|
ملخص كتاب الاقتصاد السياسى للتخلف
محمد عادل زكى
الحوار المتمدن-العدد: 3637 - 2012 / 2 / 13 - 18:02
المحور:
الادارة و الاقتصاد
مدخل: الاقتصاد السياسى للتخلف، هو العنوان الرئيسى الذى اختاره الباحث كى ينجز فى إطاره بحثه فى ظاهرة كتبت عنها الاف المؤلفات، بيد أنه الحال الذى لم يقلق الباحث من جهة ما الجديد الذى سيأتى به؟ لان الباحث، وببساطة، لم يذهب لبحث التخلف، وإن لم يغض طرفه عنه كظاهرة تاريخية، وانما انشغل ببحث ألية (تجدد إنتاج التخلف) وهى ظاهرة يظن الباحث أن مكتبة الاقتصاد السياسى بوجه عام، ونظرية التخلف بوجه خاص، وتجدد إنتاج التخلف العربى بالاخص، لم تزل فى حاجة إلى المزيد من الابحاث الجدية فى حقل تلك الظاهرة. ظاهرة تجدد إنتاج التخلف. وفى اطار ظاهرة "تجدد انتاج التخلف" سوف نطرح إشكاليتين رئيسيتين واحدة منهما نثيرها فى امريكا اللاتينية وسنتخذ من فنزويلا نموذجا، والثانية نثيرها فى القارة الافريقية وستكون السودان هى النموذج، وذلك على اساس من ان القارتين تمثلان التاريخ الاصيل للتخلف، والارضية الخصبة لعملية تجدد إنتاج هذا التخلف على كل من الصعيد الاجتماعى والاقتصادى. وسيكون من المنهجى قبل أن نذهب إلى قارتى التخلف أن نحدد أولاً المفاهيم التى سوف نستخدمها والادوات الفكرية التى سنعتمد عليها فى سبيلنا لتحليل ظاهرتى البحث فى كل من فنزويلا والسودان؛ وهما الظاهرتان، كما سنرى، اللتان تدوران فى فلك الصراع الاجتماعى والاقتصادى فى إطار من عملية تجديد إنتاج التخلف.
(1) أولا: الاقتصاد السياسى: وأعنى به:"ذلك العِلم الاجتماعى الذى يَنشغل بدراسة النظرية الكمية والنظرية الموضوعية فى القيمة، والتناقُضات الكامنة فيها، والتى تَتَطورعلى أساسِها، أى التناقضات، الظاهرةُ الاجتماعية مَحل البحث". وأقصد تحديداً بالاقتصاد السياسى هنا، وبمنتهى الوضوح، ذلك الجسم النظرى الذى نتَجَ عن نقد ماركس للرأسمالية، وإنما بإعتبار الجسم النظرى السابق على نقد ماركس (الذى انجزه عظماء الفكر الكلاسيكى ادم سميث، وديفيد ريكاردو) تنظيراً رأسمالياً للرأسمالية نفسها. ثانيا: التخلف الاقتصادى: وأقصد بظاهرة التخلف ظاهرة (تجدد إنتاج التخلف) بإعتبارها (عملية إجتماعية) ديناميكية فى حالة حركة مستمرة، ليست ساكنة وتاريخية فحسب، إذ هى عملية إجتماعية من إرتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، بمفهومها الذى قصده أدم سميث، وديفيد ريكاردو، وماركس، ولن أنشغل هنا بمناقشتها، وسأعتبرها معطى على صعيد الفكر. يتناقض هذا الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة، نظراً لكثافة إستخدام عنصر العمل فى الاجزاء المتخلفة، مع ضعف(أليات) إنتاجها، نظراً لضعف التقنية وعدم إستخدام الفنون الانتاجية التى يكشف عنها العِلم إلا فى مرحلة تالية لاستهلاك تلك الفنون فى الاجزاء المتقدمة، ومن خلال هذا التناقض ما بين الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة وبين هشاشة ألية إنتاجها، تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً إلى الاجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر، من أجل شراء السلع والخدمات الاساسية والتى تتوقف عليها شروط تجديد الانتاج. ولنزيد الامر وضوحاً: لقد إنطلقتُ من فكرة بسيطة، وتجريدية، جداً تقول أن المجتمعات المستعمَرة التى صارت تابعة ثم متخلفة طبقاً للترتيب التاريخى، حالها كحال المجتمعات المستعمِرة، المتبوعة، المتقدمة، لا تكف عن الانتاج كما لا تكف عن الاستهلاك، والمجتمعات المتخلفة، والتى تهمنا هنا ومنها عالمنا العربى، لا تُنتِج سلعاً أو خدمات فقط؛ وإنما تُنتِج قيمة زائدة، ليس العُمال فقط وإنما المجتمع بأسره، بعد أن تحول المحامى والطبيب والمهندس والمعلم والكاهن، بل ورعاع المدن إلى شغيلة فى عداد المأجورين!! بيد أن كراسات التعميم غالباً ما تتجاهل هذه الحقيقة. فأى مجتمع، ويهمنا هنا الاجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر، ومنها عالمنا العربى، يتعين كى يقوم بالعملية الانتاجية أن يكون تحت تصرفه مبلغاً من النقود بالمعنى الواسع للنقود، لا أُفرِق بين إنتاج الحديد والصلب، وبين فتح مؤسسة محاماة يعمل فيها عشرات المحاميين بأجر. أى أننى، وهذا من ضمن ما أهدف إليه، أقوم بمد القوانين التى كشف عنها عِلم الاقتصاد السياسى فى حقل إنتاج السلع المادية إلى حقل إنتاج الخدمات وهو الحقل الذى صار مُهيمناً بنحو 65%، على إجمالى هيكل الاقتصاد العالمى المعاصر. وفلنفترض أن المجتمع(ويهمنا المجتمعات المتخلفة، وعالمنا العربى أحد مكوناتها) فى لحظة تاريخية معينة وتحت ظروف إجتماعية محددة، يدخل العملية الانتاجية على صعيد "الكُل"الاقتصادى بمبلغ (30) مليار وحدة، موزَعة بين القطاعات الانتاجية الثلاثة بواقع(10) مليار لكُل قطاع(الزراعة والصناعة والخدمات) ويتم توزيع الـ(10) مليار وحدة على النحو التالى: (50) وحدة لشراء أدوات العمل، و(30) وحدة لشراء مواد العمل، و(20) وحدة لشراء قوة العمل، وهكذا الامر فى كل قطاع، وفى نهاية الفترة وبإفتراض أن القيمة الزائدة المنتَجة فى القطاعات الثلاثة=100%، أى أن الرأسمالى يدفع للعمال (20) وحدة ويتلقى مقابل هذه الـ(20) وحدة عمل يساوى (40) وحدة أى يأخذ (20) وحدة زائدة. فسيكون لدينا ما يلى: القطاع الزراعى: (50 أدوات العمل) + (30 مواد العمل) + (20 قوة العمل) +(20 قيمة زائدة) = 120 القطاع الصناعى: (50) + (30) + (20) +(20) = 120 قطاع الخدمات: (50) + (30) + (20) +(20) = 120 طبعاً لا شك فى أن الانتاج يحتاج إلى أشياء أخرى كثيرة مثل: الارض، والفكرة، والادارة، والنقل. .إلخ بيد أن تلك الامور تأتى فى مرتبة أو مرحلة إتمام المنتَج، وهى مهمة من زاوية ما من أجل "تسيير" العملية الانتاجية، وهى، فى نفس الوقت، ثانوية وغير مؤثرة فى عملية زيادة القيمة، إذ لا تزيد القيمة إلا بقدر دخول عنصر العمل الحى أو المختَزن فى العملية الانتاجية والذى من شأنه أن يُزيد القيمة. ولكنه سوف يزيد قيمة على السلعة الجديدة وليس القديمة، فالنقل لا يزيد قيمة السلعة، وإنما يمكن لعملية النقل خلق قيمة فى حقل صناعة النقل نفسه. ووفقاً لمثلنا أعلاه فلقد حقق المجتمع زيادة فى القيمة، أى أنه بدأ بـ (30) مليار وحدة، وفى نهاية الفترة صار لديه (36) مليار وحدة. فأين تذهب تلك الـ(6) مليار وحدة والتى إنتجت بداخل الاقتصاد القومى، ويهمنا هنا الاقتصاد القومى للاجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، وعالمنا العربى أحد تلك الاجزاء؟ كى نُجيب على تساؤلنا المطروح يتعين علينا البدء من حيث أنه ما من مجتمع إلا ترتبط حياته وإستمرارها بالانتاج، من أجل الاستهلاك الداخلى المباشر، أو من أجل التبادل، ولن يتمكن هذا المجتمع من تجديد إنتاجه إلا إذ ما كان تحت يده حدا أدنى من (الرأسمال المركم) يمكنه من البدء فى تلك العملية، وبالفعل يبدأ المجتمع العملية الانتاجية بكمية معينة من رأس المال، حاله حال كل مشروع رأسمالى، وفى نهاية المدة، ولتكن سنة، لا بد، ولكى يستطيع الدخول فى عملية إنتاجية أخرى لسنة جديدة، وهكذا، لا بد من أن يجد المجتمع تحت يديه كمية من الرأسمال "والذى أُنتِج فى الفترة السابقة". والسؤال: (1): ما مقدار معدل إنتاج تلك القيمة الزائدة(النسبى) المنتَجة فى أحد الاجزاء المتخلفة، ولتكن دولة بوروندى مثلاً(2,698,272دولار) مقارنة بالمنتَجة فى أحد الاجزاء المتقدمة ولتكن الولايات المتحدة الامريكية (14,629,200,000,000,0 دولار، لاحظ الفارق الهائل ما بين المليون وبين التريليون!!) من الواضح تماماً مقدار هذا الفارق وهو يُعرب عن مدى قوة أليات إنتاج القيمة الزائدة، فى مقابل ضعفها الجلى فى الاجزاء المتخلفة، وسنرى ذلك بمزيد من تفصيل الارقام أدناه. (2): أين تذهب تلك القيمة الزائدة؛ أو الارباح كما يسمونها؟ هل تُضَخ فى مسام الاقتصاد القومى، من أجل تنميته؟ أم تتسرب إلى الخارج لتغذية صناعات (غذائية، إنتاجية، إستهلاكية) تُنتَج فى المراكز المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى؟ إننى أفترض أن التسرب هو الاقرب إلى الدقة!! إنه التسرب الذى تدعمه الطبقات الحاكمة فى الاجزاء المتخلفة، والتى تُمثل إمتداداً للظاهرة الاستعمارية (بل كذلك بعد الحركات الثورية ، فلم تزل القيمة تتسرب كما سنرى) فتلك الطبقات بما يحققه لها هذا التسرب فى القيمة الزائدة، ومن قبله ترسيخ ضعف أليات إنتاجها على مستوى القطاعات الثلاثة المنتِجة، من موالاة للاجزاء المتقدمة، فإنه يُصبح من اللازم حرص تلك الطبقات على إبقاء الوضع الحالى دون أى تغيير يَسمح بعدم تسرب تلك القيمة الزائدة إلى خارج مسام الوطن. أو تدعيم أليات إنتاج القيمة الزائدة الممكّنة من تركيم رأسمالى ممكّن بدوره من الدخول فى حلبة الصراع مع الاجزاء المتقدمة التى سبقته، وأرجو أن يكون من الواضح، كونى أناقش إشكالية تسرب القيمة الزائدة، نتيجة التناقض ما بين إرتفاع حجم إنتاجها وبين ضعف أليات هذا الانتاج، ولا أناقش إشكاليات تسرب الفائض. يبقى أمر من المتعين معالجته هنا وإنه ليثير الالتباس ربما لدى البعض؛ فلقد قلنا لتونا أن الرأسمالى يتحصل على مكاسبه، على أساس المعدلات المرتفعة من القيمة الزائدة، وقلنا كذلك أن الاجزاء المتقدمة قد تجاوزت الان إنتاج القيمة الزائدة النسبى، وقلنا كذلك أن تلك الصفة وهى إرتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة من الصفات اللصيقة بالاجزاء المتخلفة. فما هو السبيل إلى الخروج من هذا التناقض؟ إن السبيل الممَهد لحل هذا التناقض هو فى النظر إلى التطور الذى لحق النظام الرأسمالى نفسه، ففى المرحلة الصاعدة كانت القيمة الزائدة هى مصدر الربح والتراكم(بجانب النهب والمذابح وحروب الابادة) ولذا كان طبيعياً أن لا يرى ماركس حين صياغته "لقانون ميل الربح للانخفاض" سوى (القيمة/الربح) دون حدود واضحة لكل منهما. أما الان وفى المرحلة الهابطة (والانهيار) تنفرج الزاوية 180 درجة ما بين الربح وما بين القيمة الزائدة، وفى الوقت الذى تتقلص فيه القيمة الزائدة ومعدلات إنتاجها، ومن ثم تأخذ الاجزاء المتقدمة وهى ماضية فى تجفيف منابع القيمة الزائدة(سر حياتها)عبر تخفيض العمالة وإنتاج السلع كثيفة رأس المال والتكنولوجيا، فى طريقها إلى الانحدار شيئاً فشيئاً على الرغم من تلك المليارات والتريليونات لانها فى الواقع أرقام وهمية، غير مؤسسة على قواعد إنتاجية ثابتة!! ومن هنا نقول أن الاجزاء المتقدمة فى مرحلة الهبوط، وما تلك الارقام الفلكية أحياناً سوى نتاج خلق وعى زائف صار فناً رأسمالياً خالصاً، أسمه فن خلق الوعى الزائف، وكما سنرى أن ثقافة الاستهلاك، والتى أمست أيديولوجية، وثقافة الاشياء الجديدة وإلقاء القديم، أيا ما كان، فى سلة المهملات. دائماً هى الثقافة التى تتطيل فى حياة النظام حتى الان، وإنما إلى حين لا أعتقد فى طوله كثيراً ولو حتى جيل أو جيلين قادمين. وفى المقابل، ولأن قروناً تفصل فيما بين الاجزاء المتقدمة والاجزاء المتخلفة، فإن الاجزاء المتخلفة هى الان فى طريقها الذى إجتازته الاجزاء المتقدمة من مئات السنين!! وهى الان فى مرحلة إنتاج القيمة الزائدة!! ثالثا:الاقتصاد السياسى للتخلف الاقتصادى: وأقصد به: البَحث فى، وعن، القوانين الموضوعية الحَاكمة لظاهرة تَسرب، القيمة الزائدة وشروطها الموضوعية، وذلك على إعتبار أننا أًمام عِلم تمَ إنجَازه كما ذكرت، له مِن الادوات والاليات ما مِن شأنه تفسير الظاهرة مع تقديم مجموعة معرفية من الافكار بشأنها، بشكل عِلمى، على الصعيد الاجتماعى. إهمية التحديد: كان مِن المهم، ذلك التمهيد بإبراز التحديدات السابقة بشأن(الاقتصاد السياسى)و(التخلف) و(الاقتصاد السياسى للتخلف) ويَرجع ذلك إلى أن المسألة التى سنتناولها أدناه، وهى (تجديد إنتاج التخلف) بالتطبيق على بلدين احداهما فى امريكا اللاتينية، وهى فنزويلا، والثانية فى افريقيا، وهى السودان؛ إنما يرتبط تحليلها بالوعى الناقد بما نقصده حينما نقول: الاقتصاد السياسى للتخلف. إذ أعترف أن التحديدات السابقة تعد غير مألوفة على الاقل بالنسبة للنظرية الرسمية التى تتجاهل الظاهرة الرئيسية (تجديد إنتاج التخلف) وتذهب إلى حيث أرقام خط الفقر واحصائيات الجوعى والمرضى، ومستويات الدخل، ونسب التضخم، وبيانات الافلاس والكساد دون أن تطرح السؤال المركزى الذى يقول:"لماذا تستمر حالة التخلف؟ وفى عالمنا العربى بوجه خاص، على الرغم من أن السبب الرئيسى لهذه الظاهرة وهو الاستعمار قد إنتهى، ومع ذلك لم تزل حالة التخلف قائمة وتجدد إنتاج نفسها. فلماذا؟ الاجابة على هذا السؤال تحديداً هى التى ننشغل بها أدناه. من خلال تحليل ظواهر الصراع الاجتماعى والاقتصادى فى كل من فنزويلا والسودان، كنموذجين للبحث؛ ولنذهب أولا إلى أمريكا اللاتينية. تحديداً جمهورية فنزويلا البوليفارية. (2) جدلية الصراع الاجتماعى والاقتصادى فى فنزويلا: الان، وبعد مرور ما يقارب"عشر سنوات"على أحداث الانقلاب الفاشل الذى حدث ضد الرئيس هوجو تشافيز، رئيس فنزويلا، لم تزل بعض فصائل التيارات الفكرية المهيمنة فى حقل اليسار، وطبعاً منظروا الامبريالية مِن باب أولى، لا تتمكن من تجاوز الرؤية إلى ما هو أبعد من مجرد إنقلاب فاشل على حكومة شرعية، ومِن ثم فقدت المسألة الفنزويلية كُل مضمونها، فبدون النظرة الجدلية، راح البعض طارحاً المسألة بشكل لا يختلف كثيراً عن آلاف الصراعات التاريخية...مَن لا يملكون ضد مَن يملكون... الفقراء ضد الاغنياء، دون أى إلتفات للدور الحاسم لقانون الحركة الحاكم للتطور الاجتماعى. الديالكتيك. تبلور الظاهرة: فى يوم12/4/2002بدأت الانظار، واليسارية على وجه الخصوص، تتجه صوب فنزويلا. وسنخص بعضاً من فصائل اليسار تحديداً لكونها تُمثل، فى هذه المسألة تحديداً، أعلى مراحل نضج التفكير الجمعى المبتذل، للاسف، وسيكون طرازه هو السائد... أن أهمية المسألة الفنزويلية إنما تنبع مِن ثرائها على صعيدى الفكر والواقع وقدرتها على إثارة العديد من القضايا الجوهرية فى معظمها، وإمكانيتها رسم خطوط منهجية عريضة نستطيع من خلالها أن نفهم فهماً ناقداً مُجريات الامور والاحداث الانية فى العالم الرأسمالى المعاصر، وعلى وجه الخصوص الكيفية التى تمت مِن خلالها العملية التاريخية التى كونت إقتصاداً عالمياً بمستويات مختلفة من التطور والتقدم والنمو. الكيفية التى أنشأت التخلف الاجتماعى والاقتصادى"كظاهرة تاريخية"فى بعض أجزاء الاقتصاد العالمى. ففى هذا التاريخ12/4/2002 أُعلن تنحية رئيس الدولة المنتخب هوجو تشافيز، وتولية بدرو كارمونا، بيد أن هذا الاعلان لم يستمر لأكثر مِن يومين؛ إذ عاد تشافيز إلى"ميرا فلوريس"القصر الجمهورى مرة أخرى فى 14/2/2002 رئيساً شرعياً لفنزويلا البوليفارية، وتم نفى كارمونا إلى كولومبيا. ومنذ اللحظة الاولى للاحداث وحتى كتابة تلك السطور، لم تَزل بعض الفصائل فى حقل اليسار(ومنظروا الامبريالية مِن باب أولى) وبعد تلك السنوات، لم تزل لا ترى فى المسألة الفنزويلية التى طرحت نفسها فعلياً فى12/4/2002 بإعلان تنحية هوجو تشافيز وتولية كارمونا (جنرال النفط) وإنتهت واقعياً فى 24/3/2003 بعودة تشافيز رئيساً لفنزويلا والاطاحة بالمعارضة العميلة للامبريالية الدولية!! وعلى طريقة النصوص إذا تكررت تقررت واذا إنتشرت تأكدت، لم تَزل تلك التيارات لا ترى المسألة إلا أدائياً ولا تتمكن من مغادرة النظرة الخطية التى يُمثل الصراع الاجتماعى الراهن، بجميع مظاهره، فى فنزويلا، بمقتضاها مجرد حالة إصطدم مِن خلالها فكر ثورى راديكالى مع فكر إنتهازى رجعى، أو لحظة تاريخية تَصَادمت فيها السلطة المعزَزَة بإرادة جماهير تَسكن مدن الصفيح مع معارضة إنتهازية ومتواطئة، وتعتبر مِن ثم المسألة برمتها مثالا ممتازاً جداً (وتعليمى مناسب، شبيه بالدرس ما بين المغرب وبين العشاء) للتدليل على القوة الكامنة فى الشعوب، وقُدرة الجماهير على تقرير مصيرها، وإمكانية قيامها بإعادة توزيع ثرواتها، وإستطاعتها إختيار مَن يمثلها ويعبر عن مصالحها. هنا يتوقف اليسار. إذ تُمثل نقطة البدء غير الصحيحة نقطة النهاية. إرتباك: لقد توقف فكر التيار المهيمن فى هذا الحقل عند تلك الاستنتاجات السهلة والمضمونة والجاهزة والتى أفرغت المسألة مِن مضمونها المتعين فحصه، وحولتها إلى ظاهرة دعائية فارغة كالذى حدث، على سبيل المثال، عقب إعلان سحب السفير الفنزويلى مِن تل أبيب فى يوم3/8/2009وصار الصراع الراهن فى فنزويلا، بعد تصفيته، لا يختلف، كما ذكرنا، اللهـم إلا جغـرافياً وتاريخياً عن آلاف الصراعات التى ناضل مِن خلالها المظلـوم فى وجـه الظالم. مَن لا يملك قبل مَن يملك (هاكم كراسات التعميم والموجزات الاولية بكامل بهائها !!) إن التيارات المهيمنة حال سعيها لفهم الظاهرة(هناك، وهنا أدهى وأمر) لم تؤمن بأهمية الوعى الاولى والرئيسى بطبيعة التكون التاريخى الخاص بطبقة البروليتاريا النفطية فى فنزويلا، تلك الطبيعة الخاصة التى مكنتها من ناصية التفاوض على الصعيد العالمى، وأهلتها للتحالف مع رأس المال، وإنما إبتداءً من سيطرته عليها، وسعيها، بالتوازى، للحفاظ على المكاسب الإجتماعية التى حققتها على الصعيد الاجتماعى. كما لم تَتَمكن تلك التيارات وهى تلوك المسألة الفنزويلية مِن إجراء التمييز فى حقل الاقتصاد الريعى المنجمى(1) وهو حال فنزويلا، بين الدولة صاحبة الدخل وبين الشركة الرأسمالية المستثمِرة(أجنبية كانت أو وطنية) إذ أن ناتج البير أو المنجم يجرى تصديره ومِن هنا تتحدد شروط ضَخ الاستثمارات فيه (بمراعاة كلفـة الاستبدال المنجمى) تلك الشـروط تتيح فى نفس الوقت تحقيق (ربح) للرأسمال المستثمَر و(ريع) بالتناقض على المستوى الدولى بين الدولة المالكة ورأسمال الاحتكارات التى تهيمن على ظاهرة الاثمان