رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 3629 - 2012 / 2 / 5 - 11:20
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
أولاً: الديمقراطية المزيفة
كثيراً ما يجري الحديث عن السلطات الثلاث: التشريعية, التنفيذية, القضائية, ويضيف إليها البعض سلطة رابعة, هي سلطة الإعلام, ولكن أحداً لا يتحدث عن سلطة خامسة هي في الواقع أم السلطات الأربع إنها سلطة الشعب.
إن الحديث عن السلطات في ظل نظام ديمقراطي, يختلف عنه في ظل نظام غير ديمقراطي, ففي هذا الأخير لا معنى للكلام عن سلطات, لأنه لا وجود فعلي سوى لسلطة واحدة, تختصر في ذاتها باقي السلطات, تصنّعها وتوظفها من فوق, وخارج إرادة الشعب, هنا نجد أن إرادة أو رأس الحاكم هي مصدر السلطة, وما السلطات الثلاث أو الأربع سوى تجليات شكلية تضليلية لها, هدفها الأساسي تجميلي نفاقيّ, ويبدو ذلك جلياً في الاسم المستعار الذي تتسمّى به وهو "الديمقراطية". إنه اسم على غير المسمى تماماً... ما يؤسس لأزمة تناقض بين الشكل والمحتوى على طول الخط.
في ظل النظم غير الديمقراطية, لا وجود.. ولا معنى لفصل واستقلال السلطات, وليست مصممة أصلاً على هذا الأساس, الذي يعرقل إرادة الحاكم ويقيدها, فهذا الأخير لا يقبل بوجود آليات للنقد والاعتراض والتأثير, ويعمل على احتكار صناعة القرار, لا سيما في الشأن العام. هكذا يختصر الحاكم في شخصه جميع السلطات الفعلية, ويصبح الحاكم فوق السلطة والدولة والشعب.
ثانياً: العلامة الفارقة للاستبداد ( تغييب سلطة الشعب )
في هذه الحالة يقتصر دور السلطات على أداء وظيفة استشارية/تنفيذية, تهتم بتقديم المقترحات, وتعنى بتنفيذ التعليمات,وتُترك لها بعض التفاصيل والهوامش. ولا يكتفي الحاكم بتدجين وتهجين المؤسسة التشريعية, والقضائية, والدستور, والقوانين, بل يعمد إلى مزيد من تحصين إرادته واستحواذه على كامل السلطة من خلال تفعيل دور قانون الطوارئ... والمحاكم الاستثنائية, إلى الدرجة التي تمكنه من تعطيل وشل القوانين المرعية التي صنعها بنفسه.
هذه الصيغة غير الديمقراطية تفضي إلى عملية اغتصاب منظّم للإرادة العامة للمجتمع, وطاقاته السياسية, وإقصاء أي دور للسلطة الرقابية والنقدية. وتحدد وظيفة السلطة الرابعة ( الإعلام ), بالدعاية والإعلان والترويج لبضاعة السلطة غير الديمقراطية, من أجل تسهيل تسويقها وتسويغها في الوسط الاجتماعي.
وما يميز هذا النوع من الحكم غير الديمقراطي هو تفشي البيروقراطية والفساد والفشل في إدارة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
وما يميزه بشكل أخص هو التغييب المتعمد والمنظم لسلطة الشعب, هذا التغييب الذي يعتبر العلامة الفارقة للنظم غير الديمقراطية.
ثالثاً: سلطة الشعب ( هي سلطة إنتاج وإعادة إنتاج السلطات )
عندما أصف سلطة الشعب بالسلطة الخامسة, فإنني أعني أن ثمة وجود لسلطة أساسية غير السلطات الأربع قلما يجري الحديث عنها بوصفها سلطة مستقلة وتأسيسية شكلاً ومضموناً.. وبالطبع يرتبط وجود هذه السلطة بالديمقراطية. ولا يمكن الكلام عنها إلا في إطار الديمقراطية.
سلطة الشعب هي السلطة الأم, التي تلد باقي السلطات: تربيها, وترعاها, توجهها وتردعها وتقومها, تعينها وتقيلها, تحدد وترسم عملها في نطاق الدورات السياسية المتعاقبة.
وهي سلطة أصلية: بمعنى أنها تمارس بالأصالة, لا بالنيابة كما هو حال السلطات الحكومية. وهي أيضاً سلطة متصلة, غير منقطعة, ولا مشروطة إلا بذاتها وإرادتها التعاقدية الحرة.
سلطة الشعب دائمة, بينما السلطات الحكومية مؤقتة ومشروطة بزمان ومكان ودورة محددة, وبشروط التوكيل والتفويض الشعبي لها بموجب الدستور.
