أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - نزار نيوف - من أجل إحياء وتطوير مفهوم -الكولونيالية الداخلية-: أفكار للنقاش بمناسبة الحديث عن تغيير أنظمة المنطقة من الخارج















المزيد.....



من أجل إحياء وتطوير مفهوم -الكولونيالية الداخلية-: أفكار للنقاش بمناسبة الحديث عن تغيير أنظمة المنطقة من الخارج


نزار نيوف

الحوار المتمدن-العدد: 246 - 2002 / 9 / 14 - 00:18
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


 

 

أخبار الشرق - 13 أيلول 2002

قبل أربعة عشر عاماً، وفي مثل هذه الأيام من عام 1988، أجريت حوارا مطولا مع مفكر أمريكا اللاتينية البارز (المكسيكي الأصل) دوس سانتوس لصالح صحيفة "تشرين" الرسمية السورية التي نشرته على حلقتين في صفحتين كاملتين أواخر شهر تشرين الثاني من العام ذاته؛ لكن بعد أن حذقت منه إجاباته المطولة عن أسئلتي له حول مفهوم "الكولونيالية الداخلية" الذي أبدعه مع زملائه في القارة المجتهدة دوماً، لا سيما منهم مفكر المكسيك بابلو غونزاليس كازانوفا. ولم يكن هذا الإجراء "التحريري" مستغرباً من صحيفة تنطق بلسان نظام سياسي أيديولوجيته الرسمية المعلنة، أو على الأقل أيديولوجية حزبه "الحاكم"، مشتقة من لمام الفكر الشعبوي بطبعاته المختلفة التي يمكنك أن ترى فيها عصارة ما أنتجه أقصى اليمين الفاشي عن القومية ممزوجة بعصارة ما أنتجه أقصى اليسار الفوضوي عن الإمبريالية! بل المستغرب هو أن لا تقوم صحيفة من هذا النوع بما قامت به!

وغني عن البيان أن أي صحيفة أو مجلة ناطقة باسم حزب شيوعي من أحزاب الماركسية السوفياتية، كالحزب الشيوعي السوري الرسمي بشقيه "الفيصلي" و"البكداشي" الوراثي, لم يكن منتظراً منها القيام بأقل مما قامت به صحيفة "تشرين". فقد ورثت هذه الأحزاب عن مؤتمر الأممية الثالثة المنعقد في باكو (1919)، وتحديداً خطاب لينين في المؤتمر عن "استيقاظ آسيا" ورسالته إلى شعوب الشرق، مفهوماً لينينياً انتهازياً تخريبياً عن "البرجوازية الوطنية" لم يستطع الوقوف في وجهه أو تحديه وتفنيده آنذاك سوى شامنكار راي Sh.Ray مؤسس الحزب الشيوعي الهندي الذي سيعيد أبناء أمريكا اللاتينية مثل كازانوفا وسانتوس إحياء أفكاره وتطويرها وصولاً إلى اشتقاق مفهومهم السياسي الإبداعي عن "الكولونيالية الداخلية".

أما شيوعيو الماركسية التخريبية السوفياتية فسيُكتب لهم المضي في غيهم اللينيني ليس إلى أن "يصحوا" على "بورجوازية مسلحة" هي أقرب إلى عصابات المافيا منها إلى أي شيء آخر وحسب، بل وإلى حد التحالف معها جهاراً ضد القوى الديمقراطية بطيفها الواسع الممتد من اليسار الديمقراطي حتى اليمين الليبرالي, تحت شعار أولوية التصدي للإمبريالية! (في اليونان تحالف جناح الحزب الشيوعي اليوناني "السوفيلتي"، وبأمر من أمه في موسكو، مع دكتاتورية العقداء ضد اليسار كله، وكان أعضاؤه يعملون، بتكليف حزبي رسمي، مخبرين وجواسيس ضد حركة المقاومة الشعبية كلها, بما فيها الحزب الشيوعي غير المتسفيت، ولصالح "الدكتاتورية الوطنية المقاومة لسياسة الاحتواء والدمج الإمبريالي الأوروبي المقوّض للدولة القومية المحلية ونهجها الوطني" (1). وسيكون موقف الشيوعيين السوريين (حتى الآن) والعراقيين (حتى عام 1979) مطابقاً لهذا الموقف، طالما كانت موسكو قادرة على أن تخلق من الشبه أربعين!).

