أيلول 11... بداية حقبة أم حلقة في سلسلة؟
هل صدفة أن يتزامن حكم الرئيس الاميركي الحالي جورج بوش مع حدث 11 سبتمبر/ أيلول الذي كان صدمة كبيرة لأميركا وللعالم، وان يكون حكم الرئيس السابق جورج بوش (الأب) قد تزامن ايضا مع حدث كبير هز منطقة الشرق الاوسط والعالم وانغمست فيه اميركا بشكل كامل، ألا وهو غزو الكويت عام 1990؟
ثم أصدفة ان يرتبط الحدثان بتفاعلات ما بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشيوعي؟
وهل أحداث 11 أيلول كانت بداية لحقبة زمنية جديدة في العالم ام انها حلقة في سلسلة من وقائع جديدة تعيشها بلدان العالم بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة؟
ولعل السؤال الكبير ايضا هو: لمَ منطقة الخليج العربي هي تحديدا محور تلك الصدمات الدولية التي زامنت عصر الرئيس بوش الأب وتزامن الآن عصر الرئيس بوش الابن؟!
في صدمة غزو الكويت، كان السؤال البارز: كيف يحشد النظام العراقي جيشه ويغزو الكويت ولا تعلم المخابرات الاميركية بذلك، بل ولا تحرك أميركا ساكنا الا حين وقوع الحدث الكبير!؟ هذا، وان العالم لا يعلم على وجه الدقة حتى الآن بما جرى خلال اللقاء الذي جمع بين الرئيس العراقي صدام حسين والسفيرة الاميركية في بغداد ابريل غلاسبي عام 1990، كما ان العالم اليوم (بمن فيه الشعب الاميركي) لا يعلم مدى ما كانت تعرفه المخابرات الاميركية عن استعداد عناصر من <<جماعة القاعدة>> للهجوم على نيويورك وواشنطن بواسطة طائرات مدنية!!
تساؤلات عديدة عن أحداث 11 أيلول قام بطرحها عدد كبير من أعضاء الكونغرس الاميركي في مجلسهم، وفي وسائل الاعلام الاميركية، الا انه برغم سخونة هذه التساؤلات فإنها <<تجمدت>> بفعل الانذارات الرسمية الاميركية عن إمكان حدوث أعمال إرهابية ضخمة في أميركا... مما جعل كرة ثلج التساؤلات تذوب فورا عوضا عن تضخمها الطبيعي المتوقع.
وهل من قبيل الصدفة ايضا ان يكون <<بطل فيلم>> الصدمة الاولى أيام الرئيس بوش الأب (النظام العراقي) هو الآن ايضا <<بطل فيلم>> الصدمة الثانية، حيث ان أنظار العالم كله تحولت من جديد الى موضوع العراق وما قد يترتب على مستقبله من تفاعلات اقليمية ودولية؟!
ان غزو الكويت عام 1990، كان بداية لحملة على الهوية العربية، وأحداث 11 أيلول 2001 كانت بداية لحملة على الهوية الاسلامية، وإذا بحصيلة الصدمتين المعاصرتين ل<<آل بوش>> في البيت الابيض، محاولاتٌ للانقضاض على العروبة والهوية الاسلامية معا، وسعي لهيمنة عسكرية كاملة على المنطقة العربية وعلى مختلف بلدان العالم الاسلامي.
