تمرس النظام بممارسته لم يصبح أبدا شيئا من الماضي، وإنما غدا طبقة ثابتة من طبقات بنية النظام. قد لا تظهر هذه الطبقة على السطح، لكنها موجودة دوما كاستعداد منقوش في جبلة النظام، أو كبرنامج حساس يشتغل تلقائيا عند مواجهته لأي اعتراض. ولقد اشتغل البرنامج فور تفجر الثورة السورية. اليوم، وبعد 11شهرا من الثورة، يستطيع بشار الأسد أن يرفع رأسه أمام أبيه من حيث عدد المعتقلين وما تعرضوا له من تعذيب. وإن كان لا يزال مقصرا في مضاهاة رقمه من القتلى، فإنه ماض في العمل دونما توقف. ينغص عليه بهجته ذلك الجهاز الذي نسب إليه الفضل في إدخاله إلى سورية: الكمبيوتر، وذلك الجهاز الآخر الذي جنت العائلة من احتكاره المليارات، الهاتف المحمول. خلاصة الكلام أن الاحتلال والعنف والنهب واحتقار المحكومين عناصر محفورة في بنية النظام، وليست ممارسات طارئة تعرض له. لذاك فإن الشيء الوحيد الصحيح هو تحطيم هذه البنية، وبخاصة بؤرتها التي هي الحكم الوراثي العائلي، وجيشه احتلالها المتمثل في الأجهزة الأمنية، وفي تشكيلات الحرس البريتوري الفاشية التي تقتل فوق مئة من السوريين كل يوم. هذا انحطاط يجب أن ينتهي، الآن. لا أقل من ذلك إن كان لهذا البلد أن يتعافى يوما. ولا بد من الخروج من "الأبد" للدخول في "التاريخ"، مع كل متاعب ذلك وفوضاه ومصاعبه التي لا تنتهي.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الطائفية والنظام الطائفي في سورية
-
-قتل ذاك الماضي-، حازم صاغية يروي سيرة -البعث السوري-
-
المثقف المبادر... في تذكر عمر أميرالاي
-
في الشبّيحة والتشْبيح ودولتهما
-
حول العسكرة والعنف والثورة...
-
ديناميتان للثورة السورية: المستقبل في الحاضر
-
المثقفون والثورة في سورية
-
-حكي قرايا-: تدخل عسكري دولي!
-
مكونات الثورة السورية وسياستها
-
عام ثوري وأزمنة صعبة قادمة
-
الفاشية السورية وحربها ضد العامة!
-
محاولة لشرح القضية السورية للمنصفين
-
حوار في شان الطغيان والأخلاق
-
عن حال مؤسسات الحكم البعثي بين عهدين أسديين
-
العصيان المدني أو الإضراب الوطني العام
-
وطنيّتان: من الوطنية الممانعة إلى الوطنية الاجتماعية
-
الطغيان والأخلاق في -سورية الأسد-
-
اليسار موقع وعمل ودور، وليس نسبا أو هوية!
-
نظرة من خارج إلى الأزمة السورية
-
في شأن سورية وإسلامييها والمستقبل
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|