الدولية. ولا داعى هنا للتأكيد على أن الظاهرة التى ننشغل بتحليلها إنما ننظر لها فى سياق ظاهرة أكبر وهى ظاهرة تجديد إنتاج التخلف. فرضيات تحليل الظاهرة: إن تلكَ القدرة الَمَحدودة للتيارات الفكرية المهيمنة فى حقل اليسار، والتنظير الامبريالي من باب أولى، لم تفوت عليها فقط فرصة رؤية الدائرة الفِكرية الاولى (وهى تَحوى ما هو لازم مِن الافكار، ولكن غَير كافٍ) والتى تُحيط بالظاهرة محل المشاهدة والملاحظة؛ بل ومنعتها، بالضرورة، مِن بلوغ الدائرة الثانية (الاكبَر والارحَب) والتى تَحتوى على مَجموعة مِن الفرضيات المنهجية، والتى يُمكَن مِن خلال تحقيقها، على نحو علمى، العلو بالظاهرة عن كل ما هو ثانوى، وفحصها بمزيدٍ مِن الوضوح بعيداً عن كُل ما هو سرابى مُضلل. وتَتَبدى تلك الفرضيات فى النقاط الفكرية التالية: (1) الصدور عن الرؤية الهيكلية، وصولاً إلى الوضع الراهن، من خلال الوعى بتاريخ الرأسمالية(2)والكيفية التى بلورت العدوانية المباشرة لرأس المال الاوربى الاستعمارى على مجتمعات الاقتصاد المعاشى بكُل خصوصيته، وبكُل حضارته الانسانية المدهشة: الازتك، الانكا، فى أمريكا اللاتينية، وفنزويلا جزء لا يتجزء من أجزائه غير المتجانسة، وبحصول الصراع الجدلى بين أسلوب الانتاج الرأسمالى، الناشىء آنذاك بمنتهى القوة والعنفوان، ومجابهة المنتِج الوطنى فى المستعمَرة، والذى كان فى الاصل مالكاً لشروط تجديد إنتاجه، تبدأ العمليـة التاريخية الدامجة المتزامنة مع ضخ المزيد مِن قـوة العمل(المستورَدة، والمقتنَصة) مِن خـلال تجارة، غير إنسانية ولا رحمة فيها، سَيطر عليها أنذاك التاج الاسبانى والتاج البرتغالى، وتبعهم فى ذلك فيما بعد باقى القوى الاستعمارية الاوربية. (2) فرض الزراعة الاحادية على أغنى أراضى قارة أمريكا اللاتينية وأخصبها وأوفرها إنتاجاً: البرازيل، باربادوس، جـزرسوتابنتو، ترينـداد وتوباجو، كوبا، بورتوريكو، الدومينيكان، هاييتى، الامر الذى كَون، تاريخياً، بلداناً كالاكوادور يتوقف مصير سُكانِها على تقلبات الاثمان العالمية للبن أوالكاكاو، أوالموز!! هنا يجب الوعى بالكيفية التى تمت من خلالها عملية تعميق هذا الشكل مِن الزراعة مِن خلال هيكلة إقتصاديات بلدان القارة(3) على نحو يخدم، بإخلاص، إقتصاديات الاجزاء (الاستعمارية) بجعل بلدان القارة مورداً دائماً للمواد الاولية، الحال الذى أفضى، بعد إستنزاف التربة، إلى إستيراد الطعام، فالارض أقسمت أن لا تُنتِج سوى المحصول الواحد، المحصول الاستعمارى: سكر، كاكاو، مطاط، بن، قطن. وهو الامر الذى تزامن مع نشوء المزرعة الاستعمارية، وتبلور الطبقات الاجتماعية المكوَنة تاريخياً فى ركاب رأس المال الاجنبى، الاسبانى والبرتغالى والانجليزى والهولندى والفرنسى، ثم الامريكى كأمتداد للهيمنة والسيطرة، ومِن هنا نشأت أرستقراطية السكر، وأوليجارشية الكاكاو، وبخاصة فى كاراكاس الفنزويلية مع نهاية القرن السادس عشر، كما ظهر، أيضا، أثرياء الغابة (المطاط) وأباطرة البن. تنهض هذه الطبقات، فى حركتها الاجتماعية المتعاديّة والمتناقضة، فى تدعيم بنية الخضوع والهيمنة، وتكريس عوامل التخلف التاريخى لدول القارة، إذ لا توجه، ولا يمكن أن توجه، تلك الأرباح إلى الحقول الاستثمارية الوطنية، بل يُعاد ضخها فى نفس العروق...إلى الخارج . (3) دور متطلبات"العملية التاريخية الدامجة"فى قلب الميزان الديموجرافى(4) فى معظم أجزاء القارة وهو الامر الذى يتعين معه الوعى بأمرين: أولا: طبيعة نمط الانتاج الذى إستخدمته الاقتصاديات المستعمِرة فى سبيل إنهاك الاقتصاديات المستعمَرة وتصفيتها مادياً، وسلبها لشروط تجديد إنتاجها. ونمط الانتاج هذا، ثانياً، والذى إستخدمته القوى الاستعماريّة إنما يحتاج (لدورانه حول السخرة والعبوديّة) إلى قوة عمل وفيرة، أكثر مِن وسائل الانتاج (مواد العمل وأدوات العمل) ولذا سيكون مِن الضرورى أن تقوم قوى الاستعمار الاوروبى بضخ نحو 8 مليون إنسان (عبد) إفريقى إلى مناطق البرازيل وغرب الانديز وجيانا فى الفترة مِن 1550 وحتى 1850 بعد أن أباد الاستعمار السكان الاصليين!! تركز هذا الضَخ فى معظم جزر الكاريبى ومناطق زراعة القصب ومناجم الذهب ومزارع البن. الامر الذى أفضى إلى تَكون طبقة (الكريوليس) والتى ستنهض بدور هام فى سبيل ترسيخ الهيمنة الاستعمارية حتى بعد تحولها شطرالقارة الافريقية إبتداءً من النصف الثانى من القرن الثامن عشر. فلقد كرس الاستقلال فى بداية القرن التاسع عشر تحويل السلطة من المستعمِر إلى أيدى الملاك العقاريين والبورجوازية الكمبرادورية، عقب ذلك إستمر التحويل وتدعيمه على أمتداد القرن إزاء تكثف التبادلات مع المتروبول الجديد، بريطانيا العظمى. يجب هنا الوعى بالكيفية التاريخية التى من خلالها تبلور التاريخ النقدى للهيمنة الامريكية فى القرن التاسع عشر، بعد سلسلة من العلاقات الجدلية بين القوى الاوربية المتصارعة على خيرات المستعمرات(5) وعلى مَن عليها مِن بشر(هولندا، إنجلترا ،فرنسا، روسيا، النمسا، المانيا، إيطاليا، بروسيا، الدولة العثمانيّة) وإنتهاء بالحرب العالمية الاولى التى خرج منها الاقتصاد الاوروبى حطاماً، بينما خرجت الولايات المتحدة الامريكية كأغنى وأقوى دولة رأسمالية فى العالم يزيد مجموع أرصدتها الذهبية عن مجموع الارصدة الذهبية التى تملكها روسيا وفرنسا والمانيا وبريطانيا؛ وكأن الحرب لم تفعل شيئاً سوى نقل ثروات أمريكا اللاتينية مِن أوروبا إلى الولايات المتحدة الامريكية. يتعين هنا الوعى بالظروف التاريخية التى سادت فى القرن التاسع عشر، والتى تمكن الذهب خلالها مِن إرساء الاثمان المعبَر عنها بعملات وطنية مختلفة نظير سلع تم إنتاجها فى أماكن متفرقة من العالم وفى ظل ظروف إنتاجية مختلفة. ولم يكن مِن الممكن للذهب أن يُؤدى هذه الوظيفة إلا إبتداءً مِن تَداوله كنقود فى داخل الإقتصاد الرأسمالى القومى الاكثر تطوراً والذى كان فى سبيّلهِ للسيّطرة على الجزء الأكبر مِن المعاملات الدوليّة. الاقتصاد البريطانى. وتُمكِن قاعدة الذهب الدولية بدورها رأس المال البريطانى مِن تأكيد هيمنته فى داخل الاقتصاد العالمى، وهى هيمنة إستمدها، كما يَقول أستاذُنا الدكتور محمد دويدار، مِن تفوق الانتاجية النسبية للعمل عمقاً ومدى، وبفضل هذه الهيمنة يُصبح الاسترلينى، العملة الوطنية البريطانية، سيد العملات دولياً، ويمكن أن يَحل مَحل الذهب لعملات بلدان أخرى تخضع لهيمنة رأس المال البريطانى. وهكذا تحل هيمنة رأس مال إحدى البلدان على الصعيد الدولى مَحل سلطة الدولة على الصعيد القومى، وتُمكن هذه الهيمنة عُملة رأس المال المهيمن من أن تلعب فى المعاملات الدولية دور النقود الدولية، سواء أكانت هذه العملة تستند إلى الذهب أو لا تستند، وإن كان مِن الضرورى أن تَبدأ فترة سيطرتها التاريخية، بحكم تاريخية النقود، بالاستناد إلى الذهب(6) ويَكون مِن الطبيعى عند إنتقال الهيمنة مِن رأس مال قومى إلى رأس مال قومى آخر أن تَرث عُملة المهيّمن الجديد وظيفة النقود الدولية حالة بذلك محل عملة رأس المال الذى فقد هيمنته على الاقتصاد الرأسمالى الدولى. ذلك ما حدث فى فترة الحربين العالميتين عندما فَقَد رأس المال البريطانى هيمنته على الاقتصاد الدولى (تاركاً الاقتصاد الدولى كى يُقسم عدة كتل نقدية) فَقَد ظهر رأس المال الامريكى كى يَفرض"هيمنته"، ولكى تأتى الحرب العالمية الثانية لتؤكد الهيمنة الجديدة التى تَفرض كل تبعاتها فى الفترة التالية للحرب. (4) يتعين الاستمرار فى البحث وصولاً للكيفية التى مِن خلالها يظهر الاقتصاد الفنزويلى، كاقتصاد متخلف، مركب مِن قطاعات منعزلة أو شبه منعزلة، لا تُقيم فيما بينها إلا مبادلات هامشية، بينما يتم الجزء المهم والجوهرى مِن مبادلاتها (وبخاصة النفط) مع الخارج، وبينما يَعكس قطاع الزراعة (الذى يقع تحت وطأة إعادة الهيكلة العالمية) مظاهر الاندماج كافة فى السوق الدولية، بمعنى الانتاج إبتداءً مِن السوق وتبعاً لقوانين السوق، أى الاندماج فى منظومة الفائض والهدر الاجتماعى، وإنما إبتداءً مِن سيادة قوى إنتاجية متخلفة (تركز ملكية، تخلف أساليب الاستغلال، الاحتفاظ ببعض مظاهرالاقتصاد المعاشى، الانفصال التاريخى للريف عن المدينة) وعلاقات إنتاج شفافة (أقرب إلى القنانة أو العبودية) لم يسمحا بعد، أى قوى الانتاج وعلاقاته، بتطورات جدلية ملحوظة على صعيد رد الفعل الاجتماعى، فإن القطاع الصناعى يتكون، إضافة إلى الشركة الام، مِن منشأت عملاقة (أجنبية أو فروعا مِن وحدات محليّة) تقع مراكزُها المحركة خارج الاقتصاد الفنزويلى، وعلى حين تقوم تلك الوحدات الضخمة باستخراج الثروة المنجمية (فحم، حديد، نفط) فإنها تَستخرجها لا لكى تغذى بها صناعات محلية وليدة، بل إنها تصدرها لتستخدم فى تغذية مجموعات صناعية مُعقدة فى المراكز المتقدمة. وبخاصة بداخل الاقتصاد الامريكى الوريث التاريخى للهيّمنة