أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونشأة القرآنيين)















المزيد.....



السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونشأة القرآنيين)


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3634 - 2012 / 2 / 10 - 15:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لم يحدث في التاريخ الإسلامي كله ولا في أي عصر من عصوره أن وجدت طائفة أو مذهب أو فرقة من الفرق المنتسبة إلى الإسلام أنكرت (السنة)، أو أنكرت الأحاديث المنسوبة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام على وجه العموم، أو بعبارة أدق أنكرت أن تكون (الأحاديث) مصدرا للدين الإسلامي بموازاة القرآن الكريم، وليس هناك من أساس أو برهان تاريخي موضوعي واضح يدل صراحة على إلحاق تهمة (إنكار السنة) بطائفة (الخوارج) أو طائفة (المعتزلة) أو طائفة (الشيعة)، فهذا وهم وقع فيه بعض المؤرخين وبعض الفقهاء وبعض المحدثين، وليس ثمة برهان واحد يؤكد أن أية طائفة من هؤلاء أو من غيرهم أنكرت (السنة) أو الأحاديث ولم تعتبرها مصدرا للدين الإسلامي بموازاة القرآن الكريم.
وقبل القيام بتحقيق وبحث هذه المسألة والبرهنة عليها ينبغي على الباحث الجاد أن يفرق بين أمرين هامين في هذه المسألة: بين إنكار بعض أو كثير من الأحاديث التي لا تتفق مع أفكار وأراء فرقة ما أو طائفة ما أو مذهب ما. وبين إنكار الأحاديث على العموم وإنكار أن تكون مصدرا للدين الإسلامي بموازاة القرآن الكريم. فالفرق بين الأمرين كبير وشاسع جدا.

فأما الأمر الأول: إنكار بعض أو كثير من الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام لا يعني ولا يدل مطلقا على رفض أو إنكار هذا المذهب أو هذه الفرقة أو تلك الطائفة أن تكون الأحاديث مصدرا للدين الإسلامي بموازاة القرآن الكريم. حيث لو اعتبرنا أن كل من ينكر بعض الأحاديث أو جانب كبير منها هو منكر للسنة أي (الأحاديث) لأصبح كل المسلمين بلا استثناء منذ وفاة النبي عليه السلام بكل فرقهم وطوائفهم وأفرادهم وجماعاتهم منكرين للسنة أو (الأحاديث)، بل ولأصبح المدافعون عن السنة أنفسهم كالتيارات السلفية والجماعات الدينية السنية الأخرى التي تؤيد السنة والأحاديث وتؤمن بها كمصدر للدين هم منكرين للسنة كذلك، لأن هذه التيارات والجماعات التي تدافع عن السنة هم بالفعل ينكرون ويرفضون كثير من الأحاديث المنسوبة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، على اعتبار أنها ضعيفة أو موضوعة أو منكرة أو معلولة أو معلقة أو مرسلة أو مقطوعة، وغيرها من الأسباب الأخرى التي وضعوها كمعايير لقبول الحديث أو رفضه، بل لأصبح كل من البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي وابن ماجة وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم هم من منكري السنة كذلك، لأنهم لم يقبلوا كل الأحاديث التي نسبت للنبي عليه الصلاة والسلام هكذا لمحض أنها منسوبة إليه عليه الصلاة والسلام دون معايير ودون ضبط ودون تحقيق، فـ (البخاري) مثلا جمع عشرات ومئات الآلاف من الأحاديث لكنه لم يتخير منها سوى بضعة آلاف فقط، وهي التي جمعها في صحيحه، وكذلك (مسلم)، وكذلك (أحمد بن حنبل)، وكذلك (الترمذي) وكذلك (بن ماجة) وغيرهم وغيرهم. وعليه فلو اعتبرنا أن كل من رفض بعض الأحاديث أو كثير منها هو منكر (للسنة) أو رافض للأحاديث، إذاً فجميع المسلمين بلا استثناء منذ وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وحتى ساعتنا هذه هم منكرون (للسنة)، وهذا ما لا يقول به عاقل على الإطلاق.

أما الأمر الثاني: إنكار (السنة) أو الأحاديث على العموم وبالكلية وإنكار أن تكون مصدرا للدين الإسلامي بموازاة القرآن الكريم. فهذا الفكر وهذا القول وهذا المذهب لم يكن له وجود على الإطلاق في التاريخ الإسلامي كله طوال أربعة عشر قرنا من عمر التاريخ الإسلامي، ولم يظهر هذا القول وهذا الفكر وهذا المذهب إلا في أواخر (القرن التاسع عشر) و(القرن العشرين) على أيدي من يسمون بـ (القرآنيين). وهنا قد يتردد في نفس القارئ سؤالا يقول: وماذا عن بعض المصادر التاريخية والفقهية وكتب التفسير وكتب الملل والنحل التي اتهمت فرقة (الخوارج) وفرقة (المعتزلة) وفرقة (الشيعة) بأنهم كانوا ينكرون السنة؟.

للجواب على هذا السؤال أقول: بداية لم توجد للخوارج مصنفات ولا كتب ولا مؤلفات تحمل أفكارهم على الإطلاق طوال التاريخ الإسلامي، فهم ليسوا كبقية فرق وطوائف المسلمين لهم مصادر ومراجع ومصنفات تاريخية قد دونوا فيها أحكامهم الفقهية ومعتقداتهم وآراءهم الفكرية كأهل السنة والمعتزلة والشيعة والأشعرية والماتريدية وغيرهم، الذين مازالت مصنفاتهم وكتبهم موجودة حتى الآن، أما الخوارج فلم يتركوا شيئا من هذا على الإطلاق، ويؤكد هذا ما ذكره (بن تيمية) في (مجموعة الرسائل الكبرى)، قال بن تيمية: (وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف كما وقفنا على كتب المعتزلة والرافضة والزيدية والكرَّامية والأشعرية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية، ونحو هؤلاء) انتهى.
ويؤكد ذلك أيضا ما ذكره (الخطيب على بن الحسين الهاشمى) في كتابه: (الخوارج): (ومن العسير الوقوف على معتقدات الخوارج من واقع كتبهم نفسها لحرصهم الشديد عليها وهى نادرة إن وجدت، فالغالب أن مكتبات المسلمين عارية عن مؤلفاتهم) انتهى.
وكذلك قول الدكتور (محمود إسماعيل) في كتابه (الخوارج في المغرب الإسلامي): (والواقع إن عديداً من المصاعب تعترض سبيل من يتصدى للتأريخ لهذا الموضوع، ففى بعض الأحيان تندر المادة التاريخية .. فعلى الرغم من كثرة ما دون عن تواريخ الخوارج لم يصل إلينا منها إلا القليل النادر) انتهى.
وكذلك قول (مصطفى بن محمد) في كتابه: (أصول وتاريخ الفرق الإسلامية): (ويرجع قلة تأليف الخوارج وضياع ما ألفوه إلى طبيعة حياتهم الثورية حيث كانت الثورات والمعارك تأخذ منهم جهودهم وأوقاتهم، فيصعب عليهم وضع المؤلفات فى تاريخهم وتسجيل آرائهم. ومما لا شك فيه أن قلة مؤلفات الخوارج وضياعها وندرة ما بقى منها أو عدم إظهاره يضع الصعوبات أمام المؤرخ لهم ويجعله عالة على كتب التاريخ وعلماء الفرق والموسوعات الأدبية القديمة) انتهى.

