يُصدر صندوق النقد الدولي تقريراً عن كل بلد من البلدان النامية يطلب
الاستفادة من قروض الصندوق. ويهدف تقرير الصندوق الى تقويم سياسة البلد الاقتصادية،
من اجل اتخاذ القرار المناسب بشأن الطلب. أما هذا التقرير فمختلف. إنه تقريرعن
صندوق النقد الدولي يكتبه مواطن من أحد البلدان النامية.
وفيما يهتم تقرير
الصندوق بالأداء الاقتصادي للبلد المعني، نهتم في تقريرنا هذا بطبيعة الصندوق
وجوهره بالذات، بوظيفته السياسية والأدوار التي أعطيت له منذ تأسيسه حتى أيامنا.
وفيما يقارن تقرير الصندوق سياسات البلد الاقتصادية بالسياسات التي يفرضها هو في
شروطه، نتساءل: من يرسم سياسات الصندوق، وفي خدمة من يصبّ تطبيقها؟
يحاول تقرير
الصندوق ان يقدم نفسه على أنه موضوعي، علمي، اقتصادي، تقني واحترافي، والتقرير هذا
يسعى بالطبع الى البحث العلمي الاقتصادي من دون ان يغفل <<السياسي>>
الذي هو وراء التقني وملازم للاقتصادي.
ويسأل تقرير الصندوق عن صوابية قرارات
البلد، ونسأل عن استقلالية قرارات الصندوق. ويسائل عن معايير تقنية ومادية من مثل
نسبة الدين والعجز والضرائب، ونسائل عن معايير انسانية مبدئية، كالعدالة والتعاون
والمساواة في النظام الاقتصادي العالمي.
وحيث يشكك الصندوق في قدرة البلد على
تسديد ديونه الخارجية وقروضه للصندوق، نتيجة تفاقم الفقر والديون، نتساءل عن اصل
الفقر والدين وعن الأسباب التي اضطرت البلد اللجوء الى الصندوق للاستدانة. ونتساءل:
هل تهدف سياسة الصندوق الى معالجة اسباب الدين والفقر، أم انها سياسة ادارة الدين
والفقر؟
وحين ينصح الصندوق بالخصخصة بحجة فشل القطاع العام وعدم فاعليته، وحين
ينصح بزيادة الضرائب بحجة التمكن من تسديد الديون، نسأل: من أفشل القطاع العام
ليبيعه؟ ومن سيشتريه؟ وعلى من ستقع الضرائب؟ ولمصلحة من ستُجبى؟ بمعنى آخر، إن
تقارير الصندوق تسائل ممارسة البلدان النامية، أما هذا التقرير فيسائل جوهر وجود
الصندوق بالذات.
ولبنان <<التلميذ الشاطر>> الذي بلغ طوراً متقدماً
باتجاه ولوج باب العولمة الاقتصادية، يحاول جاهدا إنجاز شروط صندوق النقد الدولي،
ليحظى برضى هذا الصندوق ومنظمة التجارة العالمية، فيُكافأ بقروض وبديون جديدة. لا
بل اكثر من ذلك، وقفت حكومته الحالية (بقيادتها النافذة) من على باب الصندوق توبخ
الشعب اللبناني ومجلسه النيابي على التقصير في إتمامهم <<واجباتهم>>
تلك.
في مثل هذه المناخات، نرى انفسنا قلقين على مصير لبنان الاقتصادي. لذا،
كان هذا التقرير، نضعه بتصرف المسؤولين والشعب.
وفي هذا التقرير، ثلاثة أقسام:
يستعرض القسم الاول البعد السياسي للأدوار والوظائف التي أُعطيت للصندوق منذ
تأسيسه سنة 1944 الى أيامنا هذه.