إن سلطة الشعب كلية فيما السلطات الحكومية فرعية وجزئية. الأولى مُؤسِّسة ( منتجة ) للثانية, وهي السلطة الأقوى والأسمى, لأنها رأس وقاعدة, منبع ومصب, منطلق ومستقر لباقي السلطات, ما يعني أنها قاعدة النظام الديمقراطي برمته.
فغيابها يعني الاستبداد ( اللاشرعية ) ووجودها يعني الحرية والديمقراطية ( الشرعية ). هذا هو المعيار لتقييم الأنظمة السياسية.
رابعاً: الولاية والحاكمية للشعب
الوضع الطبيعي هو أن يكون الشعب مصدر السلطة, والوضع غير الطبيعي هو أن يكون الحاكم مصدر السلطة, السلطة غير الديمقراطية تمشي على رأسها, والسلطة الديمقراطية تمشي على قديمها.. الأولى هي الصورة المقلوبة تماماً للثانية.
إذا أردنا تصحيح الصورة المقلوبة, فلا بد من إعادة الحق إلى نصابه, ما يعني تمكين الشعب من لعب دوره الرئيسي في صناعة وإنتاج الحياة السياسية برمتها.
وتكريس ولايته على الحاكم بدلاً من تكريس ولاية الحاكم عليه. فالولاية والشرعية والحاكمية للشعب, لا للحاكم ( فرد كان أم فئة ).
خامساً: كيف يمارس الشعب السلطة؟!
السلطة حق إيجابي / يخول صاحبه العمل بموجبه, تحقيقاً لمصلحة أو منفعة أو غاية فردية أو اجتماعية.
السلطة حق إيجابي ينص عليه القانون, ويمكّن صاحبه من المطالبة به, والعمل على تنفيذه وممارسته لتحقيق مصلحة أو منفعة أو غاية مشروعة.
الحق الإيجابي لا بد من امتلاكه القوة الملزمة بموجب القانون. وهذا الأخير يجب أن يشمل الاعتراف بالحق من جهة, وأصول تنفيذه من جهة ثانية, وتحديد المسؤولية المترتبة على خرقه أو عرقلة تنفيذه من جهة ثالثة...
سادساً: مرجعيتان لسلطة الشعب
1. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
2. الدساتير الوطنية
ورد في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, أن الحقوق الواردة فيه هي: "المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم" حتى يتمكن و"يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع................... إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية, واتخاذ إجراءات مطردة, قومية وعالمية, لضمان الاعتراف بها, ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها, وشعوب البقاع الخاضعة لسلطاتها".
توضح الفقرة السابقة بجلاء, أن الالتزام والتقيد بالحقوق الواردة في الإعلان واحترامها والعمل على تفعيلها وتمكينها من التحول إلى واقع ملموس, هو مسؤولية فردية, اجتماعية, وعالمية.
وتؤكد المادة (30) من الإعلان على أنه لا يجوز لدولة أو جماعة أو فرد العمل على "هدم الحقوق والحريات الواردة فيه".
والوضع الطبيعي هو أن تتضمن الدساتير الوطنية ( في مجتمع ديمقراطي طبعاًً ) الحقوق الواردة في "الإعلان", ولا سيما ما يتعلق منها بالشأن العام ومنها المواد: "18 – 19 – 20 – 21 "*
هذه الحقوق ليست توصيات ومبادئ أخلاقية غير ملزمة, بل هي حقوق ملزمة بموجب مواد "الإعلان", ومواد وأحكام الدساتير الوطنية, كما أن هذه الحقوق لا تغفل الجانب الأهم "للحق" وهو "التمكين" من الوفاء به, فللحق قوة تحميه وتفرضه, وهذا هو مضمون القانون, وما يميزه عن المبدأ الأخلاقي.
فالحقوق سلطات, والسلطات هي الجانب التطبيقي للحق. والحقوق نوعان: حق بالأصالة وحق بالوكالة. وإن حقوق الإنسان الواردة في الإعلان وفي الدساتير الوطنية هي حقوق بالأصالة, وبالتالي جزء من الهوية والشخصية الفردية, وتدخل كلها مع حق الحياة في كينونة عضوية واحدة لا تتجزأ. والمساس بأي منها مساس بحق الحياة.
وكما ورد في ديباجة "الإعلان", فإن حجب و"تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا / ولا يزالا/ إلى أعمال همجية آذت /وتؤذي/ الضمير الإنساني", وإن تجاهل هذه الحقوق هو السبب الذي يقف وراء الصراعات والنزاعات والعدوان والعنف بين البشر. واحترام هذه الحقوق هو المخرج الوحيد نحو الأمن والسلام الاجتماعي والعالمي, والمنطلق نحو الرخاء والارتقاء والتحرر من الخوف والفقر والاضطهاد والجهل.