وعليه فاتهام بعض المؤرخين وبعض الفقهاء وبعض المفسرين لطائفة (الخوارج) بأنها كانت تنكر (السنة) أو (الأحاديث) فهو اتهام لا دليل ولا برهان قطعيان ثابتان عليه. وهنا قد يسأل سائل ويقول: فما مصدر هذه التهمة وما سببها؟. أقول: اعتاد فقهاء ومؤرخي ومحدثي ومفسري طائفة (أهل السنة والجماعة) على اتهام كل من ينكر مسألة من المسائل أو قضية من القضايا التي يعتنقونها في مذهبهم ويستدلون على صحتها بالأحاديث النبوية ولم يرد بها نص قطعي الدلالة في (القرآن الكريم) اعتادوا أن يتهموه بأنه ينكر السنة، ونضرب بعض الأمثلة على ذلك: فالخوارج فيما نسب إليهم من أفكار ومعتقدات أنهم كانوا ينكرون (الشفاعة) يوم القيامة، ومن المعلوم للباحث أن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام للعصاة من أمته لم يرد بها نص قطعي الدلالة في (القرآن الكريم)، وإنما وردت بها نصوص في الأحاديث قطعية الدلالة، فأنكر (الخوارج) هذه الأحاديث وادعوا أنها مكذوبة على الرسول. وكذلك كانوا ينكرون (عذاب القبر). ولسنا هنا بصدد تفصيل هذه المسائل (هل يوجد شفاعة أم لا؟) و(هل يوجد عذاب في القبر أم لا؟)، وإنما لهذه المسائل وغيرها بحوث أخرى. وكذلك حين أنكروا حد أو عقوبة (شارب الخمر) التي لم يرد بها نص في (القرآن الكريم)، وكذلك حين أنكروا أن تكون الإمامة والخلافة في (قريش) فقط، وكذلك حين أنكروا حد (الرجم) للزاني (المحصن)، وغيرها من المسائل، فحين أنكر (الخوارج) هذه المسائل وغيرها وحين كذبوا الأحاديث التي تقول بهذا سارع (أهل السنة والجماعة) باتهامهم أنهم ينكرون السنة.

وكذلك لم يكتف أتباع (أهل السنة والجماعة) باتهام (الخوارج) فحسب بإنكار السنة حين اختلفوا معهم في مسألة من المسائل التي لا دليل ولا حجة عليها إلا من نصوص الأحاديث فحسب، بل اتهموا كذلك طائفة (المعتزلة) وطائفة (الشيعة) بأنهم ينكرون السنة، فقط لأنهم يختلفون معهم في بعض المسائل والأحكام التي لا دليل ولا برهان عليها إلا من الأحاديث فحسب. ولو قمنا بتفحص المراجع التاريخية لوجدنا أن هناك مقولات تؤكد أن الخوارج لم يكونوا ينكرون السنة بالكلية، إنما كانوا ينكرون السنة التي تخالف القرآن، ومن هذه المقولات ما ذكره (ابن تيمية) عن بدع الخوارج وأنهم لم يكنوا ينكرون إلا السنة التي تخالف ظاهر (القرآن الكريم) فقط، قال بن تيمية: (وإذا عرف أصل البدع فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنبا ما ليس بذنب, ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب وإن كانت متواترة) انتهى.

وكذلك ما ذكره (مصطفى بن محمد) في كتابه: (أصول وتاريخ الفرق الإسلامية) من أن (الخوارج) كانوا يستدلون بالسنة على كفر مرتكب الكبيرة، قال (مصطفى بن محمد): (وأما ما استدلوا به من السنة على بدعتهم فى تكفير العصاة من المسلمين فقد أساءوا فهم الأحاديث وحملوها المعانى التى يريدونها، ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله أنه قال: (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن) (أخرجه البخاري ومسلم) انتهى.

وكذلك المناظرة الشهيرة التي جرت بين (عبد الله ابن عباس) وبين (الخوارج) حين أرسله إليهم (علي بن أبي طالب) ليناظرهم، وروى هذه المناظرة كاملة (النسائي) في سننه، وهي مناظرة طويلة نقتطف منها ما يثبت أن (الخوارج) لم يكونوا ينكرون السنة على النحو التالي: يقول عبد الله بن عباس: (فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائمون فسلمت عليهم فقالوا: مرحبًا بك يابن عباس! فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي وصهره وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون وتخبرون بما تقولون. أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سُنَّة نبيه ما يردّ قولكم، أترضون؟. قالوا: نعم. قلت لهم: وأما قولكم محا اسمه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون وأراكم قد سمعتم أن النبي يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعلي: "اكتبْ، هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه. فقال المشركون: لا والله ما نعلم أنك رسول الله، لو نعلم أنك رسول الله لأطعناك، فاكتب محمد بن عبد الله. فقال رسول الله: امْحُ يَا عَلِيُّ رَسُولَ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، امْحُ يَا عَلِيُّ، وَاكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، فوالله رسول الله خير من عليٍّ، وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوة. أخرجت من هذه؟. قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان) انتهى. (رواه النسائي) ص 200.

وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ المقولة المنسوبة للخوارج: (حسبنا كتاب ربنا). حين قالوها وقت رفضهم للتحكيم بين (علي) و(معاوية)، فيتساءل أليست هذه المقولة الشهيرة تؤكد أن الخوارج كانوا ينكرون السنة ويكتفون بالقرآن فقط؟. أقول: بل مما يؤسف له، أن بعض الشيوخ الكبار كالشيخ السعودي (عبد المحسن العبيكان) يستشهد بهذه المقولة في من ينكر بعض أو كثير من الأحاديث التي لا تتوافق مع القرآن، بل ويستشهد بها على ردته عن الإسلام ووجوب قتله، فعقب حوار أجرته معي صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية بتاريخ: 27 أبريل 2006م، العدد: (10012)، وتحدثت فيه عن (السنة) وماذا نقبل منها وماذا نترك، بعدها بأسبوع واحد قام الشيخ (عبد المحسن العبيكان) بالرد بتاريخ: 4 مايو 2006م العدد: (10019)، وقام الشيخ (العبيكان) بنسبة كلام (نهرو طنطاوي) إلى كلام (الخوارج)، وتفضل الشيخ مشكورا بالحكم عليَّ بالردة وبوجوب قتلي، وهذه فقرة من رده على النحو التالي: (قرأت الحوار الذي اجرته "الشرق الأوسط" مع د. نهرو طنطاوي والذي نشر في العدد (10012) يوم الخميس الموافق 27/4/2006 وقد استغربت كثيرا من جرأة الدكتور على إنكار السنة المطهرة، وزعمه ان المصدر الوحيد للتشريع الاسلامي هو القرآن فقط، وهذا القول ليس بجديد بل هو من جنس قول الخوارج الذين قالوا «حسبنا كتاب ربنا» وأنكروا سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولعظم خطرهم على الاسلام والمسلمين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم، كما في الأحاديث الصحيحة) انتهى.