ترى، لو لم تكن هناك جهات محلية تتحرك بأسماء عربية او اسلامية، فهل كان ممكنا حدوث مثل هذه الصدمات او الزلازل التي تهز أركان الارض العربية تحديدا؟
لو لم يغز العراق الكويت (باسم الضم القسري الوحدوي العربي)، فهل كان لأحداث 11 أيلول ان تقع عام 2001؟
هل كان للمنطقة العربية ان تشهد وجودا عسكريا أجنبيا واسعا كما تفعل الآن؟
هل كان للقضية الفلسطينية ان تصل الى ما آلت اليه حالها من شدة حصار وتأزم؟
والشعب العراقي بدوره، هل كان ليعاني ما عاناه من الجوع والخوف (ولا يزال) طوال عقد من الزمان؟
هل كانت السيادة العراقية، في شمال العراق الى جنوبه، ستكون مستباحة كما هو حالها منذ أكثر من عشر سنوات؟
هل كان لظاهرة <<جماعة القاعدة>> ان تظهر الى الوجود في حين ان مؤسسها والعديد من عناصرها كانوا أصلا خدام السياسة الاميركية طوال سنوات حرب <<المجاهدين الأفغان>> ضد النظام الشيوعي والقوات السوفياتية في أفغانستان؟
هذه أسئلة مهمة، لان <<المهندس الاميركي>> استخدم ويستخدم <<مقاولين>> عربا ومسلمين في إعداده لبناء شرق أوسطي جديد، بل لبناء نظام عالمي جديد تحدث عنه جورج بوش الأب إلا ان الانتخابات الاميركية عام 1992 لم تكتب له فرصة الاستمرار بالحكم لولاية اخرى والعمل على تثبيت بنيانه. ومعلوم ان هذا البناء أعدته آنذاك معا مجموعة من <<خبراء>> الحزب الجمهوري، والبنتاغون، والمخابرات الاميركية (التي كان جورج بوش الأب رئيسا لوكالتها قبل ان يختاره الرئيس ريغان نائبا له).
لقد سقط المعسكر الشيوعي وانتهت الحرب الباردة حصيلة ضغوطات وسياسات اشترك في وضعها عدد كبير من هؤلاء <<الخبراء>> الذين رافقوا فترة حكم ريغان/بوش لثماني سنوات (1980 1988) ثم فترة بوش الاب (1988 1992). وفي الحقبة الريغانية/البوشية، حصلت الحرب العراقية/الايرانية، وحصلت ثورة <<المجاهدين الأفغان>>، وحدث الاجتياح الاسرائيلي للبنان، ثم سقط الاتحاد السوفياتي مترنحا في فترة الرئيس بوش الأب بفعل نتائج الحقبة الريغانية، وما برز فيها من ضغوطات اقتصادية وسباق تسلّح وتعزيز كبير لدور المصانع العسكرية الاميركية وشركات النفط الاميركية ومؤسسة البنتاغون العسكرية.
وكان من الطبيعي التساؤل لدى <<مجموعة الخبراء>> هؤلاء عن الصورة الاميركية المطلوبة للعالم الجديد، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وكان من الطبيعي ايضا البحث عن عدو جديد يضمن استمرار تدفق صناعة الاسلحة ويسمح باستمرار الانتشار العسكري الاميركي في العالم وبالسيطرة على مواقع الثروات الطبيعية فيه، وفي مقدمتها النفط.
ايضا، كان من الضروري إبقاء الغرب الاوروبي تحت المظلة الاميركية واضافة باقي دول أوروبا الى هذه المظلة، وهكذا أصبح حلف الناتو حلفا أميركيا/أوروبيا ضد عدو مجهول او ربما قيد الاعداد الاميركي!!
لو افترضنا ان العرب ينتمون لأوروبا الشرقية جغرافيا، فهل كانوا سيتساءلون عن حجم المتغيرات السياسية والامنية والاقتصادية والثقافية التي تحدث فوق أرضهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؟!
ان أوروبا، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، شهدت تحولات كبرى لم تنعكس فورا على المنطقة العربية، برغم قربها الجغرافي من هذه المنطقة. فهناك دول بأوروبا اختارت شعوبها الوحدة مثل ألمانيا، وهناك دول اختارت شعوبها الانفصال مثل تشيكوسلوفاكيا، وهناك دول اخرى وجدت شعوبها نفسها فيها أمام صراعات دموية مثل يوغوسلافيا، وتفتتت جمهوريات الاتحاد السوفياتي الى موزاييك من الدول والثقافات وأنواع الحكم..
وجرى في عموم أوروبا الشرقية تغيير اقتصادي وسياسي وأمني بل وثقافي احيانا، في ظل رعاية اميركية لكل هذه التغيرات. وكانت حرب الخليج الثانية هي حلقة في سلسلة متغيرات تريد أميركا فرضها على العالم (مع وجوب ألا ننسى ان هذه المتغيرات تحدث بإشراف <<مجموعة الخبراء>> نفسها التي رافقت ريغان/بوش منذ مطلع الثمانينيات). وكان من المؤمّل أميركيا ان تنسحب هذه المتغيرات الاوروبية على المنطقة العربية ايضا، وعلى جوارها الاقليمي في آسيا وافريقيا، اي تغييرات أمنية وسياسية واقتصادية وثقافية. وربما في أنظمة الحكم ايضا.
