|
عن سيرورة تشكّل مفهوم الحداثة
فتحي الحبوبي
الحوار المتمدن-العدد: 3634 - 2012 / 2 / 10 - 03:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
» الحداثة هي اللحظة ذاتها، إنّها ذلك الطائر الموجود في كل مكان و لا مكان، وعندما نريد ان نقبض عليه حيّا فانه يفتح جناحيه ويطير متحوّلا الى قبضة من المقاطع والحروف« (اوكتافيوباز، الحائز على جائزة نوبل 1990)
يناقش المجتمع الغربي اليوم مسالة ما بعد الحداثة. لأنّه مرّ بعد، من مرحلة عصر التحديث إلى عصر الحداثة، ثم ّإلى ما بعد الحداثة. فبما لا يزال المجتمع العربي الإسلامي يراوح مكانه في مناقشة مسألة علاقة التنافرالتي تجمع المسلم بالحداثة. ولا يجادل أحد، مهما كان انتماؤه الفكري، في أنّ للسلفيّة الموغلة في الماضي، رؤيتها الماضويّة التي ليس لها حضور فاعل في الراهن المعاش. لأنّها بالأساس ليست أكثر من، إعادة إنتاج لهذا الماضي بحذافيره، كما هو، بغثّه وسمينه، و دون زيادة أو نقصان. فهي بهذا المعنى، تتعارض في مفهومها مع الفكر التنويري الذي يسعى، دوما، لإنتاج الحاضر والمستقبل عبر التحوّلات الحداثيّة التي لا تتوقّف في سيرورتها عند صيرورة إلّا لتتابع مسارها بنسق سريع نحو غيرها حتّى عرّف أحد العلماء الغربيين الحداثة بأنّها »مقدرة الإنسان على تغيير قيمة بعد إشعار قصير«. وذلك من خلال إكتشافات واختراعات علميّة و إضافات معرفيّة ، بل وإبداعات فكريّة وفنّيّة، هي لمسات الإنسان المعاصر وبصمته وإسهاماته، بل وحصّته أو منابه من التاريخ. ومن هنا فإنّ إنتاجه الفكري و الحضاري بوجه عام يتّصف بالحديث ويتنزّل في سياق الحداثة فيما يتّصف هو بالحداثي. ولكن ما هو مفهوم الحداثة وما هو مسار تطوّرها عبر التاريخ؟. لقد بات من شبه المؤكّد أن الإرهاصات الأولى لملامح الحداثة، تعود بالأساس إلى حركة الإصلاح الديني خلال القرن السادس عشر، التي تزعّمها مارتن لوتر والتي تمايزت بها أوروبا المسيحيّة أنذاك عن العالم الإسلامي. وبرزت بشكل واضح في الصراع بين أنصار القديم وأنصار الجديد. وهو الصراع الذي أخذ شكلا أدبيا في غضون القرن السابع عشر بين الشعراء والكتاب، الذين أذكر منهم على سبيل الذكر كل من، نيكولا بوالو ،Nicolas Boileau وراسين Racine ولا فونتينLa Fontaine ، ولا برويير La Bruyère وهم من أنصار القديم أو بالأحرى من أنصار محاكاة الأدب الكلاسيكي الذي أعتبروه قمّة الإبداع، من جهة، وبين الأدباء والكتّاب المسرحيين من أمثال بيار كورناي, PièrreCorneille وشارل برّوCharles Perrault وفيليب كينو PhilippeQuinaul وبرنار دي فونتنالBernard de Fontenelle ، من أنصار الأدب الحديث الذين يرون ضرورة تجديد الأشكال الإبداعيّة ومواكبتها لقضايا العصر، من جهة ثانية. وقد خفت هذا الصراع الأدبي الحادّ لبعض الوقت ليعود بقوّة من جديد في غضون القرن الثامن عشر. وكانت من أبرز تجلّياته، بعد انطلاق الخلاف ما بين ماريفو Mariveau،المتمسّك بتلابيب القديم، وديدرو Diderot صاحب الموسوعة الفرنسيّة، المنحاز إلى التيّار التجديدي الحداثي، تلك الخصومة الأدبيّة الشرسة و