ويستعرض القسم الثاني الاسباب التاريخية
والاقتصادية التي اضطرت البلدان النامية اللجوء الى الصندوق. في حين يعرض القسم
الثالث لسياسة الصندوق العملية ولنتائجها على البلدان النامية، من خلال التعريف
بأنواع قروض الصندوق وشروطه. أما تقويم النتائج، فنطرحه من خلال مقاربات ثلاث:
المقاربة النظرية، المقاربة الاحصائية، والمقاربة الاقتصادية الرياضية.
ترتكز
المقاربة الاولى على التحليل النظري الذي يحاول، من خلال استخدام النظريات والقواعد
الاقتصادية المعروفة علمياً، تقدير نتائج برامج الصندوق على البلدان النامية وتفسير
هذه النتائج.
وترتكز المقاربة الثانية: الاحصائية، على الدراسات التي أجريت على
مجموعات عدة من البلدان تابعت برامج الصندوق، لتستخلص نتائج هذه البرامج على
العوامل الاقتصادية في هذه البلدان. وأما المقاربة الثالثة الاقتصادية الرياضية،
فترتكز على ترجمة شروط الصندوق بلغة المعادلات الاقتصادية الرياضية المعروفة
علمياً، وعلى إطلاق او ابتداع معادلات رياضية جديدة تبرز نتائج شروط الصندوق على
الوضع الاقتصادي في البلدان النامية.
التأسيس. الأهداف. تبدّل الأدوار
تأسس
صندوق النقد الدولي سنة 1944، مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في
<<بروتن وودس>> (Breton Woods) في الولايات المتحدة الاميركية. وقد
تبدلت أدواره مع تبدل الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي.
ويمكن تلخيص أدوار
الصندوق منذ تأسيسه في الجدول المرفق في نهاية النص.
أدوار الصندوق باتجاه
البلدان النامية
منذ منتصف السبعينات
دور جديد للصندوق: توفير سيولة
للبلدان النامية لشراء المنتوجات المصنّعة. ففي سنتي 1973 و1974، بدأت تزداد اسعار
النفط، ما فاقم الى حد كبير مشاكل ميزان المدفوعات في بلدان العالم النامي
المستوردة للنفط. كما أن العجز الاجمالي في ميزانية المدفوعات المتحدة لهذه
البلدان، بلغ 30 مليار دولار في سني 1974 و1975 و1976.
في حال لم يُعالج هذا
العجز، فإن ذلك سيهدّد جدياً التجارة العالمية، وبشكل خاص بنية التجارة العالمية
التي تكرست لصالح البلدان الصناعية الرئيسية. ففي السبعينيات، كان <<تقاسم
العمل>> بين البلدان الصناعية. وبلدان العالم النامي على النحو التالي: تصدّر
البلدان الصناعية المنتوجات المصنّعة الى بلدان العالم النامي وتستورد منها المواد
الأولية والمنتوجات الزراعية.
وبالتالي، فإن العجز في ميزان مدفوعات البلدان
النامية، يعني في حال تفاقم، عدم قدرة هذه البلدان على الاستمرار في شراء منتوجات
البلدان المصنعة.
دور جديد للصندوق بتصرف المصارف العالمية:
أما سنة 1982،
فقد طرأ تطور جديد على الاقتصاد العالمي هدد النظام المصرفي والمالي العالمي
بالانهيار. وقد حصل ذلك حين توقفت المصارف عن إقراض البلدان النامية، التي تفاقمت
ديونها، اذ اعتبرت المصارف أن هذه البلدان لم تعد تتمتع بأهلية الاقتراض، خاصة
وأنها لم تعد تستطيع تسديد خدمة الدين. انطلاقاً من هذا الواقع، نشأ الدور الجديد
لصندوق النقد الدولي وهو حماية النظام المصرفي العالمي من الانهيار.