كانت إدارة بوش الأب حريصة على إنهاء ملف الصراع العربي/الاسرائيلي وفق صيغة مؤتمر مدريد، وما كان يجب ان يترتب عليه، من بناء شرق أوسطي جديد يسوده التطبيع الكامل بين العرب وإسرائيل ومن حل نهائي للمشكلة الفلسطينية من خلال توظيف نتائج غزو الكويت وتفاعلاته السلبية العربية.. لكن هذه المخططات تعثّرت، وخرجت <<مجموعة الخبراء>> من البيت الابيض بعد حكم 12 سنة، ودخل البيت الابيض الاميركي طاقم جديد لا يحمل الرؤية نفسها ولا الخبرة نفسها ايضا. فكانت فترة عهد كلينتون (8 سنوات) حالة تعامل بالاضطرار مع أوضاع عالمية أكثر منها مبادرات تخدم رؤية محددة. وحتى في إطار معالجة الأزمات الدولية، كانت سمة حكم الرئيس كلينتون هي ردة الفعل تجاه الأحداث أكثر من صنعها للأحداث نفسها. وهكذا بقي الملف العراقي جامدا، وكذلك ملف الصراع العربي/الاسرائيلي برغم تحرك الاخير ببطء شديد من خلال اتفاق اوسلو (الذي كان خروجا عن صيغة مؤتمر مدريد)، ثم حدوث الانتفاضة الفلسطينية مع نهاية عهد كلينتون.
وهكذا ايضا، ساد الجمود السياسي منطقة الشرق الاوسط فلم تسقط أنظمة، ولم تحدث تغييرات كالتي حدثت في أوروبا الشرقية، وتوقفت <<المحدلة>> الاميركية عن العمل حتى عودة <<مجموعة الخبراء>> من جديد الى الحكم مع فوز الرئيس بوش الابن بصعوبة بالغة.
ثم جاءت أحداث 11 أيلول 2001 لتنقل إدارة بوش من حالة مشكوك بشرعيتها وبشعبيتها الاميركية الى حالة التضامن الاميركي الكامل معها ومع سياستها الراهنة في الحرب ضد الارهاب.
وفتحت أحداث 11 أيلول الأبواب كلها أمام <<الرؤية الاميركية>> التي وضعتها <<مجموعة الخبراء>> عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، وهي الرؤية التي تتضمن إحداث متغيرات في الشرق الاوسط وفي جواره الآسيوي والأفريقي بشكل مشابه لمتغيرات أوروبا الشرقية.
وحسب اعتقادي، فإن هذه الرؤية الاميركية كانت تراهن على تغيرات متتالية بدأت في أوروبا الشرقية، وتدور رحى حلقتها الثانية في ساحة الشرق الاوسط، لتشمل حلقتها الاخيرة لاحقا شرق آسيا (اي في الصين). ولعل أحداث 11 أيلول كانت أشبه بحلقة مفقودة ومطلوبة لإحداث هذا الترابط بين الشرق الاوسط وشرق آسيا مرورا بأفغانستان..
فهل يعني ذلك كله ان جهات أميركية هي وراء أحداث 11 أيلول 2001؟ طبعا لا أحد يملك الاجابة الحاسمة عن هذا السؤال، لكن من الواضح جدا اتهام عرب ومسلمين بتنفيذ هذه العمليات الاجرامية الارهابية في أميركا يوم 11 أيلول، وما وراء هؤلاء من جماعات ترفع شعارات إسلامية وهي بالحقيقة تنطق بفتاوى ما أنزل اهله بها من سلطان، حين يحلل أتباعها ما حرّم الله تعالى في الشرائع السماوية كافة من قتل وإرهاب للمدنيين الأبرياء.
أميركا قد لا تصنع الحدث مباشرة.. لكنها حتما قادرة على توظيفه لما يخدم مصالحها وأهدافها في عموم العالم.
المشكلة ان معظم الحديث يدور دائما عن المستفيدين من الحدث وعن مخططاتهم، الا ان ذلك لن يمنع من تكرار الأحداث الكبرى، طالما هناك من يشارك بصنعها من منتمين للأمم وللبلدان الضحية.
() مدير <<مركز الحوار العربي>> في واشنطن.
... ©2002 جريدة السفير