الاستعمارية الاوربية. (5) تبرز طبقة البروليتاريا، النفطيّة، الفنزويلية، كَطبقة أفقدها الزيت وعيها الطبقى، ذات طبيعة تاريخية خاصة، تمكنها مِن ناصية شروط التفاوض على الصعيد العالمى، لا سيما المنظمات الدولية (التى يَستَعين بها رأس المال إستقداماً أو إستبعاداً وفقا لمصلحته) تلك الطبيعة الخاصة بهذه الطبقة والتى تَكونت بفعل حركة رؤوس الاموال النفطية فى أوائل القرن العشرين بداخل فنزويلا، أهلتها للتحالف مع رأس المال، وإنما إبتداء مِن سعيها نحو الحفاظ على المكاسب التى حققتها على الصعيد الاجتماعى، إذ وُلِدَت كطبقة محدودة نسبياً وظهرت شرائحها العُليا ذات إمتياز نسبى كذلك، على حين كانت الازمة الزراعية تبدو عَبر الافقار المتواصل للفلاحين وتعميق الانفصال التاريخىّ للريف عن المدينة. (6) مِن أبجديات درس الصراع الاجتماعى الراهن فى فنزويلا، فى إطار تجدد إنتاج التخلف، الوعى بكونها دولة نفطية، وبالتبع ريعية، وإن تحكم طبقة إجتماعية خاصة فى عملية النفاذ إلى المورد فى الاقتصاديات الريعية المنجمية والوعى بما يثيره ذلك مِن صراعات جدلية بين باقى طبقات المجتمع، هو مِن أوليات فهم الطبيعة الخاصة بتلك الاقتصاديات، وفنزويلا لا تُمثل أدنى إستثناء. إذ تَحكم كِبار الملاك العقاريون، وعائلاتهم مِن بعدهم، والبرجوازية الكمبرادورية، منذ البدء فى عملية النفاذ تلك، كطبقات كُونت تاريخياً. كُونت كطبقات مهيمنة، ثم ونامية فى ركاب رأس المال الاجنبى المسيطر. بل أنه وبعد التأميم، فإنه يَجدر بنا أن نتسأل مَن هو مالك الدولة؟ فتأميم الموارد الاساسية لا يَضمن فى حد ذاته إعادة توزيع الدخل لصالح الاغلبية، كذلك لا يهدد بالضرورة لا سلطة ولا إمتيازات الاقلية المسيطرة. جدلية الربح والريع لا يُمكن بتصورى الحديث عن فنزويلا، بل عن أى جزء من أجزاء الاقتصاد العالمى المعاصر، على الصعيد الاجتماعى والاقتصادى والسياسى، دون الاحاطة الواعية والناقدة بما هو مُدون عاليه مِن فرضيات منهجية قابلة فى جوهرها للتشكيل والتشكل تبعاً لمقتضى فهم وإستيعاب وتحليل الظاهرة مَحل المشاهدة والملاحظة، إذ يَجب أن يأتى الطرح المنهجى بفرضيات حاوية لترتيب منهجى مُعيّن، وفقاً للحالة الانية المراد درسها، فلكى يمكن فهم الظاهرة وتفسيرها بردها إلى الكُل الذى تنتمى إليه، يتعين أن يقف الطرح المنهجى على مُرتكزين رئيسيين؛ المدخل الادائى والمدخل الهيكلى، أدائى ويهتم بالتعرف على مُجمل الاحوال والاوضاع الانية، تحديداً: جغرافياً وسياسياً وإجتماعياً وإقتصادياً، وهيّكلى يَنشغل بالمعاينة التاريخية للكيفية التى تَكونت معها (إقتصادياً) بُلدان القارة اللاتينية، على هذا النحو مِن التخلف، بوجه عام، وفنزويلا بوجه خاص، بحثاً فى أسباب التخلف وليس فى أثاره، الامر الذى يُمكننا مِن فهم طبيعة الصراع الجدلى بين الربح، الذى تُحصله "بتروليوس دى فنزويلا" شركة النفط الوطنية الفنزويلية، وبين الريع، الذى تجنيه الحكومة الفنزويلية، ولا سيما فى اللحظة التاريخية التى يتعادى رأس المال فيها مع السلطة المسلحة كَقوة مضادة، أقول إن ما يَحدث فى فنزويلا هو فى حقيقته صِراع بين ما قد أسميتها بــ (البتروليتاريا) وبين السلطة. بين قوةِ العمل المتحالفة مع رأس المال والمتناقضة معه فى نفس الوقت وبين النظام المعَبِر عن الجماهير ومصالحها، هى أيضا متناقضة وإن جمعتها مصلحة أنية واحدة. وبعبارة أكثر دقة وتحديداً فإن الصراع الراهن إنما يَتبدى، وإنما إبتداء من ألية تجدد إنتاج التخلف، فى مظهَرين: أولهما: صراع جَدلى ما بين(الربح) وبين(الريع) مِن جهة. وثانيهما: صراع جَدلى بين (البتروليتاريا) وبين (السُلطة) مِن الجهة الثانية. والمظهر الثانى هو التعبير الجدلى عن المظهرالاقتصادى الاول. ولأن التيارات المهيمنة(ومِن باب أولى تيارات التَنظير الامبريالى) مُنشَغلة بحيازة الاستنتاجات المضمونة والسهلة، كما ذكرنا أعلاه، فلم تُبصر، ومَن أَبصَر أَصابهُ الارتباك، مدى أهمية ما ثيره المسألة مِن إمكانية فَتح العديد مِن الملفات المطوية بذهنية تَتَجاوز الرؤية الميكانيكية (التى إرتد لها كثيرون) إلى رحابة الفَهم الجَدلى للظواهر الاجتماعية... الرَحَابة التى تُتيح فَهم أوضَح وأعمَق وغَير مُلتَبس لإمكانية "تحالف الأضداد". فلقد أفرز الصراع التاريخى الجَدلى الطويل بين قوة العمل وبين رأس المال، وهو صراع جَدلى لا خطى، فى ظروف تاريخية وجغرافية معينة، تحالفاً بين قوة العمل وبين رأس المال فى مواجهة السلطة، إذاً هناك ظاهرة (الصراع الجدلى بين قوة العمل وبين رأس المال) تلك الظاهرة تُفرز ظاهرة (البتروليتاريا) فى مواجهـة ظاهرة ثالثة (السلطة) فيتطور الصراع الاجتماعى مِن صراع بين قوة العمل وبين رأس المال، تطورا جَدلياً كى يَنتقل الصراع إلى مرحلةٍ أخرى تظهر فيه السلطة كأحد الاطراف المتَنَاقضة مع المفرز الجدلى المتمثل فى (البتروليتـاريا) هذا تحديداً ما لا تقوله كراسات التعميم، ومِن ثم لا مَفر مِن لّىّ عنق الظاهرة لحشرها حشراً فى الادراج المعدة سلفاً، يتعين إذاً أن يكون عماد الاشكال النظري الذى نَنَشغل به هنا متعلقاً بالمنهج الجَدلى بوجهٍ عام، والذى يَتَمثل هنا فى فَهم إمكانية"تحالف الأضداد" فى سياق فهم مختلف"للتخلف" بصفةٍ خاصة. لكن التيارات المهيمنة(والتنظير الامبريالى مِن باب أولى) ولإعتيادها النظرة الخطية لم تَتَمكن مِن إستيعاب هذا الوجه الذى يَظهر به الجَدل على المسرح الفنزويلى. وهو الامر الذى يرجع فى التحليل النهائى لذلك الانسياق وراء السهل والمضمون، الانسياق الذى يتبلور فى عدم القدرة على إجراء الفهم المتجاوز للجدل ومن ثم للتخلف كظاهرة تاريخية وإجتماعية، يمكن الخروج منها وإنما إبتداءً من فهمها، فلم تزل قناعاتى كاملة بأن حل أية مشكلة يكمن فى مدى صحة طرحها. وإن الطرح السليم لظواهر الصراع الاجتماعى فى الاجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر يتعين، من وجهة نظر الباحث، أن يأتى فى إطار الوعى الناقد لا لجدلية الصراع فحسب وإنما للحقل الذى تعمل بداخله هذه الجدلية، وهو حقل تجدد إنتاج التخلف. ففى يوم 4/9/2010 أعلنت وكالة أنباء "رويترز" خبراً مؤداه نجاح فنزويلا فى "إنتاج" أحد أنواع أنابيب الحفر، التى تستخدم فى التنقيب عن النفط وهى تحتاج إلى تقنية معينة ساعدتها فيها موسكو، الامر الذى أسعد ملايين الفنزويليين، وقد سبق المصريون، الفنزويليين، فى تلك (السعادة!!) حينما أعلن وزير النفط السابق"سامح فهمى"أن مصر نجحت أخيراً فى "إنتاج" أحد أنواع رؤس أنابيب الحفر". فما دلالة الخبرين؟ الدلالة فى الخبرين تتحصل فى (إنتاج أحد وسائل الانتاج) بدلاً من(شرائها من الخارج) والفارق ما بين الفعلين، فعل الانتاج وفعل الشراء، فارق كبير، فالاول لا يسمح بخروج القيمة الزائدة المنتجة بداخل الاقتصاد الفنزويلى إلى الخارج فى صورة دولارات تذهب إلى الاجزاء المتقدمة المنتجة لتلك الوسائل الانتاجية التى غالباً ما تحتكرها لغلبة عنصر التكنولوجيا وعنصر كثافة الرأسمال عليها، ودلالة أخرى يمكن إستخلاصها تدعونا إلى فتح ملف هام ومصيرى وهو ملف (إنتاج وسائل الانتاج) إذ أن (جُل) وسائل الانتاج المستخدمة فى مجال إنتاج وتسويق وتوزيع النفط تنتمى إلى المصانع المنتِجة فى الاجزاء المتقدمة، ولا يكون للدولة، بمعنى أدق السلطة فى الدولة، سوى مقابل بيع المادة الخام دون أدنى مشاركة كما ذكرنا فى أى مرحلة من مراحل التنقيب والاستكشاف والحفر والانتاج والتسويق والتوزيع، وما المشاركة الوحيدة سوى من خلال قوة العمل(المنتجة للقيمة الزائدة) التى كذلك تكون فى بعض البلدان المنتِجة تُنافس العمالة الوطنية وبصفة خاصة فى حقل (العمالة الفنية) فإن الملف الواجب فتحه هنا هو مدى ما يُصاحب عدم إنتاج وسائل الانتاج من تسرب للقيمة الزائدة المنتجة داخلياً إلى الخارج؟ وإن الاجابة على السؤال تكون يسيرة على أرض الواقع إذ ما ألقينا النظرة ولو السريعة والعامة جداً على واحد من مواقع إنتاج النفط فى ماراكايبو مثلاً، فلن نجد سوى أن (جُل) وسائل الانتاج التى تستخدم فى الانتاج إبتداءً من التنقيب وحتى الشحن والنقل والتفريغ كلها صناعة أجنبية تمت فى مصانع الاجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى الدولى المعاصر، ولن نتمكن سوى من رؤية منتجى القيمة الزائدة (عمال النفط الفنزويليين) وهم يستخدمون تلك الوسائل أثناء عملية إنتاجهم. الامر الذى يعنى المزيد من إمتصاص الاجزاء المتقدمة للقيمة الزائدة المنتَجة فى الاجزاء المتخلفة، وتكتمل الحلقة بأن تستورد فنزويلا ليس فحسب أدوات وربما مواد الانتاج وإنما تستورد أيضاً وسائل المعيشة، وبصفة خاصة الغذاء والسلع الاستهلاكية المختلفة، وكأن ما سوف يدفع من أجور (لعمال النفط على سبيل المثال) سوف يذهب مرة أخرى إلى الاجزاء المتقدمة المنتجة، وطبعاً كل ذلك فى سياق إعادة إنتاج التخلف"كعملية إجتماعية "مكتملة القوى والعناصر والاطراف" من إرتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، المتناقض مع ضعف(أليات) إنتاجها، ومن خلال هذا التناقض ما بين الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة وبين هشاشة وضعف ألية إنتاجها، تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً إلى الاجزاء المتقدمة من الاقتصاد الرأسمالى العالمى المعاصر" وفلننتقل الان إلى القارة الافريقية القارة الشقيقة لأمريكا اللاتينية واللتان يشتركا فى تاريخ طويل من التخلف الاجتماعى والاقتصادى. (3)