وقد اتّبع
الصندوق مع البلدان النامية سياسة إقراض مشروطة بتسديد هذه البلدان دينها للمصارف
العالمية الخاصة. إذ لم يكن يُقرضها الا في حال وافقت على دفع الدين للمصارف
الخاصة. من جهة اخرى، كان الصندوق يحاول أن يقنع المصارف بإعطاء البلدان النامية
قروضا جديدة او قروضا لتسدد بها هذه البلدان خدمة الدين، الأمر الذي يمكن وصفه بحسب
رأي <<ألكسندر كافكا>> بإعادة جدولة مستترة. وفي المقابل، لم تعد
المصارف تقرض البلدان النامية إلا بضمانة من الصندوق وبعد ان يوافق بنفسه على
إقراضه هذه البلدان.
لهذه الأسباب، أُطلق على الصندوق تسميات عدة نذكر منها:
<<وكيل المصارف الخاصة>>، <<جابي المصارف الخاصة>>،
<<شرطي المصالح المالية العالمية>>، الخ.
القلق من الفقر والدين في
العالم النامي:
مبادرات جديدة للصندوق
وأخيراً، وفي النصف الثاني من
التسعينيات، برزت مشكلة جديدة ملحّة. فقد بلغ الفقر والدين في عدد من البلدان
النامية مستويات مقلقة جدا. وقد هدد هذا الوضع، الأمن الاجتماعي والسياسي في هذه
البلدان، كما هدّد النظام العالمي التجاري والمالي. إثر هذا الوضع تدخّل الصندوق
وأنشأ قرضاً جديداً أسماه <<القرض من اجل تقليص الفقر وتعزيز النمو>>
(PRGF: Poverty Reduction and Growth Facility)، ليحل محل قرض ال ESAF.
وفي
ايلول 1996، اطلق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مبادرة تجاه البلدان الأكثر
فقرا ومديونية، عرفت باسم: (HIPC: Heavily Indebted and poor Countries).
المغزى الفعلي لمبادرة HIPC: إدارة الفقر والدين
وهنا نطرح السؤال التالي:
إلامَ يهدف قرض ال PRGF؟ وبماذا يختلف عن القروض التي سبقته؟
في الواقع، يشبه
قرض ال PRGF الى حد كبير القروض التي سبقته، إذ إنه، مثل هذه القروض، لا يعالج
اسباب الأزمة بل يحاول التخفيف من مضار هذه الأزمة ويؤجل انفجارها.
قرض لا
يحاول ان يعالج اسباب الفقر والدين، بل يحاول قدر الإمكان ادارة الفقر والدين ضمن
حدود مصالح البلدان الصناعية. ويبرز ذلك جليا ومأساويا، في المفردات التي يستخدمها
الصندوق حين يعرض هدف القرض:
<<... إن المبادرة لمصلحة البلدان الفقيرة
ذات المديونية العالية (HIPC) هي الخطوة الاولى التي تُشرك المقرضين متعددي الاطراف
(Multilatral) وأعضاء <<نادي باريس>> والمقرضين الرسميين
الآخرين، من اجل إيصال دين البلدان الفقيرة الى مستوى مقبول (او يمكن تحمّله)
(Tolrable). والمقصود بمستوى مقبول مستوى تستطيع معه البلدان تسديد خدمة
دينها بواسطة ايرادات صادراتها وبعض المساعدات ورؤوس الاموال>>...
<<... في اجتماع لمجلس ادارة صندوق النقد الدولي في نيسان 2001، اعتبر
المجتمعون ان تخفيف الدين المقر في اطار مبادرة HIPC، يشكل قاعدة سليمة لضمان
قابلية الاستمرار للدين الخارجي في المدى الطويل (Sustainable External Debt
Position Over The Long Term) او بالفرنسية (Viabilit de la dette
long terme). إلا أنه من الضروري ان تستمر هذه البلدان في تنفيذ سياسة اقتصادية
صحيحة واصلاحات هيكلية مناسبة>>...
هذا الكلام يعني فعلياً ما يلي:
اولاً، ليس المطلوب إزالة الدين عن طريق معالجة أسبابه، بل المطلوب الإبقاء على
الدين ضمن حدود معينة.