بعد أربعة عشر عاماً على الحوار مع دوس سانتوس، الذي وُصف في أوساط رسمية ويسارية وشيوعية سورية بأنه ترويج للعدمية الوطنية والقومية، سيصدر عضو مجلس الشعب السوري منذر الموصلي "فتوى" بتخوين الكاتب الصديق عبد الرزاق عيد، ويدعو إلى مقاضاته بتهمة دعوة الأمريكان إلى العدوان على العراق وتغيير الأنظمة العربية من الخارج، قبل أن يصفه في ختام فتواه بـ "الفاجر"! وذلك لمجرد أن حذر عبد الرزاق عيد كل من يعنيه الأمر من مغبة "تفشي مزاج سياسي ثأري شبيه بمزاج المعارضة العراقية التي لم تجد وسيلة لمعارضة مخابراتها إلا باللجوء إلى المخابرات الأمريكية"، ومن تفشي هذه الظاهرة باتساع واضح "في أوساط الشباب السوري الذين راحوا يعبرون عن تأييدهم للعدوان الأمريكي على العراق تحت ضغط شعور بالإحباط واليأس (من أن) أنظمة العالم العربي هي الوحيدة في العالم المستعصية على التاريخ وقوانينه، فهي لا تتحول ولا تتطور ولا تتغير وفق صيرورات داخلية، فلا بد من قبول التدخل الخارجي وتأييده وإلا سنعيش أبد الدهر بين الحفر"! وكان شكل جديد من "دعاوى الحسبة" التي أحياها " طيور الظلام " في مصر، حسب تعبير فيلم عادل إمام, قد تم الشروع في إنتاجه بماركة سورية اعتباراً من شتاء عام 2001، لكن من قبل شيوخ أيديولوجيا وشيوخ سياسة هذه المرة، لا شيوخ دين على الطريقة المصرية.

وفي إطار هذا النوع الجديد من "الاجتهاد" الحربجي الذي سيسجل لسورية أنها موئله الأول، ولا فخر، بادر نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام إلى الإفتاء بعمالة "مثقفي البيانات" وهيئات ما يسمى بالمجتمع المدني للسفارات الأجنبية، ليحذو حذوه بعد ذلك، وبإيحاء من أحد "دور الإفتاء المخابراتية"، أربعة محامين أفتوا بتكفير كاتب هذه السطور وطنياً وبعمالته للإمبريالية والصهيونية والماسونية العالمية وكل ما يمكن اكتشافه لاحقاً من قوى شريرة! وذلك على خلفية ما قاله في مقابلة مع قناة "الجزيرة" حول جرائم القتل والتعذيب في السجون والمعتقلات، والخطف داخل البلاد وخارجها, وتحويل هذه البلاد إلى "مزبلة" للنفايات الكيماوية والنووية المستجلبة على أيدي أبناء أحد هؤلاء المفتين، وحول جرائم الفساد الذي بلغ شأواً خرافياً لم تسلم منه حتى أيدي الرؤوس المتربعة في أعلى هرم النظام التي وضعت عائدات النفط الوطني على مدى عقدين من الزمن في حسابات خاصة، بعد استبعاد هذه العائدات من مدخلات الموازنة العامة طيلة الفترة المذكورة. وقد توج هؤلاء المفتون الأربعة فتواهم بتقديم "دعوى حسبة بعثية" كان أن تمخض عنها صدور أمر باعتقال كاتب هذه السطور بالتهم الكاريكاتورية ذاتها التي أصبحت أحد تقاليد كرنفال المساخر القضائية التي تشهده مضارب الفخذ الشامي من "قبيلة بني عفلق" منذ مطلع هذا العام!

يأتي هذا كله على خلفية قرار الإدارة الأمريكية المعلن عن عزمها تغيير النظام في العراق بقوة السلاح, وما أثاره هذا القرار من جدل حول "شرعية" تغيير الأنظمة بقرار خارجي، وعما إذا كان يحق للإدارة الأمريكية أو لغيرها القيام بذلك أم لا. وكان هذا الجدل قد استعرَ قبل عدة أشهر حين رأى البيت الأبيض ضرورة تغيير قيادة السلطة الفلسطينية بقيادة أخرى أكثر ديمقراطية وأقل فساداً! لكنه ما لبث أن فتر بعد أن رضخت السلطة للضغوط وقبلت حزمة الأفكار الأمريكية - الأوروبية - الإسرائيلية لـ "إصلاح" مؤسساتها .. إنقاذاً لبعض رؤوسها الأمينة لإرث لويس الخامس عشر ومقولته الخالدة Après moi le déluge (ومن بعدي الطوفان). وهو على أي حال شعار الأنظمة العربية كلها، وليس النظام الفلسطيني وحده!

وإذا كنا قد عشنا جدلاً وتخويناً، وتخويناً مضاداً, خلال الأشهر السبعة التي امتدت بين قيام النظام العراقي باجتياح الكويت في إطار الحروب "البسوسية" للفخذ البغدادي من قبيلة "بني عفلق"، وشاهدنا كيف لبى قسم كبير جداً من الضحايا التاريخيين للقمع نداء زعماء الأفخاذ والبطون الثقافية القومجية والإسلامية للاصطفاف وراء زعيم القبيلة المدافع عن شرف قبيلته، فإن الأكثر إثارة للانتباه في "الفزعة" الأيديولوجية التي تحشد صفوفها اليوم في وجه الإدارة الأمريكية وقرارها، هو أنها تضم في صفوفها التيارات الأساسية الثلاثة كلها في العالم العربي: القومية التقليدية والإسلامية واليسارية (بطيفها الواسع الذي يجمع الماركسيين والبعثيين والناصريين، بافتراض إمكانية إدراج الأخيرين على لائحة اليسار).