جدلية الصراع الاجتماعى والاقتصادى فى السودان يمكن للباحث فى الشأن السودانى، وإنما إبتداءً من الوعى بألية تجدد إنتاج التخلف على نحو ما ذكرنا سلفاً، أن يرصد عدة ظواهر فى إطار الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن فى السودان، أبرزها الانفصال والصراع فى دارفور، دون إغفال الصراع فى الشرق بالطبع، ولسوف أفترض أدناه إمكانية دراسة هذه الظواهر التى تعكس الصراع الاجتماعى والاقتصادى الراهن فى السودان من خلال الخط المنهجى الذى يتكون من الخطوط الفكرية الاتية: (1)يتبدى الصراع فى السودان، دون إغفال الصراع فى الشرق، على مستويين: (شمال/جنوب) و(جنوب/ جنوب) والمستوى الاخير هو أساساً صراع بين القبائل التى (تمتلك) داراً وتلك التى لا (تمتلكها) وإن الخط الفكرى المنشغل بطبيعة الصراع على المستويين إنما يوجب الوعى: ليس فقط بالصراع ما بين الشمال وبين الجنوب. أو بالصراع ما بين بعض أجزاء الجنوب وبين بعض أجزاء الجنوب الاخرى؛ وإنما يتعين الوعى كذلك بالصراعات الداخلية بداخل الشمال، وبالصراعات الداخلية بداخل الجنوب، نفسيهما. (2)لا يُمكن فهم الصراع، من الاساس، دون الوعى بفكرة (القفص الكبير) الذى وُضِعت بداخله أعراق وثقافات وديانات مختلفة تمام الاختلاف ثم أُطلِقَ على هذا القفص الكبير إسم (السودان). (3)لا يتطور المجتمع تطوراً خطياً، وإنما يتبدى التطور الديالكتيكى للمجتمع السودانى بالنظر إلى طبيعة الحركات المتصارعة وأداءها اليومى عبر الزمن، إذ تتطور هذه الحركات وتُطور معها المجتمع ككل من خلال أداءات يومية لمصالح متناقضة، ويمكن رؤية تلك الاداءات المتناقضة من خلال الاداء اليومى كما ذكرت عبر الزمن فى: الكر والفر، الاقدام والاحجام، الهجوم والدفاع، النصر والهزيمة، العداء والمصالحة، التحالف والانفصال، فهذا التناقض، ومفرزاته، هو الذى يدفع المجتمع نحو التغيّر، أياً ما كان نوع التغيّر، ولقد رأينا: جيش السودان/جيش الرب (ضد) القوات الشعبية الاوغندية/الجيش الشعبى لتحرير السودان، الجنجويد (ضد)الافارقة فى دارفور/جيش السودان/جيش الرب/جيش تحرير السودان، أريتريا/مؤتمر البجا(ضد)المعارضة الاريترية/الجيش السودانى، وهكذا...ولم يزل الصراع والتطور مستمرين. (4) تبدأ العملية التاريخية الدامجة للسودان فى الكُل الرأسمالى على الصعيد العالمى، وتهيئته كمصدر للقيمة الزائدة، ومن ثم فقد شروط تجديد إنتاجه، مع أول إتصال فعلى مع قانون الحركة الحاكم لألية عمل النظام الرأسمالى (ن - ق ع - "قوة عمل"+ و أ"وسائل إنتاج"- س- Δ ن) على يد عدوانية رأس مال دولة محمد على، ومن بعدها بريطانيا، الشارعة، آنذاك، فى الدخول فى عملية التركيم الرأسمالى والتى تستلزم (ن) و (ق ع) و ( و أ) الامر الذى جعل السودان هدفاً رئيسياً من أجل الاستحواذ على مصادر هذا التراكم: المعادن، والعبيد، والغذاء. الامر الذى إستصحب ضمان ولاء نخبة معينة يتم صنعها تضمن إستمرار تدفق القيمة الزائدة مع المعادن والخام والغذاء حتى بعد الخروج من البلد، كما إستصحب تقسيم المجتمع إلى أجزاء غنية وأجزاء فقيرة. (5) ودون أن ننسى الصراع فى الشرق، يتطور المجتمع السودانى من خلال الصراع على صعيدين: الشمال/الجنوب، والجنوب/الجنوب. والاخير مفهوم فهو، كقاعدة عامة، من أجل الماء والكلأ. أما الاول فهو من أجل بسط نفوذ وهيمنة الشمال على الجنوب الغنى بطبيعة حاله، وبصفة خاصة عقب تفجر النفط. (8) وإن تلك الانشقاقات الداخلية التى تكون بين قوى الجنوب بوجه عام لا تتكون بين عشية وضحاها، وإنما هى نتاج تفاعل ديالكتيكى ما بين الرغبة فى الثروة، بما يعنى ذلك معادة للاقوى المهيمن، وما بين الرغبة فى حماية هذا الاقوى والاكثر عدداً، وهذا هو القانون العام لجميع الانقسامات والتطورات على أرض الواقع، وبصفة خاصة جداً بداخل القبائل. (9) وإن أوضح مثل على تطور المجتمعات من خلال التفاعل الديالكتيكى إنقسام السودان نفسه؛ فقد أسفر النزاع الممتد عبر سنوات بين الشمال وبين الجنوب إلى نشؤ دولتين لهما خصائص الدولة الاولى(السودان) وخصائص تُخلقها كل دولة بمعرفتها من خلال الحراك الاجتماعى بداخلها وتفاعل عناصرها الداخلية، ومع الزمن يتم دمج الخصائص القديمة فى الخصائص الجديدة فى كيان يمثل خصائص جديدة تجمع ما بين خصائص السودان وخصائص شمال السودان(العربى)فى الشمال، وخصائص جديدة تجمع ما بين خصائص السودان وخصائص جنوب السودان(الزنج/الأفارقة)فى الجنوب. (10)السودان دولة، أو هكذا صارت بفعل التدخل الاستعمارى، ذات موارد هائلة، وتتركز معظمها فى الجنوب، ومعنى إنفصال الجنوب، حرمان الشمال من تلك الموارد فى مقدمتها النفط، فى حين يحرم الشمال من الوصول السهل إلى المنافذ إلى العالم بحراً، فلا بد من المرور فى أرض الشمال، وإما تكبد مشقة مسافات بعيدة عبر الاراضى الاريترية، أو الاثيوبية، وصولاً إلى البحر الأحمر، ومنه إلى العالم الخارجى. (11) بسبب فقد السودان لشروط تجديد إنتاجه، فهو يعتمد، كأحد الاجزاء المتخلفة، على ما يحدث خارجه فى الاجزاء المتقدمة، التى تتحكم فى مصيره. وما السلطة التى تدعى حب الشعب، والتضحية من أجله، وتسعى إلى أن تستمد من عدوانية الامبريالية قوة دعائية لدى الشارع السودانى، إلا أهم وسائل تسرب القيمة الزائدة إلى خارج المسام، بما يعنى المزيد من التبعية والتخلف. (13) يهيمن على المسرح الاجتماعى الاقتصاد المعاشى أى الانتاج من أجل الحياة، والقليل من أجل السوق، مثل بعض المنسوجات و"المراكيب" أى الاحذية وهى فى الغالب رديئة الصنع فى دارفور مثلاً، إلا أن سائر مناطق النزاع والتوتر تظل مناطق ذات إقتصاد معاشى. عدا بعض الاماكن التى شهدت إستثماراً أجنبياً مباشراً فى بعض المجالات والتى أبرزها الزراعة وما يتعلق بها من تربية الماشية وصناعات الالبان. مع مراعاة أن جُل المصانع، وكل المؤسسات العامة والسيادية والوزارات، والاجهزة القومية، وكل المصارف وكل الشركات تقع فى الخرطوم حيث السلطة والثروة. (14) يكون الاقتصاد المعاشى الذى يُهيمن على مجمل الحركة الاجتماعية هو أفضل ما يمكن بالنسبة للنظام فى العاصمة، فهو الذى يمكنه من تعبئة الفائض نحو المدينة ثم من المدينة إلى الخارج ومن ثم تسرب القيمة الزائدة، ثم الدولارات الامريكية، ثم الاسلحة، ثم الحروب المفتوحة. (15) يتبدى الاطار العام للاقتصاد المعاشى والذى من خلاله يُعبء الفائض (الزراعى) نحو المدينة، ثم إلى الخارج، محملاً بالقيمة الزائدة، كما ذكرنا، فى أن السودان ليس لها أدنى علاقة بالتصنيع، وإنما ينشط القانون العام للرأسمالية (ن - ق ع -"قوة عمل"+و أ"وسائل إنتاج"- س- Δ ن) فى حقل الزراعة ويكون على الفلاح أو العامل الزراعى بعد أن يستقطع من المحصول ما يكفى لتجديد إنتاج نفسه، أن يدفع بالفائض إلى النظام عن طريق علاقة تعاقدية غير متكافئة، إذ غالباً ما تنصب فى صالح الطرف الاقوى. الحكومة. (16) بمعاينة مجمل الوضع الاقتصادى السودانى يتبين أن السودان دولة زراعية بالدرجة الاولى، وما سبق وأن أبرزناه بصدد صناعة النفط فى فنزويلا نكرره هنا بشأن وسائل الانتاج المستخدمة فى حقل الزراعة السودانية فهى جميعها أدوات أجنبية الصنع لا يشارك السودان فى أى مرحلة من مراحل تصنيعها على الاطلاق، اللهم إلا بعض الادوات البدائية التاريخية التى لم يزل الفلاح يستخدمها بنفس الطريقة القديمة، وهى الاخرى فى طريقها إلى التقلص والاختفاء مع ميكنة الزراعة. بما يعنى الاخذ فى التطور بخفض معدلات إنتاج القيمة الزائدة، وتسريع أليات إنتاجها، وهذا التطور لا يمثل طفرة يتميز بها السودان عن غيره، أو دولة ما أخرى عن غيرها، وإنما هو الصفة السائدة للنظام الرأسمالى العالمى المعاصرـ الذى يعمل باستمرار على تثوير عملية الانتاج، وبصفة خاصة وسائل الانتاج. وما يؤكد وجهة نظرنا هذه هو إنشاء مدينة "جياد" الصناعية على بعد 50 كم من الخرطوم، وهى المدينة التى تتوسم فيها الخرطوم أن تقوم بإدخال السودان عالم التصنيع. التصنيف الطبقى قبل الاستقلال يبدأ التاريخ السياسى المعاصر للسودان بإنشاء كيانين:مملكة "الفونج" وعاصمتها سنار، وسلطنة "دار فور" وعاصمتها الفاشر. أُنشِئت الاولى فى عام 1504 والاخيرة فى عام 1650. إشترك الكيانان من الناحية المؤسسية بالعديد من المزايا مع الممالك الاخرى، مثل مملكة "وداى" فى ما يُعرف اليوم بالتشاد، ومملكة "كانم" ومملكة "بورنو" شمال شرق بحيرة تشاد(9) عبر السفانا الافريقية السهلية، التى تمتد من البحر الاحمر فى الشرق إلى نهر السنغال فى الغرب؛ ودول مثل أوغندا وبونيورو- كيتارا فى الجنوب. ويشير المؤرخون المعاصرون، كما يقول الدكتور محمود ممدانى، إلى هذه الكيانات بإسم الدول السودانية.