لكن ما فات الشيخ (العبيكان) وما لم ينتبه له أن مقولة (الخوارج): (حسبنا كتاب ربنا) أو قولهم: (إن الحكم إلا لله) لم يقلها (الخوارج) لأنهم ينكرون السنة، فالأمر كان دون هذا تماما، ولهذا أرى أنه من المهم والملح في هذه المسألة تحديدا أن نستطلع الصورة بشكل مكتمل من دون أن نجتزئ منها بعض المقولات ونحملها ما لا تحتمل، أو نتوجه بها إلى حيث نريد دون تدقيق أو تحقيق لأسباب ودوافع هذه المقولة أو تلك، وعليه أقدم للقارئ الكريم نبذة هامة عن الخوارج ومنشأهم وهل كانوا بالفعل ينكرون السنة كما حاولت بعض المصادر التاريخية اتهامهم بهذا أم لا، وهذه النبذة قمت بصياغتها صياغة سلسة وسهلة ومختصرة بعيدا عن تعقيدات وإسهابات المراجع التاريخية ولكن دون إخلال بالمضمون النصي للوقائع كما وردت، وقد اعتمدت على أهم المراجع التاريخية كـ: (البداية والنهاية، لابن كثير)، (وفيات الأعيان، لابن خلكان)، (الكامل في التاريخ، لابن الأثير)، (تاريخ الملوك والأمم، لابن جرير الطبري)، (مسند أحمد بن حنبل)، وغيرها من المراجع التاريخية، وأقدم للقارئ ملخصا لقصة الخوارج وكيف أصبح الخوارج خوارجا؟ وما هي قصة التحكيم؟ وما السبب الذي من أجله رفع الناس المصاحف على أسنة الرماح؟، وهذا على النحو التالي:

لما فرغ (على بن أبي طالب) من موقعة الجمل التي كانت عائشة زوج النبي عليه الصلاة والسلام طرف فيها ضد على بن أبي طالب, قام على ببعث الرسل إلى البلدان والأقاليم لأخذ البيعة له على الخلافة, وكان يومها (معاوية بن أبي سفيان) والياً على الشام فأرسل له على بن أبي طالب احد أتباعه لأخذ البيعة منه على الخلافة، فلما بلغت معاوية رسالة على بن أبي طالب جمع معاوية عمرو بن العاص وكبار أهل الشام، فاستشارهم في رسالة على بن أبي طالب فكان ردهم أن رفضوا البيعة لعلى بن أبى طالب بالخلافة حتى يقتص علي بن أبي طالب من قتلة عثمان بن عفان, بل إن معاوية اتهم على بن أبى طالب بأنه أعان قتلة عثمان بن عفان وانه آواهم, ثم شرط معاوية حتى يبايع على بن أبى طالب على الخلافة أن يقتل قتلة عثمان أو يدفعهم إلى معاوية ليقتلهم هو بنفسه.
أما عن الخوارج فهم جماعة من (قراء) أهل الشام و(قراء) أهل العراق قد اجتمعوا لكي يتوسطوا ويوفقوا بين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان في نزاعهم حول قتلة عثمان عفان.

وبعد ذهاب وإياب هؤلاء (القراء) بين على ومعاوية لعدة مرات فشلت محاولات الوساطة هذه في فض النزاع القائم بين الطرفين فاندلع القتال بين على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان واستمر أياما طويلة حتى كاد النصر أن يكون حليفا لعلى بن أبى طالب وأتباعه من أهل العراق ضد معاوية بن أبي سفيان وأهل الشام, فلما أحس أهل الشام بأنهم قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة قاموا فرفعوا المصاحف فوق أسنة الرماح وقالوا لأهل العراق هذا بيننا وبينكم.

وذكر بن جرير وبن كثير أن أول من أشار برفع المصاحف على أسنة الرماح وأول من اختلق واخترع هذه الفكرة (الشيطانية) هو (عمرو بن العاص) كما ذكر ذلك بن جرير الطبري في تاريخه وبن كثير واحمد بن حنبل في المسند وغيرهم وكانت هذه خدعة شيطانية من عمرو بن العاص ليوقف القتال حين أحس بالهزيمة ويستطيع من خلال هذه الخدعة أن يشتت ويفرق أصحاب علي بن أبي طالب، إلا أن علي بن أبي طالب رفض الانصياع لهذه الخدعة الماكرة الخبيثة, وعندها قام جماعة من (القراء) سالفي الذكر إلى علي بن أبي طالب وطالبوه أن يستجيب إلى (كتاب الله) وإلا قتلناك أو سلمناك إلى أهل الشام فيقتلوك, وتجنبا لفتنة أكبر بين المسلمين أمر على بن أبى طالب بوقف القتال وأمر أمير قواته (الأشتر) بوقف القتال فأوقف (الأشتر) القتال على مضض.

وبعدها تراضى الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات على التحكيم وهو أن يحكم كل واحد من الأميرين (علي) و(معاوية) رجلا من جهته ثم يتفق الحكماء على ما فيه مصلحة المسلمين، فبعث معاوية (عمرو بن العاص) وبعث على (أبو موسى الأشعري), ثم كتب على بن أبي طالب كتاب بموافقته على التحكيم ثم أعطاه للأشعث بن قيس الذي مر على جماعة من بني تميم فقرأ عليهم الكتاب فقام إليه (عروة بن جرير) من بني ربيعة بن حنظلة فقال: أتحكمون في دين الله الرجال؟, وقد أخذ هذه الكلمة من الرجل طوائف من أصحاب علي من (القراء) سالفي الذكر وقالوا قولتهم الشهيرة: (إن حكم إلا الله) أو (حسبنا كتاب ربنا) فسموا في بادئ الأمر بـ (المحكمية) وكانوا حتى هذه اللحظة لم يسموا (بالخوارج) بعد. ولما رجع على بن أبي طالب إلى الكوفة اعتزل من جيشه ما يقرب من اثنا عشر ألفا، وهؤلاء الذين انفصلوا عن جيش علي هم من سموا بـ (الخوارج)، وكان من أمرهم ما كان فقد كفروا على بن أبي طالب ومعاوية وجميع الصحابة واستحلوا دمائهم وأموالهم وأعراضهم ثم قاتلهم على بن أبى طالب بعد ذلك وهزمهم وكسر شوكتهم فلم تقم لهم قائمة بعدها أبدا.

ويمكن للقارئ أن يراجع كل ما لخصناه وذكرناه نصا من دون زيادة أو نقصان في (البداية والنهاية، لابن كثير)، (وفيات الأعيان، لابن خلكان)، (الكامل في التاريخ، لابن الأثير)، (تاريخ الملوك والأمم، لابن جرير الطبري)، (مسند أحمد بن حنبل).

إذن نخلص مما سبق بما يلي:
• دعوة الخوارج تلخصت في قولهم "إن الحكم إلا لله" أو "حسبنا كتاب ربنا".
• كان سبب قولهم هذا وخروجهم عن بقية المسلمين هو رفضهم للتحكيم الذي اتفق عليه كل من على بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان لفض النزاع حول القصاص من قتلة عثمان بن عفان.
• أن أول من اختلق واخترع حيلة (رفع المصاحف) والاحتكام إليها هو (عمرو بن العاص) وليس (الخوارج) وقد تلقفها جماعة من القراء من أتباع علي وسموا بعد ذلك بالخوارج، وهذا ما ذكره بن كثير في البداية والنهاية عن بعض المؤرخين كابن جرير وبن حنبل وغيرهم يقول بن كثير:
(قال أبو وائل: كنا بصفين (الموقعة التي كانت بين على ومعاوية) فلما استحر القتال بأهل الشام (معاوية وأتباعه) اعتصموا بتل، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلى علي بمصحف فادعه إلى كتاب الله، فانه لن يأبى عليك، فجاء به رجل فقال بيننا وبينكم كتاب الله) انتهى.