وبخلاف ما كانت عليه فزعة الأشهر السبعة تلك، سوف نلاحظ هذه المرة أن الأنظمة التي كانت في طليعة قوى التحالف (وبشكل خاص السوري واللبناني) تقف هذه المرة في خندق واحد مع "معارضيها"، وتساهم بشكل فعال في التجييش السياسي والأيديولوجي لخوض معركة الدفاع المقدس عن حياض القبيلة المهدد بالغزو الخارجي! وبتعبير آخر يصطف الجلاد والمجلود والسارق والمسروق والمجرم والضحية في "وحدة وطنية - قومية" لا سابق لها!

فالإسلاميون المصريون المطالبون بالتعددية واعتراف السلطة بهم كحزب شرعي، لم يتوانوا عن الوقوف مع النظام الذي يضطهدهم في وجه الدكتور سعد الدين ابراهيم، المدافع عن التعددية وحق الجميع بها وبالديمقراطية، تحت ستار دعم الموقف "الوطني" للنظام إزاء الضغوط الأمريكية, في الوقت الذي تعج فيه السجون بالمئات من كوادرهم وتشهد المحاكم العسكرية الاستثنائية ملاحقة العشرات منهم، وفي الوقت الذي لم ينبسوا فيه ببنت شفة على رضوخ هذا النظام لأوامر البيت الأبيض في طي ملف آلاف الأسرى المصريين الذين ذُبحوا في سجون إسرائيل بعد أسرهم!

أما إسلاميو الأردن فكان موقفهم من هذه القضية، المعبَّر عنه من خلال بيان نقابة المحامين الأردنيين التي يسيطرون عليها, من أكثر المواقف مدعاة للخجل، خصوصاً وأن المنتظر منها هو أن تكون "صوت العدالة" المفترض لا صوت التخوين واتهام الآخرين بالعمالة والجاسوسية كشقيقتها نقابة المحامين السوريين (وحده العالم العربي من بين أمم الخليقة كلها تقف فيه نقابات المحامين، باسم المصالح المزعومة للأمة، مع السلطة وأجهزة المخابرات ضد المتهمين وهم قيد المحاكمة)!

وليس المشهد اليساري أفضل حالاً. فحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي في سورية، وهو جزء من "التجمع الوطني الديمقراطي" المعارض (السري عملياً)، لم يجد أي حرج في تجييش وفد من سبعة وسبعين من كوادره شد الرحال إلى مصر للاحتفال بذكرى الانقلاب الناصري الذي ذوّب الناس بالأسيد (فرج الله الحلو) وأعدم النقابيين المطالبين بالخبز والحرية وذبح الناس في السجون والمعتقلات؛ ولا أي حرج في تجييش المئات من أنصاره وأنصار التجمع للاحتفال بذكرى هذا الانقلاب في دمشق, وبمشاركة السلطة نفسها, في الوقت الذي لم يجيش أحداً من هؤلاء للاحتجاج على محاكمة شيخ الكفاح الديمقراطي رياض الترك، الرمز الوحيد في هذا التجمع والرمز الأكبر لقضية الديمقراطية في سورية, ولزم صمت القبور إزاء قضية مقتل أكثر من 600 ضابط وجندي سوري بعد أسرهم في السجون الإسرائيلية (كأشقائهم المصريين), وإزاء قضية "تلزيم" الإدارة الأمريكية للنظام السوري "عطاء ومقاولة" تعذيب العشرات من معتقلي غوانتنامو بعد نقلهم مؤخراً إلى سورية بشكل سري لانتزاع الاعترافات منهم؛ ولا إزاء إقرار السلطة رسمياً بتعاونها مع وكالة المخابرات الأميركية ضد مواطنيها!

كما لم يجد الأمين العام للحزب حرجاً في توجيه رسالة للسلطة عبر وسائل الإعلام يحرضها فيها, وإن بشكل غير مباشر، ضد مؤتمر مناقشة "ميثاق الشرف الوطني" المنعقد في لندن، بحجة أنه يُعقَد في الخارج وفي ظروف الهجمة الإمبريالية على الأمة. وكل ما يُعقَد في الخارج لا سيما في هذه الظروف - افهمي أيتها السلطة وافهم أيها الشعب - هو مشبوه ومرتبط وتحركه أصابع السفارات. وكان موقفه هذا - إذا نظرنا إليه بمضمونه وطريقة إعلانه وليس بحرفيته - هو موقف السلطة وموقف أجهزة مخابراتها تماماً! (كان الأجدى به أن يتساءل: لماذا سمحت له السلطة بإقامة هكذا احتفال علني وحرصت على المشاركة فيه، في الوقت الذي ضاق 185 ألف كيلومتر مربع ببضع عشرات من المثقفين الوطنيين والديمقراطيين اجتمعوا ليناقشوا وثيقة من ثلاث صفحات؟!).