(10) ولقد إستند البناء الاجتماعى فى السودان وإنما منذ النشاة الاستعمارية، على قاعدة سكانية متنوعة قوامها القبيلة، فمن "بجا" فى الشرق على ساحل البحر الاحمر، إلى"نوبيين"فى الشمال، فقبائل"عربية" على طول نهر النيل، وقبائل أخرى متفرقة فى أرجاء الاقليم، إلى مجموعات سكانية"زنجية" و"عربية" بدارفور وكردفان، و"زنجية" خالصة فى الجنوب. تشكل البناء الاجتماعى. ووفقاً للتصنيف الاستعمارى البريطانى، والذى تعامل مع الجنوب كأمتداد طبيعى للمستعمرات البريطانية فى شرق القارة، كما تعامل مع الشمال كإمتداد طبيعى لمصر. فقد تم تقسيم المجتمع السودانى(عقب ترسيم حدوده الاستعمارية) إلى خمس طبقات متميزة: (1)الطبقة الاولى: وتَضم، بالضرورة، المستعمِر، أصحاب الجنسية البريطانية(2) ويَحتل أصحاب الجنسيات الاوروبية الاخرى، العاملين فى السودان المرتبة التالية مباشرة(3) أما أصحاب الجنسية المصرية والجاليات الشرقية الاخرى، فيأتون فى الترتيب الطبقى الثالث(4) ثم فى الطبقة الرابعة، سكان النهر، ويُعرفون بإسم الجلابة الشماليين. وكانوا الطبقة الاولى مِن السكان السودانين(5) وأخيراً الاهالى، وهم الطبقة الثانية مِن سكان السودان ويُمثلون الطبقة الخامسة. التصنيف الطبقى بعد الاستقلال وبينما قَدم التصنيف الاستعمارى الطبقات الثلاث الاولى(بريطانى، أوروبى، مصرى وشرقى) فى التعامل والوظائف فقد قام، فى نفس الوقت، بقسمة السودان إلى شطرين(فى الواقع طبقتين) هما جلابة الشمال، مِن جهة، وباقى الشعب مِن جهة أخرى. ولم تَتَغير تلك الطبقية فى السودان بَعد الخروج الشكلّىّ للاستعمار البريطانى فى 1956، فلم تزل الطبقية مُهيمنة تحت ظِلال القمع والقهر والجوع والفقر والمرض، ولئن حَدث التعديل على النحو التالى: الطبقة الاولى: الشماليون، ويُمثلون نحو (4%) مِن إجمالى السكان، وهم مَن بيدهم السلطة والثروة ويديرون الدولة ويتحكمون فى الطبقات الاخرى، وهم جلابة الشمال (أسهموا بدور فعال فى نقل الكثير من المناطق الجغرافية السودانية مِن الاقتصاد المعاشى إلى إقتصاد السوق) فى التصنيف الاستعمارى البريطانى، إذ يُسيطر الشماليون(كطبقات تابعة لرأس المال الدولى) على دواوين الحكم وإدارة المؤسسات بالدولة، وللتعاون الذى حدث بين جلابة الشمال والاحتلال البريطانى؛ فقد تكفل الاحتلال بتأهيلهم وتعليمهم هم وأبناءهم. وتم تسليم الامر إليهم بموجب مؤتمر جوبا عام 1947 (يتطابق الامر بشكل ملفت للنظر مع ما حدث فى فنزويلا، وتَكَون الطبقات المهيمنة فى ركاب رأس المال الاستعمارى، والذى سلمها الاستعمار حين خروجه مَقاليد الامر، كى تكُون أداته الرئيسية فى إِستكمال أَعمال النهب المنظم) يلى جلابة الشمال أو النخبة أهل الصفوة، الجاليات الشرقية، ويُطلق عليهم (الحلب) وهم يُشاركون الطبقة الاولى فى الهيمنة على الثروة. ويبلغ نسبة الحلب 1% مِن نسبة السكان، وهم ذوى البشرة البيضاء فى الغالب.وهم المسيطرُون على التجارة الاجمالية فى السودان، ويُديرون المصارف، وشركات التصدير والاستيراد. وتُعتبر الحلب طبقة غاية فى الثراء، وتَجد صعوبة بالغة فى الانسجام مع باقى طبقات الشعب. ويُمثل الاقباط المصريون والسوريون الغالبية فيهم. يَلى الجلابة والحلب، العرب السود أو الافارقة مِن ذوى الاصول العربية، كَطبقة ثالثة، وتَبلغ نسبة العرب السود أو الافارقة مِن ذوى الاصول العربية نحو 20% مِن سكان السودان وهم مِن ذوى البشرة السمراء فى الغالب. والعِرق الزنجى ما يميزهم. ومُعظمهم رعاة إبل أو أبقار وأغنام، ويعيشون على هامش المجتمع السودانى، إذ يعيشون فى وضع إجتماعى وإقتصادى بدائى متخلف. وينتشرون فى الاقاليم الطرفية فى السهول الغربية والوسطى وفى الشرق، ولا يشاركون فى الدولة السلطة أو الثروة بشىء على الاطلاق، وغالبية العرب يعيشون بدو فى الشرق، فى حالة رفض للدولة، ومع ذلك فقد تم إستخدامهم كجنود مرتزقة فى حرب الابادة ضد الجنوب، كما إستخدمتهم الدولة فى حربها فى إقليم دارفور، فالعرب السود، كما تردد الالة الاعلامية، يُمثلون القسم الغالب مِن مرتزقة "الجنجويد" المتهمين بإرتكاب جرائم حرب ضد الانسانية فى السكان الاصليين.وفى الطبقة الرابعة. يأتى الزنج المسلمون، وهم مِن السكان الاصليين مِن ذوى الثقافة العربية. ويَبلغ نسبة الزنج المسلمين 50% وعلى الرغم مِن غالبيتهم العددية فهم يتميزون بالجهل والفقر الشديدين، ويتشاركون مع العرب السود فى طريقة التدين والتمازج العرقى. ويتصف الاسلام السودانى ببعد صوفى إمتزج بالطرق الدينية المتعددة ذات الصلة بغرب إفريقيا، وتُعد تلك الطبقة مِن أكثر الطبقات ليس فقط تميزاً فى الفقر والجهل، وإنما فى الاضطهاد والفصل العنصرى، كأحد مظاهر الصراع الطبقى، كذلك. وفى نهاية التراتبية الاجتماعية يأتى الزنج من غير المسلمين وهم كذلك مِن السكان الاصليين. ويمثلون نحو (25%) مِن السكان، وغالبيتهم يَسكنون الغابات الجنوبية والجبال الوسطى. وبوجه عام يُشكل الزنوج مِن المسلمين وغير المسلمين الاغلبية السكانية. ولا يُمكن تبرئة (الزنج المسلمون) مِن التعاون مع جلابة الشمال فى حرب الخمسين عاماً ضد الجنوب، ولربما كانت هناك خطة سرية مِن الطبقة الاولى وتشاركها بقية الطبقات فى إبادة الطبقة الخامسة ومحوها مِن الوجود، هكذا يَعتقد الزنوج غير المسلمين فى الشطر الجنوبى. إذ تعتبر الطبقة الخامسة طبقة منبوذة إجتماعياً، ولا يَربط بينها وبين الطبقة الاولى أى رابط، مما دفع بذلك الشطر الجنوبى إلى الانفصال!! التصنيف القبلى ومِن جهة التصنيف القبلى(11) فإن تِسع مجموعات قبلية تَنحصر بداخلها التشكيلات الاجتماعية: مجموعة قبائل البجا فى الشرق. ومجموعة القبائل النوبية فى أقصى الشمال. ومجموعة القبائل العربية فى الوسط والنيل الابيض وجزء مِن الاقليم الشمالى. ومجموعة قبائل كردفان فى الغرب. ومجموعة قبائل الفور فى الغرب.ومجموعة قبائل المابات والانقاسنا جنوب النيل الازرق. ومجموعة القبائل النوباوية فى النصف الاسفل لوسط السودان (تابعة إدارياً لاقليم كردفان) ومجموعة القبائل النيلية الجنوبية (دينكا، شُلك، نوير) فى الجنوب. ومجموعة القبائل الزنجية الجنوبية فى الجنوب. ولكى تكتمل الصورة نسبياً يتعين أن نشير إلى أن هناك حالة (تُمثل نقطة مركزية فى مجرى التحليل) مِن الاحتقان التاريخى(تدعمها الثقافة القبلية، والنزعة الطائفية) لا يُمكن أبد التعامى عنها، تلك الحالة التى تُمثل الانعكاس القوى والمباشر للارث العبودى، "المعنوى" وفقاً لتعبير منصور خالد، على أقل تقدير، لكُل مِن الشمال، كأسياد قناصين، والجنوب، كعبيد مقتَنَصين، وليس فى تلك التصنيفة أى نوع مِن الاختزال للتاريخ، فثقافة الرق والعبودية والاسترقاق، مِن جهة، لم تزل ترسم الصورة الاجتماعية الكلية، بين شمال(سيد) وجنوب(عبد) بين (أبيض) وبين (أسود) ومِن جهة أخرى فالحفاظ على نهر النيل وجريانه مِن الجنوب إلى الشمال، كان الاساس الذى إرتكز عليه الاستعمار فى عدم تقسيم السودان إلى شمال وجنوب، والان"النفط" فإذا كان العرب والزنوج تقاتلوا فى الماضى حول المراعى، فإنهم اليوم يتقاتلون مِن أجل النفط المتمثل فى إحتياطيات تصل إلى ثلاثة مليارات برميل، يقع أغلبها فى منطقة حدودية مُتنازع عليها بين الشمال والجنوب. جدلية العوز/الهيمنة لقد وجدَ السودانيون أنفسهم، فى شرق الاستوائية بمفردها، وسط صراعات عدة قوى: جيش الرب للمقاومة(LAR/M) وقوات الدفاع الشعبى الاوغندية (UPDF) والجيش الشعبى لتحرير السودان(SPLM/A) والقوات المسلحة السودانية (SAF) وقوات الدفاع عن الاستوائية (EDF) وحركة(12) إستقلال جنوب السودان (SSIM) وكلها (تقاتل بعضها) تحت مسميات مختلفة، وأهداف مختلفة، وإنما الذى يتم تسويقه على صعيد الاعلام العالمى هو حروب الابادة العرقية بمجرد أن يوجد (عرب) وذلك كله على الرغم من أن الصراعات الدائرة لا يمكن الوعى بها وعياً ناقداً وخلاقاً إلا إبتداءً من الوعى بالصراع الطبقى بداخل التنظيم الاجتماعى، فما هو السياق الطبقى فى تلك الحروب؟ أننا سوف نثبت هنا بعض الخطوط العريضة التى تُحدد الاجابة على النحو التالى: أولا: إن العناصر المتناحرة، على إختلاف مسمياتها وتوجهاتها، كما رأينا تتمثل تقريباً فى ست حركات رئيسية، وعلى الرغم من العسكرة التى تغلفها، إلا أنها تظل حركات إجتماعية عاكسة لواقع إجتماعى متدهور، ووضع إقتصادى مترد. ثانيا: الثروة والاستئثار بها من قبل حفنة رجال يسكنون القصور فى العاصمة، هو العنوان الامثل للبدء فى فهم أولى للحركات المتمردة. ثم فهم تال، من هذا المنظور، لذلك الاصرار على قمع المتمردين وسحقهم. ثالثاً: تسيطر النزعة العنصرية، كتعبير عن الصراعات الطبقية،على جُل العناصر المتصارعة، ولن يكون أمام العرق(الطبقة) المهمَل سوى القتال من أجل الثروة والسلطة. ومن ثم الدخول فى تحالفات تمكنه من ذلك الهدف، أيا ما كان الحلفاء، فنظام الخرطوم، مثلاً، حينما يتحالف مع جيش الرب للمقامة، يتجاهل مذابح وفظائع هذا التنظيم التى يفعلها أينما حل، المهم أنه يتصدى بالوكالة للاعداء. رابعاً: وإذ تُسيطر النزعة العنصرية، ذات الاساس والبناء الطبقى، على نحو أو آخر على مجمل خطاب جُل الفصائل والقوى المتناحرة، فلن يكون أمام هؤلاء المهمَشين سوى التمسك الشديد بالموروث التاريخى والثقافى والدينى والقتال الضارى من أجل هذا الموروث فى مواجهة قوى يرون أنها تهدف إلى طمسه، وإزالة ثقافتهم وكيانهم الاجتماعى نفسه من على الخريطة الرسمية للبلاد. تجدد إنتاج التخلف: يمكن بتشريح مجمل الهيكل الاقتصادى السودانى أن نستنتج عدة حقائق تشكلت على أرض الواقع تؤكد هيمنة ظاهرة التخلف وأليات تجدد إنتاجه على النحو التالى: (1) تهيمن الزراعة على مجمل الهيكل الاقتصادى، ومع ذلك يظهر فى بند الواردات أن السودان تستورد الغذاء، وعلى رأسها القمح. مِن حيث هيمنة الزراعة عليه، إذ يُعد الاقتصاد السودانى إقتصاداً زراعياً مِن الدرجة الاولى، وتخلفه وتبعيته وبدائيته خصائص جوهرية واضحة، لا لغلبة قطاع الزراعة على القطاعات الاخرى، وإنما لارتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة المتناقض مع الضعف المزمن فى أليات إنتاجها؛ بما من شأنه السماح لنمط الانتاج السائد وعلاقاته بتسرب القيمة الزائدة مِن الريف إلى المدينة، فى مرحلة أولى، ثم مِن داخل السودان إلى خارجها، فى مرحلة ثانية، على نحو لا يَسمح بتراكم رأسمالى يوظَف بداخل الاقتصاد السودانى، ويتبدى ذلك فى هيمنة الزراعة، والفلاحة وما يتصل بهما، على مُجمل النشاط الاقتصادى فى المجتمع، وذلك دون إرتباط ما بين قطاع الزراعة هذا وبين القطاع الصناعى تحديداً، الامر الذى يَجعل السودان أحد المتخصصين فى إمداد الاجزاء الاخرى(متقدمة ومتخلفة لا فرق) بالمواد الاولية المحمَلة بقيمة زائدة، مِن نفط وصمغ وقطن تحديداً، بالاضافة إلى الثروة الحيوانية. تلك السلع حينما يجرى تصديرها؛ لتغذية صناعات فى بلدان أخرى أكثر تعقيداً وتطوراً فى الغالب، فإنما تتم مِن خلال عملية مُنظمة للتبادل غير المتكافىء، محملة بقيمة زائدة. عمل مُكدس. (2) نصف الشعب تقريبا فقراء. وتلتهم الديون كل الناتج المحلى بنسبة 100%. (3) كما الحال بالنسبة لجميع الدول الريعية تقريباً بوجه عام والاجزاء المتخلفة بوجه خاص، تتسرب القيمة الزائدة المنتَجة بداخل الاقتصاد القومى إلى الخارج فى سبيل شراء السلع التى لا يُنتجها الاقتصاد القومى، وعلى وجه الخصوص السلع التى تستخدم فى سبيل إنتاج النفط، كما رأينا بصدد فنزويلا. فما قلناه بصدد صناعة النفط فى فنزويلا ينطبق بشكل حرفى على نظيره فى السودان. (4) تسرب فى العام 2009، مثلاً، نحو مليار دولار إلى خارج الاقتصاد قيمة الفارق بين الصادرات والواردات. ولقد سبق وأن ذكرنا إن طرحنا الرئيسى يبدأ وينتهى من حيث فهم وتحليل نمط الانتاج الرأسمالى كنمط لانتاج سلع وخدمات من أجل السوق. وليس ذلك فقط وإنما كنمط لإنتاج القيمة الزائدة، وطالما كانت (أليات) إنتاج تلك القيمة الزائدة ضعيفة، عُدّ الاقتصاد ضعيفا ومتخلفا بالتبعية لتدهور تلك الاليات، فى حين يُصبح هذا الاقتصاد قوياً إذ ما كانت تلك(الاليات) قوية، بما يلزم ويكفى لتخفيض معدل إنتاج القيمة الزائدة، وعلامات قوتها تتبدى فى النظر إلى(حجم، وقيمة) ونضيف هنا: ونوع، المنتَجات التى تُمثل إجمالى الناتج القومى. الخلاصة إن الصراع الذى تم تسويقه عالمياً من قبل المؤسسة الاعلامية الغربية ليس صراعاً عرقياً، وإنما هو فى حقيقته صراع بين طبقات متفاوتة الحظوظ من الثروة والسلطة، وما الاشتباكات المسلحة إلا المظهر السياسى لهذا الصراع. الصراع الذى تكون قاعدته الاقتصادية مرتكزة على أليات تجديد إنتاج التخلف، ولا يأخذ المجتمع فى التطور والتغير إلا من خلال الصراع الجدلى على مستويين: المستوى الطبقى: الذى يتجسد فى جدلية (حرمان الطبقات الاشد فقراً من السلطة والثروة بالتناقض مع تمتع الطبقات الاشد ثراءً بكل السلطة والثروة) وقد تُنتِج هذه الجدلية بعضاً من تنازل الطبقات الاعلى عن بعض السلطات، كما صرح الرئيس عمر البشير مؤخراً فى 28/6/2011 بأن منصب نائب الرئيس سيكون من حق دارفور بعد الانفصال، وقد كان رد دارفور جاهزاً فالمسألة ليست متعلقة بموقع نائب رئيس وإنما هى أكبر من ذلك وتتعلق بالثروة والسلطة وإنما إبتداءً من إرادة تعاقدية حرة بين نظام الخرطوم وبين أهل دارفور. المستوى الاقتصادى: الذى يتجسد فى جدلية( إرتفاع معدلات إنتاج القيمة الزائدة المتناقض مع الضعف المزمن فى أليات إنتاجها) ويرتبط بجدلية المستوى الاقتصادى على الصعيد الاقتصاد الكلى جدلية أخرى تتعلق بتسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً إلى خارج الاقتصاد القومى، ويتبدى ذلك بوضوح شديد حين النظر إلى جدول الصادرات والواردات بعد خصم قيمة النفط، وسنجد حينها أن هناك ثمة مليارات تخرج سنوياً من أجل شراء سلع تُنتَج فى الاجزاء المتقدمة فى معظمها. تلك المليارات هى القيمة الزائدة. وإن التفوق فى المرتبة يكون للمستوى الاول الذى يحدد شكل المستوى الثانى، ومستويات تطوره. ختاماً باللجوء إلى المقارنة، بين قارتى التسرب فى القيمة الزائدة (أفريقيا، وأمريكا اللاتينية) ومن ثم المقارنة بين نموذجى التخلف فى كُل قارة منهما (فنزويلا، والسودان) فإنه يمكن دون كبير عناء الوصول إلى سمات عامة مشتركة تجمع بينهما، إبتداءً من الظاهرة الاستعمارية (أسبانيا بالنسبة لفنزويلا، ودولة محمد على، ثم بريطانيا بالنسبة للسودان) ومروراً بإعتبار كُل بلد منهما بالنسبة للمستعمِر مصدراً رئيسياً للمعادن النفيسة، والمواد الاولية وقوة العمل اللازمين لعملية التراكم الرأسمالى فى الاجزاء المستعمِرة، وبفعل المزيد من السطو المنظم على ثروات كُل منهما، وغيرهما، فقد وقعا فاقدين، حالهما حال باقى الاجزاء المتخلفة، لشروط تجديد الانتاج، والاعتماد شبه الكُلى على السلعة الواحدة، وعلى مجريات الامور خارج الاقتصاد القومى بوجه عام، بما يفقد المجتمع معه إستقلاليته تجاه الخارج بوجه عام، إستعمارياً فى مرحلة أولى، ومنهجياً فى مرحلة ثانية. نقول يجمع ما بين فنزويلا وبين السودان، الظاهرة الاستعمارية وإعتبارهما المصدر الرئيسى لمستلزمات التركيم الرأسمالى، ونضيف، وتلك نتيجة مترتبة على الامرين، ظاهرة التسرب فى القيمة الزائدة إلى خارج حدود المجتمع بما يعنى، ضمن ما يعنى، تبلور عملية مستمرة من التخلف، الذى هو تجديد إنتاج التخلف عبر الزمن تمتد إلى الحاضر، تستمد وجودها من ذلك التسرب، الذى تدعمه الطبقات الحاكمة، المفقِد لشروط التنمية المستقلة والاعتماد على الذات. فكما إفترضنا، بالتجريد، أن المجتمع، إبتداءً من الصيغة (ن - ق ع -" قوة عمل"+ و أ"وسائل إنتاج"- س- Δ ن) التى هى سبب بقاء العالم، إذ حينما يتوقف الانسان عن العمل ستتوقف الحياة على الارض، نقول وكما إفترضنا أن المجتمع وفقاً لتلك الصيغة يبدأ سنة إنتاجية معينة بثلاثة مليارات وحدة معينة، فسيدخل المجتمع السنة ومعه (3) مليار وحدة، مقسمة بواقع مليار لكُل قطاع إنتاجى(الزراعة، والصناعة، والخدمات) وإذ أن (Δ ن) إنما هى القيمة الزائدة، وبإفتراض أنها تساوى 100%، فى كُل قطاع، فسيكون لدى المجتمع فى نهاية الفترة (وحدات إضافية) فما مصير تلك الوحدات الاضافية؟ بعد خصم الاجر، والربح، والريع، والدين الدولى، نفترض أنه تبقى (س) وحدة، و(س) هذه فى الاجزاء المتخلفة لا تُستخدم فى التراكم الرأسمالى، من أجل التنمية، وإنما تخرج (تتسرب) خارج البلد، إذ ينعدم التكامل بين القطاعات التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى، فى صورة إستيراد للسلع والخدمات التى لم يُهيء المجتمع لانتاجها بالمعنى الواسع للانتاج. ومن هنا أيضاً يُمكن مناقشة أزمة المديونية، التى طوقت الاجزاء المتخلفة، حين ضربت بجذورها فى كُل الاتجاهات التى كان من الممكن أن يبدأ المجتمع منها من أجل تنمية مستقلة، وذلك دون إثارة المسئولية التاريخية للطبقات الحاكمة المستدينة، وما يتعلق بذلك، إبتداءً من: مَن الذى إستدان؟ ولمن؟ ولماذا؟ وأين ذهبت أموال تلك الاستدانة، التى جرت مجتمعاًت وأجيال نحو هاوية جهنمية؟ واننى أتمنى أن تثير هذه الاسئلة المناقشة من أجل مشروع حضارى لمستقبل أمن، يرفض أن يقود فيه المخبولون العميان على ظهر كوكب ينتحر من خلال نظام إقتصادى عالمى لا يعرف الرحمة. فلنطمح إلى هذا المشروع الحضارى. فلنطمح إلى أكثر من الوجود.