إن حقوق الإنسان هي قاعدة أي نظام ديمقراطي, وهي توفر للفرد والشعب أدوات الدفاع عن الذات, وقوة الرقابة والنقد والاعتراض والضغط والضبط والتوجيه والردع إزاء السلطات الحكومية ( في مجتمع ديمقراطي حر بالطبع ).
إن المادة (18) من الإعلان, وهي مادة تأخذ بها الدساتير الديمقراطية, تتيح "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين, ويشمل هذا الحق....... حرية الإعراب عنها بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر......... سراً أم مع الجماعة".
والمادة (19) تتيح "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير........ واعتناق الآراء واستقاء الأنباء والأفكار.... وتلقّيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون التقييد بالحدود الجغرافية". تعطي هذه المادة للأفراد والشعب سلطات دائمة في النقد والاعتراض وإبداء الآراء والتعبير عنها بالوسائل كافة ومنها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية, والفن والأدب, والتظاهر والحوار العلني.
والمادة (20) تعطي "لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية", ومنها تأسيس الأحزاب والجمعيات والنوادي والروابط والنقابات والاتحادات وسائر أشكال التجمع والاجتماع والتحزب. ومثل هذه السلطة تكفل للشعب تنظيم إرادته وصفوفه وتياراته واستجماع قوته للتأثير في مجرى الأحداث والواقع السياسي للمجتمع والمشاركة في تقرير مصير الوطن والشأن العام المشترك. وهذه سلطة دائمة أصلية لا انقطاع فيها ولا توكيل.
وتأتي المادة (21) لتعزز هذا الحق, بحق كل فرد في "الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة" أو بصورة غير مباشرة, أي عبر التنظيمات الاجتماعية السياسية والمدنية المختلفة, وعبر حرية التعبير وحرية الإعلام.
والفقرة "3" من المادة (21) تؤكد حقيقة:
"إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة", ما يعني أن سلطة الحكومة مشروطة ومحددة بإرادة الشعب لا بإرادة الحاكم ( فرداً كان أم فئة ).
إن إرادة الشعب هي سلطة إنتاج وإعادة إنتاج السلطة الحكومية وفقاً لمعايير وأحكام ومواد وآليات القانون الأساسي للدولة "الدستور", "في مجتمع ديمقراطي طبعاً".
يعني ذلك أن لا سلطة فوق سلطة الشعب. وأن سلطة الشعب هي الدستور والقانون الذي يسنه ويشرعه ويرضى به الشعب, ولا قيمة للدساتير التي يسنها الحكام وفقاً لمصالحهم وأمزجتهم وتصوراتهم ورغباتهم ومسيئاتهم..
المقياس الشرعي للدستور هو أن يشترك ويتوافق عليه المجتمع في إطار الشرعية الديمقراطية, حيث يغدو الدستور النص المكتوب الذي يعبر عن "العقد الاجتماعي". العقد الذي يجسد توافق الإرادات الاجتماعية وانتظامها في صيغة مشتركة تعكس المصلحة والإرادة العامة, التي تصب في مصلحة كل فرد, وتجسد إرادة كل فرد في المجتمع.
إن سلطات الشعب تشكل الدرع الواقي للحرية والعدل والسلام الاجتماعي, والرادع العملي للتعدي على القانون, والكابح الفعلي للهيمنة.
وإن سيادة الشعب الفعلية تملك المناعة الكافية ضد ظهور "الفوهرر" أو الديكتاتور, أو الزعامات المافيوية المتسلطة التي تشكل نوعاً من السلطة داخل السلطة كما يحصل في بلدان عدة.
خلاصة:
خلاصة القول: إن تغييب سلطة الشعب يتعارض مع الحد الأدنى لآدمية الإنسان وتمدنه وتحضره, ما يعني النكوص نحو الهمجية والوحشية بأفظع صورها, وهو ما يحصل في منطقتنا على وجه الخصوص.
ولا حل ولا مخرج من هذه الحالة الفظيعة, إلا باحترام حقوق الإنسان والسير قدماً في طريق الديمقراطية, الطريق الذي يتحرر فيه الإنسان من جهله وفقره وهمجيته وخوفه وتهميشه وإقصائه.
لا بد من إعادة تأهيل الحياة السياسية وتصحيحها, للانتقال من التوحش الاستبدادي إلى التمدن والتحضر الديمقراطي. وهو ما يتطلب الإرادة الطيبة والنية الحسنة والإيثار لدى الجميع. إن مضمون التنمية الديمقراطية هو بالترابط العضوي بين أشكال التنمية: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية, ووضعها تحت عنوان واحد هو: الإنسان.
*انظر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