من المؤكد أن لكل من هذه الأطراف فهماً ذاتياً لما يجري وبالتالي دافعاً "خاصاً" للانخراط في هذه الفزعة. غير أن الجميع يتشاطرون دافعاً مشتركاً أساسياً واحداً على الأقل، هو المفهوم البدوي - القبلي عن الوطن والمصلحة الوطنية. فالبدوي كان الوطن بالنسبة له, وسيبقى ما بقيت ظاهرته الاجتماعية والاقتصادية موجودة فعلاً أم بقوة الأمر الواقع De Facto، مفهوماً جغرافياً اقتصادياً يأخذ قيمته وأهميته من قيمة وأهمية الكلأ والمرعى الضروري لتنشئة قطيع القبيلة. ورغم أن جميع أفراد المشترك القبلي Tribal Community يدركون أن زعيم القبيلة هو المالك الوحيد لهم وللقطيع، بمعنى أنهم فاقدون للحرية السياسية والحرية الاقتصادية، فإنهم لا يترددون، عند دنو أي خطر خارجي من مشتركهم, في القتال خلف زعيم قبيلتهم والحرص أشد الحرص على انتصاره على زعيم القبيلة الأخرى وتحجيم نفوذه. وليس مهماً إن كان الخطر الداني حقيقيا أم مسوّلاً لهم من قبل هذا الزعيم بفعل أطماعه الخاصة في توسيع مشتركه على حساب مشترك القبيلة الأخيرة وبالتالي تحجيم شيخها الذي هو نده الاجتماعي والاقتصادي. فالوعي القبلي بالوطن هو في أرقى حالاته وعي اقتصادي اجتماعي وليس وعياً سياسياً، لأن المشترك القبلي هو في الأساس عضوية أو وحدة اقتصادية Economic Monad وليس عضوية أو وحدة سياسية، وهو مجتمع ما قبل سياسي وما قبل إنساني، أي مجتمع ليس فيه للإنسان قيمة بذاته، بل بوصفه جزءاً من ممتلكات زعيم القبيلة. وهذا في الواقع لا يختلف كثيراً عن مجتمعات الرق والعبودية. وفقط في المجتمع الرأسمالي الحديث يمكن الحديث عن مجتمع سياسي، حيث يصبح فيه الإنسان كائناً سياسياً يأخذ قيمته من وعيه بالحرية وممارسته لها، بغض النظر عن مقولتي التشيؤ والاستلاب Alienation الماركسيتين اللتين تقعان خارج هذا السياق.

على هذه الخلفية يمكن أن نفهم - مثلاً - لماذا كانت وما زالت عبارة "نموت جميعا ويحيا الوطن" التي أطلقها أحمد سعيد ببوق الناصرية, هي شعار جميع القوى الشعبوية القومجية، يميناً ويساراً. ويمكن أن نفهم لماذا لم يخطر في بال أحدهم أن يتساءل: ما قيمة أي وطن حين يموت جميع أبنائه؟! وما الفرق بينه - إذ ذاك - وبين أي بقعة مهجورة من الأرض مرمية في كوكب آخر ولا تسكنها إلا الأشباح؟! وعلى هذه الخلفية أيضاً، لكن من زاوية معاكسة تماماً، يمكن أن نفهم لماذا تكاتف الفرنسيون، يميناً ويساراً وانبروا للوقوف سداً واحداً في وجه مرشح الجبهة اليمينية جان ماري لوبن، حينما شعروا بدنو خطره، رغم أنهم يدركون جيداً أن برنامجه الاقتصادي والاجتماعي قد يكون أفضل من برامج القوى الأخرى، أو على الأقل ليس أسوأ منها, وأنه قد "يخلصهم" من بضعة ملايين أجنبي يقاسمونهم الضمان الاجتماعي والصحي.

إن الفرق بين الدافع الذي يدفع العربي اليوم للانخراط في هذه الفزعة القومجية القبلية للدفاع عن "العراق" (في الواقع عن نظامه، وإلا كيف نفسر أن أياً من هؤلاء لم يطالب هذا النظام بالتصالح مع شعبه؟!)، والدافع الذي جعل المواطن الفرنسي، يمينياً كان أم يسارياً شيوعياً أو اشتراكياً, ينخرط في معركة دحر ماري لوبن، متجاوزاً ولاءه الحزبي والأيديولوجي الضيق؛ هو الفرق بين الدافع الذي يحكم الفرد في المجتمع البدوي بوصفه كائناً اقتصادياً لا قيمة اجتماعية له إلا من خلال قيمة مشتركه القبلي لأنه فاقد وعيه بحريته, وبين الدافع الذي يحكم الإنسان في المجتمع الرأسمالي الحديث بوصفه كائناً سياسياً يمكن أن يضحي بأي شيء إلا بحريته لأنها مصدر قيمته الاجتماعية والإنسانية. فوطن البدوي، الذي هو فضاء للكلأ والمرعى والقطيع، لا يكتسب أهميته وقيمته كـ "وطن" إلا بمقدار ما يكون فضاء لممارسة "حرية الرعي والانتجاع"، بينما وطن الإنسان الحديث, الذي هو فضاء للإنسان الحر بصفته إنساناً فرداً متحرراً من الولاء القسري للزعيم والمشترك Community, لا يصبح وطناً إلا بمقدار ما يكون فضاء لممارسة "الحرية السياسية" التي هي أم الحريات الأخرى جميعها ومصدرها. وشتان بين الفضاءين والحريتين!