وقال بن كثير أيضا في البداية والنهاية نقلا عن بن جرير وغيره:
(إن الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص وذلك لما رأى أهل العراق (على وأتباعه) قد استظهروا في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وان يتأخر الأمر، فإن كلا من الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون فقال لمعاوية: إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن ترفع المصاحف وندعوهم إليها فان أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم، فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم فشلوا وذهب ريحهم) انتهى.
إذن يتضح لنا مما ذكره بن كثير وبن جرير وغيرهما أن حيلة رفع المصاحف كانت من بنات أفكار (عمرو بن العاص) الذي اشتهر بالمكر والدهاء، وها هو قد استخدم المصاحف لمصالحه القتالية وأغراضه السياسية، مع أن عمرو بن العاص وصاحبه معاوية كانا لا يعرفان من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه، وكان من يعلم عنهم ذلك على بن أبي طالب وذلك حين قال لأصحابه بعد طلب أهل الشام الاحتكام إلى المصحف فيما ذكره بن كثير في البداية والنهاية على النحو التالي:

(فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق (أتباع على بن أبي طالب) نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه، إلا أن عليا رد عليهم قائلا: امضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم، فان: "معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمه، وابن أبي السرح، والضحاك بن قيس"، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم، والله إنهم ما رفعوها لأنهم يقرءونها ولا يعلمون بما فيها وما رفعوها لا خديعة ودهاء ومكيدة، إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به وتركوا عهده ونبذوا كتابه) انتهى.

وبعد هذه الوقائع التي ذكرها المؤرخون يتضح لنا جليا أن دعوة رفع المصاحف والدعوة إلى التحاكم إليها ومقولة: (إن الحكم إلا لله) ومقولة (حسبنا كتاب ربنا) كانت فكرة الداهية الماكر (عمرو بن العاص) وكانت دعوة لأغراض سياسية وقتالية وليست دعوة دين وإيمان. وكذلك يتضح لنا الآتي:
• أن جماعة من القراء من أتباع على بن أبي طالب قاموا بتلقف هذا الأمر وقالوا (إن الحكم إلا لله) و(حسبنا كتاب ربنا) وخرجوا من جيش علي بعد ما كفروه هو ومعاوية واستحلوا دمائهم وأموالهم.

• أن جماعة القراء أو ما سموا فيما بعد بـ (الخوارج) مشكلتهم في الأساس لم تكن في إنكار ما يسمى بـ(السنة)، بل إن مشكلتهم كانت في رفضهم للتحكيم الذي اتفق عليه كل من (علي) و(معاوية) في أن يختار كل فريق منهم رجلا منهم ويحكموهم في النزاع على قتلة عثمان بن عفان, ولم يكن وقتها أي ذكر لإنكار (السنة) والاكتفاء بالقرآن وحده إطلاقا، وهذا ما ذكره بن كثير عنهم كما جاء في كتاب البداية والنهاية , قال بن كثير:
(قال عروة بن جرير من بنى ربيعة بن حنظله: أتحكمون في دين الله الرجال). وذكر بن كثير أيضا: (إن على بن أبي طالب بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فسادا وسفكوا الدماء وقطعوا السبيل واستحلوا المحارم).
وكذلك يتضح لنا أن الذي أنكره الخوارج هو (التحكيم) الذي اتفق عليه كل من (علي) و(معاوية) وليس إنكار (السنة). لأنه وقت ظهور الخوارج لم يكن هناك شيئا مدونا يسمى بـ (السنة)، ولم تكن (السنة) وقتها قد دونت، لأن (السنة) قد تم البدء في تدوينها في عهد (عمر بن عبد العزيز)، وتم جمعها في (صحاح ومسانيد، وجوامع) في أواخر عهد (الدولة الأموية).

ونخلص من كل ما تقدم بأنه لم توجد فرقة ولا طائفة ولا مذهب في تاريخ الإسلام والمسلمين أنكر (السنة) أو الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام بالكلية وعلى وجه العموم، وكذلك لم توجد فرقة أو طائفة أو مذهب أنكر أن تكون الأحاديث النبوية مصدرا للدين الإسلامي بموازاة القرآن الكريم، وأن كل ما كان هو إنكار جميع الفرق وجميع الطوائف وجميع المذاهب بلا استثناء لبعض أو كثير من الأحاديث التي لا تتفق إما مع المعايير التي وضعوها لقبول الرواية، وإما لأنها لا تتفق مع النص القرآني، أو تخالف المبادئ العامة للفرقة أو الطائفة أو المذهب، وكذلك رأينا أن طائفة (أهل السنة والجماعة) كانت تتهم كل من ينكر مسألة أو حكما تعتقده وتتبناه وليس له من سند أو حجة سوى الأحاديث النبوية كانت تتهمه بأنه ينكر السنة. كذلك من الجدير ذكره هنا ولا يجب أن نغفله أن من أهم أسباب إنكار طائفة (الخوارج) وطائفة (الشيعة) لمعظم الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام، أن جل هذه الأحاديث نقلها عن رسول الله ورواها (الصحابة)، وهاتان الطائفتان كانتا تكفران جميع الصحابة وتحكمان عليهم بالردة باستثناء بضعة نفر من (صحابة رسول الله)، وعليه قالوا كيف نقبل رواية أو حديثا من (كافر)؟!.

## أسباب جنوح الفرق والمذاهب الدينية إلى التكفير والإنكار والعداء:

من خلال مطالعاتي وقراءاتي لتاريخ ومعتقدات وظهور الحركات والمذاهب والفرق الدينية داخل الدين الواحد وجنوح بعضها إلى الشذوذ والتكفير والإنكار والعداء والمفاصلة، رأيت أن ما من حركة ولا طائفة ولا مذهب ولا فرقة ذات شذوذ وجنوح فكري إلا وخرجت من رحم صراع مرير ومحتدم داخل (الجماعة الأم)، إما صراعا واقتتالا وتناحر ذا طابع سياسي، وإما صراعا فكريا تكون فيه (الجماعة الأم) في أكثر حالات ضعفها الفكري والثقافي أمام طوفان منهمر من الفكر والثقافة الوافدين. وهذا ما تؤكده صفحات التاريخ وتجهر به، وعليه نتساءل متى نشأت وولدت فرقة (الخوارج)؟، ولدت فرقة (الخوارج) من رحم الصراع السياسي الدامي المحتدم بين (علي بن أبي طالب) و(معاوية بن أبي سفيان) على السلطة، وإن بدا الأمر في حينه أنه صراعا على القصاص (لدم الشهداء)، أقصد القصاص من قتلة (عثمان بن عفان)، كما زعم معاوية وصحبه، وفي الحقيقة لم يكن أبدا صراعا حقيقا وصادقا من أجل القصاص من قتلة (عثمان)، إنما كان القصاص من قتلة عثمان ما هو إلا ذريعة و(سبوبة) اقتنصها واستثمرها وافتعلها وتاجر بها كل من (معاوية بن أبي سفيان) و(عمرو بن العاص) وأنصارهما لحصد قسط ما من السلطة والإمارة والخلافة.