ثانياً، المطلوب الإبقاء على الدين ضمن مستوى مقبول، اي
ضمن مستوى يمكن معه للبلدان المعنية تحمّله من دون الوصول الى وضعية الانهيار
(tolrable).
ثالثاً، المطلوب الابقاء على الدين ضمن مستوى تستطيع معه
البلدان المعنية الاستمرار في تسديده على المدى المتوسط الطويل (sustainable).
رابعاً، المطلوب من البلدان المعنية الاستمرار في الاصلاحات الهيكلية، وبمعنى
آخر، في تطبيق شروط الصندوق والبنك المتعلقة بإعادة الهيكلة.
العوامل التي دفعت
بالبلدان النامية إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي
لقد أُجريت دراسات عدة
لمعرفة المواصفات الاقتصادية، التي تميّز البلدان طالبة الاقتراض من صندوق النقد
الدولي.
وقد أجمعت الدراسات على وجود علاقة ايجابية بين الاقتراض من الصندوق من
جهة وبين الفقر والتضخم والعجز في ميزان المدفوعات من جهة اخرى. اي ان البلدان
الفقيرة والتي تعاني التضخم والعجز في ميزان مدفوعاتها، هي التي تقترض من الصندوق.
ونستعرض في ما يأتي الصيرورة التي أدّت بالبلدان الى الاستدانة:
1 احتلال
عسكري للبلدان النامية من قبل البلدان الصناعية، يُستكمل سنة 1914.
2 تدمير
حِرف البلدان النامية عن طريق فرض اتفاقيات تجارية تدمّر النتاج المحلي، وبالتالي
كسر دينامية النمو في البلدان النامية وحرمانها دخلها الرئيسي.
3 تركيز نتاج
المواد الأولية في البلدان النامية حول سلع محدودة تلبّي حاجات البلدان الصناعية.
4 فرض تقسيم عمل تجاري عالمي، حيث تصدّر البلدان الصناعية السلع المصنعة
وتستورد المواد الأولية من البلدان النامية.
5 تدهور تصاعدي في أطراف التبادل
التجاري في البلدان النامية.
6 عجز مزمن في ميزان المدفوعات.
7 استدانة
بشروط تعزز تقسيم العمل التجاري وتعزز تدمير الحِرف وحرمان البلدان النامية
مؤسساتها العامة وزيادة الضرائب وتخفيض الدخل الوطني، الخ. (كما سنرى في القسم
اللاحق).
8 عدم قدرة على تسديد الديون واستدانة جديدة... وهكذا دواليك.
لكن
ما هي شروط صندوق النقد الدولي؟
ان الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي
لتوفير القروض أمست معروفة، ويمكن تصنيفها الى خمس فئات رئيسية:
الفئة الاولى
تتعلق بتقليص الاستهلاك ونفقات الحكومة وزيادة وارداتها، وتتضمن على سبيل المثال،
تجميد الرواتب وتقليص الضمانات الاجتماعية ورفع الدعم عن مواد أساسية وغذائية
وزيادة الضرائب، الخ.
الفئة الثانية تتعلّق بتقليص التسليفات للقطاع الخاص.
الفئة الثالثة تتعلق بتحرير العلاقات الاقتصادية وخاصة الأسعار والقيود
الجمركية وحركة رؤوس الاموال.
الفئة الرابعة تتعلّق بخصخصة مؤسسات القطاع
العام.
والفئة الخامسة تتعلق بتخفيض سعر صرف العملة الوطنية.
الخصخصة تحرم
البلدان النامية عائدات مهمة وتعزز البطالة
رأينا كيف ان الخصخصة هي من الشروط
الرئيسية لصندوق النقد. وحجته في ذلك، ان القطاع العام قطاع فاشل، وخاصة في البلدان
النامية، كونه يستخدم فائضاً من الموظفين، ما يزيد من النفقات الحكومية غير
المنتجة، عدا ان إدارته غير الفعالة لا تعود على الدولة بالموارد التي يجب ان تنتج
عادة عن مؤسسات القطاع العام.