الشهيرة التي دارت بين فيلسوفي عصر التنوير في فرنسا فرانسوا ماري أرويه المشهور باسم فولتير Voltaire وهو الأرستقراطي صاحب الطبع الشرس و الحظوة لدى السلطة، وجان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau ذلك اليساري الفقير. وكان ذلك من خلال دفقٍ من الرسائل المتبادلة والتي طفحت بالكره والحقد والاحتقار الذي ميّز العلاقة بين الرجلين. وكان من نتائج هذا الحراك والخصومات أن أصبح مفهوم الحداثة متأثّرا بتصورات ورؤى مفكري التنوير الذين هاموا بالديمقراطيّة والحريّة والعقلانيّة العلمانيّة والتقدّم المادّي حدّ العشق والتقديس. لذلك فهمت الحداثة على أنّها عصارة الافكار التي جاء بها مفكرو عصر الأنوار، الأنجليزوأهمّهم جون لوك John Locke ، صاحب كتاب بحث في الحكومة المدنيّة (Traité du gouvernement civil) والفرنسسين وأهمّهم مونتسكيوMontesquieu صاحب كتاب عن روح القوانين (De l’esprit des loi) الذي نادى بفصل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لتحقيق الحريّة، و فولتير الذي نادى بنقل الحكم من الإقطاعية إلى البرجوازيّة، مع الحفاظ على الفوارق الاجتماعيّة، وجان جاك روسو الذي وضع نظريّة العقد الاجتماعي التي يتولّى الشعب بمقتضاها السلطة التشريعيّة وتتولّى الحكومة تنفيذ القوانين، على أن تكون رهن إشارة الشعب الذي له الحق في أن يسحب ثقته منها متى شاء ذلك. وغاية الغايات من تلك القوانين إنّما هي تمتّع الجميع بالحريّة و المساواة بنفس القدر. ثمّ جاء، كل من شارل داروين (Charles Darwin)وكارل ماركس(Karl Marx)، وفردريك نيتشه (Friedrich Nietzsche)وسيغموند فرويد(Sigmund Freud)، فأعلنوا تمرّدهم على البنى التقليديّة للتصوّرات الدينيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة التي وجدوا المجتمع الغربي عليها. فأصبحت الحداثة ضربا من القطع النهائي مع الماضي ومع التقليد، وخاصة مع التراث الديني .وفي هذا المعنى يقول أنطوني جيدنAnthonyGiddens أنّ الحداثة » تتمثّل في نسق من الانقطاعات التاريخية عن المراحل السابقة حيث تهيمن التقاليد والعقائد ذات الطابع الشمولي والكنسي «. ويقول عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبرMax Weber معرّفا الحداثة بكونها »فصم الإئتلاف والوحدة بين السماء والأرض ممّا يجلي العالم عن وهمه ويلغيه من سحره«. من هذا المنطلق فإن الحداثة تغاير جذريّا وتتعارض حدّ التصادم مع المفاهيم التقليديّة؛ الدينيّة والثقافيّة والفنيّة والأخلاقيّة والإجتماعيّة المتّسمة بالجمود والتكلّس. حتّى قال أحدهم » كل مبدع حداثي، وكل مقلّد غير حداثي، حتّى وإن قّلّد الحداثة نفسها، لأنّ التقليد هو نقيض الحداثة «. والحداثة في نهاية التحليل تقوم على تبنّي العقل وتقديسه و استخدام العلم والتكنولوجيا كآليات وحيدة للتعاطي مع الواقع، ونزع القداسة عن كل الظواهر لتحوّلها إلى مادة للاستعمال. بما يعني فصل السياسة عن الدين وفرض إرادة الفرد المطلقة وتكريس وعيه بالحريّة . علاوة على ما يستتبع ذلك من إعلاء لمنزلة الإنسان ليصبح عند نيتشة، الإنسان الأعلى أو السبرمان ، في سياق فلسفة القوّة، سليلة الفلسفة الماكيفاليّة،التي نادت بضرورة اعتبار الدولة كقيمة أخلاقية مطلقة تتجاوز كل المطلقات دونها لتخلص بعد ذلك إلى المقولة الشهيرة» الغاية تبرّر الوسيلة«لضمان استمراريّة الدولة.