واكتشفت كذلك من خلال مطالعاتي لتاريخ هذه التيارات (الشاذة) أنه دائما ما تكون هناك مجموعة من الناس ذوي النزعة النفسية التي تجنح إلى (المثالية) المفرطة أو المتطرفة، ولا أريد أن أقول (المرضية)، هذه المجموعة التي تحمل تلك النزعة المثالية حين توجد في بيئة فيها مثل ذلك الصراع (السياسي)، أو (الفكري) المحتدم داخل (الجماعة الأم)، أو حين تجد هجوما فكريا ما وافدا يهدد وجود أفكار (الجماعة الأم) ويهدد ثقافتها، لا تجد أمامها مخرجا أو حلا أو هربا من ذلك الصراع سوى (الشذوذ الفكري، والتكفير، والإنكار، والعداء، والانعزال والعزل) لبقية (الجماعة الأم)، وهذه الحال لا تقتصر على الجماعات الدينية فحسب، بل تمتد إلى الجماعات والتيارات السياسية غير الدينية كذلك، وأيضا تمتد هذه الحال إلى كثير من الأشخاص الذين يهاجرون من أوطانهم إلى بلدان أخرى أكثر انفتاحا وسعة ورغدا من أوطانهم، فسرعان ما يتحولون إلى ناقمين كارهين معادين مبغضين ناكرين لأوطانهم، فتلك البيئة المتصارعة بين (على) و(معاوية) هي التي أفرزت فرقة (الخوارج) التي قامت بتكفير المسلمين وتكفير صحابة رسول الله وناصبتهم العداء وشذت في أفكارها وعزلتهم وعزلت نفسها عنهم.

كذلك حين توافرت مثل تلك البيئة المتصارعة المتناحرة مرة أخرى في عهد (يزيد بن معاوية) الذي تولى الخلافة بعد أبيه (معاوية بن أبي سفيان) لمدة أربع سنوات، كان عهده الأكثر دموية وفجاجة ووحشية وانتهاكا لأشرف الحرمات، (حرمات أحفاد رسول الله)، وسفك فيه أشرف دم وأكرمه وأعظمه حرمة عند الله، دم ابن بنت رسول الله، دم (حفيد رسول الله) دم (أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب)، نتيجة لذلك الصراع الذي نشب بين (يزيد) وبين (أبي عبد الله الحسين بن علي) والذي انتهى بمقتل (الحسين) وسبي آل بيته، وعلى أثر ذلك ولدت طائفة (الشيعة) التي كفرت جل أصحاب رسول الله إلا بضع نفر وشذت وعزلت نفسها عن بقية (الجماعة الأم)، ثم قام الفكر الشيعي في ظاهر الأمر على أساس الاعتقاد بأن علياً بن أبي طالب وذريته هم أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله وأن علياً أحق بها من سائر الصحابة بوصية من النبي، وقد قسم الحافظ (الذهبي) التشيع إلى نوعين:
(1): تشيع بلا غلو، يفضل على بن أبي طالب على سائر الصحابة دون تكفير واحد منهم ولا سب ولا بغض.
(2): تشيع مع غلو، يقوم على تكفير الصحابة جميعاً وسبهم ولعنهم (إلا نفر يسير) انتهى.
وقد وردت رواية في أصح كتب (الشيعة) وهو كتاب (الكافي) تقول: (كان الناس أهل ردة بعد موت النبي إلا ثلاثة: "المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي". وورد فيه أيضاً: "إن أهل مكة ليكفرون بالله جهرة، وإن أهل المدينة أخبث من أهل مكة، أخبث منهم سبعين ضعفاً".
وكان لتكفيرهم لجل الصحابة الأثر الكبير في رفضهم لكل الروايات الحديثية التي وردت عن طريق الصحابة ومحدثي طائفة (أهل السنة والجماعة)، إذ لا يعتبرون إلا بما صح لهم من طرق أهل البيت، يعني ما رواه الإمام (الصادق) عن أبيه (الباقر) عن أبيه (زين العابدين) عن (الحسين) عن أبيه (علي بن أبي طالب) عن رسول الله وفق هذا الاعتقاد.

كذلك حين احتدم الصراع الفكري بعد ظهور طائفة (المعتزلة) في أواخر القرن الأول الهجري ووفود الأفكار الفلسفية وبدأ ظهور ما سمي بـ (علم الكلام) للرد على الفلسفة اليونانية الوافدة، والرد على من تعاطاها وصنف فيها وقرأها، ولد تيار من داخل طائفة (أهل السنة والجماعة) تمثل في (الأشاعرة) و(الماتريدية)، كانت مهمة هذا التيار مواجهة المد الفلسفي اليوناني، وقام بوصف الفلسفة بالكفر، واتهم كل من تعاطى مع الفلسفة اليونانية بالكفر والزندقة والردة عن الإسلام، وكان من هؤلاء الذين تم تكفيرهم وعزلهم عن بقية (الجماعة الأم): (ابن سينا، وابن طفيل، والكندي، والفخر الرازي، والفارابي، وابن رشد) وغيرهم.

كذلك حين احتدم الصراع في مصر في الخمسينات والستينات في عهد (عبد الناصر) بين (عبد الناصر) وبين (الغرب) من جهة، وبين (عبد الناصر) وجماعة (الإخوان المسلمين) من جهة أخرى، وبدأ ذلك الصراع بالصدام بين (عبد الناصر) والإخوان عقب حادث (المنشية) في 24 أكتوبر 1954م، والذي قيل أنه كان محاولة من الإخوان لاغتيال (عبد الناصر)، وعلى أثر ذلك الحادث قام (عبد الناصر) بمحاولة لتصفية جماعة (الأخوان) بإعدام بعض قادتها واعتقال عدد كبير من أعضائها، ثم بعد هذا الحادث وفي عام 1956م، قام (عبد الناصر) بتأميم (قناة السويس) وعلى أثر ذلك قامت كل من (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) بما سمي (العدوان الثلاثي) على مصر، ثم قام عبد الناصر بتجربة الوحدة مع (سوريا) في 28 فبراير 1958م، إلا أن تجربة الوحدة لم تستمر طويلا وفشلت فشلا ذريعا وتم الانفصال بين مصر وسوريا في 28 سبتمر 1961م، وفي 5 يونيو 1967م وقع ما سمي بـ (نكسة 67)، أو (حرب حزيران) أو (حرب الأيام الستة)، وهي حرب نشبت بين إسرائيل وكل من (مصر، وسوريا، والأردن) عام (67). وانتهت بانتصار إسرائيل واستيلائها على (قطاع غزة، والضفة الغربية، وسيناء، وهضبة الجولان).

وفي أعقاب كل هذا الصراع بدأ يتبلور فكر ما سمي إعلاميا بجماعة (التكفير والهجرة)، التي أسسها وتزعمها (شكري أحمد مصطفى عبد العال) وشهرته (شكري مصطفى)، من مواليد محافظة (أسيوط)، وسمى جماعته بـ (جماعة المسلمين)، و(شكري مصطفى) في بدايات شبابه نشأ متعاطفا مع جماعة (الإخوان المسلمين) في ستينات القرن العشرين، ولذلك تم القبض عليه ضمن (الإخوان المسلمين) وشاركهم محنتهم في سجون (عبد الناصر) ابتداء من عام ١٩٦٥م، وحتى خروجهم من السجن بعد موت عبد الناصر بقرار الإفراج الشهير الذي اتخذه الرئيس السادات عقب توليه الرئاسة.