ليس هنا المجال المناسب للحديث عن ظروف نشأة وتكون الدولة العربية "الحديثة" والقوى الاجتماعية والاقتصادية التي نهضت بأعباء إنشائها, والتي قادت في النهاية إلى إعادة إنتاج وتثبيت مستمر لمفهوم الوطن بما هو "فضاء للكلأ والمرعى وحرية الانتجاع". لكن هذا لا يحول دون التذكير ببعض الحقائق الهامة:

أولاً- أدت العلاقات الاقتصادية بين الدولة العثمانية والغرب الرأسمالي، اعتباراً من القرن الثامن عشر، إلى ولادة طبقة لاتيفوندية Latifunda من المزارعين الذين ينتجون للأسواق الرأسمالية ويراكمون عائداتهم المتحصلة من هذا التخصص في الاكتناز العقاري و/ أو تبديدها في استيراد الكماليات والمنتجات الفاخرة، وليس في تراكم صناعي حقيقي.

ثانياً- هذه الطبقة اللاتيفوندية (ويعود لأستاذي سمير أمين فضل إنتاج هذا المفهوم) هي في الأساس "طبقة" زعماء القبائل والعشائر والوجهاء نفسها التي كانت تهيمن في مرحلة ما قبل "الاجتياح الاقتصادي" الغربي الذي خلقها. وهي - بخلاف ما ادعته الفهلويات الأيديولوجية التي فبركتها الماركسية السوفياتية وامتداداتها من منظري الأحزاب الشيوعية العربية ومثقفيها (فقط لتبرر الطابع "الاشتراكي" المزعوم للانقلابات العسكرية الناصرية والبعثية) - ليست طبقة بورجوازية على الإطلاق. ولأنها كذلك، ولأن ظروف نشأتها وتطورها كانت غير طبيعية, فقد حافظت على قيم "المشترك البدوي" بكاملها، وحرصت على إعادة إنتاجها المستمر، لأن في هذا الاستمرار وإعادة الإنتاج للقيم والعلاقات المشتركية القبلية ضماناً أكيداً لاستمرارها كطبقة بذاتها ولذاتها.

ثالثاً- هذه الطبقة اللاتيفوندية هي نفسها التي تصدت لعملية قيادة الاستقلال السياسي والتحرر من الاحتلال والكولونيالية الخارجية حين وجدت أن مصالحها باتت تستوجب ذلك، وحين أصبحت الظروف الدولية مهيأة للإقدام على خطوتها "الانشقاقية" التي لا يمكننا اعتبارها استقلالاً أو تحرراً بأي معيار من المعايير. ذلك أن أقصى ما كانت تطمح إليه بانشقاقها هذا هو الحصول على عائد أكبر من عملية "التلزيم" Usufruct الموكلة إليها من قبل الاقتصاد الرأسمالي الغربي الذي خلقها وسواها. وهو لا يختلف في الجوهر عن دور "إقطاع الالتزام" Usufruct Feudality الذي كانت تقوم به في ظل الدولة العثمانية.

رابعاً- لأنها لم تكن طبقة بورجوازية أصيلة، ولأنها لم تكن وطنية بحكم ظروف نشأتها وولادتها في ركاب رأس المال التجاري والعقاري، فقد جاءت "الدولة" التي بنتها مجرد إعادة إنتاج "منقحة" للمشترك القبلي القديم نفسه. وحين عجزت عن قيادة عملية التراكم الأولي والموسّع ووصلت على الحائط المسدود، انفجرت من داخلها، وقد عبر هذا الانفجار عن نفسه بتمرد الفئات الوسطى (المولودة كنتيجة مباشرة لفشل عملية التراكم الاقتصادي) التي لم تجد سوى الجيش "حزباً" يمكنها الاعتماد عليه. فالجيش كان دائماً في المجتمعات المتخلفة حزب الفئات الوسطى التي لا حزب لها، كونه الكتلة الأكثر تنظيماً و"عصرنة"، وإن بالمعنى النسبي، والفئة الوحيدة القادرة ظرفياً على ضبط عملية التراكم من خلال التوجيه القسري للفائض الاقتصادي في منحى محدد سلفاً لصالح الفلاحين الكولاك Kolak والفئات الوسطى. ولا عجب (وهنا ذروة المفارقة) أن نلحظ أن جميع تجارب "التحديث" التي قامت في أطراف العالم (أو ما سُمي بالعالم الثالث)، من الكوريتين شرقاً إلى الأرجنتين البيرونية وتشيلي بينوشيه غرباً، مروراً بالعالم العربي, الناصري والبعثي وسواهما، وأوروبا المتوسطية ذاتها، إنما تمت بقيادة الدكتاتورية، التعبير السياسي للكولاك والفئات الوسطى!