وهذا بالطبع رأي الصندوق. وبالتالي فان ازالة
الفائض من بعض مؤسسات القطاع العام وتخصيصها، يخفض النفقات غير المنتجة للحكومة،
كما يزيد من موارد الدولة، ويفتح الباب أمام الأموال التجارية للاستثمار داخل البلد
المعني.
اما المصلحة الفعلية، فتتمثل كما رأينا في ضمان الموارد التي ستستخدم
لتسديد قروض الصندوق والديون الخارجية، وفل فتح أسواق البلدان النامية أمام رؤوس
الاموال العالمية.
ان الكلام، في هذا الوضع، على استثمار أموال خارجية داخل
البلد المعني، واعتباره أمرا ايجابيا، هو كلام غير صحيح. ففي حالة الخصخصة، لا
تتوافر العناصر الاساسية للاستثمار الايجابي، اي التوظيف وإعادة الاستثمار وتوسيعه
وزيادة الاستهلاك المحلي. ذلك ان الخصخصة ترتكز أصلا على تقليص عدد الموظفين، كما
ان المستثمرين الخارجيين سيحصلون على مؤسسات شبه جاهزة وليست بحاجة الى استثمار
تجهيزي او حتى الى توسيع الاستثمار. وبما ان رقابة الدول النامية على الاستثمارات
الخارجية شبه معدومة، فإن أرباح هذه الاستثمارات ستعود الى البلد المصدّر ولا يبقى
شيء منها يذكر داخل البلدان النامية، لا عن طريق الضريبة على الدخل ولا عن طريق
الاستهلاك.
مصير الخصخصة بات معروفاً. وآلية الخصخصة متشابهة في كل مكان: يُصرف
الموظفون <<الفائضون>>. يشتري المستثمرون الخارجيون بالاشتراك مع
مستثمرين محليين، المؤسسات العامة المعنية. تستخدم الحكومات في البلدان النامية ثمن
المؤسسات العامة لتسديد الدين الخارجي وسدّ العجز. يستقر الدين الخارجي والعجز لمدة
زمنية محددة ومحدودة. يعود العجز والدين الخارجي بعد هذه المدة ليرتفعا بشكل أكبر
من قبل، خاصة وان الدولة تكون قد فقدت أهم الموارد التي كانت تحصل عليها من
المؤسسات العامة.
وبالتالي تُفقد الخصخصة البلدان النامية أهم ركائز سيادتها
الاقتصادية ومصادر عائداتها، كما تحرم آلاف الموظفين والمواطنين عملهم، وذلك لمصلحة
قلة قليلة جداً من المستثمرين المحليين والعالميين.
حجتان تقليديتان تدعمان
الخصخصة: خدمة أفضل للمستهلك بكلفة أقل ومعالجة الفساد.
التنافس الملازم
للخصخصة من المفترض ان يحسّن خدمة المستهلك: للأسف في معظم البلدان تجري الخصخصة
قبل وضع القوانين التي تضمن المنافسة. الأمر الذي يسمح للشركات الشارية بزيادة
أسعار خدماتها الى حدها الأقصى.
هناك ادعاء آخر بأن الخصخصة هي علاج للفساد، اذ
انها تحرم المسؤولين الرسميين إمكانية جني <<السمسرات>>: لكن للأسف في
معظم البلدان تشكل الخصخصة الفساد بذاته. انها خصخصة <<مزغولة>> او كما
درجت تسميتها في لبنان انها <<حصحصة>>. وهذا منطقي، اذ في حال كان
الفساد سائدا، فان الحكومة الفاسدة نفسها التي تدير المؤسسات العامة الفاشلة هي
التي تدير عملية الخصخصة. وفي عدد كبير من البلدان تنبّه المسؤولون أنه من خلال
الخصخصة لن يعودوا مضطرين إلى الاكتفاء باقتصاص قسط من مداخيل المؤسسات العامة، لا
بل يستطيعون عن طريق بيع المؤسسات بأسعار منخفضة، ان يمتلكوا جزءا كبيرا من أسهم
هذه المؤسسات بدل تركها لمسؤولي الغد. ولا عجب، فقد وضعت الخصخصة
<<المزغولة>> من أجل زيادة أرباح الوزراء الى حدها الأقصى وليس زيادة
حصة خزينة الدولة.