وعقب خروج (شكري مصطفي) من السجن في عام 1973م بدأ في تكوين (جماعة المسلمين) وبدأ يدعو إلى أفكاره فانضم إلى جماعته الآلاف ونصب نفسه أميرا للجماعة وأخذ البيعة لنفسه من أعضاء جماعته بالسمع له والطاعة، وقد اطلعت على أفكار هذه الجماعة من مصادرها الأصلية، فقبل دخولي السجن في عام 1992م لم أكن أعرف شيئا عن أفكار (شكري مصطفى) وجماعته سوى أنه (يكفر المسلم بارتكابه للمعصية، ويحكم على العاصي المرتكب للكبيرة بالخلود في النار إذا مات بغير توبة) فحسب، وشاءت الأقدار أن ألتقي في سجن (أبو زعبل الصناعي) في بدايات ومنتصف عام 1993م باثنين من أتباع (شكري مصطفى) أحدهم من محافظة (كفر الشيخ) والآخر من محافظة (الشرقية)، وتحدثت معهم حول أفكارهم، ولكن الوقت لم يسعفني ببقائهم معي كثيرا فقد تم الإفراج عنهما بعد لقائي بهما بسبعة أيام، وفي مطلع عام 1995م وقبل الإفراج عني بستة شهور تم ترحيلي إلى سجن (مزرعة طرة) وهناك التقيت بخمسة من أتباع (شكري مصطفى) وشركائه في القضية الشهيرة (مقتل الشيخ الذهبي) وزير الأوقاف الأسبق والتي أعدم فيها (شكري مصطفى) وعدد من رفاقه، أما بقية الرفاق فتم الحكم عليهم بالسجن المؤبد.

وهؤلاء الذين تم الحكم عليهم بالمؤبد هم من التقيت بهم في سجن (مزرعة طرة)، فحين دخلت إلى سجن (المزرعة) وسمعت بهم ذهبت إليهم على الفور، وتعرفت عليهم وصار بيني وبينهم علاقة ود وحميمية وصداقة امتدت لستة أشهر، وبعدها تم الإفراج عني، ومن خلال هؤلاء بدأت أتعرف على حقيقة أفكار (شكري مصطفى) ومن أين وكيف استقى أفكاره تلك، فأخبرني أحدهم أن (شكري مصطفى) التقى في السجن الحربي إبان حكم (عبد الناصر) بالمفكر الراحل (سيد قطب)، والتقى كذلك بشيخ أزهري طاعن في السن _لا أذكر اسمه الآن_ كان ممن اعتقلهم عبد الناصر، هذا الشيخ هو من استقى منه (شكري مصطفى) أفكاره حول التكفير بالمعصية، وغيرها من أفكار، وذكروا لي أن (شكري مصطفى) كان يتمتع بشخصية قيادية قوية وفريدة رغم صغر سنه، وكان شابا شجاعا مقداما لا يهاب أحدا، وكان ذا خلق دمس، وكان شاعرا فذا، فقد قرأت له بعض القصائد التي كتبها وكانت رائعة، وكانت له مؤلفات تحوي أفكاره، منها: كتاب: (التوسمات)، وكتاب: (الحجيات)، وكتاب: (الخلافة)، فضلا عن ديوان شعره، وقد قرأت هذه الكتب جميعها، والغريب أن هذه الكتب ليست مطبوعة، وإنما مخطوطة بخط اليد، وما فهمته منهم أن (شكري مصطفى) أوصى بعدم طباعة كتبه في (مطبعة)، وأن يكون نسخها يدويا بخط اليد، وأروني بعض الأوراق المخطوطة بخط يد (شكري مصطفى) نفسه، كانوا يحتفظون بها، وكان خطه من أروع ما رأيت عيني من الخطوط، فيما يبدو أنه كان متعدد المواهب.

وخلاصة أفكار (شكري مصطفى) أو (جماعة المسلمين) أو ما سميت إعلاميا بجماعة (التكفير والهجرة) من خلال قراءاتي لأفكار (شكري مصطفي) أنه قد أخذ بعض أفكاره من فرقة (الخوارج) كاعتبار أن الإسلام لم يوجد قط ولم يتمثل واقعا على الأرض وفي حياة الناس سوى في حياة الرسول وفي عهد الخلفاء الراشدين الأربعة: (أبو بكر، عمر، عثمان، علي)، باستثناء أن (الخوارج) يعتبرون أن هذه الحقبة الإسلامية انتهت بانتهاء عهد عمر بن الخطاب فحسب، وأن الخوارج كفروا (عثمان) و(علي) و(معاوية) وكل من جاء بعدهم. كذلك أخذوا عن الخوارج تكفيرهم لمرتكب الكبيرة والحكم عليه إن مات بغير توبة بالخلود في النار. وكذلك أخذوا عن الخوارج أن الإسلام الحق قد تلاشي تماما من حياة الناس بعد ذلك، ولم تعد المجتمعات الإسلامية مجتمعات إسلامية، بل كلها مجتمعات جاهلية طاغوتية كافرة تحكم بغير ما أنزل الله. لكنهم تميزوا عن الخوارج في جعل جماعتهم هي (جماعة المسلمين) الوحيدة والمنتسب لها هو المسلم، والتارك لها وغير المبايع لأميرها فهو كافر خارج عن الإسلام، وأن (جماعة المسلمين) أي جماعة شكري مصطفى هي وحدها من تتمثل الإيمان الحق، وأن الالتزام بجماعة المسلمين ركن أساسي من أركان الدين، وأن الإسلام ليس بالتلفظ بالشهادتين، ولكنه إقرار وعمل، ومن هنا كان المسلم الذي يفارق جماعة المسلمين كافراً.

كذلك تقول أفكار (شكري مصطفى) بالابتعاد عن المجتمعات التي يسميها جاهلية فهو لا يرى لأتباعه أن ينتسبوا للمدارس ولا الجامعات ويعتبرون التعليم الحديث جاهلي ولا يجوز تعلمه أو حمل شهاداته. كذلك يرفضون الصلاة في المساجد الجاهلية برأيهم لأنها تابعة للطاغوت وهو الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، ولا يصلون سوى في المساجد الثلاثة الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى ولكن أيضا ليس خلف أئمتها فهم في معتقدهم كفار. وحياة الأسرة داخل الجماعة مترابطة ببعضها بحكم عدم الاختلاط نهائيا بالعالم الخارجي، فالأب والأم هما مصدر التعلم والاكتساب الوحيد للأطفال. والأبناء لا يتزوجون إلا من داخل الجماعة ويتم ترشيح شريك أو شريكة الحياة للمتزوج من قبل أمير الجماعة فقط. ويرون التقية وإظهار غير الحقيقة لتفادي المشاكل الأمنية وغيرها من المشكلات التي تواجههم في التعامل مع مجتمعهم وواقع العمل المنخرطين به، وأيضا للحفاظ على هيكل أفراد الجماعة.