لكن هذه الفئات الوسطى لم تعد وسطى! فللتحديث الذي تقوده الدكتاتورية منطقه الخاص كذلك، وهو ليس منطق التحديث الذي قادته البرجوازية الأصيلة في أوروبا الغربية والشمالية. كما أن له نتائجه الكارثية الخاصة أيضاً. فمنطقه الخاص يتمثل في أنه أعاد إنتاج "المشترك القبلي" القديم بأدوات حديثة (الحزب، الجيش، النقابة .. إلخ). ولذا ما إن تنزع هذه القشرة "الحديثة" حتى يتبدى ذاك المشترك بكل تخلفه وقبحه، ذلك لأن هذه الأدوات لم تكن في الواقع إلا نتاجاً لعملية تطور مشوهة حملت في طياتها قيم المشترك البدوي بكاملها وكانت معبراً أميناً عن هذه القيم رغم أنها، كأدوات، هي نتاج المجتمع الرأسمالي الحديث.

وأما أبرز نتائج هذا التحديث، وهنا بيت قصيدنا، فهي ولادة ظاهرة "الكولونيالية الداخلية" التي ستثبت الوقائع أنها أكثر سوءاً وخطراً على التطور، بالمعنيين: النوعي (القيمي) والكمي، من الكولونيالية الأجنبية أو الخارجية!

لا خلاف البتة في أن الكولونيالية الأجنبية قامت وعلى مدى الحقبة الاستعمارية بعملية نهب منهجية واسعة النطاق غير مسبوقة في التاريخ، إلى حد أن بعض أساتذتنا الاقتصاديين الراديكاليين (مثل أندريه غوندر فرانك في هولندا ورمزي زكي في مصر، وقبلهما بكثير روزا لوكسمبورغ في كتابها الصادر عام 1913: تراكم رأس المال) لا يتورع عن القول إنه لولا هذا النهب ومساهمته الكبرى في إعادة الإنتاج الموسع في أوروبا، لما تحققت الثورة الصناعية في هذه القارة، ولما استطاعت إنجاز التراكم المكثف لاحقاً.

ولا خلاف أيضاً حول أن هذه الكولونيالية الأجنبية مارست القمع والاضطهاد والتنكيل بأبناء المستعمرات، وحولت هذه المستعمرات في أحيان كثيرة إلى سجون كبيرة، بالمعنى الحقيقي لا المجازي. كما أنه لا خلاف أيضاً على أنها - وبفعل النهب والاعتماد على والتحالف مع قوى المجتمع القديم في مستعمراتها - قد أعاقت عملية تطورها إلى حد كبير .. والأخطر أنها شوهته حين أرادته أن يكون، لغاية في نفس اقتصادها وليس لغاية في نفس "يعقوب المسيحي" الذي لا يحب محمداً المسلم، كما يود البعض أن يروج ويقنع الناس!

لكن من يستطيع الادعاء بأن الكولونيالية الداخلية قامت بأقل من هذا؟! بل من يستطيع الادعاء بأن هذه الكولونيالية لم تكن، كمياً ونوعياً، أسوأ من الكولونيالية الخارجية وأشد خطراً وإجراماً منها؟!

لقد مارست الكولونيالية الداخلية، ولا زالت تمارس، النهب بأكثر أشكاله عنفاً ووحشية ومافيوية من الكولونيالية الأجنبية. وباستثناء حالة الجزائر، يمكن القول إن الكولونيالية الداخلية قتلت وذبحت من أبناء بلدانها أكثر بكثير مما قتلت وذبحت الكولونيالية الخارجية. ومن لا يصدق فأمامه جنرالات الجزائر وحكام سورية والعراق الذين لا نظير لهم في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والأمثلة الأخرى أكثر من أن تعد وتحصى!

لقد حاكم الاستعمار الفرنسي الزعيم إبراهيم هنانو، أحد أبرز قادة الثورة السورية الكبرى، وبرأه من التهم الموجهة إليه وأطلق سراحه. هذا رغم أنه في عرف القانون الفرنسي المطبق على سورية المحتلة "إرهابي، وحمل السلاح ضد سلطة الدولة الفرنسية، وقتل مواطنين فرنسيين" حسب مضمون التهم التي وُجهت إليه. بينما لم يتورع النظام السياسي في سورية والعراق، على سبيل المثال، عن زج الآلاف في السجون والمعتقلات لسنوات طويلة، بلغت أحياناً ربع قرن، دون محاكمة بسبب آرائهم ومعتقداتهم، وتعذيبهم وقتلهم وإعدامهم من قبل محاكم سرية لم تتجاوز جلساتها في كثير من الحالات الدقيقة أو الدقيقتين، كما يحدث في سجون ومعتقلات العراق وكما حدث في سجن تدمر الصحراوي في سورية. وحين أراد النظام السوري أن يحاكم الناس علانية، حكم على الدكتور عبد العزيز الخير 22 عاماً (أطول حكم يصدر في تاريخ سورية على معارض سياسي علماني) بسبب عضويته في حزب العمل الشيوعي وبيانه "عرس الدكتاتورية" عن الاستفتاء على رئاسة الرئيس الراحل في عام 1991، وأطلق رفاقه جميعاً باستثنائه. وحكم على أستاذي الدكتور عارف دليلة عشر سنوات بسبب محاضرة تندد بالفساد وتطالب بالديمقراطية. أما جبريل الرجوب وجهاز أمنه الوقائي فقد ذبحوا في سجونهم أكثر من 19 معتقلاً تحت التعذيب خلال سنة واحدة وبضعة أشهر من عمر السلطة "الوطنية" الفلسطينية، وهو ما لم يحدث في سجون إسرائيل خلال 35 عاماً من الاحتلال!