وبديهي إن أخلاقيّات مكيافيلي تتعارض مع الأخلاقيّات المسيحيّة التقليديّة، التي تدعو إلى التسامح والتواضع وهو ما ينتج عنه إضطراب الدولة حسب زعم ماكيافيلي. ممّا يوجب أخلاق تمجّد القوة والسلطة والاستقلال والطموح. لذلك، فهو يقول »قلّد الثعلب والأسد« و»لا تتوان عن ارتكاب الشرور« و»رهبة خير من محبّة« و»لا تكفّ عن التظاهر والكذب«، ونحوها من المقولات الموسومة ب الواقعيّة بالمعنى المادي للكلمة.هذه الواقعيّة التي تنحاز إلى ما هو ومن هو قائم، ولا تنحاز بالمطلق لما هو ومن هو المفترض أن يكون في إطار مرجعيّة دينيّة. وهي إحدى تعبيرات فصل الدّين عن الدولة التي كان ماكيافيلي أوّل من نادى بها خلال القرن السادس عشر، ولم يسبقه في ذلك سوى الفيلسوف الفذّ إبن رشد.ولعلّ هذا الطرح يتّفق تماما مع فكر توماس هوبز الفيلسوف العلماني الإنجليزي الذي يرى أنّ منظومة القيم "عديمة الجدوى"وأنّ »المجتمع هو ساحة قتال الجميع ضد الجميع«. ويرى أن »الدافع وراء سلوكنا ليس محبّة رفاقنا بقدر ما هو حبّ لأنفسنا، فكل امرئ يحاول أن يزيد ثروته أو سلطته أو نفوذه إلى الحد الأقصى. والقيم والأخلاق والأخلاقيات ليس لها معنى إلا في إطار إشباع هذه الرغبات«.من هنا نفهم الجفاء والعلاقة التصادميّة، العدائيّة، بين الحداثيين من جميع المشارب اليساريّة واللائكية ،من جهة، والإسلاميين وخاصة منهم السلفيين، من جهة ثانية.ومن هنا نفهم كذلك، لماذا يختصر بعض المسلمين مفهوم الحداثة في أنّها لا تتعدّى»حريّة الإنسان في إشباع رغبات نصفه الأسفل دون قيود اخلاقيّة . وهذا الطرح التبسّيطي والتسطيحي المقصود، يتعسّف على الحداثة ولا ياتيه إلّا من يهرف بما لا يعرف. وفي ذلك تحقير للحداثة بآعتبارها ترجمانا لنسق معرفي وصناعي منظّم و منهج فكري ونمط حياة وممارسة إجتماعيّة وثقافيّة متكاملة من مقوّماتها الاساسيّة العقلانيّة والتجديد والإبداع بنسق سريع، هو نسق الحياة العصريّة أو الحداثيّة وفق تعريف اوكتافيوباز المشار إليه أوّل المقال. المهندس فتحي الحبّوبي
#فتحي_الحبوبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جدليّات الحداثة والقدامة والثورة وارتداداتها
-
في علاقة المفكر الحر بالسلطة والفقيه
-
المثقف بين السياسة والفكر
-
بين هروب محمود درويش وهروب القادة العرب المهزومين
-
فضل إنتعاش المقاومة على الثورات العربية
-
إستأصالية مقال نصيحة تونسية إلى الإسلاميين الحداثيين
-
في ذكرى محرقة غزة بالرصاص المسكوب
-
عن سرية دفن فولتير والقذافي
-
البداوة الفكرية لمحترفي الإفتاء وفق الأهواء
-
ممارسات سياسية بين فلسفة القوة والنظرية الداروينية للخلق
-
لا لحوارالأديان في ظل إنحباز بابا الفتيكان
-
الشيوعية والإسلام والفشل في ممارسة الحكم
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|