كذلك أخذ (شكري مصطفى) من بعض أفكار مذهب (الظاهرية) الذي أسسه (داوود الظاهري) و(ابن حزم الأندلسي) في رفض القول (بالمجاز اللغوي في القرآن) وكذلك رفض (الترادف اللغوي) وأن كل أساليب القرآن هي على الحقيقة وليس فيها مجاز على الإطلاق، وكذلك أخذ من (مذهب الظاهرية) رفض التقليد في أحكام الدين ورفض الأخذ بأقوال أئمة المذاهب الأربعة ولا أقوال الفقهاء ولا المفسرين ولا الأخذ بالإجماع ولا القول بالقياس ولا الاستحسان ولا المصالح المرسلة ولا شرع من قبلنا، وغيرها من مصادر التشريع، ويقتصرون فحسب على (القرآن الكريم) و(السنة النبوية) كمصدرين وحيدين للتشريع الإسلامي، لكن (شكري مصطفى) يختلف مع مذهب (الظاهرية) ومع داوود الظاهري وابن حزم أن (شكري) يعتبر من يأخذ أحكام دينه بالتقليد أو اتباع أئمة المذاهب الأربعة أو من أقوال الفقهاء أو يتبع الإجماع أو القياس في الدين أو القول بالاستحسان أو المصالح المرسلة أو غيرها من مصادر التشريع والأحكام فهو مشرك بالله كافر مرتد عن الإسلام، لأنه يعتبر كل هذه المصادر هي مصادر تشرع من دون الله، ويستند (شكري مصطفى) على الآية التي تقول: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله). وبالتالي يرى (شكري) أن كل حكم أو شريعة أو رأي خارج القرآن والسنة هو حكم كفري طاغوتي ومتبعه مشرك كافر. أما مذهب ( الظاهرية) وداود الظاهري وابن حزم وإن كانوا يرفضون أي مصدر للأحكام والتشريعات غير القرآن والسنة إلا أنهم لا يكفرون على الإطلاق من يتبعون المذاهب ولا من يتبع أقوال الفقهاء ولا من يتبع مصادر التشريع الأخرى من غير الكتاب والسنة.

وانتهى (شكري مصطفى) وانتهى تنظيم جماعته عقب أمره لأتباعه باغتيال وزير الأوقاف السابق (الشيخ الذهبي) في عام 1977م، الذي أصدر عددا من الفتاوى يسخر فيها من أفكار شكري وجماعته، وتم إدانة الجماعة وإلقاء القبض على شكري وعددا من زعماء الجماعة وعرضوا على (محكمة عسكرية) حكمت على (شكري مصطفى) بالإعدام وأربعة من رفاقه، والبقية حكم عليهم بالسجن المؤبد.

ومثل تلك البيئة المتصارعة المتناحرة سياسيا والبيئة المنحطة فكريا والمتهالكة ثقافيا التي أفرزت التيارات التكفيرية كـ (الخوارج) و(الشيعة) و(الأشاعرة) و(التكفير والهجرة) وكافة الجماعات الدينية المتطرفة والمتشددة الأخرى هي ذاتها البيئة التي أفرزت (القرآنيين). يقول (أبو الأعلى المودودي): (ما إن حل القرن "الثالث عشر الهجري"، حتى دبت الحياة في هذه الفتنة من جديد "يقصد إنكار السنة"، فكانت ولادتها في العراق، وترعرعت في الهند وإن بدايتها لتعود في الهند إلى: (سيد أحمد خان) و(مولوي شيخ جراغ علىّ) ثم كان فارسها المقدام (مولوي عبد الله چَكرَالَوِي) ثم استلم الراية (مولوي أحمد الدين خواجة أمرتسري) ثم تقدم بها (مولانا أسلم جراجبوري) واتفقت المصادر التي بحثت عن نشأة منكري السنة في الهند وخروجهم إلى حيز الوجود وإدلائهم بالآراء المخالفة في الدين، على أنهم الثمرة الطبيعية التي بذر بذورها أعضاء حركة (أحمد رضا خان) بالهند، وهو ما أكده الشيخ (ثناء الله) الملقب بـ (أسد بنجاب) مدير مجلة (أهل حديث) التي كانت تصدر في (أمَرَتْسِِري)، فقد كان لآراء (أحمد خان) وتلميذه (جراغ علي) وأتباعهما، الصدى الأكبر في الجهر بإنكار السنة كلها في الهند، وتهيئة الأجواء لعقيدة الاكتفاء بالقرآن، وهذا ما فعله (چَكرَالـَوي) عندما أسس جماعة (أهل الذكر والقرآن)، بعد موت (أحمد خان) بأربع سنوات، لإعلان الحرب على جماعة (أهل الحديث) انتهى.

وقد ذكرت بعض المصادر أن نشأة هذا الفكر في الهند كان سببه مؤامرة من (الاستعمار البريطاني) لاحتواء الإسلام في الهند بدأ بإنكار السنة ثم بعده يأتي الدور على القرآن، وأنا بدوري لا أميل كثيرا ولا قليلا إلى نظرية (المؤامرة) اللعينة هذه، التي نعلق عليها دائما أخطاءنا وخطايانا، إلا أن بعض المصادر الأخرى ذكرت أن السبب في ظهور هذا التيار في الهند في القرن (التاسع عشر) هو كثرة الاختلاف والتنازع والصراع المستمر بين أتباع المذاهب الفقهية الأربعة: (الحنفي، المالكي، الشافعي، الحنبلي)، مما دعا أتباع هذا التيار إلى إنكار السنة عموما والاكتفاء بالقرآن وحده في محاولة منهم إلى توحيد مصدر التلقي وردم هوة الفرقة والاختلاف بين أتباع المذاهب. وأجدني أميل كثيرا إلى هذا الرأي لأن السياق التاريخي لنشأة كل هذه الأفكار والفرق والتيارات بدءا من الخوارج وحتى ظهور القرآنيين هو سياق واحد معلمه الوحيد هو الصراع والتناحر السياسي والضعف الفكري والتخلف الثقافي وليس شيئا آخر غير هذا.

وفي عام 1935م ولد الدكتور (رشاد خليفة)، مصري هاجر إلى الولايات المتحدة للدراسة في 1959وتخصّص في مجال الكيمياء الحيوية وأصبح مواطناً أمريكياً بعد حصوله على الجنسية الأمريكية. وفي العام 1974م استخرج د. (رشاد خليفة) علاقة بين الرقم (19) والقرآن بشكل عام، وكلماته وحروفه بشكل خاص، وقام بتأليف العديد من الكتب فيما يتعلق بالرقم (19) والقرآن، وهو أول من نبه إلى تفرد الرقم (19) في القرآن. فبعد اكتشافه لما سماه (المُعجزة الحسابية) في القرآن المبنية على الرقم (19)، قال: (إن القرآن هو رسالة الله الوحيدة إلى العالم، وان الإعجاز العددي يثبت ذلك وأنّ المسلم لا يحتاج إلا إلى كتاب الله وحده لكي يعبد الله وأن ما عدا كتاب الله من "حديث وسنه وأحاديث قدسية" ليست إلا افتراءات الصقها أعداء الله بالدين الإسلامي). وبعد ذلك نادى د. (رشاد خليفة) أنه (رسول الله رسول الميثاق) المقصود في سورة آل عمران الآية (81) من خلال العدد (19) في القرآن، وقال: هو دليلاً على أنّ الله قد اختاره (رسولا). وعلى أثر هذا واجه الدكتور (رشاد) هجوماً شرساً من علماء الدين الإسلامي بعد إعلانه نبذ (الحديث والسنة) والاكتفاء بالقرآن وحده كمصدر للتشريع، وازدادت هذه العداوة بعد إعلانه أنه (رسول الله رسول الميثاق). وفي 31 يناير 1990م وجد الدكتور (رشاد خليفة) مقتولا في منزله بمدينة (توسان) من ولاية (أريزونا)، على يد أحد الأمريكان السود وقد تم القبض عليه لاحقا.