أعرف جيداً أن الجميع يقر بهذا الكلام مباشرة أو مداورة، لكن تعبير "الكولونيالية" هو الذي سيكون موضع جدل، ليس لأنه يعني الاستعمار فقط، ولكن لأن الإقرار بأن هناك كولونيالية يوجب الإقرار بأسلوب محدد للتخلص منها، وهذا هو مربط الفرس كما يقال!

يتفق الجميع تقريباً على أن الكولونيالية هي احتلال قوى أجنبية ما لبلد معين بالقوة، ومصادرة حقوق أبنائه وحرياتهم، ونهب ثرواتهم لصالح البلد الذي يستعمرهم، ومنعهم من حق تقرير مصيرهم السياسي واختيار حكوماتهم بملء إرادتهم. وإذا دققنا قليلاً نجد أن جميع خصائص الكولونيالية الخارجية هذه تنطبق انطباقاً تاماً على الكولونيالية الداخلية، باستثناء خصيصة واحدة سنأتي عليها لاحقاً. ففي أي بلد يخضع لهكذا نوع من الاستعمار الداخلي نلاحظ أن الطغمة الكولونيالية الحاكمة تقوم بعملية احتلال حقيقية لـ "بلدها" بقوة الجيش والمخابرات وبقية الأجهزة المدنية وشبه العسكرية الملحقة بها (ميليشيات حزبية وشبيبية وكتائب عمالية مسلحة .. إلخ)، وتقوم بمصادرة الحقوق الاقتصادية للمواطنين ونهب ثرواتهم الوطنية وتهريبها إلى الخارج و/ أو إقامة مستعمرات حقيقية داخل البلاد لجنرالات الجيش والمخابرات والنومنكلاتوراNomenklatura المهيمنة. فضلاً عن ممارسة القتل والتعذيب والاعتقال التعسفي ومصادرة حقوق المواطنين السياسية، لا سيما حقهم في تقرير مصيرهم وحقهم في حرية الرأي والتعبير واختيار ممثليهم الحقيقيين المفوضين اختيارياً وديمقراطياً لإدارة شئونهم لفترة زمنية محددة متفق عليها، وليس إلى أبد الآبدين!

وإذا كنا بصدد حالة نموذجية, يمكننا الإشارة ليس إلى العراق وحسب (فهو أمر محسوم ومفروغ منه)، بل إلى سورية، حيث نجد أن 2 في المائة من السوريين (وهم أقل من 3 آلاف شخص من كبار ضباط الجيش والمخابرات ونومنكلاتورا الحزب الحاكم) تسيطر على حوالي 50 في المائة من ثروات البلاد بالقوة ما فوق الاقتصادية Ultra-Economic، أي بقوة التسلط السياسي والأمني الذي لا علاقة له بالعملية الاقتصادية ومنطق الإنتاج والتجارة والسوق والربح. وهو ما كان يحدث تماماً في المجتمعات الإقطاعية والعبودية والمشتركات القبلية. وقامت هذه الفئة بتهريب حوالي 100 مليار دولار من الثروة المنهوبة إلى الخارج (كما كشفنا منذ 13 عاماً (2) وكما أعاد عارف دليلة اكتشاف ذلك وذهب بسبب اكتشافه, ولو المتأخر, عشر سنوات إلى السجن: سنة سجن عن كل عشرة مليارات تحدث عن اختلاسها!). وهو أمر لم يحصل على مدى 26 عاماً من الحكم الكولونيالي الفرنسي، سواء بالمعنى الكمي أو القيمي، ولا حتى في جنوب أفريقيا العنصرية!

الخصيصة الوحيدة التي "تنفرد" بها الكولونيالية الداخلية عن الخارجية، هي أن ممثلي الأولى من سكان البلاد الأصليين. ولعل هذا هو الأمر الوحيد الذي يرفض بسببه الإسلاميون والقومجيون واليسار التقليدي (وقسم واسع من اليسار الجديد أو الديمقراطي) اعتبار أنماط الحكم التي تسيطر في بلدانهم بمثابة "كولونيالية". والواقع إن هذا المنطق في محاكمة الأمر لا يعدو أن يكون أحد نتاجات الوعي البدوي والإقطاعي (أي جميع المشتركات ما قبل الرأسمالية) عن مفهوم "الوطن" التي لا زالت تتحكم بتفكير هؤلاء. فطالما أن "الطبقة الحاكمة من أبناء البلد، ومهما كانت ممارساتها كولونيالية الطابع، ينبغي الوقوف معها عندما يتعرض الوطن (اقرأ: المشترك) إلى أخطار خارجية"، يقول هذا منطق هؤلاء! والحق إن هذا المنطق ما هو إلا إعادة صياغة "سياسية" انتهازية معاصرة لمنطق عضو المشترك القبلي والإقطاعي الشهير الذي يقول: "أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، أو "انصر أخاك ظالماً ومظلوماً" بالمعنى السلبي للنصرة!