الهوامش
(1)الاستاذ الدكتور/ سمير أمين، قانون القيمة والمادية التاريخية، ترجمة: صلاح داغر، دار الحداثة. بيروت 1981 (2) تكوين الوعى حول هذه الحزمة الفكرية المتعلقة بتاريخ الرأسمالية، والكيفية التى تم بها نمو إنتاج المبادلة فى أحضان التكوين الإجتماعى الاقطاعى، أنظر على سبيل المثال: العمل الخلاق لاستاذى الجليل الدكتور محمد دويدار، حول العصور الوسطى الاوروبية، فى الباب الثانى من الجزء الاول فى: مبادىء الاقتصاد السياسى، منشورات الحلبى الحقوقية. بيروت 2001. كما يوجد بحث موجز ومهم من تأليف كارل ستيفنسن، تحت عنوان: الاقطاع فى العصور الوسطى (وبخاصة الفصل الاول، حيث يستعرض وبوعى أصول هذا النظام) ترجمة: محمد فتحى الشاعر، دار المعارف. القاهرة 1993. كذلك أنظر وبصفة رئيسية الكتاب المهم الذى أنجزه موريس دوب: M. Dobb, Studies in the Development of Capitalism, Roulade& Kegan, London 1954. (3) للوعى بالكيفية التى صارت من خلالها بلدان القارة مورداً دائماً للمواد الاولية، ومصدراً رئيسياً لتكوين رأس المال المتراكم، أى دور القارة اللاتينية، بعد تشوه هيكلها الاقتصادى، فى التراكم الرأسمالى الذى تمكنت البلدان الاستعمارية آنذاك، الاجزاء المتقدمة الان، من تحقيقه على الصعيد العالمى، أنظر: الدكتور سمير أمين، التراكم على الصعيد العالمى، نقد نظرية التخلف، تعريب: حسن قبيسى، دار إبن خلدون. بيروت، بدون تاريخ نشر محدد (ص34-39) وأنظر كذلك بصفة رئيسية: Rosa Luxembourg, The Accumulation of Capital, Translated from Germany by: A. Schwarzschild, Rutledge and Kegan, London 1963. (4) على سبيل المثال، فمن الدراسات القيمة فى هذا الصدد، وبخاصة بشأن البرازيل، دراسة "ماريا فيليلا بتيت" تحت عنوان: إلتحام الكثيرين فى واحد: التجربة البرازيلية. وهذه الدراسة، وعلى الرغم من إستهدافها أساساً الدفاع عن الهوية البرازيلية؛ فإنها تمدنا بفكرة عامة وجدية فى نفس الوقت عن تركيبة "شعب البرازيل ذات الطبيعة التى جعلت تزاوج الاجناس يأخذ وضع واقع حقيقى وأيضاً موهبة صادقة" على حد ما ذكرت فى دراستها، وكذلك أنظر دراسة بارتولمى بيناصر، مناس جيريس: ذروة عالية لامتزاج الاعراق: مجلة "ديوجين" الصادرة عن المجلس الدولى للفلسفة والعلوم الانسانية، مطبوعات اليونسكو. القاهرة 2002 (العدد 191) (5) للمزيد من التفاصيل: V.A.Renouf, Outlines of General History, Macmillan &co. London 1910 (6)أستاذى الدكتور/محمد دويدار، الاقتصاد الدولى، دار الاندلس للنشر والتوزيع، الاسكندرية 1995(ص122 وما بعدها) (8)أنظر للمزيد من التفاصيل: بول هارست، وجراهم طومبسون، ما العولمة، تعريب: فالح عبد الجبار، الكويت 2001. وللمزيد من التفاصيل حول هيكل هذه الشركات ونشاطها، راجع: الشركات المتعددة الجنسية، الاقتصاد السياسى للاستثمار الاجنبى المباشر، تحرير: تيودور موران، تعريب: جورج خورى، دار الفارس، عمان 1994. (9) للتفاصيل التاريخية الدقيقة بشأن هذه الممالك، أنظر العمل الفكرى الموسوعى الذى أنتجه منتظم اليونسكو: تاريخ افريقيا العام، المجلد الرابع، إفريقيا من القرن الثانى عشر إلى القرن السادس عشر، المشرف على المجلد: ج.ت. نيانى. اللجنة العلمية الدولية لتحرير تاريخ افريقيا العام(اليونسكو) (10) راجع: الدكتور محمود ممدانى، دارفور- منقذون وناجون- السياسة والحرب على الإرهاب، ترجمة: عمر سعيد الايوبى، مراجعة: منى جهمى، مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت 2010 (11) بشأن التشكيلات القبلية فى السودان أنظر على سبيل المثال: روبرت كولنز، تاريخ السودان الحديث، ترجمة: الدكتور مصطفى مجدى الجمال، المركز القومى للترجمة. القاهرة 2010 الدكتور محمد عوض محمد، السودان الشمالى: سكانه وقبائله، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1951. الدكتور محمد معتصم سيد، جنوب السودان فى مائة عام، مطبعة نهضة مصر. القاهرة 1972. أيضاً: الدكتور محمد إبراهيم بكر، تاريخ السودان القديم، دار المعارف، القاهرة 1987. الدكتور محمد عوض محمد، الشعوب والسلالات الافريقية، سلسلة دراسات إفريقية. الدار المصرية للتأليف والترجمة. القاهرة. 1965.الدكتور نعوم شقير، تاريخ السودان، تحقيق وتقديم: الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم، دار الجيل، بيروت 1981. الدكتورحمدنا الله مصطفى، التطور الاقتصادى والاجتماعى فى السودان (1841- 1881) دار المعارف. القاهرة. 1985 (12) فعندما إنشق الجيش الشعبى لتحرير السودان فى عام 1991 تحركت المجموعة المعروفة بإسم حركة/ الجيش الشعبى لتحرير السودان- المتحد، التى يقودها ريك ماشار إلى شرق الإستوائية ووقعت فى عام 1992 إتفاقية تعاون مع الحكومة السودانية، ثم إنفصل ماشار لاحقاً عن الجيش الشعبى لتحرير السودان ليشكل فى عام 1994 حركة إستقلال جنوب السودان التى إصطفت من ثم مع قوات دفاع الاستوائية، ومن بعد مع جيش الرب للمقاومة." أنظر: ماركيه شوميروس، جيش الرب للمقاومة فى السودان، مشروع مسح الأسلحة الصغيرة، المعهد العالى للدراسات الدولية. جنيف 2007 (ص24)
#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التكامل الاقتصادى العربى كإمكانية
-
تسرب القيمة الزائدة وتجديد إنتاج التخلف
-
موجز تاريخ الرأسمالية
-
الأهم من الاجابة، هو الطريق الذى يسلكه الذهن فى سبيله لانتاج
...
-
جذور التخلف الاجتماعى والاقتصادى، مصر، كنموذج
-
جدلية القيمة الزائدة فى رأس مال كارل ماركس
-
الديالكتيك فى رأس المال
-
تطوير النظام التعليمى فى مصر، بقلم أستاذنا الدكتور محمد دويد
...
-
من الفكر الإجتماعى والإقتصادى العربى فى شمال إفريقيا والأندل
...
-
قبل أن نبتهج بالثورة إبتهاج البلهاء فى بلاد البله، لأن ربنا
...
-
قبل أن نبتهج بالثورة إبتهاج البلهاء فى بلاد البله لأن ربنا ع
...
-
تجديد إنتاج السلطة
-
الثورة المصرية من منظور جرامشى
-
موجز -فى التناقض- لماو تسى تونج
-
الموجز فى تاريخ السودان الحديث المعاصر
-
مقرح أستاذنا الدكتور محمد دويدار بشأن الأبعاد الإقتصادية فى
...
-
المخدرات كسلعة
-
العلاقة ما بين التخلف الإقتصادى والإجتماعى وبين القيمة الزائ
...
-
القيمة الهاربة، والقيمة المتسربة، والقيمة المضخة
-
الحدث والضربة، ورشادة رأس المال الأمريكى
المزيد.....
-
استطلاع: تزايد شعور الألمان بالقلق وعدم اليقين حيال المستقبل
...
-
مصر تصدر قرارا رسميا بتسديد قيمة استهلاك الغاز بالدولار لفئا
...
-
انخفاض أسهم الشركات الكورية الجنوبية بشكل حاد في التعاملات ا
...
-
الصين تحظر تصدير مواد للصناعات العسكرية إلى أميركا
-
فايننشال تايمز: هل بدأت روسيا بدفع فاتورة الحرب؟
-
الوون الكوري الجنوبي يهوي عقب إعلان الأحكام العرفية
-
مصر تكشف عن موعد استحقاق ودائع سعودية بقيمة 5.3 مليار دولار
...
-
تونس.. عائدات السياحة تتجاوز 2.2 مليار دولار وسط توقعات قياس
...
-
وزير مالية إسرائيل: البرلمان سيصوت الأحد على موازنة 2025
-
قرار صادم.. رئيس كوريا الجنوبية يعلن الأحكام العرفية بالبلاد
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|