ثم سطع بعد ذلك نجم الدكتور (أحمد صبحي منصور)، الذي تم فصله من جامعة الأزهر بسبب أفكاره وآرائه (المنكرة للسنة) وتم سجنه على إثر هذا الأمر، ومن الجدير بالذكر أن الدكتور (منصور) كان قد التقى في مصر بالدكتور (رشاد خليفة) وكانت تربطه به علاقة وثيقة، وبعد معاناة الدكتور (منصور) في مصر فتح له صديقه الدكتور (رشاد خليفة) بابا إلى الهجرة إلى أمريكا فسافر الدكتور أحمد صبحى منصور إلى أمريكا في أواخر الثمانينات، وبعدها حدث أن ادعى الدكتور (رشاد خليفة) النبوة وأنه (رسول الله)، فحدث الخلاف بين الرجلين، فعاد الدكتور (منصور) إلى مصر، وفي مطلع القرن الجديد عاد ثانية إلى الولايات المتحدة، وهناك أسس (المركز العالمي للقرآن الكريم) وأسس موقع (أهل القرآن). ويعتبر الدكتور (منصور) هو الأب الروحي (للقرآنيين) ومؤسس منهج الاكتفاء بالقرآن كمصدر للتشريع الإسلامي.

أما الجديد الذي أتى به القرآنيون والدكتور (منصور) ولم يسبقهم إليه أحد من قبل في تاريخ المسلمين كله حتى (الخوارج) وجماعة (التكفير والهجرة)، هو إنكارهم (للسنة) جملة وتفصيلا، وإنكارهم أن تكون الأحاديث المنسوبة للنبي عليه الصلاة والسلام مصدرا للدين الإسلامي بموازاة القرآن، بل واعتبار اتباعها شركا بالله وكفرا به، واعتبار كل المسلمين وكل التيارات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها الذين يتبعون (السنة) كمصدر للدين هم مشركون بالله كفار لأنهم لا يتبعون (القرآن) وحده كمصدر للتشريع الديني، وإنكارهم لصيغة التشهد حيث يقول الدكتور (منصور) إن الشهادة لرسول الله بالرسالة _أي قول المسلمين: "أشهد أن محمدا رسول الله"_ نوع من الشرك. وإنكاره للصلاة الإبراهيمية في التشهد أثناء الصلاة واعتبارها نوعا من الشرك. وإنكاره لوجود اسم النبي في الأذان واعتباره أيضا شركا. وتكذيب وإنكار كل ما خالف القرآن من كتب السيرة والحديث والتاريخ.

بل لقد زاد الدكتور (منصور) وأتباعه على فكر (الخوارج) وفكر "شكري مصطفى" المتمثل في جماعته: (التكفير والهجرة) وتعداهما بمراحل، إذ إن (الخوارج) كانوا يرون أن الإسلام لم يتمثل في الواقع إلا في عهد الرسول وعهد أبي بكر وعهد عمر فحسب، و(شكري مصطفى) كان يرى أن الإسلام لم يتمثل في الواقع إلا في عهد الرسول وعهد الخلفاء الأربعة فحسب، بينما الدكتور منصور يرى أن الإسلام كدين لم يتمثل واقعا على الأرض قط، لا في عهد الرسول، ولا في عهد الخلفاء من بعده وحتى يومنا هذا، بل إن الدكتور (منصور) يعتبر جميع الصحابة بعد وفاة الرسول مباشرة تحولوا إلى عصابة (مافيا) للسلب والنهب واحتلال البلدان. فقد نشر الدكتور (منصور) مقالا في 12/12/2007م بعنوان: (النبي نفسه لا يجسد الإسلام فكيف بالمسلمين؟). وقال في آخره: (فى الدين الالهى فان محمدا عليه السلام لا يجسد الاسلام، مع أنه نبى الاسلام والذى قام بتبليغ رسالة الاسلام ..وبالتالى فلا يوجد اى بشر بعده يكون تجسيدا للاسلام) انتهى. ثم ذكر قبل نهاية المقال بسطور الآية التي تقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا). ومر عليها مرور الكرام. وليس هنا موضع مناقشة هذا المقال والرد عليه، فسوف تكون لنا معه وقفة متأنية في الفصول القادمة.

وما أريد قوله في ختام هذا الفصل أن الفكر القرآني الذي يدعو إليه الدكتور (منصور) هو وجماعته وكل من يتفق ويتلاقى معه من الكتاب والمفكرين القرآنيين الآخرين هو فكر تكفيري إقصائي عدائي منعزل، لا يقل عن فكر (الخوارج) وفكر (شكري مصطفى) تكفيرا وإقصاءً وعدائية وعزلا ومفاصلة للمجتمعات الإسلامية ولجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها شيئا، بل يتعداهما بمراحل كثيرة، حتى ولو اكتسى في ظاهره بكساء (العلمانية) و(الليبرالية) كضرورة للمرحلة.

(للحديث بقية في الفصل الخامس)

الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293175
الفصل الثاني: (الصحابة والسلف بين التقديس والشيطنة)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293537
الفصل الثالث: (تاريخ نقد وإصلاح التراث الإسلامي وتنقيحه)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=294154


نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]
فيس بوك:
http://www.facebook.com/profile.php?id=100001228094880&ref=tn_tnmn



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثالث: (تاريخ نقد وإصلاح التر ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الثاني: (الصحابة والسلف بين ال ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الأول: (عرض تمهيدي لقضية السنة ...
- إطلالات قصيرة على واقع المشهد المصري الحالي
- لماذا بصق المصريون في وجوه نخبهم وإعلامييهم؟
- شيفونية المصريين
- (توفيق عكاشة) نموذج معبر عن حقيقة الشخصية المصرية
- من ينقذ المصريين من أنفسهم؟
- من حق (فاطمة خير الدين) أن تكون عاهرة وتفتخر
- أما أنا فأقول لكم
- ما لا يقال ولن يقال حول الصراع الإسلامي المسيحي في مصر
- (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) رد على: علال البسيط
- تعليقات على مقال أم قداس في كنيسة؟
- (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا)
- الرجل هو من استعبد المرأة والرجل هو من حررها
- علاقة الغرب العلماني المتحضر بالحاكم العربي
- هل الإجماع مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟
- الحرية كذبة كبرى
- هل الاجتهاد مصدر من مصادر التشريع في الإسلام؟؟
- وماذا بعد سقوط حسني مبارك ومحاكمته؟


المزيد.....




- استقبلها الان.. تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024
- “فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
- “التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية ...
- بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول ...
- 40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - السنة ما لها وما عليها: الفصل الرابع: (تاريخ إنكار السنة ونشأة القرآنيين)