إن الاعتراف بوجود كولونيالية داخلية، يحتم الاعتراف بأشكال معينة من الكفاح لمقاومتها ودحرها وتحرير البشر منها. والواقع ليس هناك مسطرة واحدة نقيس بها هذه الأشكال المعينة للمقاومة والتحرر، وليس هناك تنميط لعملية المقاومة من أجل الحصول على الاستقلال عن هذا الاحتلال الداخلي، أو الكولونيالية الداخلية. فذلك يتوقف على الظروف الموضوعية والذاتية لكل حالة بذاتها، وعلى الشرط الدولي الذي يحكمها.

لقد كانت حروب التحرير التقليدية حروباً من أجل دحر الكولونيالية الخارجية وإخراجها من الأرض والوطن بوصفهما "فضاء للكلأ والمرعى وحرية الانتجاع"، ولهذا فشلت فشلاً ذريعاً في إنجاز مهماتها، ولم تؤد إلا إلى استبدال كولونيالية خارجية بأخرى محلية. ولعل الحالة الفلسطينية الراهنة أكثر تعبيراً وطزاجة عن هذا الوضع، حيث النضال العبثي لشعب قدم شلالات من الدماء من أجل استبدال كولونيالية آرييل شارون بكولونيالية جبريل الرجوب وأمنه الوقائي. وما لم يضع هذا الشعب نصب عينيه أولوية التخلص من الثانية كي يتخلص من الأولى، فلن يُكتَب له الاستقلال الحقيقي، وسيبقى أسير الاثنتين معاً. الأمر الذي ينطبق على جميع الشعوب العربية وغيرها الكثير! أما حروب التحرير التي يجب أن تنطلق اليوم فهي حروب من أجل تحرير الإنسان من الكولونيالية الداخلية. ولعل عنترة بن شداد "الجاهلي", شاعر ومثقف بني عبس, كان في القرن الخامس أو الرابع أكثر وعياً بهذه الحقيقة من تسعة أعشار القومجيين واليساريين والمثقفين العرب الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين، حين أطلق مقولته الخالدة "لا أستطيع أن أكر إلا وأنا حر"! وكانت قبيلته "العنصرية" أكثر رحمة به ووعياً بهذه الضرورة من رحمة كولونيالياتنا العربية ووعياً بها, حين استجابت له وقالت "كر وأنت حر"!

وكما كانت حروب "تحرير الأرض" التقليدية تستعين بحلفاء من بقية أنحاء العالم يناصرونها في قضيتها العادلة، وهو أمر مشروع أخلاقياً وسياسياً، فإن حروب تحرير الإنسان التي ستنطلق، أو يجب أن تنطلق، سيكون لها الحق نفسه في ذلك، وسيكون هذا أمراً مشروعاً لها من الناحية السياسية والأخلاقية. ومهما كان جورج بوش وأمريكا مجرمين فسيظلون أرحم بالعراقيين من فخذ قبيلة بني عفلق، وبالأفغان من أسامة بن لادن والملا عمر. ومن المؤكد أن هذا أمر مرير، ومرارته تنبع من أن خيارات العرب الراهنة، وشعوب أخرى غيرهم، وهذه ذروة مآسيهم ومآزقهم، لا تتعدى خيار المفاضلة بين طرفي ثنائيات هي وحدها المتاحة الآن: شرير وأكثر شراً، ومجرم وأكثر إجراماً، ولص وأكثر لصوصية, واحد يبيدهم بالأسلحة الكيميائية أو البيولوجية كالجرابيع في "حلبجة"، وآخر يختبرها عليهم كما الفئران في "خان أبو الشامات". وفي "أحسن الأحوال" المفاضلة بين "مناضل وطني" مثل جبريل الرجوب وأمنه الوقائي الذي يقتل بالتعذيب, وآرييل شارون وبنيامين بن أليعازر اللذين يقتلان بالأباتشي والدبابات!

أعرف جيداً أن هذا الكلام سيصدم الكثيرين، ولربما استدعى من "مفتي المخابرات"، أو من غيره، استصدار فتوى بالخيانة بحق قائله. لكنني أعرف في الآن نفسه أن المرء عندما يكون أداة للتغيير والتفكير، فدائماً هناك خطر أن يظنه الناس أداة للخيانة!

__________ 

* صحفي سوري - مشفى ماري كوري في باريس

هوامش:

1-  Nicos Poulantzas :La Crise des dictatures.

2-  N .Nayouf :Paul Baran’s theory on the irrational making use of economic surplus potential. Syria as a case study. (MA thesis, 1989).

 



#نزار_نيوف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - نزار نيوف - من أجل إحياء وتطوير مفهوم -الكولونيالية الداخلية-: أفكار للنقاش بمناسبة الحديث عن تغيير أنظمة المنطقة من الخارج