ويمكن تلخيص الخصخصة بالآتي: المسؤولون يبيعون المؤسسات
العامة بصفتهم الرسمية ليشتروها بصفتهم الخاصة.
نتائج سياسة الصندوق على
البلدان النامية:
الدراسات الإحصائية
يمكن تصنيف الدراسات الاحصائية التي
أُجريت على برامج الصندوق وفق 7 فئات:
<<ما قبل وما بعد>>،
<<الُمنجَز فعلياً والهدف>>، <<مع بدون>>،
<<المقارنة مع نماذج>>، <<التقويم الشامل>>، <<حالة
كل بلد>>، <<مدى إتمام البرامج>>. وقد تناولت هذه الدراسات
العوامل التالية: 1 النمو. 2 الفقر. 3 الاستثمار. 4 التضخم. 5 ميزان المدفوعات. 6
الدين. 7 التبادل التجاري. 8 سعر صرف العملات. 9 استمرارية البرامج.
وقد توصّلت
الدراسات الى نتائج مؤداها الآتي: تترافق برامج الصندوق مع تقلص في النمو
والاستثمار، ومع زيادة في الفقر والتضخم والدين الخارجي، ومع تدنّ في أطراف التبادل
التجاري وفي سعر صرف العملة الوطنية.
معادلة اقتصادية رياضية
ان المقاربة
الاقتصادية الرياضية أبرزت العلاقة الرياضية بين شروط الصندوق وتغيّر الدخل الوطني
في البلدان النامية.
فقد أبرز التقرير معادلة مثيرة للاهتمام، تظهر ان الانخفاض
في الدخل الوطني للبلدان النامية من جراء تطبيق شروط الصندوق يتحوّل الى ازدياد في
الدخل الوطني للبلدان الصناعية. وحين ينخفض الدخل الوطني في البلدان النامية الى
حده الادنى جراء تطبيق شروط الصندوق يزداد الدخل الوطني في البلدان الصناعية الى
حده الاقصى جراء تطبيق الشروط نفسها. مما يقودنا الى المفهوم الآتي: الحد الأدنى
للدخل الوطني في البلدان النامية مقابل الحد الاقصى للدخل الوطني في البلدان
الصناعية.
بين عتبة العجز وعتبة الانهيار
وظيفتان رئيسيتان تحددان سياسة
الصندوق:
الوظيفة الاولى تؤمنها شروط الصندوق والوظيفة الثانية توفرها القروض.
الوظيفة الاولى تكمن في تكريس امتيازات البلدان الصناعية وتفوقها من طريق زيادة
دخلها الوطني الى حده الاقصى ومنع البلدان النامية عن تخطي عتبة العجز من طريق
تخفيض دخلها الوطني الى حده الادنى. اذ لا يجب ان تتخطى البلدان النامية عتبة العجز
فتلج دينامية النمو: هذه هي وظيفة الشروط.
في المقابل، لا يجب ان تنزل البلدان
النامية تحت عتبة الانهيار كي لا ينهار نظام الاستغلال بأسره.
وهذه هي وظيفة
القروض التي أمست بمثابة صمّام أمان النظام الاقتصادي العالمي.
وعليه، سوف تعيش
البلدان النامية بين عتبتي العجز والانهيار أي في فسحة الفقر والدين وسوء التغذية
والبطالة والمرض والتخلّف والأمية...
لذلك يعتبر التقرير أن أي تعاون او خضوع
لشروط صندوق النقد من قبل المسؤولين المحليين بمثابة خيانة اقتصادية للشعب وللوطن.
() دكتور في الاقتصاد السياسي له دراسات وأبحاث عدة في شؤون المال
والاقتصاد والتنمية، منها كتابه الذي يصدر اليوم بعنوان <<الخيانة الاقتصادية
تقرير عن صندوق النقد الدولي>>.
ستيغليتز: الصندوق فشل في مهمته
<<بعد نصف قرن من تأسيسه، بات واضحاً ان صندوق النقد قد فشل في مهمته...
فعلى الرغم من تطور الفكر الاقتصادي ومقدرته على فهم الآليات الاقتصادية ورغم جهود
صندوق النقد، ازدادت وتيرة الازمات الاقتصادية في العالم في ربع القرن الاخير، اذ
بلغ عدد الازمات حوالى 100 ازمة... لقد فشل صندوق النقد في مهمته الاصلية، اي تعزيز
الاستقرار العالمي، ولم يفلح ايضا في مهماته الاخرى من مثل نقل البلدان الاشتراكية
سابقا الى اقتصاد السوق...
والنتيجة كانت الفقر لعدد كبير من الاشخاص في
العالم، والفوضى الاجتماعية والسياسية للعديد من البلدان. لقد ارتكب الصندوق اخطاء
في جميع الحقول حيث تدخّل في حقل التنمية وإدارة الازمات والانتقال من الشيوعية الى
الرأسمالية. ولم تستطع خطط التصحيح الهيكلي توفير النمو، حتى للبلدان التي انصاعت
كليا لشروط تلك الخطط. وفي العديد من البلدان، تسببت سياسات التقشف في طمس النمو...
وفي العديد من البلدان، أدت أخطاء متعلقة بالجدولة الزمنية والايقاع الى بطالة
عالية وازدياد الفقر... ومعظم بلدان أميركا اللاتينية لم تستطع اللحاق بالعقد
الضائع للنمو الذي تلا مرحلة النهوض... وعدد كبير من هذه البلدان يعاني الآن بطالة
عالية ومزمنة... وما انهيار الارجنتين سوى الانهيار الأخير من سلسلة حالات الفشل في
السنوات الاخيرة... وفي البلدان التي عرَفت نموا هزيلا، فالاستفادة كانت من حصة
الطبقة العليا من الاغنياء (طبقة ال10% العليا)، فيما انخفض دخل الفئات الفقيرة...
وفي افريقيا، انهارت الاجور وانخفض مستوى المعيشة...
كما هدّدت الازمات
الاقتصادية في آسيا واميركا اللاتينية الاقتصاد العالمي والاستقرار في بلدان نامية
اخرى. وساد الذعر من عدوى مالية تطال العالم بأسره...
وفي روسيا كما في معظم
البلدان التي راحت تنتقل من الشيوعية الى الرأسمالية، لم تتحقق الوعود المزعومة...
فقد قال الغرب لهذه البلدان انه سيجلب لها وفرة لا متناهية، إلا انه جلب لها فقراً
لا متناهياً...>>.
() الخيبة الكبيرة، ستيغلتز ص 90 91.
غرامبرغ: الصندوق شريك في الجريمة
وبحسب المسؤولة الاقتصادية السابقة في
برنامج الامم المتحدة للتنمية (Programme des Nations Unies pour le Developpement)
ايزابيل غرامبرغ: <<ان تحويل الثروات من الطبقات الفقيرة الى الطبقات الغنية
بلغ أوجه حين استحوذ قادة البلاد على المال المسلّف من قبل الصندوق، وكان على الشعب
الفقير ان يقوم بتسديد الفوائد. ان المواطنين في البلدان النامية يراكمون من دون ان
يُستشاروا مليارات الدولارات من الدين... ان الصندوق لم يكن شريكاً في الجريمة
فحسب، بل انه كان المايسترو الذي يدير نظاما شاملا ومتكاملا يسحب الاموال من
الفقراء ليموّل إنفاق أقلية غنية من ال
©2002 جريدة السفير